بعد أن أوضحنا معنى الحجية بوجه عام ، والأساس الذي بنى عليه هذا المبدأ فإن السؤال : هل حكم المحكم إذا ما صدر صحيحاً وموافقا لأصوله المشروعة ، ولم يلحق به ما يستوجب نقضه ، هـل يتمتع بالحجية التي يتمتع بها حكم القاضي المولى ، بمعنى أنه هل يمتنع على الأفراد عدم تنفيذ الحكم وعدم طلب نقضه إلا بناء على دليـل يرجح نقضه ؛ ويمتنع القاضي المولى إذا ما رفع إليه هذا الحكم أن ينقضه إلا إذا كان هناك ما يستوجب نقضه ؟
وان حكم المحكم فيما لا يجوز لم الحكم فيه فحكم صوابا مضى حكمه ولا ينقض لأن حكم المحكم الخلاف »
الثاني : وهو رأي الحنفية ، ويرون أن حكم المحكم فيما بين الخصوم هو بمنزلة حكم القاضي المولى ، واجب عليهم تنفيذه ، الا أنه إذا رفع الأمر الى الماضي المولى ، للتنفيذ أو لنقضه ؛ يفرق بين أمرين
الأول : إذا كان حكم المحكم موافقا لرأى القاضي الذي رفع إليه الحكم وما هو الحق عنده ففي هذه الحالة يمضيه ولا ينقضه لأنه لا فائدة من نقضه ثم ابرامه على نفس الوجه ، وتظهــر فائدة أمضائه ، اذا ما رفع الحكم الى قاضى آخر ، فإنه لا يملك هذا الأخير نقضه ، وافق رأيه أو خالفه لأن الحكم بعد الامضاء كأنه صادر منه.
أما الحالة الثانية : وهي إذا ما رفع حكم المحكم إلى القاضي المولى وكان مخالفا لرأى القاضي ، وما يرى أنه الحق عنده.
وبعض الحنفية قال بأن الأمر جوازي للقاضي ، بمعنى أن حكم المحكم رفع الى القاضي المولى وكان مخالفا لرأيه ، فهـو بالخيـار بين أن ينفذه وبين أن ينقضه أي أن نقض حكم المحكم من قبل القاضي المولى اذا ما رفع إليه على سبيل الجواز لا الوجوب، واذا أمضاه لم يكن لغيره نقضه وان خالف رأيه.
والراجح ما ذهب اليه الجمهور ، من أن حكم المحكم هو حكم حاكم واجب النفاذ ، واذا رفع الى القاضي المولى وجب عليه تنفيذه كأى حكم آخر صادر من قاضی مولی ، خالف رأيه لم يخالفه ، ولا يعترض عليه الا بما يعترض لحكم غيره من القضاة ، وأن ما قاله الحنفية من أن حكم المحكم اذا رفع الى القاضي المولى يجوز له نقضه آن خالف رأيه لا يمكن التسليم به ، ذلك لأن حكم المحكم اذا رفع الى القاضي المولى لا يخلو من أمرين :
الأول : إما لطلب نقضه من قبل المحكوم عليه لمخالفته النص أو الإجماع والثاني لطلب تنفيذه ، ففي الحالة الأولى فإن القاضي يمتنع عليه نقض حكمه الا اذا كان مخالفا للنص أو الاجمـاع ، واذا كان الفصل في مجتهد فيه امتنع على القاضي المولى نقض حكم المحكم ، لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد اجماعا .
وأما في الحالة الثانية ، إذا رفع حكم المحكم إلى القاضي المولى لتنفيذه ، فان اعطاء القاضى نقض حكمه يعني عمليا أنه يجب لتنفيذ حكم المحكم ولزومه للمحتكمين رضاهم عليه بعد الحكم ، وهذا ما لم يقل به الحنفية أنفسهم اذ أنهم قالوا بأن حكم المحكم في مواجهـة الخصوم بمنزلة حكم القاضي المولى بمعنى أنه واجب الاجراء في حق المحتكمين كحـكم القاضي المولى ولا يجوز لأي منهما الامتناع عن تنفيذه ، والاعتراف بلزوم الحكم للمحتكمين يقتضى جواز تنفيذه عليهم جبرا ، إذا امتنع المحكوم عليه من تنفيذه طواعية وذلك شأن العقود تماما . وإلا فما فائدة القول بأن حكم المحكم لازم للمحتكمين واجب الاجراء في حقهم ، إن لم يمكن تنفيذه عليهم جبرا ، اذ يكفي في المحكم عدم تنفيذه طواعية هذه الحالة للتخلص من حكم المحكم عدم تنفيذه طواعية .