يعتبر القانون البلجيكي الصادر في 27 مارس 1985 بشأن التحكيم الدولي مثالاً نموذجياً للأنظمة المضيقة لنطاق البطلان. إذ تنص المادة 1717 فقرة 4 منه على أنه "لا تختص المحاكم البلجيكية بنظر دعوى البطلان إلا إذا كان أحد الأطراف في المنازعة التي فصل فيها الحكم التحكيمي شخصاً طبيعياً يتمتع بالجنسية البلجيكية أو له موطن في بلجيكا أو شخصاً اعتبارياً تم تكوينه في بلجيكا أو له فرع أو مقر للأعمال فيها أياً ما كانت طبيعته.
ويذهب جانب من الفقه إلى القول بأن المشرع البلجيكي بإصداره للقانون المذكور قد اتخذ خطوة جريئة وحاسمة باستبعاده لكل إمكانية للطعن بالبطلان في إطار التحكيم الدولي. وبذلك يختلف هذا الحل عن الحلول الأخرى السائدة في الأنظمة القانونية المعاصرة والتي لا تستبعد البطلان بشكل كلي ويقتصر دورها على إمكانية الحد منه وذلك بحصرها للحالات التي يمكن الطعن بالبطلان على الحكم التحكيمي في حالة تحققها.
ولعل مسلك المشرع البلجيكي يبرره على نحو ما يقول به جانب من الفقه، الخشية من أن يسيء الطرف الخاسر في حكم التحكيم استخدام الطرق المختلفة. من أجل الحيلولة دون تنفيذه. إذ تظهر مطالعة الأحكام القضائية تفنن الأطراف التي تخسر الحكم التحكيمي في اكتشاف أسباب البطلان المزعومة ولا سيما تلك المتصلة بمخالفة النظام العام في إجراءات التحكيم، وكل ذلك بهدف تأخير تنفيذ حكم التحكيم. فلرغبة المشرع البلجيكي في تحاشي مثل هذه الأعمال التسويفية استبعد كل محاولة للطعن بالبطلان على حكم التحكيم.
وعلى الرغم من الطابع التحرري لهذا القانون، فإن المشرع البلجيكي لم يسر في هذا الطريق إلى آخره مستبعداً البطلان بشكل مطلق وكامل إذ أنه توقف في منتصف الطريق، ولم يستبعد إلا الطعن ببطلان أحكام التحكيم التي لا تتصل بلجيكا بأي وجه من أوجه الاتصال.
فالقانون لم يستبعد البطلان إلا بشأن التحكيم الذي لا تكون أطرافه لا تتمتع بالجنسية البلجيكية أو ليس لها بها موطن أو ليس لها بها فرع أو مقر للأعمال، وبالتالي فإن حكم التحكيم الصادر في بلجيكا يمكن الطعن عليه بالبطلان إذا كانت المصالح البلجيكية موضعاً للاعتبار بأن كان أحد أطراف التحكيم بلجيكياً أو كان له موطن أو مقر أو فرع للأعمال بها.
والواقع أن الأسباب التي دفعت المشرع البلجيكي إلى اتخاذ هذا الموقف التحرري من بطلان الحكم التحكيمي تفصح عنها الأعمال التحضيرية لهذا القانون إذا لاحظ المشرع البلجيكي أن بلجيكا أصبحت مركزاً من مراكز التحكيم الدولي، نظراً لموقعها الجغرافي وللحصيلة اللغوية المتنوعة التي يتمتع بها أبناء شعبها. واستبعاد طرق الطعن بالبطلان على حكم التحكيم الصادر عنها شأنه أن بدعم من قوة الجذب التحكيمي لهذه الدولة ويجعلها مقراً لانعقاد التحكيم على أرضها بشكل حاسم، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن الرقابة القضائية التي تمارس من قبل قضاء الدولة على أحكام التحكيم، وهو ما لاحظه المقرر البرلماني لهذا القانون، تستخدم في بعض الأحيان بهدف تحقيق أغراض تسويقية لتعطيل تنفيذ حكم التحكيم.
ولقد حرص جانب الفقه البلجيكي إلى الإشارة إلى أن المشرع البلجيكي لم يرد أن يحرر التحكيم من كل رقابة قضائية، كل ما هنالك أنه أراد أن يحول هذه الرقابة من دولة مقر التحكيم إلى الدولة المعنية بتنفيذ حكم التحكيم إذ ارتأى من المنطق أن يتم تقديم جميع الاعتراضات المحتملة ضد حكم التحكيم في الخارج عند تقديم الطلب بإصدار الأمر بتنفيذ حكم التحكيم.
ومن الجدير بالذكر أن قانون التحكيم البلجيكي الصادر في۲۷ مارس ۱۹۸۵ قد تم تعديله وصدر قانوناً بلجيكياً جديداً للتحكيم في ١٦ مايو ١٩٩٨. ووفقاً لهذا القانون الجديد فإن حكم التحكيم الصادر في بلجيكا لا يمكن الطعن عليه بالبطلان إذا اتفقت الأطراف على تحصينه ضد هذا الطريق من طرق الرجوع.
حيث تنص المادة ۱۷۱۷ فقرة ٤ من قانون التحكيم البلجيكي في صياغتها الجديدة على ما يلي:
"وللأطراف بموجب إعلان صريح في اتفاق التحكيم ذاته أو في اتفاق لاحق عليه استبعاد أي طعن ببطلان حكم التحكيم، وذلك إذا لم يكن منهما شخصاً طبيعياً يتمتع بالجنسية البلجيكية أو لها فيها إقامة معتادة أو شخص اعتباري تعد بلجيكا مقراً رئيسياً لمؤسسته أو يوجد له فيها أحد فروعها".
ويقترب هذا النص الجديد للقانون البلجيكي للتحكيم من نص المادة القانون الدولي الخاص السويسري والتي ستعرض لها الآن.
القانون السويسري
ويتضمن القانون الدولي الخاص السويسري الجديد الصادر في١٨ ديسمبر ۱۹۸۷ نصاً مشابهاً للنص المتقدم المذكور في القانون البلجيكي، إذ تنص المادة ۱۹۲ من القانون الدولي الخاص السويسري على أنه إذا لم يكن للطرفين لا موطن ولا محل إقامة معتادة ولا مؤسسة في سويسرا، فإنه يمكنهم من خلال إعلان رغبتهم الصريحة في اتفاق التحكيم أو اتفاق مكتوب لا حق استبعاد كل طريق للطعن على الحكم التحكيمي الصادر عن محكمة التحكيم كما يمكنهم أيضاً عدم استبعاد الطعن بالبطلان إلا بالنسبة لبعض الأسباب المحددة في المادة ۱۹۰ فقرة 2.
ولقد تشدّد القضاء السويسري عند تقديره لمدى وجود هذه الإرادة. فلقد قضي بأن نص المادة ٢٤ من لائحة التحكيم الخاصة بغرفة التجارة الدولية بباريس، والتي وفقاً لها للأطراف أن تتنازل عن كل طرق الطعن التي يمكنهم التنازل عنها، لا يمكن تحليله على أنه يفيد استبعاد دعوى البطلان إعمالاً لنص المادة ۱۹۲ من القانون الدولي الخاص السويسري الجديد.