حكم التحكيم / نطاق حجية الحكم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد19 / هذه السابقة من منظور خليجي ...هذا الحكم يبعث الامل في مستقبل أفضل للإستثمار المتبادل بين الدول العربية
من المعلوم أن السوابق تلعب دوراً أساسياً في التحكيم التجاري الدولي سواء كان مؤسسياً أو خاصاً (hoc ad .(ومن هنا أتى الإهتمام الكبير بالحكم التحكيمي الذي صدر في القاهرة بتاريخ 22/03/2013 طبقاً لـ (الإتفاقية الموحدة لإستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية) في نزاع إستثماري بين شركة محمد عبد المحسن الخرافي وأولاده الكويتية ضد الحكومة الليبية وجهات حكومية تابعة لها. فقد كسرت هذه السابقة حواجز كثيرة طالما حرمت الآلاف من العرب مزايا الإستثمار فيما بين الدول العربية. ومن أهم تلك الحواجز بعض التجارب السيئة التي مرت بها المملكة العربية السعودية ودول أخرى من دول الخليج. أذكر – مثلاً – أنه لما وصل (بن علي) إلى الحكم في تونس وأصبح رئيساً تطلع إليه شعبه والدول العربية الأخرى بكثير من التفاؤل، صدرت توجيهات رسمية إلى رجال الأعمال في المملكة بمساعدة الإقتصاد التونسي عن طريق المساهمة العاجلة في مؤسساتها المالية. فتدفقت المساهمات، ولكنها بدلاً من أن تستخدم في بناء الإقتصاد التونسي وتنمية الصناعات المحلية، ذهبت إلى جيوب "كبار القوم" كقروض شخصية تنقصها أبسط أنواع الضمان. وبقي المساهمون السعوديون لا يعلمون أي شيء عن مساهماتهم ولم يستطيعوا حتى الآن إستعادة أموالهم أو حتى بعضها. أذكر أيضاً التجارب المريرة التي مني بها بعض من ساهم من السعوديين في شراء المشاريع "المخصخصة" في مصر.ولا يخلو الموقف في الخليج من الحواجز المعنوية أو النفسية، فإن الوصف الذي أطلقه الأسد على الخليجيين بأنهم "متخلفون" لم يأتِ من فراغ: فهناك من أخواننا العرب من يعتقد بأننا في الخليج شعوب متخلفة، وأننا نعبث في ثروة هي للعرب جميعاً! (هكذا)، بل وأطلق علينا بعض العراقيين المناصرين للأسد صفة "العربان" إستهجاناً وإمعاناً في التحقير. إن هذا القول لايختلف كثيراً عما يردده ذوو الرقاب الحمراء Necks Red The" :يا إلهي! لماذا وضعت بترولنا تحت رمالهم؟!" وهنا تأتي أهمية هذه السابقة في ترسيخ المفهوم السليم والصحيح لشعار "بترول العرب للعرب". أن من حق الدول التي حباها االله بالثروة النفطية، بل من واجبها أن تستعمل هذه الثروة أولاً في تطوير بلادها وتشييد البنية التحتية لها في المقام الأول. وقد أتاحت عمليات التطوير لمواطني هذه الدول وغيرهم من العرب توافر رساميل ضخمة تبحث عن فرص استثمارية تنميها، وتحافظ عليها. ومن المعروف عن عرب الجزيرة العربية أنهم بطبيعتهم تجار، وتلك صفة ورثوها منذ القدم فهم أحفاد تجار طريق الحرير، ورحلة الشتاء والصيف... الخ وهم كغيرهم من المستثمرين حريصون على الحفاظ على أموالهم من العبث بها. وغني عن القول أن دولاً عربية أخرى كمصر والسودان والمغرب وتونس فيها فرص عظيمة للإستثمار لا ينقصها سوى التمويل، والتمويل موجود، ولكن تنقصه الثقة والشعور بالأمان من الفساد والإفساد. والخليجيون – كغيرهم من العرب – يبحثون عن الأمن الغذائي، ويبحثون عن أراض زراعية شاسعة في مصر والسودان وغيرها من الدول العربية التي أنعم عليها االله بالثروة المائية والأرض الخصبة. لا يعني ذلك أن الممول الخليجي يريد الإستحواذ على الأرض المستثمرة، وانما يريد فقط استثمار أمواله لفترة من الزمن للحصول على عائد عادل ومجزٍ، ولتوفير جزء من الأمن الغذائي لبلاده، بينما تستفيد البلاد المضيفة في تشغيل عدد كبير من الأيدي العاملة الوطنية، ثم يعود المشروع كله لأصحاب الأرض. دعنا نتصور لو أن الأموال السعودية التي تدفقت على تونس في اول عهد (بن علي) إستخدمت في استخراج المعادن المتوافرة تحت ترابها او تأسيس شركات للصناعات الصغيرة المساندة للصناعات الكبرى في اوروبا بحكم موقعها الجغرافي : اذاً لأصبح اقتصاد تونس من اقوى اقتصادات العالم العربي ولاصبحت تونس قبلة لمزيد من الاستثمار. هذه السابقة اذاً نفخت الحياة في (الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الاموال العربية في البلاد العربية) التي ولدت قبل وقتها، اذ لم يكن الوقت مناسباً لتطبيقها. ان فكرة محكمة الاستثمار العربية التي نص عليها الفصل السادس من الاتفاقية خطوة كانت متفائلة جداً لا يمكن تطبيقها عملياً، الاّ بعد تطور العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية الى ما وصل اليه الاتحاد الاوروبي . ولكن (ملحق التوفيق والتحكيم) لهذه الإتفاقية يشكل الجانب العملي الذي تم على أساسه تشكيل هيئة التحكيم في هذه القضية. لقد أتاح هذا التحكيم فرصة لمساهمة "العبقريات السنهورية" التي تجلّت وحلّقت برجال القانون الى اجواء مزجت خلالها المفاهيم القانونية التقليدية الراسخة مع ما انتجه التطور الاقتصادي والتقني من تعريف دقيق لعقود الاستثمار الحديثة. لقد تجلّت عبقرية رجال القانون اثناء نظر هذه القضية وبرزت فيها اراء نفر من فقهاء القانون العرب المعاصرين من الجانبين (المدعي- والمدعى عليه). فقد كان لمساهمة كل من القاضي الدكتور برهان امر االله والدكتور هشام صادق تعبيراً عن حرص كل منهما على حماية مصالح طرفي عقد الإستثمار حرصاً على تنمية العلاقات الإقتصادية العربية/العربية. فقد احتوت اراء القاضي امر االله على نقلة فكرية الى (العالم/القرية) حيث اوضح اهمية التطور الذي طرأ على عقود الاستثمار حتى انتهى الى صيغة خاصة (ومتخصصة) هي صيغة .Build-operate-transfer (BOT) عقود اما الدكتور صادق فقد عبر عن مشاعر كل العرب عندما قال في دفاعه: "أن رئيس هيئة التحكيم لا يتولى محكمة عادية من محاكم القضاء الداخلي للدولة بمقتضى مجرد نصوص القانون الواجب التطبيق في شأنه، بل أن رئيسها عهد اليه رئاسة هذه الهيئة القضائية الدولية الخاصة وفقاً للإجراءات التحكيمية المنصوص عليها في إتفاقية عربية لتشجيع الإستثمار وانتقال رؤوس الأموال فيما بين الدول العربية – وهذا الإعتبار لن يمنع من إعطاء كل ذي حق حقه، وفقاً لنصوص القانون الواجب التطبيق في ضوء اعتبارات العدالة، إلاّ أن نصوص القانون في هذه الحالة لا تكفي، وانما يقتضي ادراك مقاصد هذه النصوص كما يفهمها هذا القضاء الخاص، وهذه المقاصد تسعى لمزيد من التعاون الإقتصادي العربي المشترك في المستقبل لا اغتيال هذا التعاون في مهده." ومن زاوية اخرى أقرت هذه السابقة مبادئ مثل سيادة المعاهدات والاتفاقيات الدولية على القوانين الوطنية. ومن هذه المبادئ الأخذ في الاعتبار -عند تحديد التعويض- ما فات المستثمر من ربح نتيجة لثبوت المسؤولية العقدية والتقصيرية. وقد استأنست هيئة التحكيم الى جانب السوابق التحكيمية التجارية الدولية – الى المبادئ التي اقرتها جهات متخصصة مثل مركز ( يونيدروا-UNIDROIT .( وفي الختام نؤكد أن هذه السابقة تعتبر خطوة ثابتة وشجاعة نحو بعث الحياة في اتفاقية مضى عليها ردح من الزمن وهي حبر على ورق . ان من شأن هذه الخطوة الشجاعة أن تبعث الأمل في مستقبل أفضل للاستثمار المتبادل بين الدول العربي إنها تعبر بصدق عن أمل ظل العرب يتطلعون إليه وهو إستثمار الثروة النفطية لتكون نعمة يتمتع بها الجميع. إنها خطوة عملية في الإتجاه الصحيح نأمل أن تتبعها خطوات. وفي سبيل إرساء قواعد التحكيم المؤسسي كوسيلة لحل الخلافات التي تنتج من إستثمار رؤوس الأموال العربية في البلاد العربية اتخذ المجلس الإقتصادي بالجامعة العربية قراراً بالموافقة على إنشاء مركز للتوفيق والتحكيم تكون مهمته فصل النزاعات التجارية. ونأمل أن تتم إجراءات تأسيسه ليكون ضماناً جديداً للمستثمرين والدول المضيفة على السواء. إن من أهم الدروس التي تعلمناها من هذه القضية هي أن إجراءات بيروقراطية غير مسؤولة في الدولة المضيفة قد تسبب مشاكل كبيرة تحرم بلادها من إستثمار واعد، بل تكبد ميزانية الدولة المضيفة أموالاً طائلة لإصلاح ما أفسدته قرارات موظفين صغار لا يدركون مدى خطورة ما يفعلون. أمر آخر يخشاه المستثمرون هو ما يتعلق بتنفيذ أحكام التحكيم وقراراته. لذلك فإن الدول العربية الموقعة على (الإتفاقية الموحدة لإستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية) يجب أن يوقعوا على ملحق آخر يتعهدون بموجبه بتنفيذ أحكام التحكيم الخاصة بالإستثمار، وذلك لتلافي أي نكول عن تنفيذ أحكام التحكيم، وهي مشكلة تعاني منها الآن شركة سعودية هي شركة (دلة) المعروفة التي حصلت على أحكام تحكيم ضد الحكومة الباكستانية من غرفة التجارة الدولية ICC في باريس، وتنازعت المحاكم البريطانية والمحاكم الفرنسية على تنفيذها– إذ أقرت المحاكم الفرنسية تنفيذ تلك الأحكام بينما امتنعت المحاكم البريطانية عن تنفيذها.