الأصل أن حكم المحكمين شأنه شأن الحكم الصادر من المحاكم العادية لا يمكن التظلم منه إلا بسلوك طرق الطعن التي رسمها القانون والتي وردت فيه على سبيل الحصر ، إلا أن هذا الحكم لا يستمد قوته إلامن اتفاق الخصوم على التحكيم ، وعلى ذلك إذا انعدم هذا الاتفاق ، أو كان باطلا أو إذا جاوز المحكمون حدود سلطتهم فلا يوجد ثمة حكم ومن ثم أجاز المشرع في هذه الأحوال رفع دعوى مبتدأة بطلب بطلان الحكم .
وجاء قانون المرافعات المصري السابق فلم ينقل ما ورد ، في صدر المادة الفرنسية وإن كان قد نقل عنها حالاتها ، ونص في المادة 849 منه على أنه يجوز طلب بطلان حكم المحكمين الصادر انتهائياً في أحوال عددتها المادة ، و تقول المذكرة التفسيرية لقانون السابق « إنه من الخير التنبيه إلى أن هذه الدعوى لا تقبل إلا في حالة عدم جواز استئناف حكم المحكمين . فاذا كان الاستئناف جائزا وجب رفعه لإبداء كل الاعتراضات على الحكم . فان فوت الخصم ميعاد الاستئناف أو رفع استئنافه ورفض فلا سبيل لرفع دعوى البطلان .
وقلنا في الطبعة السابقة من هذا الكتاب : انه بناء عليه نبادر بالقول إن هذا الطريق الاستثنائي الذي أورده المشرع لإنكار حكم المحكمين والتمسك بعدم الاعتداد به لا يمكن ولوجه إلا وفق ما رسمه قانوننا ، وأنه لا يجوز الرجوع إلى ما قاله الشراح الفرنسيون لتفسير المادة المقابلة ، كما لا يجوز الرجوع إلى القضاء الفرنسي في هذا الصدد لأنه صادر بصدد إعمال نص قانوني يختلف عن النص المصرى . فلا يجوز إذن رفع دعوى بطلب بطلان الحكم إلا إذا كان صادرا انتهائيا أي إذا كان صادرا في دعوى قيمتها لاتتجاوز النصاب النهائي المحكمة المختصة أصلا..بنظرها أو صادراً من المحكمة في الاستئناف أو كان قابلا في الأصل للاستئناف وتنازل الخصم عن حقه في الطعن قبل صدوره ( حتى يصح أن يوصف بأنه قد صدر انتهائياً ) .
وإذا كان الحكم قابلا للاستئناف فلا يجوز رفع هذه الدعوى سواء فوت الخصم على نفسه ميعاد الاستئناف أم لم يفوته . وكذلك الحال إذا رفع الاستئناف وانقضت الخصومة فيه بغير حكم في الموضوع كما إذا حكم بسقوط الخصومة فيه أوحكم باعتبارها كأن لم تكن .
وإذا رفع الخصم استئنافه ورفض فلا يملك رفع دعوى البطلان لأن الحكم الصادر في الاستئناف قد حل محل حكم المحكم .
وجاء القانون المصرى الحديد مانعاً من استئناف حكم المحكم عملا بالمادة ٥١٠ منه وبالتالي ينقطع الخلاف المتقدم .
ويدق الأمر إذا كان حكم المحكم قابلا للطعن فيه بالتماس إعادة النظر فهل الطعن فيه بهذا الطريق أو فشل الطاعن فيه يسقط حقه في رفع دعوى البطلان ؟
نرى أن الأسباب التي تجيز رفع دعوى البطلان تختلف عن أسباب التماس إعادة النظر لأن لكل تظلم مجاله الخاص ويبحث فيه الأمر من ناحية تختلف عن الناحية التي نبحث منها الآخر . وبالتالى فرفع الطعن ( أو الفشل فيه ) لا يفيد التنازل عن رفع دعوى البطلان . كما أن رفع هذه الدعوى من جانب لا يسقط حقه في الطعن بالتماس إعادة النظر إذا كان ميعاده ما زال خصم ممتدا .
وتنص المادة ٢/٥١٣ على أنه لا يمنع من قبول دعوى البطلان تنازل الخصم عن حقه فيه قبل صدور حكم المحكمين . إنما يعتد بالتنازل إذا تم بعد صدور حكم المحكمين ولو صدر من خصم لا يعلم بالعيب الذي يعتري الحكم و يبطله ، اللهم إلا إذا وقع غش أو تدليس .
وإذا تنازل الخصوم مقدماً عن الطعن في حكم المحكمين بأي طريق من طرق الطعن فان هذا التنازل لا يمتد إلى دعوى البطلان ، ويعد الحكم صادرا انتهائياً على ما تقدمت الإشارة إليه . أما إذا تنازل الخصم بعد صدور الحكم الابتدائى عن استئنافه ( في التشريعات الأجنبية التي تجيز هذا الاستئناف ) فلا تقبل دعوى البطلان لأن المشرع يتطلب لقبولها أن يكون حكم المحكم قد صدر انتهائيا .
وذلك لأن المقصود من هذه الدعوى هو إنكار كل سلطة للمحكم فيا فصل فيه ، ومن ثم ينعدم الحكم إن صحت الاعتبارات التي بنيت عليها الدعوى ، فيكون من المستحسن ألا يعد صالحاً للتنفيذ إذا رفعت الدعوى بانكاره أو بطلب بطلانه ( خاصة وأن أسباب البطلان في التحكيم تتصل بعدم مراعاة القواعد الأساسية في التقاضي . فاذا كان الحكم باطلا أو مبنيا على اجراءات باطلة فمعنى ذلك أن المحكم قد أغفل ما لا يجوز إغفاله من أسس الاجراءات ، وأنه قد أهدر حقوق الخصوم بما قام بجعلهم في حالة تتساوى مع حالة إنكار سلطته كمحكم وجاء القانون المصرى الحديد مقرراً في المادة 513 منه على أنه يترتب على رفع الدعوى ببطلان حكم المحكمين وقف تنفيذه ما لم تقض المحكمة باستمرار هذا التنفيذ .
ويتجه رأى آخر يفرق بين أسباب دعوى البطلان ، فاذا كان سبب دعوى بطلان حكم المحكم يتصل بانكار التحكيم فانها توقف تنفيذ الحكم أما إذا كان سببها يتصل بالتمسك ببطلانه فلا توقف تنفيذه .
وإذن إذا كان حكم المحكم باطلا أو مبنيا على اجراءات باطلة فعنى هذا كما قدمنا أنه قد أغفل ما لا يجوز إغفاله من أسس الاجراءات ، و أنه قد أهدر حقوق الخصوم بما يجعلهم في حالة تتساوى مع حالة انكار سلطنه كمحكم ولو كان مفوضاً بالصلح أو معفيا من اتباع قواعدد المرافعات .
وفى هذا تقول لجنة المرافعات بمجلس الشيوخ عن المادة 849 من القانون السابق « إن اللجنة قد أضافت إلى المادة ٨٤٩ بنادا جديدا هو البند 4 و نصه كما يأتى و إذا وقع بطلان في الحكم أو في الاجراءات أثر في الحكم » . و ذلك لمواجهة البطلان الذي يعيب الحكم أو يؤثر فيه ، ولا يكون هناك وسيلة لإصلاحه من طريق الاستئناف ، كالحكم الذي يصدر في نزاع يدخل في تصاب المحكمة الابتدائية النهائى ، أو الحكم الذي يصدر من محكمين مفوضين بالصلح ، أو محكمين في الاستئناف ، أو إذا كان الخصوم قد تنازلوا صراحة عن حق الاستئناف . ففي هذه الحالات قد أغلق أمام الخصوم باب الاستئناف فرأت اللجنة أن تفتح أمامهم بطلان الحكم بالتطبيق للمادة 849 .
وأخيرا ، يجب ألا يغيب عن الخاطر أن حكم المحكم ينبثق من مجرد عقد ، وأن الثقة في حسن تقدير المحكم وفى حسن عدالته قد تكون هي مبعث هذا الاتفاق ، فيجب أن يوقف تنفيذ هذا الحكم بمجرد رفع الدعوى بطلب بطلانه ، لأنها تعتبر الكارا لما قدمناه تفصيلا .
ولكل ما تقدم جاء القانون المصرى الحديد ـ على ما سبق بيانه -- مقررا في المادة 513 منه أنه يترتب على رفع الدعوى ببطلان حكم المحكمين وقف تنفيذه ، مالم تر المحكمة المرفوع إليها دعوى البطلان باستمراره بناء على طلب - المحكوم له .
وإذ تملك المحكمة أن تقضى باستمرار التنفيذ بصفة مؤقتة ربما تفصل في دعوى البطلان ، فانها تملك أيضاً اشتراط تقديم كفالة في هذا الصدد أو أن تأمر بما تراه كفيلا بصيانة حقوق الخصوم ، فمن يملك الكثير يملك القليل . كل هذا بغير حاجة إلى نص قانوني خاص .
وإذا تضمن حكم المحكم عادة مسائل ، ورفعت الدعوى بطلان شق من الحكم فان هذا الشق وحده هو الذي يقف تنفيذه بقوة القانون الجديد ، سواء أكان الحكم قد صدر برمته ضد رافع دعوى البطلان أو صدر ضده فقط في هذا الشق الذي رفع بصدده دعوى البطلان .
وإذا كانت الخصومة لا تقبل التجزئة بنص في القانون ، أو بحسب طبيعتها ، أو كان المحكم مصالحاً ، فان الدعوى بطلب بطلان حكم المحكم في شق من الموضوع توقف تنفيذ الحكم برمته ، وتستتبع طرح النزاع برمته أمام المحكمة .
ويلاحظ أن الحكم برفض الدعوى بطلب بطلان حكم المحكم يعتبر بمثابة حكم بالاستمرار في تنفيذ هذا الحكم ، وإنما هو يقبل التنفيذ الحبرى أو لا يقبله ، أو يقبل النفاذ المعجل أو لا يقبله حسب القواعد العامة بمعنى أنه إذا صدر الحكم برفض الدعوى بطلب بطلان حكم المحكم وكان قابلا للاستئناف ولم يكن مشمولا بالنفاذ المعجل فانه لا يجوز تنفيذ حكم المحكم ما لم تكن قد قضت المحكمة من قبل بناء على طلب المحكوم له بالاستمرار في التنفيذ .
والحكم في الدعوى ببطلان حكم المحكم لا يخول للمحكمة الفصل في موضوع النزاع الأصلى إلا إذا تمسك أحد الخصوم بذلك ، وكان هذا الحكم قد أهدر وأبطل عقد التحكيم ، وعندئذ تكون المحكمة قد قضت في طلبين مستقلين ، ويراعي هذا الاستقلال من ناحية تنفيذ الحكم الصادر في كل منها أو من ناحية وقف هذا التنفيذ .