أثارت فكرة تسبيب حكم التحكيم العديد من المناقشات، ولاقت إنتقاداً من جانب بعض الفقه طلباً للسرعة ورغبة في الحد من حالات الطعن على الحكم.بينما دافع جانب كبير من الفقه عن ضرورة التسبيب كضمانة للخصوم وتحقيقاً للعدالة. فالتسبيب يظهر إحترام المحكم لحقوق الدفاع،فالمحكم يلتزم بأن يكون عادلاً،وأن يقدم الدليل على ذلك أيضاً كما يعكس مدى إحترام المحكم للقواعد الموضوعية والإجرائية،والتزامه بقواعد الإثبات .
يضاف إلى ما تقدم أن التسبيب في إطار التحكيم يسهم في تكوين كيان واضح للسـوابق التحكيمية،فالسوابق التحكيمية تعد مصدراً من المصادر القانونية التي يستعين بها المحكم في حكمـه ،فكيف يمكن الإستناد لسابقة لاتتصمن أسباباً توضح كيفية القضاء في المنازعة والأساس القانوني الذي إستندت إليه.وتتضاعف أهمية التسبيب عند إبداء أحد المحكمين رأياً معارضاً،فما لم يسبب الحكم فلن يكون لهذا الرأي المعارض الذي يهاجم أسباب الحكم أومنطوقه مجديا.
التنظيم التشريعي:
تضاربت مواقف الأنظمة القانونية بشأن تطلب تسبيب الحكم،فعلى حين إشترطت بعض الأنظمة تسبيبه ورتبت على ذلك البطلان،إعتبرته بعض الأنظمة القانونية الأخرى رخصة للمحكم،بينما تطلبت بعض الأنظمة تسبيب الحكم مالم يتفق الخصوم على عدم تسبيبه، أو إذا لم يكن القانون الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم يشترط ذكر أسباب الحكم،وهذا الإتجاه الأخير تبنتـه أحكـام قـانون التحكيـم المصـرى عندمـا نصـت المادة 2/43 على أنه "يجب أن يكون حكم التحكيم مسبباً إلا إذا إتفق طرفا التحكيم على غير ذلك ،أوكان القانون الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم لايشترط ذكر أسباب الحكم. وفي تقديرنا أن هذا الإتجاه الذي تبناه المشرع المصرى وإن جاء متمشياً مع السياسة التي إنتهجها بشأن إعلاء الجانب الإرادي،وترك مجالاً واسعاً للأطراف في تحديد معالم الخصومة،إلا أنه يتعارض مع الطبيعة القضائية لحكم التحكيم،كما يتعارض مع حجية الحكم، فما يبرر فرض إرادة المحكم على الخصوم ومنح قراره قوة الأمر المقضى فيه هو تحقيق وقائع النزاع تحقيقاً كافياً ومنطقياً، وهو ما يجعله في أسباب حكمه بما يضمن عدالته. ولايكفي في ذلك الإرتكان إلى مجرد الثقة في المحكم ما لم تعكس أسباب الحكم هذه الثقة وتؤكدها.
الإلتزام بالتسبيب وأنماط التحكيم:
إزاء هذه المغايرة في مواقف الأنظمة القانونية من تطلب تسبيب الحكم،فقد تضاربت تبعاً لذلك مواقف الفقه والقضاء في التعويل على التسبيب كشرط لصحة الحكـم فـأكد بعض الفقه وجوب تسبيب الحكم إنطلاقاً من الطبيعة القضائية لحكم المحكم،وأكدت بعض الأحكام القضائية ذلك،بينما فرق بعض الفقه بين التحكيم الوطني والتحكيم الداخلـي فـاكر وجوب تسبيب أحكام التحكيم الوطنية،بينما ترك الأمر جوازياً في التحكيمـات الأجنبية أو الدولية.ويرى أن وجوب تسبيب الحكم ليس محل خلاف بالنسبة للتحكيم الداخلي، إذ يعتبر من النظام العام،أما على الصعيد الدولي فإن الإلتزام بالتسبيب ليس مـن النظـام الـعـام ،إلا إذا كان عدم ذكر الأسباب يخفي وراءه إعتداء على حقوق الدفاع.
وقد إنتهت محكمة النقض الفرنسية تأييداً لهذا الإتجاه إلى أن عدم تسبيب الحكم لايعتبر في حد ذاته مخالفاً للنظام العام بالنسبة للتحكيم الذي تخضع إجراءاته لقانون أجنبى،كما انتهت في حكـم آخر إلى أن عدم تسبيب أحكام التحكيم الدولي لايشكل مانعاً من الأمر بتنفيذها . وفي تقديرنا أن الإلتزام بالتسبيب شرط ضروري في التحكيمات الوطنية والدولية على السواء.
وأيضاً في التحكيم بالصلح وبالقضاء ،فالنص على الإلتزام بالتسبيب جاء عاماً على نحو لا يجوز تقييده، فالتسبيب ضمانة هامة ينبغي أن تتوافر في كافة أنماط التحكيم، يستوي في ذلك أن يكون التحكيم بالقضاء أم بالصلح، ومحاولة التمييز بين كلا النمطين بإعفاء المحكم بالصلح من الالتزام بالتسبيب هي تفرقة منتقدة،ولايحتج في ذلك بأن التسبيب بهدف إلى الرقابة القانونية على المحكم للتحقق من صحة تطبيق القانون، وهو ما لايتحقق في حالة التحكيم بالصلح لإعفاء المحكم من الالتزام بأحكام وقواعد القانون الموضوعي فالتحقق من التزام المحكم بقواعد القانون الموضوعي ليس هو المبرر الوحيد لتطلب التسبيب، فضلاً عن إلتزام المحكم المفوض بالصلح بقواعد القانون المتعلقة بالنظام العام، وأيضاً بالقواعد المنصوص عليها في باب التحكيم،مما يقتضى إلزام المحكم بالتسبيب حتى ولوكـان مفوضاً بالصلح، وهو ما أكده الفقه والقضاء الفرنسي،فقد قررت بعض الأحكام بوضوح التزام المحكم المفوض بالصلح تسبيب حكمه،وأكدت أن القرار غير المسبب يفتقر للمقتضيات القانونية مما يرتب بطلان الحكم بطلانا مطلقاً.
ضوابط التسبيب
فالمحكم يلتزم إستيفاء لإلتزامه بالتسبيب أن يورد الوقائع التي تبرر إعمال القواعد القانونية أو العرفية،ويحدد ماهية هذه القواعد وكيف إستدل على وجودها ،ثم كيفية إنزالها على الوقائع الثابتة.وتجد الرقابة القضائية على التسبيب حدودها في التحقق من وجود الأسباب وتقدير صحتها، والتثبت من عدم تجاوز المحكم لحدود مهمته.