الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التنفيذ / الطعن في احكام التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية العدد 35-36 / طرق الطعن في الحكم التحكيمي التجاري في الجزائر

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية العدد 35-36
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    337

التفاصيل طباعة نسخ

الملخص:

   يتعرض حكم التحكيم التجاري بنوعيه الداخلي والدولي إلى طرق طعن مختلفة لمراقبته قبل تنفيذه، والمتعارف عليه أنّ التحكيم يعدّ نظاماً بديلاً للقضاء، لذا توجّب منحه نوعاً من الاستقلالية سواء من الناحية الإجرائية أو القانونية أو القضائية، ويجب أن يتمتع الحكم الصادر عنه بقدر عالٍ من الحجية، وهو الشيء الذي رأيناه مجسداً ولو نسبياً في التحكيم الدولي.

وعلى النقيض من ذلك فإنّ تعريض حكم التحكيم الداخلي لطرق كثيرة للمراجعة تفقده أحسن ميزة في التحكيم وهي السرعة في فضّ المنازعات، كما تضعف من حجيته واستقلاليته وفعاليته كنظام بديل للقضاء يخفف الضغط عن هذا الأخير. وحبذا لو طبّق المشرع طعناً وحيداً على التحكيم الداخلي، كما هو الشأن بالنسبة للتحكيم الدولي.

               

الكلمات الدالة: حكم التحكيم - الطعن - استقلالية التحكيم

Voies de recours contre la sentence arbitrale

    Les voies de recours contre la sentence interne limitent l'indépendance et l'efficacité de l'arbitrage, et influer sur la rapidité de la résolution des conflits.

    Par contre les voies de recours contre la sentence international ne constituent pas une ingérence à l'indépendance et l'efficacité de l'arbitrage, étant un contrôle normal pour assurer la bonne application des procédures

   Mots clés : sentence arbitrale –recours – l’indépendance de l’arbitrage

تمهيد:

   يعدّ التحكيم من أقدم الوسائل في حلّ النزاعات وتسويتها، حيث إِلْتَجَأ وعمل به الأفراد منذ القدم، وأخذ يتطور شيئاً فشيئاً بتطور وازدياد المعاملات وما ينشأ عنها من نزاعات بين أطرافها، وفي النصف الثاني من القرن العشرين أصبح التحكيم أهم وسيلة لفضّ النزاعات، خاصة في مجال التجارة الدولية، بعد التزايد الهائل في التبادلات والمشاريع الاستثمارية على المستوى الدولي، وكانت غالبية العقود الدولية تتضمّن شرط التحكيم لحل النزاعات التي قد تنشأ مستقبلاً، ومن أهم الأسباب التي جعلت الإقبال على التحكيم شديداً، هو رغبة الأطراف المتعاقدة في تفادي طرح منازعاتهم على القضاء الرسمي بعيوبه الكثيرة، التي من بينها بطء إجراءات التقاضي، وكثرة تعقيداتها، وكذا طول مدة النزاع، خاصة عند الطعن في الحكم في مختلف درجات التقاضي، إضافة إلى إشكالات التنفيذ، وما تستغرقه من وقت، وهذا كله يكرّس المبدأ القائل: "العدالة البطيئة فرع من الظلم".

   وأدى هذا التطور الكبير للتحكيم في مجال التجارة إلى ظهور العديد من الاتفاقيات الإقليمية والدولية، أسهمت في تقنين وتنظيم قواعد وإجراءات التحكيم، والتي نذكر منها:

1- اتفاقية نيويورك بتاريخ 10 جوان 1958، الهادفة إلى حض الدول للاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية.

2- اتفاقية واشنطن بتاريخ 18 مارس 1965، الهادفة إلى تسوية منازعات الاستثمار.

3-القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي لسنة 1985 لهيئة الأمم المتحدة.

   كما برز الى الوجود الكثير من المؤسسات والمراكز التحكيمية، حيث أصبحت لها مكانة دولية ونشاط واسع في تسوية مئات القضايا، التي تعرض للتحكيم سنوياً، فأسهمت بوضع قواعد خاصة بالإجراءات التي تتبع في سير عملية التحكيم.

   ومواكبة لهذه التحولات الاقتصادية والتجارية، أصدرت دول عديدة قوانين حديثة تعالج فيها مسائل التحكيم، من بينها الجزائر التي تأخرت نوعاً ما عن الركب تخوفاً وحذراً من هذه الآلية الجديدة والبديلة لحل المنازعات التجارية.

   فأصدرت أول قانون يتعلق بالتحكيم بالمرسوم التشريعي 93/09 بتاريخ 25/04/1993 معدل ومتمم لقانون الإجراءات المدنية الصادر في جوان 1966م (قانون ملغى).

   وذلك بعد الانضمام إلى اتفاقية نيويورك بشأن الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها بموجب القانون 18/88 المؤرخ في 12/7/1988.

   ونظراً لرغبة الدولة الجزائرية في تطوير اقتصادها الوطني بجلب الاستثمارات ورؤوس الأموال ونقل التكنولوجيا الحديثة، وأمام تمسّك المستثمرين باشتراط العديد من الضمانات وعلى رأسها التحكيم التجاري الدولي، سارعت الجزائر إلى الانضمام إلى العديد من الاتفاقيات الثنائية والإقليمية والتي نذكر من بينها:

أ‌- المصادقة على اتفاقية التعاون القانوني والقضائي بين دول اتحاد المغرب العربي بتاريخ 9 مارس 1991.

ب‌- المصادقة سنة 1995 على اتفاقية تسوية المنازعات المتعلقة بالاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى المعتمدة من قبل البنك الدولي لإعادة التعمير والتنمية.

ت‌- المصادقة على اتفاقية الرياض المتعلقة بالتعاون القضائي بتاريخ:11 فيفريي 2001.

   وأمام هذا الانفتاح على التحكيم التجاري الدولي وتأكيداً منه على الرغبة في اعتماد التحكيم كآلية ثانية وبديلة للقضاء لفضّ النزاعات التجارية الوطنية منها والدولية، جدّد المشرّع ثقته في التحكيم عند إصداره القانون الجديد للإجراءات المدنية والإدارية بتاريخ 25 فيفريي 2008، حيث خصّص للتحكيم باباً كاملاً يتضمّن المواد من 1006 إلى 1065.

   وأصبح اللجوء الى التحكيم في كل القضايا ما عدا مسائل النظام العام وحالة الأشخاص وأهليتهم، وأصبح المرجع الأساسي لحسم خلافات التجارة الدولية.

   ويُعَرف التحكيم حديثاً أنه نظام بمقتضاه يمكن الفصل في المنازعة بواسطة أفراد عاديين بعيداً عن قضاء الدولة، يتميز بالسرعة في الفصل في النزاعات وبساطة وسرية الإجراءات، وهو نظام يختلف عن الصلح والوساطة، وله عدة أنواع فقد يكون التحكيم حراً أو مؤسسياً، وقد يكون اختيارياً أو إجبارياً، وأخيراً قد يكون التحكيم وطنياً أو دولياً.

   وكما هو معروف يمر التحكيم بعدة مراحل يمكن أن نحصرها في ثلاث، حيث يبدأ بمرحلة الاتفاق على التحكيم عن طريق ما يسمى شرط التحكيم أو مشارطه التحكيم، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة تشكيل هيئة التحكيم والسير في إجراءاته، وأخيراً مرحلة صدور القرار وتنفيذه.

   وانفتاح المشرع الجزائري على التحكيم لا يعني أنّ هذا الأخير سوف يكون محصناً من أية وسيلة من وسائل مراجعته والرقابة القضائية عليه مع مراعاة خصوصية التحكيم، وهذه الرقابة على الحكم التحكيمي تبيّن مدى تدخل القضاء في نظام التحكيم حيث تباينت الآراء الفقهية حول درجة الرقابة التي يمكن لقضاء الدولة ممارستها بحيث تضمن حماية نظامها القانوني، حتى لا ينتهك ولا تتسرب إليه أحكام تحكيمية تخالف النظام العام، كما تضمن حماية حقوق الدفاع للخصوم من جهة، ومن جهة أخرى أن لا تكون هذه الرقابة بالدرجة التي تفقد نظام التحكيم استقلاليته وفعاليته في ضمان عدالة سريعة، وذلك عند الطعن فيه وتعريضه لكافة طرق الطعن وسنعالج في دراستنا هذه إشكالية: "مدى تأثير طرق الطعن على استقلالية وفعالية نظام التحكيم كآلية بديلة للقضاء الرسمي".

المبحث الأول- مراجعة حكم التحكيم التجاري:

   إنّ معظم التشريعات الحديثة تمارس قدراً معيناً من الرقابة على أحكام التحكيم، حيث تختلف هذه الرقابة التي تصدر داخل إقليم الدولة عن تلك التي تصدر خارج إقليمها أو ما يُسمى القرارات التحكيمية الدولية، وقد قسم قانون التحكيم الجزائري الأحكام التحكيمية إلى أحكام داخلية وأحكام دولية منها ما هو صادر في الجزائر، ومنها ما هو صادر في الخارج، وفرض عليها نوعاً معيناً من الرقابة

   ويلاحظ أن هذه الرقابة تقلّ شدتها وتختصر في أمور معينة ومحدودة بالنسبة للأحكام الدولية وهو ما انتهجته غالبية القوانين الحديثة كالقانون الفرنسي واللبناني وهو ما أقرّه أيضاً القانون الجزائري.

   وللتفصيل في ذلك ارتأينا أن نقسم مبحثنا هذا إلى مطلبين، حيث نخصص المطلب الأول لطرق الطعن في أحكام التحكيم الداخلي، أما المطلب الثاني فنخصصه لطرق الطعن في أحكام التحكيم الدولي.

الفرع الأول- الطعن في أحكام التحكيم الداخلي:

   جلّ الأنظمة التشريعية استبعدت المعارضة كسبيل لمراجعة حكم التحكيم، إلاّ أنها اختلفت فيما يخص طرق الطعن الأخرى للتصدي لأحكام التحكيم الداخلي فمنهم من يجيز الاستئناف كقاعدة، ومنهم من أجاز الاستئناف كإستثناء، ومنهم من لم يُجِزهُ على الإطلاق وأجاز طعناً وحيداً هو الطعن بالبطلان، كما هو حال المشرع المصري في نص المادة 52 من قانون التحكيم المصري. أما الطعن بالنقض فهناك من أجازه، لكن عن طريق الطعن في قرار الاستئناف كالمشرع الجزائري في المادة 1034 ق إ م إ، والمشرع اللبناني في المادة (704) من قانون الإجراءات المدنية اللبناني .

   وبالرجوع إلى القانون الجزائري، يمكن الطعن في حكم التحكيم الداخلي عن طريق الاستئناف، كما يمكن الطعن فيه بواسطة استئناف الأمر القاضي برفض تنفيذ حكم التحكيم.

أولاً- استئناف حكم التحكيم الداخلي:

    بإستقراء المادة 1033 من ق إ م إ، نلاحظ أنّ المشرع الجزائري أجاز الطعن بالاستئناف كقاعدة فهو حق ثابت للأطراف حتى وان لم يتفق عليه في اتفاقية التحكيم، وهو طريق لمراجعة حكم التحكيم الداخلي من جديد، مما يسمح بإلغائه أو بتعديله وتصحيحه سواء كان ذلك من حيث الشكل أومن حيث الموضوع، وهذا لا يمنع الخصوم من تنازلهم عن هذا الحق. وهو نفس ما ذهب إليه المشرع الفرنسي الذي أقرّ الطعن باستئناف الأحكام التحكيمية الداخلية في المادة 1482 ق إ م ف، وهو أيضاً ما اعتمده القانون اللبناني في نص المادة 799/1 من قانون الإجراءات المدنية التي اعتبرت حق الاستئناف حقاً مطلقاً للخصوم .

   وعلى عكس ما تبنّاه القانون الجزائري واللبناني والفرنسي الذي أخذ بالاستئناف كقاعدة للطعن في الحكم، أخذ المشرع الكويتي في المادة (186) من قانون المرافعات، وكذا المشرع التونسي في المادة (39) من قانون التحكيم، بالاستئناف كاستثناء حيث لا يمكن للخصوم سلوك طريق الاستئناف إلاّ إذا اتفق الأطراف على خلاف ذلك في اتفاقية التحكيم. ويرفع الاستئناف في أحكام التحكيم الوطنية الجزائرية في أجل شهر واحد من تاريخ النطق بها ويكون ذلك أمام المجلس القضائي الذي صدر في دائرة اختصاصه حكم التحكيم. وتكون القرارات الفاصلة في الاستئناف وحدها قابلة للطعن بالنقض.

   وما يؤخذ على المشرّع الجزائري هو عدم توضيح احتساب المدة في حالة وجود طلب تفسيري من أحد الأطراف، كما لم يحدِّد أوجه الاستئناف والنقض، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يلاحظ انه إذا طبقنا المادة 1033 ق إ م إ "يرفع الاستئناف في أحكام التحكيم... ما لم يتنازل الأطراف عن حق الاستئناف في اتفاقية التحكيم"، إنّ الحكم يصير نهائياً ويحوز قوة الشيء المقضي فيه بمجرد تنازل الأطراف عن حقهم في الاستئناف، لأنهم ربما رضوا بالحكم أو لأي سبب آخر، لكن السؤال المطروح: ماذا لو كان هذا الحكم يخالف النظام العام والمصالح العليا للدولة؟

   هذا الأمر عالجته غالبية القوانين الوطنية على غرار القانون الفرنسي الذي تفطّن لهذه الثغرة وأقرّ طريقاً آخر للطعن في حالة تخلّي الأطراف عن استئناف الحكم، وهو الطعن بالبطلان الذي أوردته المادة 1484 ق إ م ف، وهو نفس الشيء الذي ذهب إليه المشرع الكويتي في المادة 186/3 وقد حدّد لذلك مجموعة من الأسباب كانت جد منطقية لصحة ومشروعية الحكم الصادر، ونتمنى على المشرع الجزائري تدارك هذا الأمر في التعديلات القادمة للقانون.

ثانياً- استئناف أمر رفض تنفيذ الحكم:

   إن مَآلَ حكم التحكيم بعد صدوره هو طلب إكسائه الصيغة التنفيذية وقد يقابل هذا الطلب إما بالقبول أو بالرفض، والملاحظ أن الكثير من التشريعات القانونية تتفق على عدم جوازية الطعن في الأمر القاضي بالاعتراف وتنفيذ الحكم، وجوازية ذلك بالنسبة للأمر القاضي برفض الاعتراف والتنفيذ للحكم الصادر عن هيئة التحكيم. ومن بين هذه التشريعات القانون الفرنسي الذي جاء في نص مادته 1489 "أن الأمر الذي يرفض تنفيذ حكم التحكيم الداخلي يمكن استئنافه...".

   وهذا حرصاً منه على عدم ترك الأحكام التحكيمية دون تنفيذ، وهو ما سار عليه المشرع الجزائري في نص المادة 1035 ق إ م إ. حيث أتاح للخصوم إمكانية استئناف الأمر القاضي برفض التنفيذ، وذلك خلال مدة قدرها خمسة عشرة (15) يوماً من تاريخ الرفض، ويكون هذا الاستئناف على مستوى المجلس القضائي.

   والملاحظ في الواقع أن الأوامر الرافضة للاعتراف وتنفيذ الأحكام الداخلية قليلة الحدوث، مما يجعل استئنافها من النادر ممارسته، خاصة في الدول التي تتيح الطعن بالبطلان كطريق ثانٍ لمراجعة الأحكام الداخلية.

الفرع الثاني- الطعن في حكم التحكيم الدولي:

   تنقسم الأحكام التحكيمية الدولية إلى نوعين وهما الأحكام الدولية الصادرة داخل إقليم الدولة والأحكام الدولية الصادرة خارج إقليم الدولة، وكل منهما يخضع لرقابة قضائية خاصة به، فالأول يقبل الطعن فيه بالبطلان في حالات حدّدها كل تشريع بما يتوافق ونظرته إلى التحكيم، أما الثاني فلا يمكن الطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن سواء العادية منها أو غير العادية.

   وكلا النوعين يتعرض لرقابة قضائية عند طلب الاعتراف به وتنفيذه، فيحق للأطراف استئناف الأمر القاضي برفض الاعتراف أو برفض التنفيذ، وكذلك استئناف الأمر القاضي بالاعتراف أو بالتنفيذ في حالات محدّدة.

أولاً- الطعن في حكم التحكيم الدولي الصادر خارج الجزائر:

   تعتبر الأحكام التحكيمية الدولية لا قيمة لها وعديمة الفائدة ما لم تُضْفَ بالصيغة التنفيذية في بلد التنفيذ، وقد جاءت اتفاقية نيويورك التي وقّعتها غالبية الدول، حيث عملت على التأكيد على الاعتراف بأحكام التحكيم وتنفيذها.

   ولقد تحدث المشرّع الجزائري عن الاعتراف بأحكام التحكيم الدولي في نص المادة 1051 ق إ م إ، على النحو التالي "يتم الاعتراف بأحكام التحكيم الدولي في الجزائر إذا أثبت من تمسّك بها وجودها، وكان هذا الاعتراف غير مخالف للنظام العام الدولي....".

   ويجب أن يودَعَ أصل الحكم في أمانة ضبط المحكمة المختصة من الطرف الذي يهمه التعجيل، ويكون مرفقاً باتفاقية التحكيم أو بنسخ عنها، بحيث تستوفى شروط صحتها، مع تحمل كامل المصاريف اللازمة لذلك.

   وبعد دراسة الطلب من ناحية المشروعية وصحة الإجراءات من الجهات القضائية المختصة في ذلك، يُذَيّلُ بأصل الحكم أمر يقضي بإكسائه الصيغة التنفيذية، كما قد يرفض الاعتراف به ويرفض تنفيذه، وعلى الخصم المتضرِّر من أحد هذين الأمرين أن يطعن فيه عن طريق الاستئناف، وهذا وفقاً لما جاء في المادتين 1055 و1056 من قانـون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري.

أ‌- استئناف الأمر القاضي برفض تنفيذ الحكم الصادر خارج الجزائر:

   أجاز المشرّع الجزائري الذي صدر في حقه الأمر برفض التنفيذ، أن يستأنف هذا الأمر في نص المادة 1055 ق إ م إ، والتي جاءت كما يأتي "يكون الأمر القاضي برفض الاعتراف أو برفض التنفيذ قابلاً للاستئناف". 

   وما يمكن ملاحظته على هذه المادة، أنّ المشرع الجزائري أظهر تَوَجُهَه والتزامه مبدأ الاعتراف والتنفيذ لحكم التحكيم كمآل طبيعي.

   والعلة في ذلك أنه لم يضع أي شروط أو قيود على رافع الدعوى، عكس ما هو عليه في حالة استئناف الأمر القاضي بالاعتراف والتنفيذ. لأنّ الأصل في ذلك هو الموافقة والاعتراف والاستثناء هو الرفض، والشيء الوحيد الواجب مراعاته في الحكم هو عدم مخالفته النظام العام الدولي.

   ولقد سلك المشرّع الفرنسي واللبناني نفس الطعن في الأمر الرافض للاعتراف، وذلك عن طريق الاستئناف في نص المادة 1501 ق إ م ف، ونص المادة 816 و817 من قانون المرافعات اللبناني.

   ويرفع الاستئناف في أجل شهر واحد انطلاقاً من تاريخ التبليغ الرسمي لأمر رئيس المحكمة أمام المجلس القضائي المختص.

   لكن السؤال المطروح والذي لم يوضحه المشرّع، ما هي نوعية الرقابة التي يمارسها المجلس القضائي على الأمر القاضي بالرفض والصادر عن رئيس المحكمة، وما هي إجراءات التقاضي المتّبعة في ذلك؟

ب- استئناف الأمر القاضي بتنفيذ الحكم الصادر خارج الجزائر:

   إنّ معظم الطلبات المرفوعة الى المحاكم من أجل استصدار أمر تنفيذ أحكام التحكيم، تلاقي القبول والاعتراف إذا لم تخالف النظام العام والمصالح العليا للدولة. لكن السؤال: هل بإمكان الطرف المتضرِّر أن يطعن في هذا الاعتراف؟

   إجابةً عن هذا التساؤل، جاءت المادة 1056 ق إ م إ، لتسمح بذلك لكن في حالات محددة وهو الشيء الذي يتوافق وطبيعة التحكيم ومكانته التي يحظى بها في الوسط التجاري الدولي ودوره الهام في حل النزاعات بفعالية كبيرة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام المنفّذ ضده، يعطيه فرصة للمماطلة وعرقلة التحكيم مما يَحُدّ من ميزته الأساسية، وهي السرعة في فضّ النزاع.

  وأمام هذا الوضع اشترط المشرع لجواز استئناف هذا الأمر توافر أحد الشروط الآتية:

- إذا فصلت محكمة التحكيم بدون اتفاقية تحكيم أو بناءً على اتفاقية باطلة أو انقضاء مدة الاتفاقية.

- إذا كان تشكيل محكمة التحكيم أو تعيين المحكم الوحيد مخالفاً للقانون.

- إذا فصلت محكمة التحكيم بما يخالف المهمة المسندة إليها.

- إذا لم يُراعَ مبدأ الوجاهية.

- إذا لم تسبِّب محكمة التحكيم حكمها أو إذا وجد تناقض في الأسباب.

- إذا كان حكم التحكيم مخالفاً للنظام العام الدولي.

   وهي تقريباً نفس الأسباب التي تضمّنتها المادة 1502 ق إ م ف، مع إضافة المشرع الجزائري شرط تسبيب الحكم، والذي قد يثير بعض الصعوبات في تنفيذ الأحكام الأجنبية التي لا تشترط في نظامها القانوني هذا المبدأ، ومن بين هذه النظم، النظام الأنجلوسكسوني وعلى رأسه القانون الإنجليزي، وحتى القانون الفرنسي لم يأخذ بهذا المبدأ مسايرة للنظام الأنجلوسكسوني، أما بقية الأسباب فقد أثيرت في غالبية التشريعات الوطنية للتحكيم والمستمدة أصلاً من الاتفاقيات الدولية وعلى رأسها اتفاقية نيويورك لسنة 1958م التي صادقت عليها الجزائر سنة  1988، ويرفع استئناف الأمر القاضي بالاعتراف والتنفيذ لحكم التحكيم أمام المجلس القضائي التابع للمحكمة التي أصدرته في أجل لا يتعدى الشهر الواحد، ابتداء من تاريخ التبليغ.

ثانياً- الطعن في حكم التحكيم الدولي الصادر في الجزائر:

   بعد صدور الحكم الفاصل في موضوع النزاع من قبل هيئة التحكيم، تجيز غالبية التشريعات المقارنة للطرف المتضرِّر التظلم من هذا الحكم عن طريق الطعن فيه، وتتفاوت القوانين المختلفة في طرق الطعن بين موسّعة ومضيّقة، إلاّ أنّ معظمها سلكت طريقاً واحداً جامعاً هو دعوى البطلان وتخلّت عن سبل الطعن التقليدية تجنباً لإطالة أمد النزاع، الأمر الذي لا يتفق وما تتطلبه طبيعة التجارة الدولية من سرعة واستقرار للحقوق والمراكز القانونية، كما أن دعوى البطلان تتناسب ونظام التحكيم الذي يقوم في جوهره على أساس تعاقدي.

   وبالرجوع إلى قانون التحكيم الجزائري نلاحظ أنّ المشرّع الجزائري فرّق بين التحكيم الداخلي والتحكيم الدولي، وهذا الأخير قسمه إلى تحكيم صادر بالجزائر وتحكيم صادر خارج الجزائر، فأجاز إمكانية الطعن بالاستئناف في التحكيم الداخلي، كما نصّت على ذلك المادة  من 1033 من ق إ م إ، ما لم يتنازل الأطراف عن حق الطعن بالاستئناف، وتكون القرارات الفاصلة في الاستئناف قابلة للطعن  بالنقض طبقاً للأحكام المنصوص عليها في المادة 1034 من ق إ م إ، أما في ما يخص الأحكام الدولية الصادرة خارج الجزائر فهي لا تقبل أي طعن، وإنما يمكن استئناف الأمر الذي يقضي برفض الاعتراف أو رفض التنفيذ، وكذلك بالنسبة للأمر الذي يقضي بالاعتراف أو التنفيذ وذلك في حالات محدّدة وفقاً لنص المادة 1056 ق إ م إ، ويمكن أن تكون هذه الحالات موضوع طلب بطلان الحكم الدولي الصادر في الجزائر.

  مما سبق نلاحظ أن القانون الجزائري كغالبية قوانين التحكيم المعاصرة أجاز رفع دعوى بطلان أحكام التحكيم الدولي الصادرة في الجزائر كوسيلة وحيدة لمراجعته من قبل الخصوم في حالات محددة.

   وفي هذا الصدد سَنَسْتَعْرض النظام القانوني لدعوى البطلان، ونوضح الحالات التي حددها المشرع لقبول هذه الدعوى، وآجال رفعها، وكذا المحكمة المختصة والآثار المترتبة على القضاء ببطلان حكم التحكيم.

الفرع الأول- خصائص دعوى البطلان:

   تتميز دعوى البطلان بعدة خصائص تتعلق بإجراءات رفع الدعوى والمحكمة المختصة، وكذا ميعاد رفع الدعوى والآثار المترتبة على رفعها، وقد أوجب المشرع الجزائري لرفع دعوى البطلان توافر واحدة من الحالات التي تضمّنتها المادة 1056 ق إ م إ.

أولاً- المحكمة المختصة:

   الملاحظ أنّ المشرع الجزائري لم يتطرق إلى كيفية رفع دعوى البطلان أمام المحكمة المختصة على عكس المشرع الفرنسي الذي اوجب مراعاة الإجراءات المتبعة في القضاء العادي، وفقاً للمادة 1507 ق إ م ف

  بالتمعن في المادة 1059 ق إ م إ، يتبيّن أن الجهة صاحبة الاختصاص المنوط بها الفصل في دعوى البطلان للأحكام التجارية الدولية الصادرة في الجزائر هي المجلس القضائي الذي صدر في دائرة اختصاصه الحكم التحكيمي، وهو نفس ما ذهب إليه المشرع الفرنسي في المادة 1486 ق إ م ف، وليس معنى هذا أن القاضي سينظر هذه الدعوى كقاضي استئناف، وإنما ينظرها كقاضي بطلان، وله في ذلك أن يقبل هذه الدعوى ويبطل حكم المحكم وإما أن يرفضها ويؤيد الحكم.

ثانياً- ميعاد رفع الدعوى:

   وفق نفس المادة السابقة نلاحظ أنّ المشرع لم يحدِّد أجلاً معيناً للطرف الذي صدر ضده الحكم لرفع دعوى البطلان، حيث أجاز الطعن بالبطلان من تاريخ النطق بحكم التحكيم وليس عليه انتظار التبليغ، أما إذا قام الطرف الرابح في النزاع بطلب حصوله على الاعتراف ومنحه الصيغة التنفيذية فهنا يجب على الطرف الخاسر للنزاع أن يرفع دعواه بالبطلان بعد شهر واحد من تاريخ تبليغه الرسمي للقرار القاضي بالتنفيذ وإلاّ رفضت.

ثالثاً- آثار رفع دعوى البطلان:

   لقد نصّت المادة 1060 ق إ م إ، على أنه: "يوقف تقديم الطعون وأجل ممارستها، المنصوص عليها في المواد 1055،1056 و1058 تنفيذ أحكام التحكيم"  وهو نفس ما ذهب إليه المشرع الفرنسي في المادة 1506 ق إ م ف، وعليه يترتب على رفع دعوى بطلان حكم التحكيم الدولي وقف تنفيذ حكم التحكيم المطعون فيه إلى حين فصل المجلس القضائي في دعوى البطلان بتأييدها أو رفضها، كما أن آجال ممارسة هذه الطعون مُوقِفَة للتنفيذ فعلى الطرف الذي يريد التنفيذ انتظار نهاية المدة المخصصة للطعن، وفى حالة رفع الطعن فإنّ عليه الانتظار حتى الفصل فيه، ورفع الطعن بالبطلان يرتب بقوة القانون الطعن في أمر التنفيذ أو تخلى المحكمة الفصل في طلب التنفيذ إذا لم يتم الفصل فيه.

   وما يؤاخذ على المشرع الجزائري أنه ترك المجال مفتوحاً أمام التأويلات، فيما يخص الآثار المترتبة على قبول دعوى البطلان والقضاء بإبطال حكم التحكيم من قبل المجلس القضائي، حيث أنه لم يوضح هل يتصدى القاضي لموضوع النزاع ويفصل فيه بحكم كجهة استئناف؟ أم أنه لا يمكنه التصدي وترك الأمر للمتخاصمين إما أن يتفقوا على إحالة القضية على هيئة تحكيمية أخرى أو أنهم يطرحون نزاعهم على المحكمة المختصة أصلاً وكأنه لا يوجد اتفاق تحكيم؟ والمؤاخذة الثانية هي في حالة قضاء المجلس القضائي برفض دعوى البطلان، فما هو الأثر المترتب على ذلك في تنفيذ حكم التحكيم؟ وهل تمنح الصيغة التنفيذية تلقائياً للحكم أم أنه توجد إجراءات أخرى يجب القيام بها؟ ومقارنة بالقانون الفرنسي ومن خلال المواد 1507 و1485 نستنتج أن محكمة الاستئناف بعد اتخاذ قرارها بالبطلان فإنّ مهمتها تنتهي عند هذا الحد ولا يمكنها التصدي لموضوع النزاع. ومن جهة أخرى، فان القرار القاضي برفض دعوى البطلان يضفي تلقائياً الصيغة التنفيذية لحكم التحكيم المطعون فيه.

الفرع الثاني- الحالات المُحَدّدة لرفع دعوى البطلان:

   تباينت التشريعات الوطنية واختلفت في تحديدها الحالات التي يجوز بموجبها الطعن ببطلان حكم التحكيم، بين موسّع فيها وبين مضيّق لها حسب نظرته وفلسفته اتجاه التحكيم، وهناك من القوانين ما لا يضع أسباباً محددة للبطلان كالتشريع الإنجليزي مثلاً، مما يترك السلطة التقديرية للقاضي في قبول أو عدم قبول الطعن بالبطلان.

   وبالرجوع إلى قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري فقد نصت المادة 1058 منه على أنه "يمكن أن يكون حكم التحكيم الدولي الصادر في الجزائر موضوع طعن بالبطلان في الحالات المنصوص عليها في المادة 1056".

وتتمثل الحالات التي نصّت عليها هذه المادة فيما يأتي:

أولاً- أسباب البطلان المتعلقة باتفاقية التحكيم وإجراءات الخصومة:

أ- إذا فصلت محكمة التحكيم بدون اتفاقية تحكيم أو بناءً على اتفاقية باطلة أو انقضاء مدة الاتفاقية، هذه الحالة يمكننا تقسيمها إلى ثلاث نقاط

1- التحكيم بدون اتفاقية تحكيم:

   يعد اتفاق التحكيم من بين الأسباب التي يستند إليه الأطراف في طلب البطلان لحكم التحكيم الدولي، فإذا ادعى أحد الأطراف عدم وجود هذا الاتفاق ولم يستطع الطرف الآخر إثبات وجود شرط التحكيم في العقد أو وجود مشارطة للتحكيم بين الطرفين توجب على القاضي إبطال هذا الحكم، وقد يكون الحال أن يكون الطرفان قد عيّنا في الاتفاق خبيراً أو وسيطاً وليس محكماً، ويمكن أن يثار هذا الدفع في حالة وجود اتفاق تحكيم في عقد ضمن مجموعة عقود متتالية ونشأ خلاف حول استقلالية هذه العقود من عدمها، إلى غير ذلك من الحالات التي يثار فيها لُبْس من وجود اتفاق للتحكيم من عدمه.

  وهذا السبب، أي عدم وجود اتفاقية تحكيم، نص عليه العديد من القوانين مثل القانون المصري في المادة 53/1والقانون الفرنسي في المادتين 1504 و1502 ق إ م ف.

2-التحكيم بناءً على اتفاقية باطلة:

   قد يبطل اتفاق التحكيم إذا لم تتوافر فيه كافة الأركان اللازمة لصحة انعقاد العقود من رضا ومحل وسبب وشكلية، فلابد أن تكون إرادة الأطراف خالية من الغلط والتدليس والإكراه والاستغلال، وان يكن المحل والسبب مشروعين.

   إضافة إلى ما جاء في نص المادة 1006 ق إ م إ، التي تمنع اللجوء للتحكيم في المسائل التي تتعلق بالنظام العام وحالة الأشخاص وأهليتهم والأشخاص المعنوية إلا في معاملاتها التجارية.

  كما نصت المواد 1008 و1012 من نفس القانون على بطلان اتفاق التحكيم إذا لم يكن مكتوباً، وإذا لم يتضمن أسماء المحكمين أو طريقة تعينهم، وإذا لم يتضمن اتفاق التحكيم موضوع النزاع.

  على العموم تكون اتفاقية التحكيم صحيحة من حيث الموضوع إذا استجابت للشروط التي اقرها القانون الذي اتفق الأطراف على اختياره.

   وإذا لم يتفق الأطراف على أي قانون فيطبق قانون الدولة التي تَنْظُر محكمتها دعوى البطلان، وكتابة حكم التحكيم هو الأمر الذي نصت عليه المادة 34/2 من القانون النموذجي للتحكيم الدولي.

3- انقضاء مدة التحكيم:

   جاء في نص المادة 1018 ق إ م إ، على أنه: "يكون اتفاق التحكيم صحيحاً ولو لم يحدد اجل لإنهائه، وفي هذه الحالة يلزم المحكمون بإتمام مهمتهم في ظرف أربعة أشهر تبدأ من تاريخ تعيينهم أو من تاريخ إخطار محكمة التحكيم. غير انه يمكن تمديد هذا الأجل بموافقة الأطراف، وفي حالة عدم الموافقة عليه، يتم التمديد وفقا لنظام التحكيم، وفى غياب ذلك يتم من طرف المحكمة المختصة"، وفي الواقع نجد أنه من النادر أن يشتمل عقد التحكيم على مدة معينة ينبغي على المحكمين أن يصدروا حكمهم خلالها، ولكن ما يحدث هو الإحالة إلى نظام تحكيمي أو إلى قانون تحكيمي يتضمنان مدة لإنهاء التحكيم وإصدار الحكم.

   وبقي القول أنه إذا قبل الخصوم الحكم رغم صدوره بعد الأجل، فلا يجوز لهما أن يتمسكا بعد ذلك بالبطلان.

ب– إذا كان تشكيل محكمة التحكيم أو تعيين المحكم الوحيد مخالفاً للقانون:

   لقد بين المشرع الجزائري الشروط الذي يجب أن تتوافر في الشخص الذي ستسند إليه مهمة التحكيم من خلال نص المادة 1014 ق إ م إ.

   كما أكد على ضرورة قبول المحكم أو المحكمون القيام بالمهمة الموكلة إليهم وإعلامهم الأطراف في حالة وجود سبب من أسباب الرد، وأنه لا يجوز لهم في هذه الحالة مباشرة عملهم إلا بموافقة جميع الأطراف وفقاً لنصّ المادة 1015 ق إ م إ.

   بالإضافة لذلك أوجبت المادة 1017 من نفس القانون أن يكون تشكيل محكمة التحكيم من محكم واحد أو مجموعة من المحكمين شرط أن يكون عددهم وتراً.

   وعليه في حالة مخالفة الشروط السالفة الذكر جاز للطرف الذي يهمه الأمر رفع دعوى البطلان تحت بند مخافة القانون في تشكيل هيئة التحكيم.

   وما تجدر الإشارة إليه أن المشرع الجزائري حصر مخالفة تشكيل محكمة التحكيم في القانون وحده ولم يأبه باتفاق الأطراف في تعيين المحكمين.

ج– فصل هيئة التحكيم بما يخالف المهمة المسندة إليها:

   لقد أصاب المشرع عندما أدرج هذه الحالة ضمن حالات البطلان لان أساس التحكيم في الدرجة الأولى هو اتفاق الأطراف فإذا اتجهت إرادتهم للتحكيم في نزاع معين فلا يجدر بهيئة التحكيم أن تفصل في موضوعات ومسائل لم يشملها محل النزاع أو أن تغفل في الفصل في طلب أو أكثر من طلبات الخصوم.

   ونشير للتوضيح أن تحديد المهمة في اتفاقية التحكيم يكون ممكنا في اتفاق (مشارطة) التحكيم إلا انه غير ممكن بالنسبة لشرط التحكيم لأن هذا الأخير ينعقد قبل حدوث النزاع، وهذا ما رأيناه من خلال المواد 1008 و1012 ق إ م إ، وعدم قيام هيئة التحكيم بعملها في حدود المهمة المسندة إليها يعرض حكمها للبطلان إذا أثاره أحد الخصوم، وقد يكون هذا الإبطال كلياً أو جزئياً.

  وبهذا الصدد فقد أبْطلتْ محكمة استئناف باريس حكم هيئة التحكيم الذي قضى بتحديد بداية حساب الفوائد التأخيرية في تاريخ سابق على ذلك الذي تمسك به المدعي.  

   وكذلك ببطلان حكم تحكيم فصل في الحقوق العقارية لأحد الأطراف في حين كانت المهمة المسندة إليه مقصورة على تحديد مآل النظام القانوني للشركة.

   كذلك نجد في القرار رقم 374/92 لمحكمة التمييز الأردنية سنة 1994: "إذا اتفق طرفا التحكيم على إحالة الخلاف حول قياس وكَيْل الأعمال إلى التحكيم فيعتبر بحث المحكم في أمور تتعلق بمدى تنفيذ كل من الطرفين لالتزامه نحو الآخر والمحاسبة بينهما خروجاً عن حدود المهمة الموكلة إليه لأن الخلاف المحال إليه يتعلق بِكيْل وقياس الأعمال المنفذة وبالتالي واجب الفسخ عملاً بنص المادة 13/1 من قانون التحكيم".

د– عدم مراعاة مبدأ الوجاهية

   من المبادئ الأساسية للقضاء احترام حق الدفاع ومبدأ الوجاهية وهذين المبدأين الهامين يُمَكِنان الأطراف من حضورهم وتقديم دفوعهم أثناء المرافعات الشفوية وتبادل المذكرات والاطلاع والرد على كل ما يحصل في القضية.

   وقد يحدث الإخلال بهذه المبادئ كأن تنتقل هيئة التحكيم للمعاينة دون تبليغ الأطراف وحضورهم.

   أو أن تُعيِن خبيراً بغير علمهم وهذا يحول دون مناقشتهم تقرير هذه الخبرة، بالإضافة إلى إجراء المرافعات دون حضور أحد الأطراف لأنه لم يبلغ تبليغاً رسمياً بموعد الجلسة، ويرى الكثير من فقهاء القانون أن الإخلال بمبدأ الوجاهية يعدّ من أبرز الأسباب التي يمكن أن يستند إليها الخصوم في رفع دعوى البطلان. وفي هذا الشأن قضت محكمة النقض الفرنسية ببطلان حكم تحكيمي في قضية أسندت فيها المحكمة لأحد الخبراء بعمل تقرير محاسبي عن حالة المؤسسة الخصم، دون إخطار هذه الأخيرة بمهمة الخبير أو حتى بالتقرير الذي قدّمه مما حال دون تقديم ردّها ودفوعها حوله.

ثانياً- أسباب البطلان المتعلقة بالحكم ذاته:

أ – انعدام التسبيب أو التناقض في الأسباب:

   من مبطلات حكم التحكيم الدولي الصادر في الجزائر هو عدم تسبيب الحكم فلا بدّ أن يسبب الحكم من حيث الوقائع والقانون، وأن يشار إلى النصوص المطبقة، وهذا حتى يقتنع الأطراف بعدالة هذا الحكم، إضافة إلى إمكانية الرقابة على هذا الحكم من خلال التسبيب، وهذا بدوره يجعل هيئة التحكيم أشد حرصاً ودقة عند إصدارها الحكم.

   وتنقسم القوانين الوطنية بين مُوجِب للتسبيب كالقانون الفرنسي والمصري وبين غير ملزم له كالقانون الإنجليزي والأمريكي.

   ونصّت المادة 32/3 من القانون النموذجي بتسبيب الحكم ما لم يتفق الأطراف على خلاف ذلك، وممّا أكدت عليه المادة 1056/5 ق إ م إ، هو عدم كفاية وجود الأسباب في حكم التحكيم الدولي الصادر في الجزائر، ولكن يجب أن تكون هذه الأسباب غير متناقضة فيما بينها مما يضفي غموضاً على مصداقية الحكم الفاصل في النزاع، وهذا التناقض في الأسباب قد يفسر على أن المُحَكم قد استند إلى قواعد قانونية مختلفة.

   وقد أقرّت محكمة النقض الفرنسية في حكمها بتاريخ 16 جوان 1976 أن تناقض الأسباب يكيّف على أنه خُلُو من الأسباب. وهو أقرب إلى الصواب لأنّ تضاد الأسباب يعدم بعضها البعض.

ب – مخالفة الحكم للنظام العام الدولي:

   من بين أهم حالات البطلان التي نصّ عليها المشرّع في المادة 1056/6 هي حالة مخالفة حكم التحكيم النظام العام الدولي، وتعدّ فكرة النظام العام فكرة نسبية اختلف المشرعون والفقهاء في إعطائها تعريفاً محدداً، وأساس هذه الفكرة هو محاولة صيانة مصالح ومقومات وكيان الدولة، فقد ذهب جانب من الفقه إلى أنه يقصد بالنظام العام في دولة ما "هو مجموعة الأصول والقيم التي تشكل كيانها المعنوي وترسم صورة الحياة الإنسانية المثلى فيها وحركتها نحو تحقيق أهدافها، سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو ما تعلّق منها بالجانب الأخلاقي وهذه هي المصالح العليا التي تسمو وتفرض نفسها على مختلف أنواع العلاقات الأخرى في الدولة".

   وقد أقرّ جانب آخر من الفقه وعلى رأسه الأستاذ فليب مالوري بعجزه عن معرفة مَاهِيَتِه وإدراجه ضمن المفاهيم ذات المحتوى المتغيّر، وبالتالي محاولة تعريفه تعدّ ضرباً من ضروب الخيال.

   وفكرة النظام العام فكرة ذات طابع وطني، وهي تختلف من دولة لأخرى، بل قد تختلف في الدولة نفسها من منطقة إلى منطقة ثانية، فهي فكرة مرنة تضيق وتتسع حسب الأنظمة والمعتقدات السائدة في زمن معيّن ومكان معيّن.

   أما في ما يخصّ فكرة النظام العام الدولي التي اعتمدها القانون الجزائري في إبطال حكم التحكيم الدولي الصادر في الجزائر، فهي فكرة تقوم على نظام شامل لكل الأنظمة العامة للدول والمصالح العليا للمجموعة الدولية، إلاّ أنّ الواقع يُظهر أن هذه الفكرة لا يمكن تطبيقها لعدم تبلور معناها بالشكل الدقيق والواضح والكافي مثلما هو عليه في النظام العام الوطني، فما هو من النظام العام في دولة ما، لا يمكن أن يكون كذلك في دولة أخرى، ناهيك عن الغموض الذي يحوم حول أهداف هذه الفكرة التي أوجدتها الدول المتقدمة لانتهاك حقوق ومصالح الدول النامية، وحجتها في ذلك عدم تعلّق نصوصها الوطنية الآمرة بالنظام العام الدولي الذي يعلو على النظام العام الداخلي، وكنا ذكرنا سابقاً أنه ليس بالضرورة أن يكون كل ما يخالف النظام العام الدولي يخالف النظام العام الوطني والعكس صحيح.

   وبالرغم من خطورة فكرة النظام العام الدولي إلاّ أنّ المشرّع الجزائري تمسّك بها في إبطال أحكام التحكيم الدولية، مما قد يسهم في تلاشي فكرة النظام العام الوطني الذي هو أساس هوية وكيان الدولة، وبالتالي يؤدي إلى التضحية بالمصالح العليا لها.

   وعلى العكس من ذلك فإنّ المشرع المصري نص في المادة 53/2 على أنه يقضي ببطلان حكم التحكيم الدولي إذا ما تضمّن ما يخالف النظام العام في جمهورية مصر العربية. وهو ما يتوافق مع ما أشارت إليه المادة (05) من القانون النموذجي للتحكيم، التي تجيز رفض الاعتراف وتنفيذ الأحكام إذا كانت مخالفة للنظام العام في البلد المطلوب تنفيذ الحكم فيه.                                                                  

المبحث الثاني- استقلالية نظام التحكيم والنظام القانوني لدعوى البطلان:

   سنخصص المبحث الثاني لهذه الدراسة لمطلبين مهمين، نتناول في أَوَلِهما معرفة مدى استقلالية نظام التحكيم عن القضاء الرسمي للدولة، وفي المطلب الثاني نحاول أن نفصل في النظام القانوني لدعوى البطلان كطريق وحيد للطعن في حكم التحكيم التجاري.

المطلب الأول- استقلالية نظام التحكيم:

   يطرح موضوع استقلالية نظام التحكيم كوسيلة بديلة لحل النزاعات التجارية تساؤلاً كبيراً عن علاقة هذا الأخير بقانون الدولة وقضائها.

   لقد كرّست القوانين الأولى للتحكيم وصاية وتبعية نظام التحكيم إلى رقابة تكاد مباشرة لقضاء الدولة، حيث كيّفت القرارات الصادرة عن هيئات التحكيم على أنها أحكام قضائية، وبالتالي إمكانية الطعن فيها بكل الطرق المتاحة للطعن في الحكم القضائي

   وأمام التطورات المتلاحقة التي شهدها التحكيم التجاري الدولي، وانشغال الكثير من المؤسسات والمراكز التحكيمية الدولية بوضع وصياغة قوانين جديدة، وإسْهام قضاء بعض الدول وعلى رأسها القضاء الفرنسي في خروج وتحرّر التحكيم من هذه الوصاية.

   ولكي يتسنى لنا معرفة ما مدى استقلالية أعمال المحكمين عن رقابة الدولة، لا بُدّ لنا من التطرق إلى مسألتين مهمّتين هما: استقلالية التحكيم عن قانون الدولة من ناحية الإجراءات، وكذا من ناحية القانون الموضوعي، ثم استقلالية التحكيم عن قضاء الدولة.

الفرع الأول- استقلالية نظام التحكيم عن قانون الدولة:

   إنّ التخاصم أمام قضاء الدولة لا يكون إلاّ بمقتضى قوانينها الإجرائية والموضوعية، بينما في التحكيم التجاري الدولي يمكن للأطراف حق التخلي عن قانون الدولة والاتفاق على قانون آخر أقل تعقيداً وأكثر تلاؤماً مع موضوع النزاع سواء من حيث الإجراءات أو من حيث الموضوع.

أولاً- الاستقلالية عن القانون الإجرائي:

   من خلال نص المادة 1043 ق إ م إ، أكد المشرع الجزائري في قانون التحكيم، كغيره من قوانين التحكيم الحديثة على حرية الأطراف في اختيار وضبط الإجراءات الواجب إتباعها في فضّ نزاعاتهم، مما يسمح لهم بتجنّب الإجراءات التي تتميز بالتعقيد والشكلية والبطء والتي تؤثر على طبيعة المعاملات التجارية التي تقتضي السرعة في حسم النزاعات. "يمكن أن تضبط في اتفاقية التحكيم، الإجراءات الواجب إتباعها في الخصومة مباشرة أو استناداً الى نظام تحكيم، كما يمكن إخضاع هذه الإجراءات إلى قانون الإجراءات الذي يحدّده الأطراف في اتفاقية التحكيم. إذا لم تنصّ الاتفاقية على ذلك تتولى محكمة التحكيم ضبط الإجراءات عند الحاجة، مباشرةً أو استناداً إلى قانون أو نظام تحكيم".

   وتتجلّى هذه الاستقلالية على مستوى التحكيم التجاري في تمتّع المتنازعين وبدرجة أقل المحكمين، على عكس القضاء الرسمي، بحرية تعيين المحكمين وتحديد شروط عزلهم أو استبدالهم وفقاً لما جاء في نص المادة 1041 ق إ م إ، وكذلك حرية الأطراف في تحديد مكان التحكيم ولغته وهو ما نصت عليه المواد 20 و22 على التوالي من قانون اليونيسترال للتحكيم التجاري

    يعدّ التحرّر من التقيد بالقانون الإجرائي للدولة خاصية هامة أدت إلى الإقبال المتزايد على التحكيم إلاّ أن هذه الاستقلالية لا يجب القول بإطلاقها، وإنما يجب مراعاة قواعد الإجراءات الأساسية.

حدود الاستقلالية عن قانون الإجراءات:

   لا يوجد مجال للشك في استقلالية نظام التحكيم عن قانون إجراءات الدولة، إلاّ أنّ هناك بعض المبادئ يتعين على هيئة التحكيم احترامها وعدم تجاوزها.

   على هيئة التحكيـم أن تراعي أثناء سير الخصـومة ومن أجل الوصول إلى حـل عادل للنزاع بعض المبادئ وأهمها مبدأ المواجهة واحترام حق الدفاع للخصوم، ومبدأ المساواة بين الخصوم.

أ‌- مبدأ المواجهة وحق الدفاع للخصوم:

   بالرغم من الإطار التعاقدي الذي يعمل في ظله المحكم إلاّ أنه عند ممارسة مُهِمَته بالفصل في المنازعة فإنه يؤدي ذات الوظيفة التي يقوم بها القاضي ويتقيد ببعض القواعد الأساسية التي تضم الخصومة بين الأطراف، ومنها احترام حق الدفاع والذي يتفرع عنه مبدأ المواجهة، ولقد جعل المشرع الجزائري من عدم احترام مبدأ الوجاهية سبباً مباشراً في بطلان حكم التحكيم.

   فالإخلال بهذا المبدأ يعدّ إخلالاً بحق الخصم في مواجهة ادعاءات خصمه وإبداء دفوعه وشرح وجهة نظره، كما يستلزم أن كل ما يقوم به أحد الطرفين من مسعى أو ما يقدمه من مستندات أو إثباتات يجب أن يبلّغ الى الطرف الآخر، وأن يناقش بحرية كاملة في جلسة المحاكمة.

   ويذهب جانب من الفقه الفرنسي إلى أنه على المحكم إعلام الأطراف بما قام به من إجراءات، وأن يطلعهم على ما توصل إليه، ويجب على هيئة التحكيم إلزام الأطراف باحترام مبدأ المواجهة والالتزام بنفسها أيضاً باحترامه، إنّ هذا المبدأ نص عليه القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي بهدف تحقيق ضمانات التقاضي، إلاّ أنه يتعيّن مراعاته بغير نص، ويترتب على إهداره بطلان حكم التحكيم وعدم الاعتراف به وتنفيذه، وذلك أنه من المقرّر أنه لا يكفي للاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم أن تكون الإجراءات  قد ضبطت بمعرفة المحكمين كما أرادها الأطراف، بل يلزم كذلك أن تكون الإجراءات المذكورة لا تتضمن أية مخالفة للنظام العام في هذه المسألة، وعلى الأخص في شأن احترام حقوق الدفاع وعدم الإخلال بها، ويقتضي مبدأ المواجهة أن تمنح هيئة التحكيم الفرصة الكافية المعقولة لكل خصم لإبداء دفاعه ودفوعه سواء في الواقع أو القانون.

ب‌- مبدأ المساواة بين الخصوم

   يتكرّس مبدأ المساواة بحرص المحكم على أن يضع الأطراف على نفس الدرجة من المعاملة، وأن يكون في موقع غير منحاز لطرف ضد آخر فيحرمه من تقديم دفاعه أو مناقشة ادعاءات خصمه، وهذا لا يعني أن تكون هذه المساواة آلية وآنية ولا كمية، بل تحدّد وفق خصوصيات كل حالة، فيجب أن يتعامل مع طلبات الخصوم ودفوعهم بنفس المعاملة .

   ويعتبر من قبيل الإخلال بحق المساواة السماح لأحد الطرفين بتوكيل محامٍ وحرمان الطرف الآخر من هذا الحق، ومناقشة أحد الطرفين وسماع دفاعه في غيبة الطرف الآخر.

   فإذا كان الإقرار الذي تلقّاه المحكم من الغير، قد تم الاستناد إليه في الحكم، ولكن لم يتم إحاطة الأطراف به علماً، فإنّ الحكم يكون مخالفاً لمبدأ المواجهة بين الأطراف أو حقوق الدفاع. وتتحقق المخالفة أيضاً متى كان هناك نزاع بين الشركاء، وتم سماع شريكين آخرين بعيداً عن الأطراف دون إبلاغ الأطراف نتيجة هذا الاستماع حتى ولو كان الأطراف قد علموا بموقف الشهود.

   ويرى الكثير من الفقهاء أنه لا يمكن الفصل بين مبدأ المساواة ومبدأ الوجاهية وحق الدفاع فكلها مجتمعة تؤدي إلى محاكمة عادلة ونزيهة.

ثانياً- الاستقلالية عن القانون الموضوعي:

   من أهم مظاهر استقلالية نظام التحكيم التجاري هو حق الأطراف وبدرجة أقل هيئة التحكيم في تحديد القانون الذي سيطبق على موضوع النزاع مقارنة بما هو متاح للأطراف والقاضي في القضاء العادي، الذين يتقيدون بقانون الدولة لا غير، وهذه الميزة الهامة أكد عليها المشرع الجزائري بحيث جاء في نص المادة 1050 ق إ م إ، على أنه: "تفصل محكمة التحكيم في النزاع عملاً بقواعد القانون الذي اختاره الأطراف، وفي غياب هذا الاختيار تفصل حسب قواعد القانون والأعراف التي تراها ملائمة".

   وممّا شجّع ودعم حرية الخصوم في اختيار قانون مستقل عن قانون الدولة واللجوء الى القانون آخر يطبّق على موضوع النزاع هو إمكانية تجميد القانون المختار في الزمان، أي انه بإمكان الخصوم أن يتفقوا على ثبات الأحكام النافذة للقانون الذي اختاروه أثناء إبرام العقد، ولا تسري عليهم التغيرات اللاحقة في الأحكام، وهو ما يطلق عليه بالثبات التشريعي، ورغم حرية الأطراف في اختيار القانون المطبّق على أصل النزاع فإنه يمكن للمحكم في بعض الحالات أن يَحِيدَ عليه لنقص فادح في هذا الأخير، كعدم كفايته لحكم مختلف جوانب العقد أو قصوره على حل بعض المسائل التي تخرج عن نطاق تطبيقه، والأمر الآخر أنّ القانون المختار لا يطبق على نزاع يتعلق بعقار لأنه يستوجب إعمال قاعدة تطبيق قانون العقار، وبالتالي قانون الدولة التي يتواجد فيها العقار، وهناك حالات أخرى لا يتسع المقام إلى التوسع فيها، ومع هذا يبقى الأصل العام هو حرية الأطراف في اختيار القانون الذي يرونه الأمثل لحل نزاعهم، وبالتالي استقلالهم وعدم تقيدهم بالقانون الموضوعي للدولة.

الفرع الثاني- استقلالية نظام التحكيم عن قضاء الدولة:

   إنّ العنصر الثاني الواجب توافره حتى تكتمل استقلالية نظام التحكيم هو التحرر من رقابة قضاء الدولة، وكنا قد ذكرنا سابقاً أن بِدايات قوانين التحكيم كانت تخضع مختلف أعمال هيئة التحكيم لرقابة شديدة للقضاء الرسمي للدولة، أما حالياً فقد خطى نظام التحكيم خطوة عملاقة نحو التحرر والاستقلالية، وقد تباينت الآراء حول نظام التحكيم كوسيلة بديلة لقضاء الدولة فمنهم من طالب باستقلالية التحكيم وعدم تدخل القضاء الرسمي فيه كضمان لعدالة فعّالة وسريعة، ومنهم من طالب بضمان وحماية حقوق الدفاع للإطراف بعد صدور الحكم التحكيمي، أما البعض الأخر فطالب بحماية النظام القانوني للدولة حتى لا ينتهك النظام العام والمصالح العليا لها.

أولاً- استقلالية التحكيم عن القضاء قبل صدور الحكم:

   لذلك عملت غالبية القوانين الحديثة للتحكيم على التوفيق بين المطالب السابقة حيث مد القضاء يد المساعدة لهيئة التحكيم في مرحلة ما قبل صدور الحكم كالمساعدة في تعيين المحكمين أو عزلهم أو استبدالهم وفقاً لما نصّ عليه المشرع الجزائري في المادة 1041 ق إ م إ، وكذا بالنسبة للمساعدة في مجال التدابير المؤقتة والحصول على الأدلة، وفي المسائل العارضة وتمديد مهمة المحكمين حسب المواد 1046 و1048 من القانون السالف الذكر، وهذا التدخل للمساعدة ليس تلقائياً، وإنما بطلب من الأطراف أو من هيئة التحكيم حرصاً على استقلالية وحرية الأطراف ومن اخْتارُوهُم لحل هذا النزاع.

- المساعدة في تشكيل هيئة التحكيم:

   من أوائل الأمور التي يبرز فيها دور القضاء في التحكيم، ودوره المعاون في هذا الخصوص هو تعيين المحكمين، فإذا كان الأصل أن يختار الأطراف المحكمين أو الطريقة التي يتم تعيينهم بها، إلاّ أنّ ذلك لا يعدّ السبيل الوحيد في اختيارهم، فقد تحدث المماطلة من أحد الطرفين باختياره للمحكم، أولاً يعين المحكم أصلاً، وهنا يظهر بوضوح دور القاضي الوطني في تقديم المساعدة إلى التحكيم بنوعيه وطنياً كان أو دولياً .

-المساعدة في عزل المحكمين واستبدالهم:

   نظراً لأهمية العقود التجارية الدولية وحماية للمصالح الاقتصادية التي يمكن أن تكون محل نزاع وتسوية عن طريق التحكيم، قد تتعرض للضياع وعدم الانضباط في الحقوق عندما يتعلق الأمر بمحكمين وقع الشك في استقلاليتهم أو نزاهتهم أو حيادهم.

   أو عدم توافرهم على الشروط والصفات المتفق عليها في اتفاق التحكيم، لذلك أعطت مختلف القوانين الوطنية والدولية الخاصة بالتحكيم الحق للأطراف في تقديم طلب المساعدة من القضاء الرسمي لردّ وعزل واستبدال هؤلاء المحكمين، وإن اختلفت حول الجهة التي يتم أمامها تقديم هذا الطلب.

- المساعدة في اتخاذ الإجراءات الوقتية والتحفظية:

   يساعد قضاء الدولة هيئة التحكيم والأطراف في اتخاذ كل إجراء وقتي أو تحفظي بناءً على تقديم طلب.

   ويستوي في ذلك أن يكون الأمر باتخاذ الإجراءات قد تم قبل تشكيل محكمة التحكيم والبدء في إجراءات التحكيم أو أثناء سيرها.

   هذا وقد كانت هذه المسألة محل اهتمام ومناقشة في الفقه الفرنسي وقد ظهرت في هذا الصدد عدة اتجاهات:

   الاتجاه الأول الذي يرجِّح تمتع القضاء الوطني بشكل حصري بنظر الإجراءات الوقتية والتحفظية المتعلقة بموضوع النزاع.

   أما الاتجاه الثاني فيرى أنّ هذا الاختصاص هو حكر على هيئة التحكيم. والاتجاه الأخير فهو اتجاه وسط بين الاتجاهين السابقين بحيث يتشارك كل من قضاء الدولة والمحكمون وفقاً لمبدأ الاختصاص المشترك بينهما.

- المساعدة في تمديد أجل التحكيم:

   قد يتفق الأطراف على مدّة محدّدة يمنحونها للمحكمين لإنهاء مهمتهم، وتكتسي هذه المدة أهمية بالغة فَبِانْقِضائِها يُسَدُ الباب في وجه محاولات التأجيل والمماطلة بلا مبرر قانوني. وهذا ما يَحفظ للتحكيم أهم مقوماته ويكون حكمهم صحيحاً إذا صدر خلال هذا الأجل، أما إذا صدر بعد فواته اعتبر باطلاً وبانقضاء هذا الأجل تنقضي خصومة التحكيم، غير أنه يمكن تمديد هذا الأجل بطلب يقدّمه الأطراف إلى رئيس المحكمة المختصة .

ثانياً- استقلالية التحكيم عن القضاء بعد صدور الحكم:

   إلى جانب تقديم يد المساعدة في مرحلة ما قبل إصدار الحكم فرض القضاء نوعاً من الرقابة على أحكام التحكيم بعد صدورها تتمثل في المراقبة عند التنفيذ للحكم الصادر خارج الجزائر، وإمكانية الطعن بالبطلان للأحكام الدولية الصادرة داخل الجزائر، وللطعن بالبطلان على نظام التحكيم أثران أحدهما إيجابي والآخر سلبي.

1- الأثر الإيجابي للبطلان على استقلالية التحكيم:

تخفيف طرق الطعن:

   إن اختزال معظم القوانين التشريعية الحديثة للتحكيم سبل مراقبة الحكم الصادر عن هيئة التحكيم في طريق واحد جامع يتلاءم وطبيعة التحكيم يعد عامل تحرر من الوصاية الكبيرة التي فرضها قضاء الدولة في القوانين السابقة.

   فالقرار التحكيمي الدولي لا يقبل سوى طريقة واحدة للطعن وهي الطعن بالبطلان. وهذا ما أقرّه المشرّع الجزائري من خلال المادة 1058 ق إ م إ، الذي ساير القانون النموذجي في مادته (34) التي تنص على أن "السبيل الوحيد للطعن في الحكم هو طلب الإلغاء" .

   وقد أقصى المشرع باقي الطرق الأخرى، كالمعارضة والاستئناف والتماس إعادة النظر، وهو المعمول به في غالبية قوانين التحكيم، وهذا ما يرتقي بالتحكيم إلى درجة عالية وهامة من الاستقلالية بعدما كان تحت الوصاية الكاملة لقضاء الدولة.  

نوعية الرقابة:

   إنّ حالات البطلان التي حدّدتها قوانين التحكيم، ومنها القانون الجزائري، تنصب في معظمها حول مسائل شكلية وإجرائية، منها ما هو يتعلق بصحة اتفاقية التحكيم ومنها ما هو يتعلق بصحة تشكيل هيئة التحكيم، وصولاً إلى صحة الإجراءات وعدم مخالفة النظام العام الداخلي والدولي.

   وهذه الحالات تتناسب وخصوصية نظام التحكيم، فقاضي الإبطال لا يتصدى لموضوع الدعوى ولا يمكن له تقييم الطريقة التي اسْتَدل بها المحكمون لاتخاذ حكمهم في النزاع، لأنه إذا أتيح للقاضي النظر في النزاع من جديد، فإنّ الدولة تسترجع ما أعطته للخصوم من حرية في اختيار التحكيم بدلاً من القضاء الرسمي في فضّ نزاعاتهم، وبالتالي تضرب بمصداقية هذا النظام عرض الحائط .

   وهذه الحالات التي حددها القانون لرفع دعوى البطلان لا تعد تدخلاً ماساً لا بفاعلية التحكيم ولا باستقلاليته لكونها رقابة عادية تكفل صحة الإجراءات وتحمي المنظومة القانونية للدولة وآدابها العامة، وليس لها علاقة بموضوع النزاع والقرار الصادر فيه إن كان صحيحاً أو غير ذلك.

2- الأثر السلبي للبطلان على استقلالية التحكيم:

   انحصر الطعن في حكم التحكيم الدولي الصادر في الجزائر في البطلان، وتحصينه ضد طرق الطعن الأخرى بحجة مسايرة طبيعة التحكيم وخصوصيته خاصة السرعة في حسم النزاع وقلة الإجراءات والسرية المهنية للمتعاملين التجاريين، وهذا لا يعني أنه يخلو من مساوئ، ولاسِيَمَا التخلي عن حق الطعن بإعادة النظر، فقد يصدر الحكم بناء على غش نتيجة لوثائق مزورة، أو أنّ أحد الخصوم تحصّل على حجة قاطعة وفاصلة في النزاع كانت محجوزة لدى الخصم الآخر، وبالتالي فإنّ تحصين حكم التحكيم بهذه الطريقة يَحُدّ من حرية الأطراف وينتقص من حماية حقوقهم في مراجعة الأحكام التي تضربهم نتيجة غش وخداع لأحدهم ضد الآخر. خاصة ونحن نعلم أن الطعن بالتماس إعادة النظر لا يوقف التنفيذ.

   من ناحية أخرى، فإنّ من بين الحالات التي حدّدها المشرّع الجزائري لرفع دعوى البطلان هي عدم مخالفة الحكم التحكيمي للنظام العام الدولي، ونحن نعرف أنه ليس كل ما يخالف النظام العام الداخلي يخالف بالضرورة النظام العام الدولي، فما هو مصير الأحكام التي لا تخالف النظام العام الدولي لكنها تخالف النظام العام الداخلي؟ ومثال ذلك النزاع الذي يتعلق بتوزيع أرباح ألْعاب قِمار فعند إحالة هذا النزاع على التحكيم وفصل فيه المحكمون، فإنه يعتبر موضوع هذا النزاع في الدول الإسلامية مخالفاً للنظام العام ومحرماً شرعاً، أما في الدول الغربية يعد عملاً تجارياً عادياً لا يخالف النظام العام الدولي.

الخاتمة

   لقد رأينا كيف عالج المشرع الجزائري طرق الطعن في الأحكام التحكيمية الوطنية والدولية وحسب تصورنا نرى أن طرق مراجعة الحكم التجاري الوطني تكاد تكون نفسها بالنسبة لمراجعة القرارات القضائية، وهذا من شأنه أن يفقد التحكيم ميزة السرعة من جهة، ويضعف من حجية واستقلالية التحكيم من جهة أخرى، مما يفسر عزوف المؤسسات الاقتصادية الوطنية على اللجوء إلى التحكيم وتفضيلهم القضاء الرسمي للدولة، أما عن طرق الطعن في التحكيم التجاري الدولي واقتصارها على دعوى البطلان التي تعتبر رقابة عادية لا تمس بفاعلية ولا استقلالية التحكيم باعتبارها تقتصر على الجوانب الشكلية للحكم فقط، بالرغم من حداثة قانون التحكيم الجزائري، لكن من خلال اطلاعنا ودراستنا لمواده، وتحليلنا لنصوصه ومقارنتها مع بعض القوانين الحديثة للتحكيم، وجدنا أن المشرع الجزائري وُفّق إلى حد كبير في سَنِ قانون متكامل، بحيث لم يخرج عما هو مقرّر في القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي واتفاقية نيويورك، بالإضافة إلى أنه ساير قانون التحكيم الفرنسي في الكثير من المواد، إلاّ أنه توجد بعض الملاحظات والمآخذ التي نرى أنه من الواجب طرحها للنقاش وإبداء الرأي حولها، ومن أهمها:

  1- عدم التفصيل في الكثير من المواد مما يُبقي النصوص مبهمة بعض الشيء وتحتاج إلى الكثير من التوضيح.

  2- عدم توخّي الدقة في صياغة النصوص مثلما جاء في المادة 1056 التي جاءت، كما يأتي "لا يجوز استئناف الأمر القاضي بالاعتراف أو التنفيذ إلاّ في الحالات التالية ..." والأصح أن تأتي الصياغة على النحو التالي: "لا يجوز استئناف الأمر القاضي بالاعتراف أو التنفيذ إلا بتوافر إحدى الحالات التالية".

  3- عدم النص على حق المحكمة في إثارة البطلان من تلقاء نفسها عند مخالفة الحكم للنظام العام وتركه كحق يقتصر على الأطراف فقط.

  4- ما مدى مشروعية الأحكام التي بنيت على باطل بَيِّن وتزوير ظاهر للعيان، بعدم النص على طريق الطعن بالتماس إعادة النظر والذي كنا قد أشرنا إليه في ما سبق من البحث وفائدته في مراجعة مثل هذه الأحكام وتقويمها.

* ومحاولة منا لنفض الغبار والخروج من جمود هذه النصوص وتفعيلها في الواقع وتَحْصينا لاقتصادنا الوطني والمصالح العليا للدولة الجزائرية نقترح ما يأتي:

   أ‌- عقد دورات وندوات علمية تهتم بالتعريف بالتحكيم الدولي وأهميته كآلية جديدة فرضتها الدول المتقدمة في فضّ النزاعات.

  ب‌- إنشاء مدارس عليا تختص بتخريج كوادر كفوءة في مجال التحكيم الدولي.

  ت‌- الحض على انشاء مراكز ومؤسسات تحكيمية بالقدر الكافي وبالمستوى والمعايير الدولية.

  ث‌- ربط قنوات اتصال مع مختلف مراكز التحكيم العالمية للاحتكاك والاستفادة من خبراتها وتجاربها.

  ج‌- المشاركة في جميع المؤتمرات والدراسات العالمية المتعلقة بموضوع التحكيم.