سبق أن رأينا أن جمهور الفقهاء ذهب على عكس ما ذهب اليه غالبية الأحناف ، من أن حكم المحكم أمام القاضي المولى ، لايمكن نقضه الا بما ينقض به حكم القاضي المولى ، بمعنى أنه يتمتع بالحجية التي يتمتع بها حكم القاضي المولى ، وهذا يقتضي منا بيان النطاق الموضوعي والشخصي لحجية حكم المحكم .
النطاق الموضوعي للحجية ( الأعمال التي تجوز الحجية )
الحجية لا تثبت الا للأحكام :
الحجية بالمعنى السابق ذكره ، لا تثبت الا الأحكام التي يصدرها المحكم فاصلا في موضوع الدعوى سواء أكان الفصل جزئيا أم كليـا بمعنى أنه اذا أثير نزاع حول ملكية عقار معين ، والمنقولات الموجودة ، وتم ملكية العقار دون المنقولات ، فان الحكم الذي يجوز الحجية ، هو المتعلق بالجزء الذي تم الفصل فيه ، أما المنقولات فيمكن لأطراف النزاع ، رفع دعوى مبتدأة بشأنها أمام حاكم آخر محكمـا أو قاضيا به .
والمحكم كغيره من الحكام قبل أن يصدر حكمه لا بد له من أن يتعرض لأمور لا بد من التعرض لها ، والتي تعتبر مقدمات الحـكم كتعديل الشهود أو تجريحهم ، أو أثبات الحجج ، كاثبات التحليف عنده أو اقرارات الخصوم أو اقامة البينة ، أو اثبات أسباب المطالبات كثبوت مقـدار قيمة المتلف في المتلفات ، واثبات الديون على الغرماء ، أو النفقات للأقارب ولازوجات ونحوه ، فهل يعتبر ، اثبات أمر من هـذه الأمور حكماً لا يمكن لغيره من الحكام مخالفته اذا ما رفع الأمر اليه أم أنه لا يعتبر منه حكما ، يكون لغيره مخالفته اذا ما رفع الله ا بمعنى أنه ها، اذا ثبت أمام المحكم عدالة شاهد أو قيمة المتاف أو مقدار النفقة للأقارب أو الزوجة ، وعزل الحكم ، ثم رفع الأمر الى القاضي المولى هل لهذا الأخير تجريح الشاهد الذي ثبتت عدالته أمام المحكم أو تغيير قيمة المتلف ، أو مقدار النفقة أم أنه لا يستطيع ذلك ؟
الثبوت المجرد لا يعتبر حكما :
اختلف الفقهاء في قول الحاكم ثبت عندى مخالفته اذا رفع الأمر اليه أم أنه لا يعتبر حكماً ، ويكون لغيره مخالفته اذا ما عرض عليه الأمر ثانية وذلك حسب ما يقتضيه الدليل عنده
ويقول القرافي « وأما الثبوت فهو قيام الحجاج على ثبوت الأسباب عند الحاكم وفي ظنه ، فاذا ثبت بالبينة أن السيد أعتق شخصا ( له في عبد ، أو أن النكاح بغير ولى أو بصداق فاسد أو أن الشرية باع حصته من أجنبي في مسالة الشفعة ، أو أنها زوجة للميت حتى نرث غلا ينبغي أن يختلف في هذا انه ليس بحكم » ثم ذكـر تصرفات تصدر من الحكام والأمراء ولا تعتبر حكما ، نقتطف منها مايدخل من اختصاص الحكم عند نظر النزاع.
أولا : اثبات، الصفات نحو ثبوت العدالة عند حاكم أو الجرح أو أهلية الأم للحضانة أو أهلية الوصية ، ونحو ذلك فجميع اثبات اصفات من هذا النوع ليس حكما ولغيره من الحكام أن لا يقبل ذلك ، ويعتقد فسقه ان ثبت عنده سببه ويقبل المجروح أن ثبتت عنده عدالته ، وكذلك هذه الصفات ليس بحكم البتة .
ثانيا : ثبوت أسباب المطالبات ، نحو ثبوت مقدار قيمة المتلف في المتلفات واثبات الدين على الغرماء ، واثبات النفقات للأقارب والزوجات وأجرة المثل في منافع الأعيان .
خامساً : اثبات الصفات في الذات الموجبـة لمكنة التعرف في الأموال كالرشد في الصبيان والبنات ، وازالة الحجر عن المفلسين والمكاتبين ، والمبـذرين والمسرفين ، أو التصرفات المزيلة للمكنه من التصرف كضرب الحجر على غير البالغين أو المكاتبين والمبذرين ونحوهم فليس ذلك بحكم يتعذر نقضه ، بل لعيره أن ينظر في تلك الاسباب ، ومتى ظهر له وتحقق ضد ما تحقق عند الاول ، نقض الأول وحـكم بضده ، فيطلق من حجر عليه ويحجر من أطلقه الأول لانه اثبات صفات لا انشاء حكم"
أما اذا وقع الثبوت على الحق المقضى به ، كأن يقول القـاضي ثبت عندي ملك المشترى للعين المبيعة ، أو أن الدار وقف أو ملك فلان ونحوه ، فانه يراد به الحكم ، لتعلق حق المشترى بالعين المبيعة ، وحق الموقوف عليه بالوقف ، ولا يشترط أن يكون الحكم بلفظ حكمت أو قضيت أو ألزمت ، وانما يكفي أن يقول ثبت عندى أو صح عنـدى أو ظهر ، فان قال الحاكم ان هذا مبيع من زيد كان حكما يمتنع نقضه .
نطاق الحكم الذي يحوز الحجية
والأصل أن يكون حكم الحاكم صريحا في بيان ما قضى به أي يجب أن يكون قرار الحكم ، غير مبهم ، ذلك لأن الأصل أن حجية الحكم تتحدد من خلال منطوقه ، فاذا ثار نزاع حول ملكية عقار معين ، فيجب أن يكون قرار الحاكم صريحا كأن يقول قضيت بملكية العقار للمدعي ، وفي هذه الحالة ، لا صعوبة في بيان نطاق الحكم الذي يحوز الحجية .
وانما الصعوبة تنشأ في تحديد منطوق الحكم الذي يحوز الحجية اذا كان المنطوق مبهما أي يشتمل على أكثر من أمر ، كالحكم بالموجب أو المقضی أو الصحة وهكذا ، وفي هذه الحالة يفرق بين أمرين : .
الأول : إذا كان منطوق الحكم يشمل أمورا تستلزم بعضها بعضا في الثبوت كالحكم بموجب الكفالة أو بموجب العقد، فيوجب الكفالة أمران: الأول لزوم الدين على الغائب ، والثاني لزوم ادائه على الكفيل وموجب العقد لزومة للعاقدين ، وصحته .
الثاني : اذا كان منطوق الحكم يشتمل على أمور لا يستلزم بعضها بعضا في الثبوت فالحكم هنا يعتبر مجملا يرجع في تفسيره إلى الطريق الوصلة اليه ، فان كانت تؤدي الى أمر معين ، تعين دون غيره ، وان أدت الى الجميع كان الحكم شاملا.
حجية الحكم الضمني
الحكم الضمني هو ما لا بد له من الحكم القصدی ، كما لو ادعى رجل كفالة رجل بمال باذنه فأقر بها وأنكر الدين فأقام الدائن البينة على الكفالة والدين ، وقضى الحاكم على الكفيل بالدين ، كان حكمه على الكفيل بأداء الدين حكمة قصدية ، وعلى المكفول عنه بالدين حكمة ضمنيا ، وكما اذا شهد الشهود على خصم بحق ، وذكروا اسمه واسم أبيه وجده ، كان قضاء الحاكم بالحق على الخصم قضاء تصديا وبنسبة قضاء ضمنيا ،
فالحكم الضمني يوجد، اذا كان الحكم التصدى ، يعتبر أنه فصل في مسألة يفترضها القرار الذي صدر عن القاضي ، كالقضاء باداء الدين على الكفيل في المثل السابق ، فهو يفترض ثبوت الدين على الأصيل .
والحكم الضمني على خلاف الحكم القصدي ، لا تشترط فيه الدعوى ولا الخصومة ، وموضوعه لم يكن محل نزاع ، ولم يصرح القاضي بالحكم به ، فلم يصرح القاضي بالحكم بنسب المدعى عليه من أبيه ، ولا بلزوم الدية على العاقلة في المثالين السابقين ، فاذا ما تراضي الكفيل والدائن على محكم يحكم بينهما وقضى بأداء الدين على الكفيل ، فهل يلزم هذا الحكم الأصيل ، ولا يستطيع نقضه ؟ بمعنى أنه لا يستطيع أن ينازع فی ثبوت، الدين وعدم ثبوته أو في مقداره، ويلتزم بما قضى به الحكم .
لبيان حكم هذه المسألة يجب التفرقة بين أمرين : الأول اذا كان الحكم الضمني يتعلق بشخص غير المحتكمين ، والثاني اذا كان لا يتعدى الأشخاص المحتكمين ، ففي الحالة الأولى ، لا يتمتع الحكم الضمني بالحجية ، لعدم الرضا، ممن يمتد اليه الحكم ، اذ أن القاعدة أن حكم المحكم لا ينفذ الا في مواجهة من رضي به ، كما اذا حكم المحكم على الكفيل بأداء الدين ، فانه يتضمن الحكم على الأصيل بالدين ، فلا يكون الحكم بالزام الكفيل بأداء الدين حجة في مواجهة الأصيل ، فلهذا الأخير مخاصمة.. الدائن في الدين أو في مقداره بدعنوی مبتدأه. واذا أبرأ الحكم الكفيل من الزامه بأداء مبلغ الذين كان الدائن، مخاصمة الأصيل من جديد ، ومطالبته بمبلغ الدين ما وان قضي على الكفيل بمبلغ الدين كان الأصيل مخاصمة الدائن بدعوي جديدة ، سواء في ثبوت الدين أو في مقداره ، وذلك لوجهين الأول أنه غائب ولا يجوز القضاء على الغائب .
واذا كان الحكم الضمني لا يتعدى الى غير المحتكمين فانه يكون حجة في مواجهتهم ، بطريق الاستلزام الشرعي ، كالحكم بمقتضى العقد فانه يتضمن الحكم بصحته ، اذ أن القاضي لا يحكم بما يقتضيه العقد إلا بعد أن تثبت عند صحته .