(محكمة استئناف طرابلس- الدعوى رقم 450 لسنة 46 ق) هل يجوز للقضاء الوطني اتخاذ الإجراءات التحفظية والوقتية الخاصة بالمنازعات المتفق بشأنها على التحكيم؟ تعليق على الحكم الصادر عن محكمة استئناف طرابلس المدنية في الدعوى رقم 450 لسنة 46. ق مقدمــــة: إن الاتفاق على إحالة النزاع على التحكيم الخاص أو المؤسسي، وأياً كانت صورته: شرط تحكيمي أدرج في العقد، أو مشارطة لاحقة لنشوء النزاع، يسلب الاختصاص القضائي لدولة الإقليم فيما تعلق بموضوع المنازعة المتفق بشأنها على التحكيم.
1 - مستشار بالمحكمة العليا في ليبيا.
2 -المستشار بالمحكمة العليا الليبية. أما الإجراءات الوقتية والتحفظية سواء أكانت سابقة على نظر المنازعة أو مصاحبة لها فإنه، وإذا لم يحسم طرفا المنازعة الأمر بشأنها، فإن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة هو مدى اختصاص القضاء الوطني بشأنه. ا وفي صدد نزاع نشأ بين شركة ليبية تسمى (الشركة الوطنية لصيد وتسويق الأسماك – وشركة فوستر ويلر السويسرية للتجارة المحدودة) حول تنفيذ عقد مبرم بينهما لتوريد وتركيب مصنع صبراتة لتعليب وصناعة الأسماك، وكان العقد المبرم بين الطرفين قد تضمن شرط إحالة النزاع على تحكيم غرفة التجارة الدولية بباريس. وعندما باشرت الشركة السويسرية رفع طلب التحكيم إلى الغرفة بادرت الشركة الليبية إلى إعداد مستنداتها ودفاعها وأدلتها لتقديم طلب مقابل. وكان من ضمن الأدلة التي نصح بها محامي الشركة الليبية إثبات حالة المصنع موضوع العقد؛ ولذلك تقدمت الشركة بعريضة لرئيس محكمة الزاوية الابتدائية لطلب ندب خبير قضائي ليقوم بإعداد تقرير عن حالة المصنع ولإثبات إخلال الشركة الموردة بالتزاماتها العقدية، وصدر الأمر على العريضة، وباشر الخبير مهمته وابلغ الأطراف، غير أن الشركة السويسرية لم تحضر عمليات الخبرة، بل اعترضت على صدور الأمر أمام محكمة استئناف طرابلس وفق ما نصت عليه المادة 297 من قانون المرافعات الليبية. وكان سند الاعتراض المقدم من الشركة السويسرية أن النزاع يختص بنظره التحكيم، وان أثبات الحالة هو فرع من هذا النزاع، ومن ثم لا يكون للقضاء الليبي ولاية لنظر أي طلب أو اتخاذ أي إجراء في صدد هذه المنازعة. وتصدت محكمة استئناف طرابلس ونظرت الاعتراض، وأصدرت حكمها في موضوعه بإلغاء الأمر المتظلم منه وبعدم اختصاص القضاء الليبي ولائياً بنظر النزاع، واستندت المحكمة في حكمها بعدم ولاية القاضي الوطني الليبي إ، لأن شرط التحكيم يسلب اختصاص القاضي بنظر المنازعة وكل ما يتعلق بها من إجراءات وقتية أو تحفظية. وقد طعنت الشركة الليبية في هذا الحكم أمام المحكمة العليا الليبية – محكمة النقض – بموجـب الطعن المدني رقم (46 لسنة 48(، فإلا أن هذه المحكمة قضت بعدم جواز نظر الطعن – لأن موضوعه ليس من بين مراجع الطعن بالنقض وفق أحكام قانون المرافعات، مما أضاع على الشركة الليبية الفرصة لتقديم دليل هام يثبت إخلال الشركة السويسرية بالعقد؛ وهو ما دعاني فعلاً إلى كتابة هذا التعليق على الحكم الصادر عن محكمة استئناف طرابلس المشار إليه، والإجابة عن التساؤل المعروض عن مدى إمكانية قيام القضاء الوطني باتخاذ الإجراءات التحفظية والوقتية في منازعات يختص بنظرها التحكيم، مع إجراء تقييم لهذا الحكم من حيث مخالفته للقانون أو مطابقته له. توزيع الاختصاص بشأن الإجراءات الوقتية والمستعجلة والتحفظية بين القضاء الوطني والتحكيم:
أولاً- المقصود بالإجراء التحفظي والوقتي والمستعجل: هي تدابير مؤقتة تتم بصورة عاجلة لا تمس أصل الحق ويقصد بها تحقيق مصلحة آنية للطالب أو حماية هذه المصلحة؛ فهي حماية قانونية تتسم بطابع السرعة والاستعجال حيث يترتب على التأخير أضرار لا يمكن تداركها بمرور الوقت، ومن هذه التدابير اتخاذ إجراءات الحجز التحفظي للحفاظ على الشيء أو لإمكانية الاستفادة منه عند التنفيذ، ومنها أيضاً إثبات الحالة قبل مرور الزمن ولاستعمالها كدليل في الدعوى، وفرض الحراسة، وطلب سماع الشهود. ويقدم الطلب المستعجل لفرض تلك الإجراءات إلى قاضي الأمور الوقتية بالمحكمة التي يقع الشيء بدائرة اختصاصها المكاني، وذلك في صورة دعوى ترفع بالطرق المقررة لرفع الدعاوى، مثل دعوى إثبات الحالة، أو في صورة طلب على عريضة يقدم إلى القاضي المختص الذي يصدر أمره على العريضة، وذلك بعد أن يتأكد من توافر الشروط القانونية اللازمة، ويكون الحكم أو الأمر الصادر وقتياً لا يمس أصل الحق، ولذلك لا يتمتع الحكم أو الأمر بحجية الأمر المقضي لان حجيته مؤقتة. ثانياً- توزيع الاختصاص بشأن الإجراءات الوقتية والتحفظية بين القضاء والتحكيـــم: بالرغم من أن اتفاق الأطراف على إحالة منازعاتهم على التحكيم مانع للقضاء الوطني لنظر موضوع هذه المنازعات، إلا أن القضاء يؤدي دوراً مسانداً ومهماً للتحكيم لتأكيد إرادة الأطراف وبالرجوع إلى قواعد قانون المرافعات يبرز بصورة واضحة دور القاضي الليبي بالعديد من المسائل الخاصة بالتحكيم، ومنها تدخله عند اختلاف المحكمين على تعيين رئيس للهيئة أو تخلف احد الأطراف عن تعيين محكّمم في النزاع، أو في حالة امتناع المحكم عن المهمة – مادة 746 مرافعات وكذلك تدخل المحكمة بالحكم على المحكم، إذا تنحى بغير سبب مشروع مادة 748 .وعند عزل المحكم أو رده مادة 749 ،وكذلك عند منازعة الأطراف في تأخر المحكمين بالفصل في النزاع مادة 752 و 753 مرافعات. كما يتدخل القضاء أيضاً عند عرض مسألة أولية عليه، تخرج عن سلطة التحكيم ويكون لها أثر على النزاع المعروض مثل الطعن بتزوير أوراق مقدمة لهيئة التحكيم أو أي حادث جنائي آخر. وهنا يتوقف المحكمون تاركين للقاضي المختص الفصل في تلك المسائل – مادة 757 من قانون المرافعات المشار إليه. وكافة تلك المسائل تهدف في الأساس إلى تأكيد احترام اتفاق التحكيم ووضعه موضع التنفيذ. ويمكن القول بوجود نوع من التعاون والتكامل بين القضاء الوطني وقضاء التحكيم في الحالات المشار إليها. أما بالنسبة للإجراءات الوقتية والمستعجلة والتحفظية، وباعتبارها تدخلاً في جزء من خصومة التحكيم إ ف، ن قوانين الدول، اختلفت كما اختلف فقهاء القانون الذين ذهبوا مذاهب متعددة حول دور القضاء الوطني بشأنها؛ ويمكن حصر تلك المذاهب فيما يلي: الاتجـــاه الأول: - ويذهب هذا الاتجاه إلى أن اتفاق الأطراف على عرض نزاعهم على التحكيم يسلب الاختصاص من القاضي الوطني، ليشمل اختصاصه النزاع بشقيه الموضوعي والمستعجل؛ إذ يرون أن من له الاختصاص بنظر الموضوع فمن باب أولى اختصاصه بكافة التدابير التحفظية والوقتية. ويخفف البعض من حدة هذا الاتجاه فيجعل المحكمين يختصون بصفة أصلية باتخاذ التدابير المشار إليها، ويقرر انه يجوز أن يعهد المحكمون للمحاكم الوطنية بذلك، أو يعطون الحق لهذه المحاكم حين تعجز هيئة التحكيم؛ ومن هذه التشريعات قانون التحكيم الإنجليزي الصادر عام 1966. م الاتجـــاه الثاني: - يرى بان الاختصاص باتخاذ الإجراءات التحفظية والوقتية يكون مشتركاً بين القضاء والتحكيم؛ ويؤسس هذا الاتجاه على أن القضاء والتحكيم يكمل كل منهما الأخر لأنهما يهدفان إلى تحقيق العدالة وفض خلاف الأطراف. ومن التشريعات التي اتجهت إلى ذلك قانون التحكيم الجزائري الصادر عام 1993م الذي أعطى للمحكم إلى جانب القضاء اتخاذ الإجراءات المشار إليها، رغبة في منح التحكيم مزيداً من الفاعلية وسرعة الإجراءات. وترى الدكتورة حفيظـة الحـداد أن هـذا الاتجاه يتخــذ التعبيــر عنــه ثلاثة وجوه: -
أولها- يتعلق بالاعتراف بالاختصاص لقضاء الدولة باتخاذ الإجراءات الوقتية والتحفظية.
ثانيها - أن الاعتراف بالاختصاص لقضاء الدولة في شأن اتخاذ الإجراءات المذكورة لا يعني التنازل عن شرط التحكيم.
ثالثها - الاعتراف بالاختصاص للمحكم ب اتخاذ الإجراءات الوقتية والتحفظيـة. وذهبـت الدكتورة حفيظة إلى أن هذا الاختصاص المشترك مقيد بقيدين: الأول مستمد مـن إرادة الأطراف، والثاني مستمد من طبيعة الإجراء الملتمس اتخاذه، ورأت أن أسـاس توزيـع الاختصاص بين قضاء الدولة وقضاء التحكيم هو تقدير أي من هذين القاضيين أكثر قدرة على كفالة الأجراء الوقتي أو التحفظي المطلوب اتخاذه وضمان تنفيذه على وجه السرعة.
الاتجـــاه الثالث: - وهذا الاتجاه يحظر على هيئة التحكيم مباشرة أي إجراء تحفظي أو وقتي؛ ويتأسس على الطابع الاستثنائي للتحكيم مقارنة بالقضاء، ويقصر مهمة المحكمين على نظر موضوع النزاع فقط؛ ومن ثم فان الأثر السالب لاتفاق التحكيم لا يكون إلاّ للموضوع دون أي إجراء آخر، كما أن قدرة قضاء الدولة وما تتسم به أحكامه وقراراته من فاعلية تكون لازمة في حالات الاستعجال وسلطة الإجبار عند الحجز؛ إذ لا يملك المحكم هذه السلطة. ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الاعتراف باختصاص قضاء الدولة باتخاذ الإجراءات التحفظية والوقتية يبدو ضرورة حتمية تقتضيها طبيعة هذه الإجراءات، ذلك لما تتطلبه من حماية مؤقتة وسريعة وفعالة خشية ضياع معالم الإثبات، وهي إجراءات يكون القضاء الوطني أقدر من غيره على اتخاذها لما له من سلطة الإجبار على إقليم الدولة. موقف القانون الليبي من المسألة: - أخذ قانون المرافعات المدنية والتجارية الليبي بالاتجاه الثالث سالباً اختصاص المحكمين باتخاذ أي إجراء وقتي وقاصراً مهمة هيئة التحكيم على النظر في موضوع النزاع، وهو ما أخذت به تشريعات كثيرة في العالم. وقد جاء في نص المادة 758 مرافعات "انه ليس للمحكمين أن يأذنون بالحجز، ولا بأية إجراءات تحفظية، وإذا أذن أي قاضٍ مختص بالحجز في قضية منظورة بطريق التحكيم فعليه أن يقرر صحة الحجز دون المساس بموضوع القضية". - ومما يؤكد اختصاص القاضي الليبي دون غيره باتخاذ هذه الإجراءات أن القاضي عليه أن يصدر قراراً بإلغاء الحجز حينما يقرر المحكمون اتخاذ ذلك الإجراء، وهو ما أكده عجز النص المشار إليه، عندما أورد ما نصه "وعلى هذا القاضي أن يصدر قراراً بإلغاء الحجز حينما يقرر المحكمون ذلك". - ومن ثم فإن المشرع الليبي وضع قاعدة آمرة سلب فيها اختصاص المحكمين بإصدار أي أمر بالحجز أو إجراء تحفظي؛ وذلك القيد على سلطة المحكم يشمل كافة أنواع الإجراءات التحفظية والوقتية، بما فيها طلب إثبات الحالة. - وهذا الاتجاه الذي سلكه المشرع الليبي يعزز سيادة القضاء الوطني على الإقليم الليبي، ويكرس في الوقت ذاته اختصاص هذا المحكم بنظر موضوع النزاع؛ حيث يمنــع على هــــذا القضاء المساس بالموضــوع. وعليه فإنـــه لا يجوز لطرفي النزاع سلب اختصاص القاضي الليبي بالاتفاق على منح الاختصاص باتخاذ الإجراءات التحفظية والوقتية للمحكمين لمخالفة ذلك قاعدة آمرة من قواعد القانون الليبي، وينصرف المنع إلى المرحلة السابقة على بدء النزاع، وكذلك في مرحلة النزاع. خاتمة الحكم محل التعليق أهدر قواعد آمرة في القانون بالإضافة إلى مناهضته للمصالح الوطنية. نخلص مما قد مناه في الفقرات السابقة إلى أن قانون المرافعات المدنية والتجارية الليبي، وإذ منح الاختصاص وبنص آمر باتخاذ الإجراءات التحفظية والوقتية للقاضي الوطني الليبي، منع في الوقت ذاته على المحكم أن يمارس هذا الاختصاص، ورغم ذلك اتجه الحكم محل التعليق إلى اتجاه مغاير، عندما قضى بعدم ولاية القاضي الليبي لاتخاذ الإجراءات المشار إليها، مستنداً إلى الأثر السالب لهيئة التحكيم بغرفة التجارة الدولية بباريس المختصة بنظر النزاع، وفقاً لشرط التحكيم المدرج في العقد المبرم بين طرفي الخصومة – الشركة الوطنية لصيد وتسويق الأسماك وشركة فو ستر ويلر السويسرية .- ومن ثم يكون هذا الحكم قد وقع في عيب مخالفة القواعد الآمرة في قانون المرافعات، وخالف نص المادة 758 من القانون المذكور التي تضمنت صراحة منع المحكم من اتخاذ الإجراءات التحفظية والوقتية، بما فيها طلب إثبات الحالة وهو طلب مستعجل بطبيعته ووقتي ولا يمس أصل النزاع، لأنه لا يعدو كونه يقدم دليل إثبات أمام القاضي المختص بنظر الموضوع، وليس ملزماً عليه الأخذ بما ورد فيه وقد قدر لي أني كنت احد من تابعو موضوع النزاع أمام غرفة التجارة الدولية بباريس نيابة عن الجانب الليبي، وكنت مدركاً أبعاد وأهمية تقرير إثبات الحالة، والذي أعد بالفعل عن حالة المصنع موضوع العقد؛ إذ اثبت هذا التقرير مخالفات خطيرة وواضحة وقعت من جانب الشركة السويسرية، بحيث كان ذلك التقرير، فيما لو اتصلت به الهيئة المختصة بنظر موضوع النزاع أن يشكل قلباً للموازين، وتغييراً لعقيدة الهيئة. وكان ذلك الحكم الذي نجم عنه عدم الاعتداد بالتقرير، مهدراً للمصلحة الوطنية الليبية؛ إذ قررت محكمة التحكيم حكماً ضد الطرف الليبي إزاء فشله في تقديم أدلة الإثبات اللازمة لدحض حجج الطرف المقابل المقنعة لهيئة التحكيم. ولو كان القاضي الليبي الذي اصدر الحكم محل التعليق أولى موضوع النزاع الذي عرض أمامه الأهمية الواجبة لما وصل إلى النتيجة التي وصل إليها في مخالفته الصارخة لقواعد آمرة في القانون، ولما تضررت المصالح الوطنية والأقسى من ذلك أن هذا الحكم لم يكن جائزاً الطعن فيه وفق أحكام القانون الليبي وعلى ما تقدم شرحه، وان القانون الليبي قد منح قاضيه الوطني سلطة القيام باتخاذ الإجراءات التحفظية والوقتية حتى بالنسبة لتلك المنازعات التي لا يختص بنظرها ولائياً، طالما أن محل الأجراء المطلوب اتخاذه واقع في نطاق الإقليم الليبي، وان هذا القانون نزع سلطة المحكمين من اتخاذ هذه الإجراءات وأعطى القاضي الوطني سلطة إلغائها أن حصلت، مؤكداً بذلك سيادته على هذا الإقليم. وللحقيقة وبالرغم من ذلك الحكم التحكيمي الصادر ضد الطرف الليبي، إلاّ أن هذا الطرف كان بإمكانه تقديم طلب مقابل أو دعوى مستقلة تحتوي كافة وسائل إثباته، إلاّ أن ذلك لم يحدث والمسؤولية تقع على عاتق هذا الطرف. وفي الختام لا يسعني إلا أن أقول، انه ولما كانت الأحكام هي عناوين الحقيقة، وان القاضي ملزم ببذل أقصى الجهد والعناية للوصول إلى تلك الحقيقة، فإن الواجب يقتضي أن يعي القاضي دوره في تحقيق العدالة وصيانة المصالح الخاصة والعامة طالما توافقت مع القانون، وان خطأ هذا القاضي قد يترتب عليه إهدار تلك المصالح