فالحكم هو عمل تقدير يقوم على مجموعة من العمليات الذهنية والتقديرات التي تترابط في تناغم منطقي لاستخلاص الحلول القانونية الواجبة التطبيق علي الحالة الواقعية الخاصة محل القضاء فيه، ولذلك فإن تفسير الحكم لا يكون بالبحث عن إرادة هيئة التحكيم الذين أصدروه.
وفي حالة وجود غموض ولم يجدي التفسير اللغوي لإجلائه فيمكن الالتجاء إلى عناصر أخرى في القضية كطلبات الخصوم والأوراق المقدمة في الخصومة، كما يجب الالتجاء إلى التفسير المنطقي من واقع أسباب الحكم وعناصره إذا لم تكفي عناصر حكم التحكيم لتفسيره، وفي جميع الأحوال يجب على الهيئة أن تعمل على الكشف عن القرار الذي يتضمنه الحكم، فلا تتخذ من التفسير وسيلة لتعديل حكمها أو للحذف منه أو الإضافة إليه. عليه سوف نكتفي بشرح بقواعد تفسير الأحكام.
فالحكم الوارد برفض الدعوي لعدم توافر شروط سماعها هو في حقيقته حكم بعدم قبول لا يحوز حجية الأمر المقضي ولا يمنع من إعادة رفع الدعوي مجددا - إذا توافرت شروط - سماعها - في أي وقت لاحق، إلا أنه يجوز للقاضي أن يصرف اللفظ وينحرف به عن معناه الظاهر إلى غيره من المعاني فإنه يشترط أن يبين في أسباب حكمه الاعتبارات التي استند إليها في التفسير الذي ذهب إليه، فالعبرة في التفسير بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمبانى.
وتفسير الحكم يعتمد علي تقريب عناصره الموضوعية بعضها من بعض، نظرا لارتباط كل عنصر بغيره، فكل منها يفسر الأخر، وعلي ذلك فإن القضاء الصادر برفض الدعوي وكان مبناه طبقا لأسباب الحكم هو تخلف شروط نظر الدعوي والفصل فيها، فان هذا الحكم يكون في حقيقته قضاء بعدم القبول.
كما أنه لا يجوز افتراض وجود قرار ضمني في الحكم إلا إذا توافرت مفترضات ذلك من وجود طلب معروض على المحكمة سواء بصفة صريحة أو ضمنية، وأن يستفاد القرار ، علي سبيل الحتم واللزوم من القرار الصريح الذي أوردته المحكمة في حكمها محل التفسير، فلا يجوز للقاضي عن طريق التفسير أن يقرر وجود قرار ضمني للحكم إذا الضمني تخلف أحد هذه المفترضات.
فإعمال هذه القاعدة يقتضي اعتماد التفسير الضيق للحكم الذي يقوم علي التضييق في نطاق الالتزام الذي يثقل المحكوم عليه نزولا علي الحكم الأصل، ويلتزم المحكم بإعمال قواعد التفسير للكشف عن المضمون الحقيقي للقضاء الوارد في الحكم دون أن تنقيد في ذلك بالتفسير الذي يتمسك به الخصوم، ولو كان محل اتفاق فيما بينهم، فالعبرة في خصوص التفسير هي بحقيقة ما ورد في الحكم من قضاء، وليس بما يفهمه الخصوم، أو بما يريدونه.
ومتي تمكنت المحكمة من الوقوف علي النهج الذي انتهجه الحكم المطلوب تفسيره كان ذلك هو السبيل إلى التفسير والوقوف علي الحقيقة ونطاق المسألة التي حسمها في منطوقه،والعبرة في التفسير بمرمي الحكم وما قصده من قضائه دون اعتداد بمدي تطابق هذا القضاء أو مخالفته لأحكام القانون لخروج ذلك عن نطاق التفسير.
ومن المسلم به في قواعد التفسير أن معنى العبارة أقوى من معنى الإشارة وأن معنى الإشارة أقوى من معنى الدلالة، كما أن أجزاء الحكم المختلفة في الحكم القضائي الواحد مرتبطة بعضها ببعض وتوضح بعضها بعض، فينبغي في تفسير إحداها تقريب هذه النصوص من بعضها سواء في الأسباب أو المنطوق لإمكان استخلاص دلالة النص الحقيقية التي تتفق مع الحكم لفظا وروحا، وتختلف طرق التفسير في حالة وجود حكم يراد تفسيره عنها وفي حالة عدم وجود حكم، ونتناول الحالتين:
الحالة الأولى: حالة وجود حكم:
وسواء كان هذا الحكم في المنطوق أو في الأسباب المرتبطة بالمنطوق، وهذه الحالة تشمل حالة الحكم السليم، وحالة الحكم الغامض.
أولا:- حالة الحكم السليم.
الحكم السليم هو الذي يفيد المقصود منه بمجرد فهم ألفاظه ذلك أن فهم هذه الألفاظ يثير في الذهن معنى معينا، وإثارة هذا المعنى قد تأتي عن طريق دالة من دلالات النص وهذه الدلالات تنقسم إلى قسمين: دلالة منطوق، ودلالة مفهوم .
ويقصد بدلالة المنطوق دلالة اللفظ على حكم شيء ذكر في الكلام ونطق به، وهي تشمل دلالة العبارة والإشارة والاقتضاء.
ويقصد بدلالة المفهوم دلالة اللفظ على حكم شيء لم يذكر في الكلام ولم ينطق به. وجدير بالذكر أن هذه الدلالات لها ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى: لا يصح أن يصرف النظر عن هذه الدلالات حتي ولو تعارضت مع العدالة.
القاعدة الثانية : يجب تغليب المعني الاصطلاحي عن المعني اللغوي، والمقصود بالمعنى الاصطلاحي ذلك المعني الذي استقر للفظ معين في لغة القانون.
القاعدة الثالثة: فهي أن دلالة المنطوق تعالج في الفرض الذي يكون فيه النص موجودا، أما دلالة المفهوم فتعالج حيث لا يكون النص موجودا.
- دلالات المنطوق: وهي تتكون من دلالات ثلاثة:
- دلالة العبارة:
وهي دلالة اللفظ على حكم مقصود أولا وبالذات، والواقع أن هذه الدلالة ملازمة لكل نص، هي دلالة اللفظ على معنى مأخوذ من عبارة النص، ويكون هو، المقصود من سياقه، فمتى كان المعنى متبادراً إلى الذهن بمجرد فهم ألفاظ النص، بحيث يكون فهمه ظاهراً من نفس الصيغة، وكان سياق النص منصرفا إليه، كان ذلك هو دلالة العبارة، ولا يحتاج الأمر إلي ذكر أسباب لهذا التفسير، لأنه لم يخالف ظاهر المعني، فاذا كانت العبارة واضحة فلا يجوز الانحراف عنها(٢) ويطلق عليه المعنى الحرفي للنص، أما الدلالات الأخرى فقد توجد وقد لا توجد.
ومن يريد أن يضرب مثالا لدلالة عبارة النص يكفيه أن يختار أي حكم واضح فيكون مثاله صحيحا، وعلي سبيل المثال الحكم بالبطلان أو بصحة ونفاذ عقد أو التسليم أو التعويض، كما أن الحكم بأحقية مورث الطالبين في إعادة تسوية معاشه عن الأجر الأساسي على أساس أخر مربوط الوظيفة التي كان يشغلها أو أخر مرتب أساسي كان يتقاضاه أيهما أصلح له،علي أن يربط معاش بحد أقصي 100 شهر من أجر الاشتراك الأخير مضاف إليه العلاوات الخاصة مع الزيادة المقررة قانونا، فهو حكم لا يشوبه غموض أو إبهام يمكن فهمه ظاهراً من نفس الصيغة.
وهذه الدلالة تختلف عن دلالة العبارة فدلالة العبارة هي المعنى المباشر للنص، بينما تفيد دلالة الإشارة المعنى غير المباشر البعيد على أنه يجب عدم الاسترسال في فهم دلالة الإشارة، بل يجب قصرها على ما يكون لازما لاستقامة المقصود أصلا من النص.
فإذا قضت المحكمة بتعويض شامل لورثة المدعي بمبلغ خمسين ألف جنية بينما نصت في الأسباب علي أن التعويض الأدبي هو عشر ألاف جنية فقط وكان طلبات ورثة المدعي هو التعويض المادي والأدبي إذ يفهم من ذلك بطريق الإشارة أن التعويض المادي هو أربعين ألف جنية.
وأن إلغاء الحكم الابتدائي الصادر بصحة ونفاذ عقد البيع يتضمن بالضرورة رفض هذه الدعوي،كما أن الحكم بالنفقة الزوجية يدل بعبارته علي حكم النفقة واستحقاقها، ويدل بإشارته علي الحكم بالزوجية لأن الزوجية لازم ذاتي للحكم بالنفقة وكذلك الحكم بنفقة الصغير هو حكم بتيوت النسب بالإشارة.
وينبغي على القاضي أن يتحرى وجود هذه الضرورة عند تقديره للمعنى الذي يستخلصه من دلالة الاقتضاء، كما ينبغي أن يراعى أن تقدير المعنى بالاقتضاء يجب أن يكون مقدماً في النص على المعنى الثابت بالعبارة، لأن صحة معنى العبارة متوقفة عليه.
فإذا قضت المحكمة بمنع تعرض المدعى علية للمدعي في العين محل النزاع فهذا يعني أن صحة الكلام تستدعي وجود لفظ أخر وهو الحيازة والانتفاع أو الملكية على حسب مضمون الحكم وطلبات المدعي.
وإذا قضت المحكمة في دعوي فسخ عقد ايجار بالطرد المدعي عليه من العين محل طلب الفسخ فإن هذا يعني أن صحة الكلام والحكم هو فسخ العقد والطرد، وإذا قضت محكمة الطعن برفض الدعوي بعد أن قضت محكمة أول درجة بقبول الدعوي مما يعني ذلك أن صحة الحكم هو إلغاء حكم أول درجة.
وسوف نتناول فيما يلي بعض النماذج للأحكام:
أ- عندما يكون الحكم واضحا جليا.
فإذا قضت المحكمة - محكمة الطعن بعدم قبول الطعن فهو حكم واضح جلي ولا يحتاج إلى تفسير ، فهو قضاء بعدم قبول الطعن، واذا قضت المحكمة باستحقاق المدعي المرتب الذي يتقاضاه شخص ما ورفضت ما عدا ذلك من طلبات فإن منطوق الحكم واضح غير مشوب بغموض أو إبهام ولا يجوز تفسيره، فلا يجوز استثناء أي شيء من المرتب.
ب- الحكم المطلق يؤخذ على إطلاقه:
من القواعد الأصولية المقررة أن الحكم المطلق يتعين العمل به على إطلاقه، تحقيقا لعلته التي كانت الباعث لصدور الحكم دون حاجة إلى النظر لحكمته، لما قد يؤدي إليه ذلك من تقييده؛ مفاد ذلك أن الحكم إذا جاء مطلقا تعين العمل به على إطلاقه، وإن أراد له تخصيصا لجاء بمخصص، فالأحكام القانونية تدور مع علتها لا مع حكمتها، ومن ثم لا يجوز إهدار العلة وهي الوصف الظاهر المنضبط المناسب للحكم، للأخذ بحكمة النص، وهو ما شرع الحكم لأجله من مصلحة أريد تحقيقها أو مفسدة أريد دفعها، و متى كان الحكم عاما مطلقا فلا محل لتخصيصه أو تقييده واستهداء الحكمة منه.
وإذا قضت المحكمة بتعويض بمبلغ من العملة الصعبة، وقرر حساب العملة الوطنية على أساس سعر الصرف يوم صدور الحكم وهذا الحكم جاء عاما مطلقا ولم يفرق بين الوفاء الفوري والوفاء المتراخي لأجل، كما لم يفرق بين الوفاء الاختياري والوفاء الإجباري وذلك بقصد وضع معیار ثابت لسعر الصرف يسهل تحديده وهو يوم صدور الحكم وإن مضت بينه وبين يوم الوفاء فترة طويلة، فإن مؤدى ذلك أن تبرأ ذمة المحكوم عليه من التزامه إذا وفاه بنقود وطنية على هذا الأساس .
د – انصراف المصطلح القانوني لمعنى واحد أينما وجد:
يجري المشرع عادة على إيجاد مصطلحات قانونية يصرفها إلى معنى واحد منضبط، ويوردها نصوصا في قوانين مختلفة ملتزما دائما بالمعنى المقرر لها، ويأخذ بها القاضي في أحكامه، فإن تمكن القاضي من التعرف على معنی اصطلاح معين بصدد تفسير حکم، تعين عليه الأخذ بهذا المعنى عند تفسيره للحكم الذي تضمن ذات المصطلح، والأصل إذا أورد المشرع مصطلحا معينا في نص ما لمعنى معين وجب صرفه لهذا المعنى في كل نص آخر يرد فيه، إلا إذا تبين أن المعنى الاصطلاحي يجافي القصد فإن ذلك يؤكد أنه تحول عن هذا المعنى إلى معنى آخر غير ذلك الذي يدل عليه ظاهر النص.
هـ - انطواء الحكم على خطأ لغوي شائع :
قد ينطوي الحكم علي لفظ شائع، واللفظ الشائع يدل على معنی مخالف للفظ إذا تم تفسيره وفقا للغة العربية، ومع ذلك يضطر القاضي الاستعمال اللفظ الشائع، وحينئذ يتعين تفسيره وفقا المعنى الشائع دون معناه اللغوي الصحيح. .
مثال ذلك لفظ "ضعف" فقد جاء في مختار الصحاح أن ضعف الشيء: مثله، وضعناه: مثلاد، وأضعافه: أمثاله، وهذا هو المعنى اللغوي الصحيح للفظ، إلا أن معناه الشائع: "مثلي الشيء" وقد أخذ المشرع بالمعنى الشائع للفظ "الضعف" في المادة 103 من القانون المدني.
ومثال أخر في الأحكام القضائية، فيذكر أن الهيئة التي تضمنتها الديباجة هي الهيئة التي أصدرت الحكم أي: التي سمعت المرافعة ووقعت على مسودته فإن لم تكتمل وقت النطق بالحكم فإن الحكم يذیل بالهيئة التي نطقت به، ويترتب البطلان على مخالفة ذلك، لكن إذا شاعت هذه المخالفة بين المحاكم فيعتد قانونا بهذا الشيوع، وتكون الأحكام صحيحة وفقا لقاعدة الخطأ الشائع" وإن لم يوجد نص بذلك .