فقهاء الشريعة فى بيان الأساسي الذي يقوم عليه مبدأ الحجية على اتجاهين
الاتجاه الأول : وهو رأى الجمهور على ما ذكره القرافي أن الأخذ بمبدأ حجية الحكم ، يرجع أساسه إلى قاعدة فقهية وهي المصلحة ، فإن حمل الحكم في الظاهر على الصحة يرمى الى تحقيق وهی الحفاظ على ولاية القضاء وصيانتها ، من كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تعطيل القيام بمهامها في فض المنازعات وفصل الخصومات ، ويؤدي إلى تدعيم ثقة الناس بولاية القضاء ، اذ لو أتيح نقض الحكم بدون سبب شرعي لتوالي النقض ونقض النقض الى مالا نهاية ، وهذا يؤدى الى عدم وثوق أحد بالقضاء ، وبالتالي عزوف الأفراد عنه ، لعدم تلبية رغباتهم في قطع منازعاتهم وخصوماتهم وتحقيق لهم ، بل على النقيض من ذلك ، سيؤدي الى بقـاء التنازع والتشاجر والتناحر ، وهذا من شأنه أن يؤدى الى أن تحل الأهواء وسلطان القوة محل القضاء في فصل الخصومات مما يؤدى الى اشاعة الفوضى ، وعدم الاستقرار في التعامل ، والى أن يسود الظلم بدلا من العدالة ، وبالتالي فوات المصلحة التي نصب القضاء من أجلها ولا يخفى ما في ذلك من اعتداء على حق الشارع في اقامة العدل بين الناس عن طريق القضاء.
ويقول القاضي اسماعيل من علماء المالكية : « ويحمل القضاء على الصحة ما لم يثب الجور وفي التعرض لذاك ضرر بالناس ، ووهن بالقضاة ، فإن القاضي لا يخلو من أعداء يرمونه بالجور فاذا ذات أو عزل ، قاموا يريدون الانتقام منه بنقض أحكامه ، فلا ينبغي للسلطان أن يمكنهم من ذلك » .
بل ان عدم الأخذ بحجية الأحكام من شأنه أن يؤدى ، الى عدم تمكين القاضي من القيام بمهامه في مواجهة الخصومات الحادثة أمامه ، والفصل فيها ، اذ أنه لو أبيح للقاضى تعقب أحكام من قبله بدون سبب شرعي لأدى ذلك إلى تعطيل الفصل في الخصومات الحادثة ولو جزئياً وبقاء التشاجر والتخاصم وهذا مما لا يخفى ضرره ، بل ان تعقب أحكام القاضي من قبل غيره يحمل قدحاً في القضاة ووهنا بهم وامتهانا يجب صيانتهم عنه .
الاتجاه الثاني : وهو رأي الامام القرافي من المالكية ، ويرى أن الله سبحانه وتعالى جعل للحكام ـ لعلمهم وجلالتهم ـ انشاء الأحكام في مواضع الاجتهاد وبحسب ما يقتضيه الدليل عنده ، أو عند امامه اذا كان مقلدا ، فهو منشىء لحكم الالزام فيما يلزم والاباحة فيما هو مباح ، وذلك لضرورة درء الفساد ، والفصل في الخصومات لما في ذلك من المصلحة العامة ، وأن الاجماع قد انعقد على اعطائهم هذا الحق فالاجماع على أن حكم الله سبحانه وتعالى في مواضع الاجتهاد ، هو ما حكم به القاضي .
وبهذا نرى أن مبدأ الحجية في الشريعة يستند الى قاعدة فقهية وهي قاعدة المصلحة ، والتي تقضى بدرء كل مفسدة من شأنها أن تؤثر في منصب القضاء كولاية عامة ، مترتبة على إعطاء حق نقض حـكم القاضي ، بغير دليل يرجح نقضه : سواء مترتبة على عدم الوثوق بمنصب الاستقرار في الأحكام الشرعية والذي يترتب عليه عدم الاستقرار في التعامل ، وهذه يستوى فيها الحكم سواء كان صادرا في مواضع الاجتهاد أو في غير مواضع الاجتهاد.