مقدمة: شهد الوطن العربي ربيعاً على مستوى التحكيم تزامن مع الربيع الذي عصف ببعض الأنظمة السياسية في بعض الأقطار، حيث صدر حكم تحكيم في منازعة استثمارية، كان أطرافها شركة مستثمرة من دولة خليجية في مواجهة إحدى الحكومات العربية ممثلة في بعض مؤسساتها، على النحو الذي سيلي لاحقاً، عند الحديث عن وقائع الدعوى. الجدير بالذكر أن حكم التحكيم هذا يعد الأول منذ إبرام الاتفاقية الموحدة لإستثمار رؤوس 1 الأموال العربية في الدول العربية . لذا فالحكم يعد ثورة حقيقية في عالم التحكيم العربي، لأنه يشكل بداية انطلاقة حقيقية لحماية الاستثمارات العربية في الوطن العربي، ولاسيما وأنه وجه رسالة واضحة وصريحة مفادها أن القانون والعدالة هما الكفيلان بإعطاء كل ذي حق حقه بصرف النظر عن مركز وقوة أطراف التحكيم . إن حكم التحكيم موضوع البحث وجه رسالة أخرى، تعد في غاية الأهمية، إلى حكومات الدول العربية المنضمة إلى (الإتفاقية الموحدة لإستثمار رؤوس الأموال العربية) والمستثمرين العرب من أفراد وشركات مضمونها: 1 - لمزيد من التفاصيل عن هذه الاتفاقية والإتفاقيات المعنية بشؤون الاستثمار بين البلدان العربية، راجع العدد السابع عشر من مجلة التحكيم العالمية، الصفحة (271 (دراسة بعنوان التحكيم في قوانين واتفاقيات الاستثمار العربية للدكتور عبد الحميد الأحدب. كما يراجع في المضمون نفسه عدة دراسات في باب الفقه من .أن التحكيم كفيل بحل أي منازعات استثمارية تنطبق عليها شروط الإتفاقية المذكورة. 2 .أن التحكيم يوفر كل المزايا التي تبعث على طمأنة المستثمر العربي والحكومة المتعاقدة في حال نشوء النزاع بينهما من حيث الحيدة والإستقلالية والسرية وكفاءة المحكمين. 3 .أن التحكيم لا يعترف بقوة ومركز أي من أطراف دعوى التحكيم، بل يبقى القانون والعدالة المتوخاة هما المعيار والفيصل . إن أهمية حكم التحكيم موضوع البحث لا ينحصر في كونه الحكم الأول منذ إبرام الدول المتعاقدة للإتفاقية المنوه عنها فحسب، وإنما لكونه تضمن بحوثاً قانونية تعد نموذجاً مشرفاً يعكس مدى تطور وتقدم التحكيم في وطننا العربي الكبير من جانب، ومن جانب آخر يؤكد أن الوطن العربي زاخر بالخبرات القانونية في مجال التحكيم وغيره من المجالات. ومن هنا دعوتي موجهة إلى زملائي القانونيين من محامين ومحكمين وقضاة ومستشارين إلى اتخاذ هذا الحكم نموذجاً مميزاً لما تضمنه من بحوث قانونية ومناقشة رصينة لأقوال ودفوع أطراف الدعوى، إضافة الى تميزه في الصياغة والتسبيب، الى ما حواه من بحوث قانونية متنوعة تضمنت دفوعاً إجرائية تارة كإختصاص هيئة التحكيم، وأخرى موضوعية كتقدير التعويض عامة والتعويض المعنوي على سبيل المثال، إلى غير ذلك من النقاط التي تعد كل واحدة منها مادة قانونية مستقلة بحد ذاتها. ولأن حكم التحكيم موضوع البحث يعد مادة قانونية دسمة لاحتوائه ومعالجته مواضيع قانونية عدة، فإننا سنقصر البحث على بعض النقاط التي استلهمناها منه إنطلاقاً من المقولة المشهورة بأن مالا يدرك كله لا يترك جلّه، هذا وباالله التوفيق. أولاً- نبذة عن الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية: في 26 نوفمبر 1980 وأثناء القمة العربية التي عقدت في العاصمة الأردنية عمان، وقّع عدد من الدول العربية الإ تفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية، وقد صادقت كل الدول العربية – بما في ذلك الكويت وليبيا- على هذه الاتفاقية بإستثناء الجزائر وجزر القمر . وبحسب المقدمة الواردة في هذه الاتفاقية، فإن الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية وإيماناً منها بتوفير المناخ الملائم للإستثمار في البلاد العربية، قررت وضع قواعد الإستثمار في إطار قانوني واضح وموحد بغية تسهيل انتقال رؤوس الأموال العربية وتوظيفها داخل الدول العربية بما يصب في خدمة التنمية والتطور ويرفع مستوى معيشة مواطنيها. ورغبة من هذه الدول في ضمان تطبيق هذه المبادئ، فإن الأحكام الواردة في هذه الاتفاقية، إنما تشكل حداً أدنى لا يجوز النزول عنها، لذا أقرت هذه الاتفاقية وملحقها الذي يعتبر جزءاً لا يتجزأ منها، وأبدت الدول استعدادها التام لوضعها موضع التنفيذ نصاً ومضموناً، مؤكدة رغبتها في بذل جهودها لتحقيق أهدافها وغاياتها . 2 في الفصل التمهيدي تعرضت المادة الأولى من الإتفاقية لبعض التعاريف المهمة كتعريف الدولة الطرف وهي الدولة العربية التي تكون الإتفاقية نافذة بالنسبة إليها، ثم عرفت المواطن العربي بأنه الشخص الطبيعي أو المعنوي المتمتع بجنسية دولة طرف، على ألا يكون في رأس مال الشخص المعنوي جزء يعود إلى غير المواطنين العرب بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ويعتبر داخلاً ضمن هذا التعريف المشروع العربي المشترك المملوك ملكية كاملة لمواطنين عرب في حالة عدم تمتعه بجنسية دولة أخرى، كما تعتبر من المواطنين العرب الدولة العربية والشخصيات المعنوية المملوكة لها بالكامل بصورة مباشرة أو غير مباشرة. في البند (5 (من المادة الأولى تم تعريف رأس المال العربي بأنه المال الذي يملكه المواطن العربي على تفصيل منصوص عليه، ثم عرف إستثمار رأس المال العربي بأنه إستخدام رأس المال العربي في إحدى مجالات التنمية الاقتصادية بهدف تحقيق عائد في إقليم دولة طرف غير دولة جنسية المستثمر العربي أو تحويله إليها لذلك الغرض، وفقاً لأحكام هذه الإتفاقية. أما تعريف المستثمر العربي فقد نص عليه البند (7 (من المادة الأولى بالقول أنه هو المواطن العربي الذي يملك رأس مال عربي بغرض إستثماره في إقليم دولة طرف لا يتمتع بجنسيتها. وأخيراً عرف البند (10 (من المادة الأولى المحكمة بأنها هي محكمة الإستثمار العربي، ولهذه المحكمة بحث مستقل لسنا بصدد الحديث عنها هنا، ولعلنا نوفق للبحث موضوعها 3 وإختصاصاتها في دراسة مستقلة مستقبلاً . تضمن الفصل الأول من الاتفاقية أحكاما عامة، وفي الفصل الثاني الذي حمل عنوان (في 2 -الفصل التمهيدي يتضمن المادة الأولى التي شملت تعاريف في عشرة بنود. 3 -لمزيد من المعلومات عن محكمة الاستثمار العربية، يراجع د. وليد بن حميدة، مجلة التحكيم العالمية (العدد الرابع عشر) صفحة (93 ،(كما يراجع المحامي الياس حنا في ورقته بعنوان: المشاكل العملية بشأن محكمة الاستثمار العربية، مجلة التحكيم العالمية، المجلد الثاني عشر، صفحة (237 .( معاملة المستثمر العربي) عالجت المواد من (5-15 (بعض المزايا التي يتمتع بها المستثمر العربي بموجب بنود الاتفاقية، كما تضمنت المواد المزايا التي يتمتع بها رأس المال العربي المستثمر من قبيل خضوعه لبعض التدابير كالمصادرة والإستيلاء الجبري أو نزع الملكية أو التأميم أو التصفية.... الخ. الجدير بالذكر أن المواد نصت على أن نزع الملكية يكون مقبولاً اذا تم لتحقيق نفع عام في مقابل تعويض عادل يدفع خلال مدة لا تزيد على سنة من تاريخ اكتساب قرار نزع الملكية صفته القطعية. أما الفصل الثالث من الاتفاقية بعنوان (المعاملة التفضيلية) فقد تضمنت المادتان (16 و17(، إذ نصت المادة (16 (على أن للدولة الطرف حق تقرير مزايا إضافية للاستثمار العربي تجاوز الحد الأدنى المنصوص عليه في هذه الإتفاقية، وتراعى في منح المزايا التفضيلية على وجه الخصوص الاعتبارات الآتية: - أهمية المشروع بالنسبة الى مستقبل تنمية الإقتصاد القومي. - المشروعات العربية المشتركة. - نسبة المساهمة العربية في ادارة المشروع. - مدى التمكن العربي في التكنولوجيا المستخدمة. - تحقيق سيطرة عربية اكبر على الإدارة والتكنولوجيا المستخدمة. - توفير فرص عمالة لمواطني الدولة المضيفة والعرب والمساهمة مع رأس المال في الدولة التي يتم فيها الاستثمار. وفي الفصل الرابع بعنوان (الإشراف على تنفيذ الاتفاقية) فقد نصت المادة (18 (على تولي المجلس الاقتصادي المنشأ بموجب المادة (8 (من معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين دول الجامعة العربية الموافق عليها من مجلس الجامعة في 13/4/1950 أو أي تعديل يقع عليها، الإشراف على تنفيذ أحكام الاتفاقية بالسبل التي عددتها المادة المذكورة. أما الفصل الخامس بعنوان (ضمان الاستثمار) فقد نصت المادة (22 (على أن تقوم المؤسسة العربية لضمان الاستثمار بالتأمين على الأموال المستثمرة بموجب أحكام الاتفاقية والأحكام المنصوص عليها في اتفاقية إنشاء المؤسسة العربية لضمان الإستثمار وبتعديلاتها. وهذه الإتفاقية الأخيرة كانت قد دخلت حيز التنفيذ في 1/4/1974 ووقعتها 12 دولة عربية، حيث نصت على أن الهدف منها هو العمل على تشجيع انتقال الأموال بين البلدان الموقعة بهدف تنمية تمويل خطط التنمية بما يعود بالنفع على شعوب تلك الدول، كما أكدت الاتفاقية أن هدف المؤسسة هو ضمان المستثمر العربي بأن يعوض عليه بطريقة مناسبة الخسائر التي تنتج من 4 مخاطر غير تجارية مثل المصادرة، نزع الملكية... إلخ . وقد جاء في الفصل السادس من الإتفاقية الموحدة لإستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية بعنوان تسوية المنازعات في المادة (25 (بأن تتم تسوية المنازعات الناشئة عن تطبيق هذه الاتفاقية عن طريق التوفيق والتحكيم أو اللجوء إلى محكمة الاستثمار العربية. وقد جاءت الأحكام المتعلقة بالتحكيم والتوفيق في ملحق مستقل بالإتفاقية. وما يهمنا الحديث عنه في هذا البحث هو التحكيم كوسيلة متاحة للأطراف، إذ نصت المادة (2/2 (من ملحق الإتفاقية على أن تبدأ إجراءات التحكيم عن طريق إخطار يتقدم به الطرف الراغب في التحكيم إلى الطرف أو الأطراف الأخرى في المنازعة على أن يبين في الطلب أو الإخطار طبيعة المنازعة والقرار المطلوب صدوره فيها وإسم المحكم المعين من قبله. ويجب على الطرف الآخر خلال (30 (يوماً من تاريخ تقديم الإخطار أن يخطر طالب التحكيم باسم المحكم الذي عينه، ثم يختار المحكمون خلال (30 (يوماً من تاريخ تعيين آخرهم حكماً مرجحاً يكون رئيساً للهيئة التحكيمية ويكون له صوت مرجح عند انقسام الآراء بالتساوي. هذا وقد تضمن ملحق الإتفاقية الخاص بالتوفيق والتحكيم مواد عالجت موضوع تشكيل الهيئة التحكيمية وكيفية استبدال المحكمين ومكان وتاريخ بدء التحكيم وغير ذلك من الأمور الخاصة بسلطة هيئة التحكيم في نظر قواعد الإجراءات والاختصاص وكيفية صدور الحكم ومدى إلزامية الحكم وكيفية اللجوء إلى تنفيذه. أما الفصل السابع من الإتفاقية فقد تضمن أحكاماً ختامية بشأن حض الدول الأطراف على التعهد بتسهيل تنفيذ أحكام الإتفاقية داخل إقليمها في مراحل الإستثمار المختلفة مع إخطار الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بذلك. 4 -راجع د. عبد الحميد الأحدب في التحكيم في قوانين وإتفاقيات الاستثمار العربية، الملحق (3 (التحكيم في المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، صفحة (352 ،(كما تضمنت باقي المواد الأمور الإجرائية الخاصة بتحويل العملة وسعر الصرف والبيانات التي يلتزم المستثمر العربي تقديمها إلى الجهات المركزية أو المجلس. وتناولــت المواد (42 و 43 (موضوع الإنسحاب من الإتفاقية على تفـصيل منـصوص عليه. وأخيراً تضمن الفصل الثامن أحكاماً إنتقالية بشأن اجتماع مختلف الدول العربية، إذ نصت المادة (45 (على أنه: (إلى أن يتم انضمام جميع الدول العربية إلى الإتفاقية، يجتمع ممثلو الدول العربية الأطراف الأعضاء بالمجلس في شكل هيئة تسمى "الهيئة العربية لإتفاقية الاستثمار" تتولى اختصاص المجلس في هذا الشأن، وذلك باستثناء تعيين رئيس وأعضاء المحكمة فيكون للمجلس في جميع الأحوال). ثانياً- وجيز وقائع دعوى التحكيم وأطرافها: تتلخص الدعوى في أن شركة محمد عبد المحسن الخرافي وأولاده (المحتكمة). وهي شركة كويتية (المستثمر) أقامت دعوى التحكيم موضوع البحث في مواجهة الهيئة العامة لتشجيع الإستثمار وشؤون الخصخصة التابعة للحكومة الليبية والمعروفة سابقاً بالهيئة العامة للتمليك والإستثمار، طالبة إلزامها بمبلغ 000,000,55 مليون دولار (خمسة وخمسين مليون دولار)، عدل فيما بعد حينما رفعت المحتكمة أثناء سير الدعوى قيمتها إلى 000,930,144,1 دولار أمريكي (مليار ومئة وأربعة وأربعين مليوناً وتسعمائة وثلاثين ألف دولار أمريكي). وقالت شرحاً لدعواها أنها في غضون عام 2006 استحصلت على قرار من وزارة السياحة الليبية مضمونه قيام المحتكمة بإنشاء مشروع سياحي استثماري ضخم بموقع الأندلس بشعبية تاجورا ليقيم فندقاً سياحياً متكاملاً (5 نجوم)، مركزاً تجارياً خدمياً، شقق فندقية، إضافة إلى مطاعم وأماكن ترفيهية، وذلك على قطعة أرض مؤجرة مساحتها 24 هكتاراً بقيمة استثمارية قدرها 000,000,130) مائة وثلاثون مليون دولار أمريكي) ومدة استثمار تصل إلى تسعين سنة، هذا وقد تضمن العقد المبرم بين الطرفين في المادة (29 (منه على شرط التحكيم الذي نص على أنه في حال نشوء نزاع وتعذر تسويته بالطرق الودية، يحال النزاع إلى التحكيم وفقاً لأحكام الاتفاقية الموحدة لإستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية الصادرة بتاريخ 26 نوفمبر 1980 .هذا وقد ذكرت المحتكمة أنها واجهت صعوبات جمة في تنفيذ المشروع تمثلت في اعتداءات وقعت على عما الشركة من قبل رجال الشرطة التابعين للدولة تارة، وتارة أخرى من أناس يزعمون أن الأرض المؤجرة – موضوع المشروع - مملوكة لهم. وقد تم تبادل المراسلات بين طرفي الدعوى بهذا الخصوص حتى طالبت المحتكم ضدها الهيئة العامة لتشجيع الإستثمار من المحتكمة وقف الأعمال، بل طالبت إدارة التنمية السياحية، المحتكمة بالتوقف عن العمل وسحب المعدات من الموقع ريثما تتم تسوية الموضوع نهائياً. عام 2009 اقترح مدير إدارة تنمية وتطوير المناطق السياحية من المحتكمة اختيار موقع بديل لتنفيذ المشروع. وعام 2010 أصدر وزير الصناعة والاقتصاد والتجارة الليبي قراراً ألغي فيه قرار إنشاء المشروع بعدما آلت إليه صلاحية إصدار قرارات الموافقة على الإستثمارات الأجنبية، الأمر الذي حدا المحتكمة على اللجوء إلى معالي الأمين العام لجامعة الدول العربية طالبة الموافقة على بدء إجراءات التحكيم. وبالفعل بدأت إجراءات التحكيم وفق التفاصيل الواردة في الفصل الثالث من 5 القسم الأول الخاص بوقائع الدعوى . ثالثاً- بعض النقاط التي أفرزها حكم التحكيم: ذكرنا في مقدمة البحث أن حكم التحكيم الذي نتناول التعليق عليه لم يكن مميزاً لكونه الحكم التحكيمي الأول وفقاً للإتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية فحسب، وإنما لاحتوائه على مواضيع قانونية عالجها الحكم بكل دقة وحرفية تنم عن الخبرة العالية التي تمتع بها أعضاء الهيئة التحكيمية، ولا سيما رئيس الهيئة السيد أ. د. عبد الحميد الأحدب. فالهيئة أغلقت كل ما من شأنه النيل من الحكم بأية مثالب. ويكفي القارئ دليلاً على ذلك أنها- أي الهيئة – لم تتعرض لحسم النزاع، إلاّ بعدما مكّنت الأطراف من إبداء كل ما عن لهم من دفوع وطلبات قبل أن تتصدى بمعالجتها. وحتى لا نطيل في المقام، فإننا نرشد القارئ الكريم للرجوع إلى الحكم في قسمه الثاني المعنون (مواقف الطرفين) وذلك لاستعراض ما عرض على الهيئة من وقائع 6 ودفوع وطلبات وفي القسم الثالث والأخير من الحكم بعنوان (حسم النزاع) تعرضت الهيئة لمعالجة الدفوع والطلبات المعروضة عليها سواء الدفوع الشكلية المتعلقة بالدفع الخاص باختصاص الهيئة أو الدفوع الموضوعية كالطبيعة القانونية للعقد أو تقدير التعويض وفقاً للسلطات التقديرية للهيئة 7 التحكيمية . لقد امتاز الحكم التحكيمي حين معالجة الدفوع والطلبات المطروحة أمام الهيئة التحكيمية بدقة متناهية تمثلت في معالجة الدفوع الشكلية قبل الموضوعية مستعينة بالإتفاقية الموحدة لإستثمار رؤوس الأموال العربية في الدولة العربية مرة وبنصوص قانون الإستثمار الليبي رقم 7 لسنة 1371 ولائحته التنفيذية مرة، بالإضافة إلى باقي القوانين الإستثمارية المعمول بها في الجماهيرية الليبية ولاسيما القانون رقم 9 لسنة 2010م الذي الغى القوانين السالفة وأصبح هو القانون الساري على كافة المشروعات الإستثمارية وما تعلق بها من وقائع وتصرفات. ولم تغفل الهيئة التحكيمية مراعاة المزايا والإعفاءات الممنوحة والسارية على المشروع موضوع الحكم بموجب القوانين السارية قبل صدور القانون المنوه عنه. وبذلك يتضح جلياً أن الهيئة راعت ولم تغفل القوانين الإستثمارية المطبقة في ليبيا سواء القديمة التي ألغيت أو تلك المستحدثة ولاسيما تلك التي كانت تسري على موضوع الدعوى إلى ما قبل صدور القانون رقم 9 لسنة 2010م. يضاف إلى كل ذلك أن الهيئة التحكيمية أشبعت البحث بالإجتهادات القضائية الصادرة عن المحكمة العليا الليبية في عدة موارد سواء لتفسير بعض نصوص القوانين المطبقة في ليبيا أو لتعزيز قناعاتها في بعض المسائل المطروحة للبحث والنقاش. هذا ولم تألُ الهيئة التحكيمية جهداً في تعزيز الحكم بآراء الخبراء الفنيين للبحث في عناصر المطالبة بالتعويض، بل أكثر من ذلك لم تبخل الهيئة في الإستعانة بالخبرة القانونية في حسم بعض الجوانب على الرغم من أن الهيئة التحكيمية مشكلة من كبار أساتذة القانون في الوطن العربي، ولكن إيماناً منها بأن بعض المسائل تحتاج إلى خبرة قانونية متخصصة فإن ذلك لم يمنعها من الاستشهاد بآراء أحد رموز القانون في الوطن العربي 8 ألا وهو القاضي الدكتور برهان أمر االله . 7 -راجع الصفحات من 217 إلى 437 من حكم التحكيم موضوع البحث. 8 -القاضي الدكتور برهان محمد توحيد أمر االله، هو دكتور في الحقوق وقاضي إستئناف بمحكمة العدل لمنظمة السوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا (COMESA ،(والأمين العام للإتحاد العربي للتحكيم الدولي والذي قدم تقريراً بالرأي القانوني بناء على طلب المحتكمة. راجع حكم التحكيم في الصفحة إذاً فالحكم التحكيمي موضوع البحث، في رأيي الشخصي، حكم جامع مانع أحاط موضوع الدعوى من كافة جوانبه ولم يضع نقطة مطروحة للبحث والنقاش إلاّ وعالجها، إما بإجتهاد أو نص أو رأي خبير الأمر الذي جعل منه نموذجاً مميزاً ومرجعاً مهماً للإستعانة به في عدة مواضيع كالتحكيم، الطبيعة القانونية للعقد والسلطة التقديرية في إضفاء الوصف الصحيح عليه، المسؤولية والتعويض بشقيه المادي والمعنوي، على النحو الذي سنعالجه تباعاً: 1 .في اختصاص الهيئة التحكيمية: تحت هذا البند عالجت الهيئة التحكيمية في حكمها هذا الموضوع بشكل مفصل، وتناولته من عدة جهات: .أ ففي الفقرة الأولى من هذا البند، تصدت الهيئة للدفع المطروح من قبل المحتكم ضدها بشأن النطاق الموضوعي لتطبيق الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية على النزاع موضوع الدعوى، إذ من وجهة نظر المحتكم ضدها لا يوجد رأس مال عربي تم انتقاله من دولة الكويت إلى ليبيا لكي يستخدم ويستثمر فيها. غير أن الهيئة التحكيمية حسمت هذا الأمر من واقع نصوص قوانين الإستثمار السارية في ليبيا كالنصوص التي عرفت رأس المال الأجنبي، والنصوص المتعلقة بالمزايا والإعفاءات الإضافية الممنوحة للمستثمر، وغيرها من النصوص التي تناولت مفهوم المشروع وغايته، كما استشهدت الهيئة بالوقائع التي تزامنت مع إصدار التراخيص والموافقات الصادرة لتنفيذ هذا المشروع وإنتهت بأن الإتفاقية الموحدة هي جزء من القانون الليبي بمفهوم المادة (24 (من قانون تشجيع الاستثمار التي تحيل إلى الإتفاقية الثنائية أو المتعددة الأطراف، إذا تضمنت شروطاً تحكيمية، وذلك من أجل حل أي نزاع ينشأ بين 9 المستثمر الأجنبي والدولة . لذا اعتبرت الهيئة المشروع موضوع النزاع مشروعاً استثماريا وفقاً لتعريف ومفاهيم الاستثمار في القانون الليبي، وأنه عملاً بالمادة 2/6 من ملحق التوفيق والتحكيم للإتفاقية الموحدة فإن الهيئة تملك الفصل، في كل المسائل 10 المتعلقة باختصاصها وتحدد الإجراءات الخاصة بها . 9 -لطفاً راجع المادة (24 (من قانون الاستثمار الليبي رقم (9 (لسنة 2010 المشار إليه في الصفحة 229 من حكم التحكيم. 10 -تنص المادة (2/6 (من ملحق الإتفاقية الموحدة للإستثمار على أنه: "تفصل هيئة التحكيم في كل المسائل المتعلقة بإختصاصها وتحدد الإجراءات الخاصة بها .ب أما في الفقرة الثانية من البند الخاص بإختصاص الهيئة، فقد عالجت الهيئة موضوع الإختصاص بالإختصاص، أي اختصاص الهيئة لبت إختصاصها، فقد إستمدت الهيئة هذا الحق من المادة 2/6 من ملحق التوفيق والتحكيم الذي يعد جزءا من الاتفاقية الموحدة، كما أشرنا الى ذلك سلفاً، لذلك طالما أن النظام التحكيمي المطبق على التحكيم محل النزاع هو نظام تحكيم الاتفاقية الموحدة، فإن الهيئة اعتبرت نفسها مختصة بالنظر في اختصاصها بما في ذلك تكييف طلبات الخصوم والدعوى. .ج وفي الفقرة الثالثة تصدت الهيئة للرد على دفع المحتكم ضدها بشأن إقامة الدعوى قبل الأوان، إذ لم تحصل مساعٍ ودية لحل النزاع قبل اللجوء إلى التحكيم، حيث استعرضت الهيئة وجهات نظر أطراف الدعوى المعززة بالأدلة، وانتهت إلى أن المراسلات المبرزة أمامها تؤكد حقيقة أن المساعي الودية بذلت بالفعل قبل إقامة الدعوى التحكيمية غير أنها لم تكلل بالنجاح، والجميل في الأمر أن الهيئة لم تكتفِ بما أدلى به الطرفان، ولاسيما المحتكمة، للانتهاء بنتيجة وجود مساعٍ ودية لحل النزاع قبل اللجؤ إلى التحكيم، وإنما إستعرضت نصوصاً قانونية واجتهادات قضائية بينت مفهوم المساعي الودية السابقة لإقامة دعوى وما إذا كانت تتطلب إجراء معيناً من عدمه، بل كيفية استيفاء متطلباته، وما إذا كانت تعد إلزامية أم لا، وهل إغفالها يؤدي إلى بطلان حكم التحكيم من عدمه؟ هذه البحوث والنقاط القانونية المهمة تناولها الحكم بين طياته، وانتهى بأن الدفع بعدم 11 جواز نظر التحكيم لرفعه قبل الأوان في غير محله . .د وفي الفقرة الأخيرة من بند اختصاص الهيئة، عالجت الهيئة وبشيء من التفصيل موضوعاً يعد في غاية الأهمية، ألا وهو موضوع النطاق الشخصي لشرط التحكيم. تو أتي أهمية هذا الموضوع من واقع تفعيل الشرط التحكيمي في مواجهة جهات أخرى في الدولة الليبية غير الجهة الموقعة للعقد المتضمن شرط التحكيم، وهي اللجنة الشعبية العامة للسياحة ومصلحة التنمية السياحية، فالمحتكم ضدها دفعت بأن دولة ليبيا ليست طرفاً في العقد المحرر في 8/6/2006 ،لأن مصلحة التنمية السياحية هي التي وقعت العقد وحلت محلها في العام 2007 هيئة تشجيع الاستثمار، ثم في العام 2009 أصبحت تسمى الهيئة العامة للتمليك والاستثمار وهي شخصية قانونية مستقلة عن الدولة الليبية 11 -راجع بحث إختصاص الهيئة بشأن إقامة دعوى التحكيم قبل الأوان في الصفحات من 237 -244 من حكم التحكيم. التعليقـــات مجلة التحكيم العالمية 2013 – العدد التاسع عشر 619 وعن وزارة الاقتصاد ووزارة المالية والمؤسسة الليبية للاستثمار تلك الجهات التي اقحمت في هذه الدعوى، وهي لم توقع العقد، وبالتالي ذكرت المحتكم ضدها أن المحتكمة خلطت بين مبدأ نسبية آثار اتفاق التحكيم بإعتباره عقداً مدنياً ومبدأ الصفة كشرط لقبول الدعوى أمام القضاء الإداري، وإزاء ذلك تحتم على الهيئة بت ما إذا كانت الجهة الموقعة على العقد، وهي الهيئة العامة للتمليك، تشكل جزءاً من الدولة الليبية أم أنها مستقلة؟ وبالنتيجة بت ما إذا كانت الدولة الليبية ووزارة الاقتصاد ووزارة المالية والمؤسسة الليبية للاستثمار يجوز مخاصمتها وإدخالها في هذه الدعوى؟ لقد أبدعت الهيئة التحكيمية بحنكتها القانونية واستطاعت إيجاد مسوغ قانوني مقنع يعزز القناعة التي توصلت إليها بإدخال بعض المؤسسات الحكومية التابعة للحكومة الليبية كأطراف في دعوى التحكيم، على الرغم من عدم دخولها أو توقيعها العقد الأصلي المتضمن شرط التحكيم. هذا المسوغ القانوني الذي أوجدته الهيئة، يرجع في المقام الأول إلى إلمامها بنصوص القوانين الليبية والقرارات الادارية التي صدرت أثناء وبعد إنعقاد العقد كتغيير مسميات بعض الجهات الحكومية، فالمحتكم ضدها أصبحت تسمى "الهيئة العامة لتشجيع الاستثمار وشؤون الخصخصة، بعدما كانت تسمى "الهيئة العامة للتمليك والإستثمار"، وقبلها "مصلحة التنمية السياحية" إبان توقيع العقد مع المحتكمة. أما عن إدخال وزارة المالية كطرف مدخل في دعوى التحكيم، فلأنها ملزمة بتنفيذ الأحكام القضائية النهائية الصادرة في الداخل والخارج ضد الجهات العامة الليبية والممولة من الخزانة العامة الليبية بحسب قرار اللجنة الشعبية العامة رقم 322 لسنة 2007 12 . كما لاحظت الهيئة أمراً مهماً وهو أن العقد الموقع بين المحتكمة والمحتكم ضدها سبقه صدور ترخيص من وزير السياحة بصفته، يتضمن الموافقة على الاستثمار، وقرار الترخيص هذا يطابق مضمون العقد الموقع، الأمر الذي يضفي على المشتركين في العقد طابعاً حكومياً يعزز قناعة الهيئة بتدخل تلك الجهات الحكومية في إبرام العقد 12 -تنص المادة الأولى من قرار اللجنة الشعبية رقم (322 (لسنة 2007 بتعديل المادة (171 (من لائحة الميزانية والحسابات والمخازن التي نصت على أنه: "أ. تدرج بالميزانية العامة للدولة، مخصصات مالية لتنفيذ الأحكام القضائية النهائية الصادرة ضد الجهات العامة الممولة من الخزانة العامة وتنفيذه، بل وإنهائه، هذا ولاحظت الهيئة التحكيمية أن قرار اللجنة الشعبية رقم 87 لسنة 2007 نص في المادة (15 (بانتقال كافة العقود والحقوق والالتزامات المبرمة في مجال الاستثمار السياحي من اللجنة الشعبية العامة للسياحة ومصلحة التنمية السياحية إلى هيئة تشجيع الإستثمار، وأن هذه الأخيرة حلت محلهما فيما لهما وعليهما من حقوق والتزامات. وبما أن هيئة تشجيع الإستثمار هي جهة تابعة لوزارة الإقتصاد بموجب قرار مجلس الوزراء رقم (59 (لسنة 2012 الخاص باعتماد الهيكل التنظيمي واختصاصات وزارة الإقتصاد وتنظيم جهازها الإداري، لذلك رأت الهيئة أن استقلال الوحدات الإدارية عن الدولة وتمتعها بالشخصية الإعتبارية والذمة المالية المستقلة لا يعني استقلالها عن الدولة ولا يعني توجيه الدعوى القضائية إليها دون إشراك الدولة. وقد عززت الهيئة التحكيمية هذا التوجه في الرأي بإجتهادات قضائية صادرة عن المحكمة العليا بليبيا جميعها خلصت بأنه لا يسوغ القول بأن استقلال الوحدة الإدارية بذمة مالية وشخصية اعتبارية يستوجب توجيه الدعوى إليها دون إشراك الجهة التي تشرف عليها. هذا وقد استدلت الهيئة التحكيمية بأن مجرد قيام إدارة القضايا التابع ة لوزارة العدل بالدفاع عن المحتكم ضدهم جميعاً في هذه الدعوى يشكل اعترافاً بالصفة الحكومية لهذه الجهات، وبالتالي قانونية اختصاص الهيئة التحكيمية في النزاع. كما استدلت الهيئة التحكيمية على ثبوت الطابع الحكومي للجهات المختصمة والمدخلة في الدعوى من واقع المراسلات المتبادلة مع المحتكمة بشأن تنفيذ العقد وإنهائه، وأيقنت بعد بحث وتمحيص أن شرط التحكيم يمتد إلى تلك الجهات التي تدخلت في مراحل إبرام العقد وتنفيذه وحتى إلغائه مما يعزز قناعة الهيئة بصحة الاحتجاج بشرط التحكيم في مواجهة كل من الدولة الليبية ووزارة الاقتصاد والهيئة العامة لتشجيع الإستثمار وشؤون 13 الخصخصة سابقاً (الهيئة العامة للتمليك حالياً) ووزارة المالية . 2 -الطبيعة القانونية للعقد موضوع النزاع: من ضمن النقاط التي عالجها الحكم التحكيمي موضوع الطبيعة القانونية للعقد، ففي حين رأت المحتكمة أن هذا العقد يعد عقداً مدنياً، وفقاً للقانون الليبي، ذهب المحتكم ضدهم بأن العقد 13 إنما هو عقد إداري، وفقاً للقانون الليبي، لذا قررت الهيئة التحكيمية بحث شروط العقد الإداري من خلال تعريفه للوقوف على مدى إنطباقها على العقد موضوع الدعوى، وبالتالي الوصول إلى معرفة الطبيعة القانونية له. وقد تعرض الحكم التحكيمي إلى القانون الليبي والإجتهادات الصادرة عن المحكمة العليا في ليبيا للوقوف على تعريف العقد الإداري فأستدل بالمادة (3 (من قرار اللجنة الشعبية العامة رقم (563 (لسنة 1375 التي نصت على أن العقد الإداري هو كل عقد تبرمه جهة من الجهات (الجهات والوحدات الإدارية) بقصد تنفيذ مشروع من المشروعات المعتمدة في خطة التنمية أو الميزانية أو الإشراف على تنفيذه........ متى كان ذلك العقد يشتمل على شروط إستثنائية غير مألوفة في العقود المدنية وتستهدف تحقيق المصلحة العامة. أما المحكمة العليا في ليبيا فقد قررت في الطعن الإداري رقم 16/27 بتاريخ 13/11/1983 بما يلي: "إن إختصاص القضاء الإداري ولائياً بالفصل في المنازعات المتعلقة بعقد التوريد مناطه................ أن يكون أحد طرفيه شخصاً معنوياً عاماً ومتعلقاً بمرفق عام ومحتوياً على شروط إستثنائية غير مألوفة في العقود الخاصة أو متضمناً لما يفيد أن نية الإدارة قد إتجهت في إبرامه إلى الأخذ بأسلوب القانون العام، فإن فقد إحدى هذه الخصائص الثلاث التي تتميز بها العقود الإدارية، فإنه لا يكون عقد توريد إداري ويخرج النزاع بشأنه عن نطاق القضاء الإداري". إزاء نص القرار المشار إليه واجتهاد المحكمة العليا الليبية المنوه عنها سالفاً بحثت الهيئة التحكيمية في ما إذا كان العقد موضوع النزاع يتعلق بمرفق عام أو انه يتضمن شروطاً استثنائية خارقة حتى يقال بأنه عقد إداري من عدمه. وتوصلت بعد بحث معمق إلى أن المرافق السياحية التي منحت للمحتكمة من أجل استثمارها مقابل حصول المحتكم ضدهم على جباية العوائد المالية لعقد الإيجار أي بدل الايجار لا تعتبر من المرافق العامة، وفقاً لتعريف القانون والفقه والاجتهاد لمفهوم المرفق العام. هذا ولم تر الهيئة التحكيمية أن الشرط المتعلق بإقامة المشروع على أملاك خاصة للدولة يعد شرطاً استثنائياً خاصاً بالعقود الإدارية، بل هو شرط مألوف يمكن أن يرد في العقود الخاصة وهذا هو شأن بقية الشروط التي تمسك المحتكم ضدهم بأنها شروط استثنائية لا ترد إلاّ في العقود الإدارية. وبالنتيجة انتهت الهيئة التحكيمية بأن العقد موضوع النزاع هو من عقود الـ T.O.B الخاضع للقانون الخاص من خلال طبيعته ونصوصه، ولاسيما أن عقود ال ـ T.O.B منها ما 14 يخضع للقانون الإداري ومنها ما يخضع للقانون المدني، كما هو شأن العقد محل النزاع . 3 -في المسؤولية والتعويض: لقد بحثت الهيئة التحكيمية في موضوع المسؤولية بشقيه التعاقدي والقانوني وأفردت بحثاً مفصلاً لمعالجة هذا الموضوع من ناحية الخطأ التعاقدي والسلطة التقديرية في إثبات الخطأ الموجب للمسؤولية وماهية الخطأ الجسيم واستخلاص هذا الخطأ، وبالتالي تقدير التعويض إن كان له مقتضى. هذا وقد خلصت الهيئة التحكيمية إلى أن المحتكم ضدها ارتكبت خطأً تعاقدياً يستوجب تعويض المحتكمة بقدر ما لحقها من أضرار مادية وربح فائت، فضلاً عن التعويض عن الضرر الأدبي، وذلك بغض النظر عن الذرائع التي تحججت بها المحتكم ضدها لدرء مسؤوليتها والتي تولت الهيئة الرد عليها مأخذاً مأخذ. وبعد أن ثبت للهيئة قيام مسؤولية المحتكم ضدها قررت البحث في تعويض المحتكمة وفقاً للتقدير الذي تراه بموجب النصوص القانونية والإجتهادات القضائية في ليبيا وما قدم إليها من أدلة وبراهين تثبت قيام المسؤولية التعاقدية والقانونية على المحتكم ضدها، ومن ثم وطالما أن العقد يخضع للاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية فإن نص المادة (11/1 (من الإتفاقية جدير بالأخذ به ، وعليه قررت الهيئة تعويض الشركة المحتكمة مبلغاً 15 وقدره 00.350.292.6) ستة ملايين ومائتان واثنان وتسعون ألفاً وثلاثمائة وخمسون ألف دينار) أي ما يعادل 000.000,5) خمسة ملايين دولار أمريكي) يمثل قيمة الخسائر والمصروفات التي تمثلت في افتتاح مكتب المحتكمة في طرابلس، وقد انعكست هذه الخسائر في ميزانيات الشركة المحتكمة بموجب ما هو ثابت في أوراق الدعوى. أما في ما يتعلق بالتعويض عن الضرر الأدبي فقد راعت الهيئة التحكيمية الأضرار التي أصابت المحتكمة في سمعتها المهنية العالمية من جراء إلغاء المحتكم ضدها تعسفاً المشروع 14 -راجع حكم التحكيم في الصفحات من (301 (وحتى (347 .( 15 -المادة (11/1 (من الاتفاقية تنص على أن: "يكون التعويض نقدياً إذا تعذرت إعادة الاستثمار إلى حاله قبل وقوع الضررالاستثماري، لذا قررت الهيئة تعويض المحتكمة مبلغاً وقدره 000.000,30) ثلاثون مليون دولار أمريكي). وأخيراً بحثت الهيئة التحكيمية موضوع تعويض المحتكمة عن الربح الفائت الناتج من الفرص الضائعة الأكيدة والمحققة لا المحتملة، وخاضت الهيئة بحثاً في نصوص القوانين الليبية واجتهادات المحكمة العليا. بل وقواعد المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص وكذا الاجتهادات الدولية في التحكيم بشأن احتساب الربح الفائت على أساس صافي الأرباح. والآراء الفقهية التي عرفت التعويض عن تفويت الفرصة. وانتهت الهيئة من جماع ما تقدم إلى أن: 1 -مجرد وقوع الضرر مستقبلأ لا يكفي للحكم بالتعويض. 2 -إذا كانت الفرصة أمراً محتملاً فإن تفويتها أمر محقق يجيز للمضرور أن يطالب بالتعويض عنها. 3 -لا يمنع القانون من أن يدخل في عناصر التعويض ما كان يأمل المضرور الحصول عليه من كسب من وراء هذه الفرصة، إلاّ أن ذلك مشروط بأن يكون هذا الأمل قائماً على أسباب مقبولة. 4 -أن الفرصة إذا كانت أمراً محتملاً، فإن تفويتها أمر محقق. 5 -أن التطبيق السليم للقانون يكون بتعويض الضرر عن الفرص الضائعة المحققة الأكيدة. 6 -الضرر المادي الذي يعوض عنه هو الضرر الذي يكون محققا ًبأن يكون قد وقع بالفعل أو يكون وقوعه في المستقبل محققاً. الجدير بالذكر أن المحتكمة كانت قد عززت مطالبتها بالتعويض عن الكسب الفائت بأربعة تقارير من خبراء ومدققين ماليين دوليين اعتبرتها الهيئة أدلة لها مصداقية، ولاسيما أن المحتكم ضدهم لم يدحضوا ما جاء فيها بأدلة منافية، الأمر الذي قاد الهيئة إلى اعتماد معدلٍ وسط للمبالغ التي انتهت إليها هذه التقارير ليكون التعويض بمبلغ وقدره 150.394,092,2 إلا أن الهيئة التحكيمية عملاً بسلطتها التقديرية، اتخذت قراراً شجاعاً وخفضت مبلغ التعويض عن الكسب الفائت ليصبح مبلغ تسعمائة مليون دولار أمريكي بدلاً من مبلغ ملياري دولار استئناساً بما قاله أحد محاميي المحتكم ضدهم وهو الدكتور هشام صادق من حكمة في دعوته إلى إفساح الطريق لمزيد من التعاون الاقتصادي العربي المشترك في المستقبل وأخذاً بظروف ليبيا حالياً، حيث لم تعد الجماهيرية الليبية، كما كانت قبل الثورة الأخيرة، وإنما أصبحت ليبيا الفتية التي عادت بقوة بعد هذه الثورة إلى عالمها العربي وارتبطت بمصالحه على نحو غدت منه مصالحها الوطنية تفرض عليها مزيداً من التعاون الاقتصادي والاستثماري مع أشقائها العرب في المستقبل. رابعاً- الخاتمة: كما ذكرنا في المقدمة، فإن أهمية الحكم التحكيمي موضوع البحث لا تكمن في كونه الأول على مستوى الإتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية، فحسب، بل للمضامين التي جاءت فيه على نحو النقاط التي إستعرضناها في الفقرات السابقة والتي تعد جزءا يسيراً من التفاصيل التي جاءت في الحكم، فالحكم التحكيمي لا نبالغ إذا قلنا أنه تطرق الى مواضيع دسمة في مختلف فروع القانون، فإذا جئنا للتحكيم كموضوع، فإن الحكم تعرض لمواضيع تفصيلية فيه حول الإختصاص، امتداد شرط التحكيم من حيث الأطراف والموضوع. وإذا جئنا للقانون الدستوري فإن الحكم تعرض لموضوع هام وهو التفرقة بين العقود الإدارية وغيرها من العقود الخاصة، وقد صاغ الحكم درساً مفصلاً في الطبيعة القانونية للعقد، وإذا تحدثنا عن القانون المدني فإن الحكم التحكيمي أعطى دروساً معمقة في المسؤولية من حيث موجبات قيام المسؤولية والآثار المترتبة على قيامها، ثم عرج الحكم على موضوع التعويضين المادي والمعنوي، وكذلك موضوع يعد في غاية الأهمية ألا وهو التعويض عن الربح الفائت وكيفية تقديره، كل هذه المواضيع وغيرها جعلت من هذا الحكم مميزاً، بحيث يعد مرجعاً قانونياً مهماً بالنظر لما عالجه من جهة الاستعانة بالنصوص القانونية تارة، والإجتهادات القضائية تارة أخرى، علاوة على الآراء الفقهية وآراء الخبراء المتخصصين في بعض الجوانب القانونية، لذا وقياساً بالفترة الزمنية التي استغرقت حتى صدور الحكم (حيث انعقدت جلسة التحكيم الأولى في 14/7/2012 وصدر الحكم في 22/3/2013 .(فإن الحكم يعد إنجازاً ستعتز به الأجيال القانونية لعقود وعقود، آملين الاستفادة منه كمرجعية قانونية شاملة استوعبت عدداً من المواضيع الهامة كما أسلفنا، ومتطلعين لصدور مزيد من الأحكام في المستقبل القريب بعدما أعطى هذا الحكم إشارة الإنطلاق لمزيد من دعاوى التحكيم في مجال الاستثمار على صعيد الوطن العربي بإذن االله.