: أولا : مدى تمتع حكم التحكيم بالحجية في الفقه الإسلامي
يعالج الفقه الإسلامي حجية حكم التحكيم تحت مفهوم لزوم التحكيم ، وداخل هذا المفهوم ينبغي التمييز بين لزوم اتفاق التحكيم بمعنى مدى الالتزام بالاستمرار في التحكيم بعد سبق الاتفاق على تسوية النزاع عن طريقه وبين لزوم حكم التي بمعنى ما يتمتع به حكم التحكيم من حجية تجاه الأطراف والمحكم..
وفي خصوص مدی لزوم اتفاق التحكيم فإن الغالب من كتب الفقهاء يفيد عدم إلزاميته ؛ ولذا يبيحون لأي من طرفيه العدول عنه متى حدث هذا العدول قبل إصدار الحكم، وإن كان البعض حمل هذا على إباحة عزل المحكم بالإرادة المنفردة لأي من المحتكمين مع بقاء اتفاق التحكيم قائما ، وذلك إعمالا لمبدأ احترام العقود و الوفاء بالتعهدات ، ولأن القول بغير ذلك يجعل من العقد عبثا.
هذا، ومن ناحية لزوم حكم التحكيم ومدى حجيته فقد اختلف الفقه الإسلامي بين مؤيد ومعارض على النحو التالي: ١- الاتجاه المنكر لحجية حكم التحكيم
قصر بعض الفقهاء حجية الأحكام على ما يصدر منها عن القضاء في نطاق الولاية الشرعية للقاضي وبعد اتباع الضوابط المقررة لإصدار الأحكام ، ورفضوا بذلك إسباغ الحجية على حكم المحكم ؛ وبذلك لا ينفذ عمل إلا إذا رضيا الطرفان واتفقا على تنفيذه ، ويمكن إجمال الحجج التي قال بها أنصار هذا الاتجاه فيما يلي:
أ- لا يتولى المحكم الفصل في النزاع إلا برضاء الخصوم ، ولأن الحكم الصادر من المحكم يستند إلى هذا الرضا فلابد من دوامه واستمراره حتى يصدر الحكم ويتم تنفيذه ، فالحكم كان متوقفا على رضائهما ابتداء فوجب وقف نفاذ الحكم على رضائهما في الانتهاء .
ب- حكم المحكم كالفتوى ليست في ذاتها ملزمة بل هي اجتهاد يجوز العمل و بمقتضاها أو رفض العمل بها.
ج- التحكيم ليس كالقضاء وحكم التحكيم ليس كحكم القاضي - الولاية العامة فيكون ملزما رغما عن الخصوم ، بينما الأول يصدر من الاتفاق ؛ ولذا لا حجية له ولا إلزام إلا باستمرار الرضا والاتفاق.
يعد هذا الرأي المعارض لحجية حكم التحكيم مرجوحافي نظرنا، ولا تنهض حججه صامدة إذا ما أنشينا فيها سهام النقد ، ونحاول الرد على حجج هذا الرأي وتفنيدها على النحو التالي:
أ- إن استلزام الرضا لانعقاد ولاية الفصل في النزاع للمحكم لا يستتبع تطلب استمرار الرضا لنفاذ حكمه والالتزام به بل إن المنطق يؤكد العكس إذ إن التراضي على عرض النزاع على التحكيم يشتمل ويتضمن التراضي على الإذعان لما ينتهي إليه المحكم والالتزام به، بحيث يتسنى لنا القول بأن تقرير إلزامية حكم المحكم يعد إعمالا لاتفاق الأطراف على عرض النزاع على التحكيم وليس تجاوزا للاتفاق وتحميله بما لا يحتمل.
ب- لا يصح إنزال حكم الفتوى على التحكيم وذلك لأمرين:
الأول : أن طالب الفتوى يبحث عن معرفة الحكم الشرعي لمسألة معينة ، بينما الخصم في التحكيم لا يريد معرفة الحكم الشرعي بل يريد إنزال حكم الشرع علی المسألة المتنازع عليها، ومراد المستفتي يتحقق بمجرد إصدار الفتوى من المفتي ، بينما لا يتحقق مراد المحتكم إلا بتنفيذ حكم التحكيم.
الثاني : مقتضى الفتوى الجهل بحكم الشرع في أمر ما ، بينما مقتضى التحكيم حسم نزاع بالتوصل إلى حكم الشرع في هذا النزاع وتنفيذه.
. ج- نفي المماثلة بين القضاء والتحكيم لا يستلزم حتما نفي ترتيب آثار الحكم القضائي في خصوص حكم التحكيم ، فالاختلاف بينهما في الأساس والطبية يكفي قصر آثاره على اختلاف مجال كل منهما من حيث وجود بعض المسائل يجوز فيها القضاء دون التحكيم ، وقصر ولاية المحكم على النزاع محل الاتفاق رغم عموم ولاية القاضي لكل المنازعات ، بل إن كون التحكيم كالقضاء من حيث كونهما من وسائل فض المنازعات وحسم الخصومات يستتبع إقرار إلزامية حكم المحكم على نحو ما هو مقرر في شأن حكم القاضى لوحدة الوظيفة والغاية بينهما.
٢- الاتجاه المؤيد لحجية حكم التحكيم
اتجه جمهور فقهاء الشريعة الإسلامية إلى منح حكم المحكم ذات الحجية التي يتمتع بها الحكم القضائي، وذلك بالنسبة للمحكم والمحتكمين ، فالمحكم الذي أصدر الحكم لا يملك تعديله ولا الرجوع فيه وتنتهي ولايته التي أسندت إليه فور إصدار الحكم ، وفي شأن الخصمين لا يجوز لأيهما أن يتنصل من الحكم متى جاء موافقا للشرع، لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، ومتى جاء مراعيا للضوابط الشرعية في الحكم القضائي ، ويؤسس بعض الفقهاء هذه الحجية بقياس التحكيم على الصلح حيث أن الصلح ملزم لأطرافه، بينما يذهب غالبية أنصار هذا الاتجاه إلى تأسيس الحجية على إنزال قوة الحكم القضائي على حكم المحكم ، خاصة وأنهم يشترطون في المحكم نفس شروط تولي القضاء .
هذا وقد تعددت الحجج التي استند إليها أنصار هذا الاتجاه ، ومن خلال الاطلاع على كتبهم يمكننا إجمال هذه الحجج فيما يلي:
أ- يصدر حكم التحكيم من المحكم وله صفة القاضي بموجب اتفاق التحكيم فيكون له نفس إلزامية حكم القاضي ، والمقرر أن للحكم القضائي إلزامية لا يمكن التحلل منها إلا بطلب نقضه إذا لم يراع الأصول الشرعية.
ب- يعهد طرفا التحكيم إلى المحكم بالفصل في نزاعهما وهو يعد بمثابة صلح ومن المقرر إلزامية الصلح و عدم جواز الخروج عنه أو التحلل منه.
ج- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل فهو ملعونه"، والوعيد دليل على لزوم حكم التحكيم.
د- القول بعدم لزوم حكم التحكيم يجعل من التحكيم عبثا وينزع عنه جدواه ، إذ لا يتصور إصدار المحكم حكما يرضي الطرفين ، ولو أبيح لأحد الخصوم التحلل من الالتزام بحكم المحكم لتحلل من الزاميته كل محكوم عليه فلا يؤدي التحكيم وظيفته ل في حسم الخصومات.
راي الباحث :
أعتقد أن الأدلة والحجج التي قال بها جمهور الفقهاء في تأييد حجية حكم التحكيم ليست بمنأى عن المناقشة وذلك على النحو التالي:
١- القول بإنزال النظام الشرعي لحكم القاضي على حكم المحكم على سبيل القياس مردود عليه بأن القياس هنا مع الفارق ، وذلك لأن أصحاب هذا الرأي أنفسهم يفرقون بين ولاية المحكم -حيث يقصرونها على ما يجوز فيه الصلح - وبين ولاية القضاء - إذ إنها ولاية عامة وشاملة- فأقوالهم في تمييز التحكيم عن القضاء تحول دون قياس حكم التحكيم على الحكم القضائي من حيث الحجية.
۲- قياس التحكيم على الصلح أيضا قیاس مع الفارق ، لأن المفروض في الصلح أنه قد يتم بين طرفيه دون وسيط وقد يتم بتدخل وسيط يتولى الصلح، أما التحكيم فلا يتصور إلا بتوسط المحكم الذي يعهد إليه بمهمة الفصل في النزاع ، كما أن مضمون الصلح يقتضی تنازل كلا الطرفين عن جزء من مزاعمه وادعاءاته للتوصل إلى حل وسط ، وهذا يخالف تماما التحكيم والذي يتم فيه الفصل في النزاع إعطاء الحق لصاحبه دون نقصان.
ولذا فالصلح ينتهي إلى حل وسط يفيد كلا الطرفين إذ إنه يلبي بعض مزاعم وادعاءات كل طرف، أما التحكيم فينتهي إلى حكم قد يضار منه أحد الطرفين تماما ويفيد الطرف الثاني بصورة كاملة ، ومتى اختلف مضمون النظامين فلا يصلح إنزال إلزامية الصلح على التحكيم.
3- حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المشار إليه ليس فيه ما يدل على تعلقه بالتحكيم ، فقد يكون منصرفة إلى القضاء لا إلى التحكيم ، كما أن اللعنة الواردة في الحديث لا تقطع بإلزامية الحكم بل هي تخص إنكار العدالة فالجزاء قائم في ح ق شاهد الزور وهي من الكبائر - بل من أكبر الكبائر - ولم يقل أحد بإلزامية قول الشاهد ، والدليل متى تطرق إليه الاحتمال فسد به الاستدلال.
ورغم ذلك فإني أؤيد ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من تقرير الحجية لحكم التحكيم وذلك بالاستناد إلى حجتهم بأن نفي الحجية عن التحكيم يجعله غير ذي فائدة، وأضيف أن المحتكمين لا يلجأون إلى التحكيم إلا برضائهما وهذا الرضا يتمخض عنه اتفاق بعرض النزاع على التحكيم وهذا الاتفاق يقتضي أمرين هما:
الأمر الأول: الالتزام بعرض النزاع على التحكيم والمثول أمام المحكم.
الأمر الثاني: الالتزام بما ينتهي إليه المحكم من حكم ، بل إن الأمر الثاني أوجب من الأول ، لأن هذا الأخير وسيلة إليه ، فحجية حكم التحكيم إذن تتأسس - في اعتقادي- على القوة الملزمة للعقد وضرورة الوفاء بالعقود و عدم جواز التحلل منها بالإرادة المنفردة. هذا، ومن الجدير بالذكر أن جمهور الفقهاء - وهم المؤيدون لحجية حكم التحكيم - يعطون حكم المحكم ذات حجية الحكم القضائي ، وعلى ذلك لا نقض هذه الحجية باتفاق طرفي النزاع كأن يتفق طرفي خصومة التحكیم على اعادة الامر الى سابق عهده.
ودون توقف على صدور أمر بتنفيذه ، وجاء القانون المصري مقررا ذات المبدأ في المادة 55 من قانون التحكيم ۲۷ لسنة 1994 ولكن بشرط صدور الحكم طبقا لأحكامه ، أي أن يتفق الأطراف على تطبيق القانون المصري على التحكيم الذي يجري بالخارج حتى يعترف للحكم الصادر في هذا التحكيم بالحجية على أرض مصر ، وقد سار القانون الكويتي في ذات الاتجاه وذلك وفقا لنص المادتين ۱۹۹ ، ۲۰۰ من قانون المرافعات الكويتي.
يتمتع حكم التحكيم إذن بحجية تتفق مع حجية الحكم القضائي في العديد من الأوجه ولكنها تتميز عن هذه الحجية في بعض أحكامها ، فنجد حجية حكم التحكيم تتشابه مع حجية الحكم القضائي في الجانبين السلبي والإيجابي للحجية، بينما تختلف معها في مدى تعلقها بالنظام العام حيث يجوز للخصوم طرح حكم الت ... جانبا و عرض النزاع على تحكيم آخر أو تسوية النزاع على خلاف ما قرره حكم التحكيم.