تختلف الأنظمة القانونية المعاصرة بشأن تحديد حكم التحكيم الخاضع للبطلان، فمنهم من يخضع أي حكم تحكيمي دولي للبطلان بغض النظر عن مكان صدوره، سواء أصدر في الدولة المرفوع أمام قضائها الطعن بالبطلان، أم كان قد صدر خارج نطاق إقليمها بالتطبيق لقانونها، وأنظمة أخرى تأخذ بعدم الاختصاص بنظر دعاوى البطلان إلا تلك المقامة ضد أحكام التحكيم التي صدرت في إقليم الدولة التي ينظر قضاؤها بالحكم، وخير مثال على ذلك قانون التحكيم المصري الذي يأخذ بالطائفة الأولى والقانون الفرنسي الذي يأخذ بالطائفة الثانية لهذا سوف أتعرض لموقف المشرع المصري وموقف المشرع الفرنسي في مجال نطاق البطلان .
الفرع الأول : موقف المشرع المصري
بعد القانون المصري الجديد بشأن التحكيم من الأنظمة القانونية التي منح المشرع فيها المصري الاختصاص بنظر دعوى بطلان حكم التحكيم إذا كان التحكيم قد جرى في مصر بشأن منازعة دولية أو كان قد جرى خارج إقليم الدولة المصرية، وكان القانون المصري المطبق على إجراء التحكيم بناء على اتفاق الأطراف وفي الواقع أن المشرع المصري لم يفرق بين تحكيم مدني أو تجاري، كما لم يفرق بين تحكيم وطني أو دولي بشأن سريان قانون التحكيم، فقد نص في المادة الأولى منه على كل تحكيم يجري في مصر أيا كانت طبيعة القانونية التي يدور حولها النزاع أي أخذ بمعيار مقر التحكيم وإلى جانب هذا المعيار نجد أنه اتجه إلى الأخذ بمعيار آخر، وهو معيار القانون الواجب التطبيق وذلك لجلب الاختصاص للقضاء الوطني للنظر في دعوى البطلان ضد الحكم التحكيمي فنص في المادة الأولى على أو كان تحكيماً تجارياً دولياً يجري في الخارج واتفق أطرافه على إخضاعه الأحكام هذا القانون"، وبذلك يكون المشرع المصري قد منح القضاء المصري سلطة الفصل في دعوى البطلان المقامة أمام محاكمه، ليس فقط في حالة التحكيم الذي يجري في مصر، بل في حالة التحكيم خارج الدولة المصرية، إذا اتفق على إخضاعه لأحكام القانون المصري، وإن كان قد خرج عما الفته بعض التشريعات الحديثة كالفرنسي مثلاً، إلا أنه مع ذلك يدخل في طائفة الدول التي تقر الاختصاص لمحاكمها ليس فقط في حالة صدور حكم التحكيم في إقليمها، وإنما أيضاً في حالة إن كان قد صدر الحكم وفقاً للقانون المصري الذي اتفق الأطراف على اختياره ليحكم تحكيماً ثم في الخارج .
فمن المحتمل أن يصدر حكم تحكيم في دولة اجنبية (خارج مصر) وكان هذا التحكيم طبقاً لأحكام القانون المصري، فيكون هذا الحكم قابلا للطعن في الدولة التي حدد فيها بأي طريق من طرق الطعن الذي تنتهجه تلك الدولة، وفي نفس الوقت نجد أن القانون المصري يجيز رفع دعوى بطلان في ذلك الحكم، فمن هنا نكون أمام ازدواجية في طرق الطعن، لهذا أرى أنه من الضروري أن يعالج المشرع سواء المصري أم الأردني هذا الموضوع كون المشرع الأردني يسلك نفس النهج، وإيجاد طريقة تحد من الازدواجية في الطعن .
الفرع الثاني : موقف المشرع الفرنسي
اما موقف المشرع الفرنسي في مجال نطاق الطعن بالبطلان الذي يمكن تقديمه أمام القضاء الفرنسي ضد أحكام التحكيم، قد تحدد في القانون الصادر عام 1981. فنصت المادة (1504) من قانون المرافعات المدينة الجديد في الفقرة الأولى منها على أن حكم التحكيم الصادر في فرنسا بخصوص التحكيم الدولي يمكن أن يكون موضوعاً للطعن بالبطلان في الحالات المنصوص عليها في المادة (1502) .
وهناك نتيجتان يجرى ترتيبهما على هذا النص إحداهما إيجابية والأخرى سلبية. النتيجة الأولى هي أن مرسوم 12 مايو 1981 فقد قطع كل صلة بالقضاء السابق لمحكمة استئناف باريس، والذي أعلن عدم قبول الطعن بالبطلان المقدم ضد أحكام التحكيم غير الفرنسية التي جرى تحديدها باعتبارها أحكاماً تحكيمية صادرة وفقاً لقانون إجراءات غير القانون الفرنسي، ولا ترتبط على نحو ما بالنظام القانوني الفرنسي وذلك على الرغم من انعقاد التحكيم في فرنسا.
وقد طبقت محكمة استئناف باريس هذه المعايير على حكم التحكيم الصادر في ختام التحكيم الذي ثم بطريقة غرفة التجارة الدولية في فرنسا بين شركة ليبية وشركة سويدية بغرض تسوية النزاع الذي وقع بمناسبة تنفيذ العقود بإنشاء وتسليم سفن في السويد.
إن صدور حكم التحكيم في فرنسا يكفي في حد ذاته لاختصاص القضاء الفرنسي للفصل في الطعن بالبطلان المقدم ضده، على الرغم من أن حكم التحكيم قد صدر في قضية دولية لا تتصل بالنظام القانوني الفرنسي .
النتيجة الثانية وهي السلبية أن الصياغة التي أخذت بها المادة (1504) أنها لا نقر الاختصاص للقضاء الفرنسي لنظر دعوى البطلان إلا بشأن أحكام التحكيم
الصادرة في فرنسا.
وهذا يعني على الأخص أن اختيار القانون الفرنسي الذي يتم بطريق الأطراف أو بطريق المحكمين لتحكم الإجراءات التحكيمية، أضعف من أن تضع حكم التحكيم تحت هيمنة النظام القانوني الفرنسي، ولاسيما فيما يتعلق بدعوى البطلان هذا الحل يتعارض مع الحل الذي يحدد الاختصاص الدولي للقانون الفرنسي ويتطلب تسوية صعوبات في تشكيل محكمة التحكيم وفي الواقع أن رئيس المحكمة الجزائية في باريس لا يتدخل فقط بخصوص التحكيم الذي يسري في فرنسا، ولكن ايضاً التحكيم الذي تخضع أطرافه لقانون الإجراءات الفرنسية، وكذلك فإن هذا الحل يقطع الصلة بالحل الذي استخلصته محكمة استئناف باريس بتفضيل معيار القانون الواجب التطبيق على الإجراءات على معيار مقر التحكيم.
وخلاصة القول: أن المشرع الفرنسي لم يتمسك بمعيار القانون الواجب التطبيق على الإجراءات بمعيار برجع إليه لتحديد اختصاص المحاكم الفرنسية ينظر دعاوى البطلان، وإنما تمسك بمعيار ضابط مقر التحكيم، حيث إن المعيار الذي تبنته المادة (1504) من قانون الإجراءات المدينة الفرنسية الجديدة يعطي أهمية قصوى لمكان إصدار حكم التحكيم، مع أن تحديد المكان الذي صدر فيه الحكم التحكيمي وفقاً لهذا النص من الممكن أن يثير بعض المشاكل. مثلاً إذا تم توقيع حكم تحكيمي في فرنسا ، بينما كان مقر التحكيم في دولة أخرى، فإنه يمكن لأحد الأطراف أن يتمسك بأن الحكم التحكيمي قد صدر في فرنسا ويستند إليه في اختصاص المحاكم الفرنسية بنظر الدعوى وعلى أي حال إن حل هذه الصعوبات المحتملة يتم في ضوء تفسير فكرة صدور الحكم التحكيمي الذي حددته المادة (1504).
إن المشرع الفرنسي لم يرغب في الأخذ بمعيار عرضي بشكل خالص أو بمعيار تاريخ الاختيار الذي تم بطريق المحكمين للأسباب الملائمة لحظة التوقيع على حكم التحكيم، حيث ميز في ذلك بين الأحكام التحكيمية الصادرة في فرنسا في الشان الدولي والأحكام التحكيمية الصادرة في الخارج، وبالمقابل، وعلى نحو أكثر عمقاً. يرتكز هذا الحل على الإقرار بحرية الأطراف في الاختيار - بشكل مباشر أو بطريق تقويض هذه السلطة المنظمة تحكيم أو للمحكمين أنفسهم - للمكان الذي سوف تسري فيه إجراءات التحكيم .
ومن وجهة نظر المشرع الفرنسي، فإن انعقاد الاختصاص للمحاكم الفرنسية بنظر دعاوي البطلان ضد التحكيم الصادر في فرنسا في المنازعات الدولية يتعلق بالرغبة في منح المتعاملين مع التجارة الدولية مكاناً للتحكيم يتلاءم مع مفهوم الرقابة للقضاء الدولي على أحكام التحكيم، وبهذه الصورة فإنه يتعين أن تفسر المادة (1504) من قانون الإجراءات بأنها تقصد المكان الذي صدر فيه الحكم التحكيمي أي المكان الذي انعقدت فيه جلسات التحكيم.