بعد التعرض لفكرة الأنعدام ومدى جدوى الأخد بها يعن ببالي العديد من الأسئلة الخاصة بفكرة البطلان وبداية أشير إلى أن دراسة البطلان كفكرة قانونية لها تاريخها ونظامها وأحكامها تخرج بنا - حال محاولة خوضها - عن نطاق هذه الرسالة التي تهتم أساسا بفكرة المسئولية الإجرائية ، ورغبة في ضرورة التعرض للبطلان كأحد الجزاءات الإجرائية ، وتفاديا للخروج عن نطاق هذا البحث احاول - حال تعرضي للبطلان الإجرائي - إعمال المقولة المشهورة ما لا يدرك كله لا يترك جله ، وهكذا نحاول الإجابة على بعض أهم الأسئلة التي تدور حول موضوع البطلان ومنها ما البطلان؟، وهل هناك تمييز بين البطلان في مجال القانون الموضوعي والبطلان في مجال القانون الإجرائي؟ وما دون ذلك من المسائل القانونية المتعلقة بالبطلان نحيل بشأنها إلى المراجع الفقهية.
مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي :
يتبين لنا من العرض السابق أن فكرة الجزاء الإجرائی تو لها من التطبيقات العديد والعديد في كتب الفقه الإسلامي ، با هذه الفكرة تعد وليدة هذا الفقه إذ لم يسبقه غيره ممن تولوا دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية ، فهذا الفقه يرجع له الفضل والسية في تحديد إطار واضح ومنضبط لنظر الدعاوى وإصدار الأحكام القضائية ، وقرر من الجزاءات الإجرائية ما يكفل احترام هذا التحديد ويعمل على تفعيله وعدم الخروج عليه ، وقد عرضنا البعض هذه الجزاءات حين انتقينا من بينها جزائي عدم سماع الدعوى والنقض ، وحاولنا تحديد الإطارالإجرائي لكل منهما، وذلك لم يكن عن طريق الخلق والإبداع ، بل عن طريق الكشف عن بعض جوانب الفقه الإسلامي من خلال محاولة - قدر جهدي - لولوج فيض بحر علم هذا الفقه وارتشاف رشفات منه.
وعلى ذلك يجوز لأي شخص عرض دعواه على القضاء، نسم بینواسي هذا الأخير - وقبل الخوض في دعواه أو توجيه اليمين للمدعى عليه في موضوع الدعوى - بحث مدى توافر شروط سماع جمله اشد معنوی ، لسان وجسد را متوافرة ومكتملة طلب من المدعي إقامة الدليل على صحة د. ستواه او وجباء اليمين للد عليه المنكر بحسب الأحوال ، أما إذا لم يجد هذه الشروط متوافرة امتنع عن سماع الدعوى وفقا للتحديد السابق. , والمتأمل في كتابات الفقه الإسالمي في خصوص عدم سماع الدستوى يلاحظ أن له وجهين:
ثانيا : وجه اعتبار عدم سماع الدعوى جزاء إجرائيا:
يرى الباحث أن عدم سماع الدعوى الذي بسط فقهاء الشريعة الإسلامية شروحه في كتبهم يعد تطبيقا من تطبيقات الجزاء الإجرائي الذي عرفته النظم القانونية الوضعية ، ولا يعد هذا التصور من الباحث من قبيل تحميل المصطلحات بما لا تحتمل ، كما لا يعد من باب لي كتابات الفقه الإسلامي وتطبيعها بشروح فقهاء القانون الوضعي للقول بوجود أصول تاريخية للأفكار القانونية في مبادی الفقه الإسلامي ، بل إن تطبيقات عدم سماع الدعوي والتي أبرزتها أمهات كتب الفقه الإسلامي تقطع بما لا يدع مجالا للشك - من وجهة نظر الباحث - في أن الدعوى يعد تطبيقا واضحا من تطبيقات الجزاء الإجرائي ، ولعل هذا ما سبق ذكره من تبني الفقه الإسلامي فكرة المسئولية الإجرائية والتي يتولد الجزاء الإجرائي ، والذي نحن بصدد أحد تطبيقاته في هذا العرض.
هذا، ومن الجدير بالذكر - حال إجراء مقابلة بين مدلول عدم سماع الدعوى الدي فقهاء الشرعية الإسلامية وما يقابله من أفكار لدى تشريعات النظم القانونية الوضعية – أن عدم سماع الدعوى يعد بمثابة عدم قبول الدعوى وفقا للفكر القانوني الوضعي في بعض الفروض ، وسقوطا لحق الدعوى في فروض أخرى.
ونعرض لعدم سماع الدعوى في صورتيه - عدم القبول والسقوط - فيما يلي: 1- عدم سماع الدعوى كمرادف لعدم القبول في فكر القانون الوضعي - استعرض فقهاء الشريعة الإسلامية الشروط اللازمة لاتصال القضاء بالدعوى - والتي سبق التعرض لها منذ قليل - ورتب عدم سماع الدعوى حال تخلف أي من هذه الشروط، وهنا يعد عدم سماع الدعوى مرادفا لعدم قبولها.
وتتعدد تطبيقات عدم سماع الدعوى لتخلف شروط قبولها ، وسنحاول انتقاء بعض هذه التطبيقات للتدليل على ما ذكرناه من اعتبار عدم سماع الدعوى مرادفا لعدم قبولها في بعض الفروض.
أ- عدم سماع الدعوى لانتفاء المصلحة
يستلزم فقهاء الشريعة الإسلامية لسماع الدعوى توافر المصلحة المعتبرة شرعا، بأن توجد للمدعی مصلحة قائمة وجدية يهدف إلى تحقيقها من خلال دعواه.
وهكذا: نستطيع تحديد مفهوم النقض من العرض الموجز السابق بأنه " هدم الحكم أو إهدار قيمته أو رد مضمونة لمخالفته الأصول الشرعية ، وذلك إذا ما صدر الحكم بخلاف شرع الله أو بمخالفة الأصول الثابتة والقواعد الراسخة والتي لا خلاف عليها في فقه الشريعة الإسلامية " ، وجماع هذه الحالات أن الحكم القضائي المقرر نقضه صدر مشتملا على مضمون يخالف مبادئ الشريعة ، وهنا يثار التساؤل عما إذا كان نطاق تطبيق جزاء النقض يقتصر على هذا المجال فحسب؟ بمعنى هل يقتصر نقض الحكم القضائي على حالات صدوره مخالفا في م ضمونه للأحكام الموضوعية المستقرة في الشريعة الإسلامية أم أن هذا الجزاء يتسع ليشمل حالات أخرى كوقوع بعض المخالفات الإجرائية والمتعلقة بكيفية إصدار الأحكام القضائية؟ / إجابة على التساؤل المذكور نقول إن النقض قد يتأسس على أسباب موضوعية - وكل ما سبق ذكره من أسباب يدخل في هذا النطاق - وقد يترتب على أسباب إجرائية ، أي أن النقض يقع في حالتين ، الأولى مخالفة المقتضيات الموضوعية لإصدار الأحكام القضائية بتوخي إصدار حكم يكون انعكاسا لما قاله الحق - سبحانه وتعالى - وما سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما أجمع عليه فقهاء الأمة وما استقر عليه القياس الجلي ، بينما تتمثل الحالة الثانية في مخالفة المقتضيات الشرعية لإصدار الأحكام القضائية ، وهذه الحالة الأخيرة تحتاج قدرا من التفصيل وهو ما نعرض له حالا في خصوص عرض وجهة نظر الباحث حول اعتبار النقض أحد تطبيقات فكرة الجزاء الإجرائي في الفقه الإسلامي، على النحو التالي :
ثانيا : وجه اعتبار النقض جزاء إجرائيا بداية وقبل عرض وجهة نظر الباحث في اعتبار النقض الوارد في كتب الفقه الإسلامي جزاء إجرائيا واضح المعالم ومحددا على نحو ما هو معروف في النظر القانونية الوضعية أود إبداء ملاحظة هي من الأهمية بمكان ألا وهي ضرورة التمييز بين النقض كجزاء والنقض كوسيلة لإعمال الجزاء.
ذلك أن النقض كطريق من طرق الطعن في النظام القانوني الوضعي يعد وسيلة لمراقبة مدى صحة الأحكام القضائية ، وهو في هذه الحدود لا يعد في ذاته جزاء إجرائيا بل إنه يعد وسيلة إجرائية للطعن في الحكم في محاولة لفحصه والتأكد من مدى سلامته وخلوه من المعايب التي تبيح إلغاءه وإهدار قوته ، بدليل أنه من غير الحتمي أن الحكم الذي يطعن فيه بالنقض يتم إلغاؤه ، إذ قد يتبين للقضاء حال نظر الطعن بالنقض أن الحكم خال من العيوب التي تستدعي إلغاءه ، غير أن هذه النظم الوضعية عرفت مدلولا آخر للنقض وفيه يقصد باصطلاح نقض الحكم إلغاءه وإبطال فعاليته وتجريده من قوته ، وهنا يستخدم اصطلاح النقض التعبير عن جزاء يوقع بسبب مخالفة القانون أو الخطأ في تطبيقه أو تأويله.
ومن هذا المنطق يتضح لنا أنه من المفيد ضرورة التمييز بين اصطلاحين قانونيين يتعين عدم الخلط بينهما وهما اصطلاح الطعن بالنقض واصطلاح النقض ، فالمصطلح الأول يعبر عن الوسيلة الإجرائية التي يتم من خلالها فحص الحكم المحاولة التثبت من مدى خلوه من مظاهر العوار والقصور التي تبيح إلغاءه ، بينما يدل المصطلح الثاني على الجزاء الإجرائي الذي يوقع حال تأكد عدم استكمال مفترضات صحة الحكم ؛ ولذا يمكننا القول بتصور وجود طعن بالنقض دون نقض، الا أن العكس غير صحيح ، بمعنى أنه لا يتصور نقض دون سبق الطعن بالنقض.
أما اصطلاح النقض في كتابات الفقه الإسلامي فهو يأخذ معنى الجزاء لوجود و الحبوب المعتبرة في الحكم ، فالسادة فقهاء الشريعة الإسلامية لم يهتموا كثيرا بالطرق أو الوسائل الإجرائية بذات قدر الاهتمام الذي بذلوه في المسائل الموضوعية ، وأعتقد أن هذا المسلك مبرر وليس محلا لنقد ، ذلك أن سيادتهم بیرون - وبحق - تلك الوسائل الإجرائية من قبيل مسائل السياسة الشرعية التي ترك أمرتنظيمها لولي الأمر وبما يحقق مصلحة العباد ما دام هذا التنظيم لا يخرج من كنف الشرع ومبادئ الإسلام وهو ما يختلف و يتغير باختلاف الأمصار و تغير الأزمنة مما يستحسن معه ترك أمر تفصيله لذوي الشأن في كل عصر و مصر بما يحقق مصلحة العباد.
ولكن يجب ألا يفهم من ذلك أن الفقه الإسلامي خلا من كل تنظيم للوسائل الإجرائية، فقد سبق ورأينا كيف وضع الفقه الإسلامي ضوابط ومحددات لكيفية عرض الدعاوى على القضاء وكيفية الفصل فيها ، وقد سبق تفصيل ذلك حال تعرضنا لفكرة الخصومة وإجراءاتها في الفقه الإسلامي.
ورجوعا إلى السؤال الذي سبق طرحه في خصوص مدى اعتبار النقض جزاء إجرائيا فإنه من الممكن رد أسباب النقض - كجزاء وفقا للتحديد السابق - إلی أساسين أحدهما موضوعي سبق عرضه عند الحديث عن مفهوم النقض ، والثاني إجرائي وهو ما نحاول تفصيله في هذا المقام.
ذلك أن فقهاء الشريعة الإسلامية - بالإضافة إلى استلزامهم توافر مفترضات موضوعية لصحة الحكم القضائي والتي تتمثل في موافقة مضمون الحكم لمبادئ الشريعة الإسلامية من قرآن وسنة وإجماع وقیاس وغيرها - استلزموا ضرورة توافر بعض المفترضات الإجرائية سواء في خصوص القضاة الذين يتولون الفصل في المنازعات ، أو في شأن الخصوم الذين يعرضون الدعوى ويناقشونها أمام انقضاء ، أو في خصوص كيفية عرض الدعوى وتقديم الأدلة ومكان وزمان القضاء ، ورتبوا جزاء نقض الحكم حال مخالفة هذه المفترضات الإجرائية تماما نی نی ما قرروا في خصوص مخالفة المفترضات الموضوعية للقضاء.
وفي خصوص القانون الوضعي فقد تبين لنا مقدار ما وصلت إليه فكرة الجزاء الإجرائي من تنظيم علمنا من خلاله منظور الفكر القانوني في شأن الجزاء الإجرائي والدور الذي يلعبه هذا الجزاء في المنظومة القانونية الإجرائية بصفة عامة، وما لتحقق الاهتمام
الجزاء الإجرائي من تفعيل الدوره ، وهو ما يدفعنا إلى المناداه بضرورة الاهتمام بفكرة المسئولية الإجرائية لتفعيل دورها، ومحاولة إيجاد حلول عملية وسريعة لما تشهده الساحة الإجرائية من مشكلات مزمنة يكاد يستعصي الكثير منها في ظل الأيدلوجية القائمة على الحلول الفاعلة ، ولعل من أبرز هذه المشكلات تكدس القضايا أمام المحاكم بالصورة التي أدت إلى تعطيل مرفق القضاء والحيلولة بينه و بين أداء دوره بصورة كاملة في كثير من الحالات، وهو ما أدى بدوره إلى تعطيل العدالة وهو ما يعد دربا من دروب الظلم إذ إن العدالة البطيئة هي والظلم سواء.
ولا أقصد من ذلك أن تبني فكرة المسئولية الإجرائية و رسم الإطار القانوني لها هو الحل الكافي والسبيل المخلص من كل أزمات القانون الإجرائي ، ولكني فقط أقصد أن الاهتمام بهذه الفكرة سيسهم بدور ملحوظ في تقليص حجم هذه الأزمة، وتجنب تفاقمها، و إيجاد العديد من الحلول لشق كبير منها، وهو ما سوف نؤكده بإذن الله - في ختام هذه الرسالة .