الفصل في المنازعات سواء كان بطريق القضاء أو باللجوء إلى التحكيم يبقى عملا بشريا عرضة للخطأ، وبقدر ما يصيب القضاء من صحة تطبيق القانون ويحقق العدالة بقدر ما تستقر أحوال الناس وتطمئن نفوسهم، ولكن أحكام القضاء والتحكيم لن تلقى قبول الكافة في جميع الأحوال، بل سيكون دائما معارضون وسيناكف الكثير ممن تضرر من صدور تلك الأحكام.
حجية حكم المحكمين:
يرتب حكم التحكيم آثارا مهمة بالنسبة لأطراف النزاع تتمثل في التزامهم بعدم عرض النزاع الذي فصلت فيه هيئة التحكيم من جديد على القضاء نظرا لتمتع هذا الحكم بحجية الأمر المقضي منذ صدوره.
التزامهم بتنفيذ هذا الحكم تنفيذا اختياريا. لكن في بعض الحالات لا يتم هذا التنفيذ الاختياري، مما يضطر معه المحكوم لصالحه اللجوء إلى التفيذ الجبری بعد تصديق حكم التحكيم وإصدار أمر بتنفيذه من الجهة القضائية المختصة.
ويتمتع حكم التحكيم بحجية الأمر المقضي به بمجرد صدوره وقبل صدور الأمر بتنفيذه حتى لو كان قابلا للطعن فيه، وتبقى هذه الحجية ببقاء الحكم وتزول بزواله ، ويترتب على هذه الحجية منع الخصوم من عرض
ذات النزاع الذي فصلت فيه هيئة التحكيم على القضاء أو التحكيم مجددا، الومنعهم من مناقشة ما قضت به هذه الهيئة إلا بالطرق التي حددها القانون.
ومن أهم الاعتبارات التي تقوم عليها الحجية والتي تعد من أهم خصائص الحكم القطعي، وضع حد للمنازعات بمنع تجددها، وهذه الاعتبارات تتطلبها المصلحة الخاصة والعامة، لأن استمرار المنازعات يؤدي إلى عدم استقرار الحقوق والمراكز القانونية وتعطيل المعاملات بين الناس، والأهم من ذلك تناقض الأحكام في الخصومة الواحدة.
وإذا اتفقنا بأن حكم التحكيم يحوز حجية الشيء المحكوم فيه، فإن تلك متعلق بالنظام العام، إذ يجوز للخصوم في حال رفضهم الحكم النزاع الاتفاق على تجاهله، وإعادة طرح النزاع على ذات هيئة أو هيئة جديدة، دون أن يكون لها الحق بأن تقضي من تلقاء نفسها بعلم قول طلب التحكيم استنادا إلى حجية حكم التحكيم السابق صدوره.
وإذا تم اللجوء إلى القضاء لإعادة طرح النزاع الذي فصلت فيه هيئة التحكيم، فلا يجوز للمحكمة أن تقضي من تلقاء نفسها بعدم قبول نظر الدعوى السبق الفصل فيها بالتحكيم، وإنما يجب أن يتمسك المحكوم لصالحه بحجية حكم التحكيم، والسبب في ذلك يرجع إلى أن قانون التحكيم يمنح حكم التحكيم الحجية حماية للمصالح الخاصة للخصوم، وليس حماية للمصلحة العامة المرتبطة بحجية الأحكام القضائية، الصادرة عن إحدى سلطات الدولة، بينما حجية أحكام التحكيم لا علاقة لها بالدولة نظرا لعدم صدورها عن إحدى هذه السلطات.
ونعتقد بأن احترام إرادة أطراف اتفاق التحكيم في مدى قبولهم بحكم التحكيم أو اتفاقهم على تجاهله والعودة مجددا إلى قضاء الدولة الرسمي للفصل فيه، يتعلق بحقهم الدستوري الذي يكفل حق التقاضي، فلو تعلقت حجية حكم التحكيم بالنظام العام، لوجب على المحكمة أن تقضي بنفسها بعدم قبول الدعوى لسبق الفصل فيها تحكيميا رغم اتفاق الأطراف على تجاهل حكم التحكيم، وهو ما يترتب عليه ضياع حقهم في التقاضي الذي كفلته دساتير العالم.
ولكن الحجية التي يتمتع بها حكم التحكيم تختلف من حيث مدلولها | والنتائج التي تترتب عليها عن نظيرتها التي يحوزها الحكم القضائي، فالتحكيم مهما اقترب من القضاء في غايته المتمثلة بالفصل في المنازعات، إلا أنه يبقى في حقيقته عقدا ملزما للجانبين، وحكم التحكيم وإن أطلق عليه اصطلاحا ا (حكم) إلا أنه يبقى مجرد تحديد لمحتوي اتفاق التحكيم بمعرفة غير المتعاقدين، فأساس التحكيم هو إرادة الأطراف في حل النزاع بعيدا عن تبعات الدعوي القضائية، وما تخلفه في النفوس، ولذلك تتجه رغبة الأفراد في حل نزاعهم الطريق ودي يكون عن طريق إحلال تقدير شخص ثالث (المحكم) محل تقديرهم وقبولهم لهذا التقدير.
نطاق حجية احكام التحكيم
الحكم يكون باطلا إذا فصل في مسألة لا يشملها اتفاق ) التحكيم، أو تجاوز حدود الاتفاق وفصل فيما لم يعرضه عليه الخصوم وتطبيقا للنطاق الموضوعي لحجية حكم التحكيم، إذا كان الذي فصلت فيه هيئة التحكيم هو ذات النزاع الذي تم إعادة طرحه من الخصوم على القاضي أو على هيئة التحكيم بهدف الفصل فيه من جديد، أمكن للخصم الآخر طلب رد الدعوى لسبق الفصل فيها بالتحكيم، أما إذا كان هذا النزاع المعروض مختلفا عن النزاع الذي سبق الفصل فيه، فلا يكون لهذا الحكم حجية مانعة من نظر النزاع الجديد والفصل فيه.
. فأثر التحكيم يقتصر حتما على ما انصرفت إليه إرادة المحتكمين بشأن النزاع المبتغى عرضه على هيئة التحكيم، ومن ثم فإن إتفاق الأطراف تهو الذي ينشئ التحكيم ويرسم نطاقه ويحدد إجراءاته، ويمثل الأساس الذي ينهض عليه قرار هيئة التحكيم. ويرتب اتفاق التحكيم (شرطا كان أو مشارطه) متى نشأ صحيحا: أثرا سلبيا مؤداه إقصاء خصومة معينة عن اختصاص القضاء فيتعين على المحكمة التي يرفع إليها نزاع ويوجد بشأنه اتفاق تحكيم أن بعدم قبول الدعوى إذا دفع المدعى عليه بذلك قبل إبداء أي طلب أو في الدعوى، وكذلك هو الحال تماما في حالة صدور حكم التحكيم، فإذا
المدعى عليه بسبق الفصل في النزاع بالتحكيم وجب على المحكمة الاعتداد بحجية حكم التحكيم.
ونعتقد أن ذلك يكشف لنا مدى أهمية تحديد نطاق حجية حكم التحكيم من حيث الموضوع، لأنه بناء على ذلك يتحدد الموضوع الذي لا يجوز عرضه على القضاء لسبق الفصل فيه بالتحكيم، وهو ما يكشف لنا أيضا أهمية اشتراط صدور حكم التحكيم بشكل واضح لا يثير اللبس فيما فصل فيه وفيما لم يفصل فيه، لأن ذلك يترتب عليه سقوط حق دستوري مكفول للكافة بالتقاضي، وأطراف اتفاق التحكيم إنما أرادوا النزول عن طريق القضاء الرسمي والتنازل عن حق التقاضي في نزاع معين ومحدد، فإذا صدر حكم التحكيم فاصلا في ذلك النزاع، امتنع عرضه على القضاء مرة أخرى بموضوعه لسبق الفصل فيه إذا دفع المحكوم لصالحه بذلك، ومن باب أولى لا يتم عرضه على التحكيم مرة أخرى.
مدی حجية حكم التحكيم من ناحية الأشخاص:
حجية حكم التحكيم لا تقتصر على موضوع النزاع، بل تشمل أيضا أطراف النزاع الذي عرض على التحكيم وفصل فيه بحكم قطعي، وذلك يقودنا إلى الحديث عن شرط وحدة الخصوم حتى يمكن تفعيل حجية حكم التحكيم ويمكن معها الدفع بسبق الفصل في النزاع، ويعني هذا الشرط أن الحجية كأثر الحكم التحكيم ليست مطلقة بل نسبية الأثر، تتصرف فقط إلى أطراف الدعوى دون غيرهم، فمن يعد من الغير بالنسبة للدعوى التي تم الفصل فيها ليس طرفا فيها، ولا يجوز التمسك في مواجهته بالحجية، وتقتصر حجية الحكم على الخصوم بصفاتهم التي اشتركوا بها في الخصومة.
وحكم التحكيم شأنه في ذلك شأن الحكم القضائي لا تكون له حجية إلا بالنسبة للخصوم أنفسهم، فهو كالعقد لا يسري أثره إلا في حق من كان طرفا فيه ولا يمتد هذا الأثر إلى الغير. فلا يحاج بالحجية إلا بين الخصوم أنفسهم دون ممثليهم فيها، إذ أن ممثل الطرف لا يعتبر طرفا في الخصومة والعبرة بتحديد الخصم هي من حيث صفته لا من حيث شخصه، أي أن المقصود بوحدة الخصوم هو اتحادهم بصفاتهم وليس بأشخاصهم. ولذلك يشترط لتحقق وحدة الخصوم أن يظهروا في الدعوى الجديدة بنفس الصفة التي كانت لهم في الدعوى التي سبق الفصل فيها، فالحكم الذي يصدر في دعوى يرفعها الوكيل يحوز الحجية بالنسبة للأصيل، ولا يجوز لهذا الأخير أن يرفع دعوى جديدة بشأن ما سبق الفصل فيه لأنه طرف في النزاع السابق.
ما عليه تقتصر حجية الشيء المحكوم فيه على أطراف الخصومة ولا موال إلى الغير، فتلك الحجية ليست مطلقة بل هي نسبية من حيث خاص، فلا تفيد ولا تضر غير الخصوم الحقيقيين في الدعوى. وهذا يقودنا إلى فكرة (الطرف) الخصم الحقيقي ومتى يمكن القول بأن شروط الدفع الحجية تحقق فعلا، لأن الفقه الحديث أضاف ما يكن تسميته شرطا جديدا الدفع بالحجية وهو مدي الالتزام بمبدأ المواجهة، وذلك على التفصيل التالي:
رأينا في مسألة حجية حكم المحكمين :
تقول محكمة التمييز الكويتية بأن وجود الخصومة يبدأ بإيداع صحيفة الدعوى إدارة كتاب المحكمة، ويظل معلقا على شرط إعلانها إلى المدعى عليه إعلانا صحيحا، فإن تخلف هذا الشرط ولم يحضر المدعى عليه أمام المحكمة حتى صدور الحكم الابتدائي، لم تنعقد الخصومة لعدم تحقيق مبدأ المواجهة بين الخصوم.
ونعتقد بأنه ليس من العدالة أن يحوز الحكم – سواء صدر من القضاء أو من هيئة تحكيم – الحجية ما لم يكن كل خصم قد علم بما حسمته الجهة المعروض عليها النزاع وأبدی دفاعه بشأنه أو مكن على الأقل من العلم قبل صدور الحكم، وإذا كان مبدأ المواجهة مفترض أساسي في عمل القاضي وهو يستند إلى قانون المرافعات، فإن هذا المبدأ يجب يكون نبراس عمل المحكم وهو المتحلل غالبا من قيود القانون الإجرائي، ولما كان حق الدفاع حق مقدس الأن غايته هي تحقيق المساواة في المراكز الإجرائية للخصوم، فإن اختلال هذه المساواة إنما هو اختلال للعدالة بأكملها.
وبستقراء نصوص قانون التحكيم المصري ۲۷ لسنة ۱۹۹4، نجد و أحسن عملا عندما تشدد في تطبيق مبدأ المواجهة على إجراءات التحكيم، فقد نصت المادة (۲6 تحكيم مصري) على حق الخصم في تقديم ما الوعد وجهة نظره وحق الخصم الآخر في الإطلاع على ما قدمه خصمه المناقشته، وحق كل خصم في مناقشة عناصر الواقع والقانون التي يطرحها المحكم من تلقاء نفسه، وقد أوجبت المادة (۳۱ تحكيم مصري) بأن ترسل صورة مما يقدمه أحد الطرفين إلى هيئة التحكم من مذكرات أو مستندات أو أوراق أخرى إلى الطرف الآخر، وكذلك ترسل إلى كل من الطرفين صورة من كل ما يقدمه إلى الهيئة المذكورة من تقارير الخبراء والمستندات وغيرها من الأدلة، وأيضا. فالفقرة الأولى من المادة (۳۳) من قانون التحكيم تبرز بوضوح مدى تصميم المشرع المصري على إعمال مبدأ المواجهة على الوجه المنشود حيث تقضي بأن تعقد هيئة التحكيم جلسات مرافعة لتمكين كل من الطرفين من شرح موضوع الدعوى وعرض حججه وأدلته، كما تضيف الفقرة الثانية من نفس المادة بأنه يجب إخطار طرفي التحكيم بمواعيد الجلسات والاجتماعات قبل وقت كاف، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أن الفقرة الأولى من المادة (36 تحكيم مصري) تقرر بأنه في حالة استعانة هيئة التحكيم برأي خبير، فإنها ترسل إلى الطرفين صورة من قرار تحديد مهمته، وأخيرا تجدر الإشارة إلى أنه لا يكفي لإعمال مبدأ المواجهة إخطار الخصوم بمواعيد الجلسات فقط بل يجب على هيئة التحكيم أن تتحقق من صحة الإخطار، وإلا أمرت بإعادته قياسا على الخصومة القضائية مادة 85 مرافعات مصری.