الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • حكم التحكيم / أثار حكم التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 29 / مستجدات الرقابة القضائية على إحترام حكم التحكيم للنظام العام في فرنسا ومصر

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 29
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    213

التفاصيل طباعة نسخ

مقدمة:   

1. تتضمن جل قوانين التحكيم الوطنية - أسوة بقانون اليونسترال النموذجي واتفاقية نيويورك. نصاً يجعل من مخالفة النظام العام مانعاً يحول دون تنفيذ حكم التحكيم أو سبباً من أسـباب بطلانه بحسب الأحوال. ومن ناحية أخرى، ثمة قاعدة قانونية أرساها القضاء في مختلـف الدول التي أصدرت قوانين تحكيم حديثة مؤداها أنه لا يجوز لقاضي البطلان أو التنفيـذ أن يراجع ما قضى به حكم التحكيم في الموضوع interdiction de la révision au fond، لأن من شأن ذلك الافتئات على قاعدة تمتع حكم التحكيم بقوة الأمر المقضي بـه، وجعـل قاضي البطلان أو التنفيذ هيئة استئنافية تفصل من جديد في النزاع الذي فصلت فيه هيئـة  التحكيم مع ما يترتب على ذلك من نتائج سلبية تهدد منظومة التحكيم في وجودها ذاته.

2.ويبين من تدبر التطبيقات القضائية في مختلف الدول أنه لا سبيل لتعايش القاعدتين سالفتي الذكر دون أن تطغى إحداهما على الأخرى. وبعبارة أخرى، هل نشجع القاضي علـى أن يمارس رقابة متعمقة بأن يراجع حكم التحكيم من حيث صحة تطبيقه للقواعد الموضـوعية المتعلقة بالنظام العام، وذلك بغية التأكد تأكداً تاماً من أن أي حكم تحكـيم ستوضـع عليـه الصيغة التنفيذية سيكون متفقاً على نحو لا شك فيه مع النظام العام، أم ننشد من القاضي أن يلتزم حدود رقابة شكلية سطحية على توافق حكم التحكيم. من ظاهر الأوراق. مع النظـام العام، وذلك خشية أن تصير الرقابة القضائية المتعمقة للنظام العام منفذاً لإعادة النظر فـي كيفية فصل هيئة التحكيم في موضوع النزاع الأمر الذي من شأنه الحد من فاعليـة حكـم التحكيم وقابليته للتنفيذ؟ هذا التساؤل كان مطروحاً في فرنسا، وكانت الإجابة عنـه محـل خلاف شديد بين أولئك الذين يخشون أن تؤدي الرقابة القضائية السطحية إلـى أن يـساء استغلال التحكيم، بحيث يضحي حقلاً خصباً لمن يبغي الافتئات على قواعد النظام العـام، وهؤلاء الذين يخافون رقابة متسعة على حكم التحكيم تؤدي عملياً إلى مراجعته موضـوعياً بإسم النظام العام، مما قد يؤثر على قابليته للتنفيذ، ويجعل من قضاء الدولة جهة استئنافية لحكم التحكيم.

3. وقد سبق، وأن تناولنا هذا الموضوع في بحث سابق نشر في مصر عـام 2011 بمجلـة التحكيم العربي، ولاقى البحث المذكور استحساناً، ومن ثم رأينا إعادة نشره في هذه المجلة المرموقة ذائعة الانتشار في العالم العربي لتعميم الفائدة، مع تحديثه بما طرأ على الرقابـة القضائية محل البحث من مستجدات لاحقة على عام 2011.

4. وسوف نتطرق فيما يلي لمدى تعمق تلك الرقابة القضائية على النظام العـام فـي فرنسا وموقف الفقه الفرنسي في هذا الخصوص وما طرأ من مستجدات (المبحث الأول) قبـل أن نتناول الوضع في مصر وما جد بشأنه (المبحث الثاني).

المبحث الأول

مدى تعمق رقابة القاضي الفرنسي على النظام العام

5. ينقسم كل من الفقه وأحكام القضاء في فرنسا إلى فريقين أحدهما يناصر مـذهب الرقابـة القضائية في حدها الأدنى le controle minimaliste في ما يتعلق باحترام حكم التحكيم للنظام العام (ويشار إليها فيما يلي بـ "رقابة الحد الأدنى") بينما ينـادي الأخـر باعتنـاق مذهب الرقابة القضائية في حدها الأقصى le contrôle maximaliste في هذا الخصوص (ويشار إليها فيما يلي بـ"رقابة الحد الأقصى"). ونوضـح منعـاً للالتبـاس أن هـذين المصطلحين يشيران إلى وجود فارق في الدرجة، فالأخيرة أكثر تعمقاً من الأولـى ففــــي الحالتين فإن كلا المذهبين يسلمان بحظر مراجعة حكم التحكيم، من حيث ما قضى به فـ الموضوع. وإذا كانت الرقابة السطحية هي السائدة. في الغالـب الأعـم. لـدى القـضاء الفرنسي، فثمة اتجاه فقهي مناهض لها الأمر الذي يقودنا إلى عرض مذهب الرقابـة فـي حدها الأدنى في المطلب الأول من تلك الدراسة على أن نتبع ذلك بشرح مذهب الرقابة في حدها الأقصى في المطلب الثاني.

المطلب الأول

الرقابة القضائية في حدها الأدنى

6. يقوم مذهب الرقابة القضائية في حدها الأدنى على أنه فيما عدا حالات الإخـلال الواضح الجلي بالنظام العام violation flagrante de l'ordre public يمتنع على القاضى أن يراجع أي عنصر من عناصر الواقع أو القانون التي استند إليها المحكم في حكم التحكيم، وحتى في الحالة التي تثار فيها قواعد أو مبادئ متعلقة بالنظام العام، فإن الرقابة القـضائية على عدم تعارض حكم التحكيم مع النظام العام يتعين أن تظل في حدودها الدنيا أي أن تبقى سطحية.

7. وتعد قضية تأليس ضد يوروميسيل Thales c / Euromissile أشهر القضايا التي طبـق القضاء الفرنسي بمناسبتها مذهب رقابة الحد الأدنى، الأمر الذي يجدر معه ذكـر وجيـز لوقائع النزاع الذي شجر بين الشركتين.

فقد أبرمت الشركتان عقدين: أولهما عقد ترخيص بموجبه منحت شـركة تـاليس شـركة یورومیسیل ترخيصاً بإنتاج الصاروخ 1-VT في مقابل حق استئثاري حـصـري مـزدوج double exclusivité بالنسبة للتصنيع والبيع، وثانيهما عقد ترخيص أيضاً، ولكنه متميـز عن الأول ويمنح شركة يوروميسيل حقوقاً استئثارية حصرية فـي مـا يتعلـق بتصنيع الصاروخ سالف الذكر.

 وإثر النزاع الذي نشب بين الشركتين – والذي أحيل إلى التحكيم – طلبت شـركة تـاليس فسخ العقدين. ويلاحظ أنه طوال إجراءات التحكيم لم تثر قط مسألة مدى اتفاق أو تعارض العقدين مع قانون المنافسة. وصدر حكم تحكيم جزئي برفض طلبات تأليس، ثم حكم تحكيم نهائي بإلزامها بتعويض شركة يوروميسيل. طعنت شركة تأليس بالبطلان على حكم التحكيم الثاني- أي الحكم المنهي للخصومة – وتمسكت للمرة الأولى منذ بدء النزاع ببطلان عقـد الترخيص لإخلاله بقانون المنافسة الخاصة بالاتحاد الأوروبي، وعلى وجـه الخـصوص، المادة 81 من الاتفاقية CE، ومن ثم فإن حكم التحكيم يكون باطلا لمخالفته النظـام العـام الدولي، إذ كان يتعين على المحكمين أن يقضوا من تلقاء أنفسهم ببطلان عقـد التـرخيص المخالف للنظام العام.

وقد أضافت شركة تأليس – شارحة دعواها – أن إحجام هيئة التحكيم عن القضاء بـبطلان هذا العقد قد أدى إلى "ترتيب آثار عقد مخالف للنظام العام الدولي" بأن قضت بـالتعويض لصالح شركة يوروميسيل، جبراً لضرر، مصدره التزام سببه غير مشروع، فتمكنت شركة یوروميسيل بذلك من جني ثمرات تقسيم الأسواق بالمخالفة لقواعد حماية المنافسة المتعلقـة بالنظام العام.

8. بيد أن محكمة استئناف باريس قد طرحت جانباً إدعاء شركة تأليس مخالفة حكـم التحكـيم للنظام العام الدولي، وذلك بموجب حكمها الشهير الصادر بجلسة 18 نوفمبر 2004. وقد أستست محكمة استئناف باريس قضاءها على أن "اللجوء إلى الدفع بالنظام العـام الـدولي، عملاً بالمادة 1502 (5) من قانون الإجراءات المدنية الفرنسي لا يكـون سـائغاً، إلا فـي الحالة التي يكون فيها تنفيذ حكم التحكيم مصطدماً – على نحو غيـر مقبـول - بنظامنـا القانوني، بحيث يشكل الإخلال مخالفة صارخة violation manifeste لقاعـدة قانونيـة أساسية أو لمبدأ جوهري".

وبعد أن ردد قضاء محكمة باريس المبدأ القائل بأن محكمة البطلان ليست هيئة استئنافية أضاف أن:

"مخالفة النظام العام الدولي في مفهوم المادة 1502 (5) من قانون الإجـراءات المدنيـة الفرنسي يجب أن تكون واضحة وفعلية effective وملموسة concrete".

9. ويتفق أنصار كل من مذهب رقابة الحد الأدنى ومذهب رقابة الحد الأقصى علـى نـسبية النظام العام الدولي، بمعنى أنه يشترط لإبطال حكم التحكيم أو لرفض تنفيـذه أن تكـون مخالفته للنظام العام الدولي مخالفة فعلية وملموسة.

10. ويقصد بالمخالفة الفعلية أن يكون لها أثر حقيقي. وبناء عليه ينبغي على قاضي البطلان أن يرفض إبطال حكم التحكيم المتضمن محض أخطاء في تطبيـق القـانون طالمـا أن هـذه الأخطاء غير ذات أثر حقيقي على النظام العام. وهكذا فإن حكم التحكيم الـذي ينتهـ بطريق الخطأ في القانون- إلى إبطال عقد ما رغم أن العقد غير مشوب بأي عيـب، فـإن حكم التحكيم لا يكون قد خالف النظام العام، وإن كان قد أخطأ في تطبيق القانون. وعلـى العكس يعتبر مخالفاً للنظام العام حكم التحكيم الذي ينتهي إلى صحة عقد ما رغم أن ســبب هذا العقد – وفقا لصحيح القانون هو في حقيقته سبب غير مشروع. ففي هـذه الحالـة الأخيرة فقط نكون بصدد مخالفة فعلية للنظام العام.

11. بيد أن المخالفة الفعلية للنظام العام لا تكفي وحدها للقضاء ببطلان حكم التحكيم أو بـرفض تنفيذه، بل يجب أيضاً – حتى وفقاً لمذهب رقابة الحد الأقصى - أن تكون هناك مخالفـة ملموسة concrete للنظام العام بمعنى ألا نكون بصدد محض مخالفـة شـكلية مجـردة. ولمزيد من التوضيح نعرض بإيجاز لقضية Grands Moulins de Strasbourg والتي طعن على حكم التحكيم الصادر فيها بالبطلان لمخالفة النظام العام الدولي، وعلـى وجـه الخصوص، القرار الوزاري المؤرخ 14 يونيو 1982 بمنح تعويضات للمـستوردين إثـر تخفيض قيمة الفرنك الفرنسي، وذلك بغية تفادي ارتفاع أسعار تلك الـسلع المستوردة داخل فرنسا، إذ قضى حكم التحكيم بإعمال أثر الاشتراطات التعاقدية التي خالفت القـرار الوزاري المشار إليه. وعندما عرضت القضية على محكمة استئناف فرساي قـضـت فـي حكمها الصادر بجلسة 2 أكتوبر 1989، برفض الطعن بالبطلان تأسيساً على أن الإخلال المزعوم "شكلي محض"، وأنه لا ينطوي على انتهاك " فعلي وملموس – في هـذه الحالـة بعينها – للنتائج المنشودة والأهداف المبتغاة من لائحة داخلية متعلقة بالنظام العام".

آية ذلك أن المستورد قد حصل على مستحقاته عشية تخفيض قيمة الفرنك الفرنسي، ومن ثم فهو لم يصب بأي ضرر يلزم معه تعويضه بالمبالغ المنصوص عليها بـالقرار الوزاري الذي خالفه حكم التحكيم.

12. وإذا كانت الطبيعة الفعلية والملموسة لمخالفة النظام العام الدولي محل اتفاق في فرنسا، فثمة خلاف بين أنصار رقابة الحد الأقصى وأنصار رقابة الحد الأدنى حول الطابع الصارخ أو الظاهر caractère manifeste ou flagrant لمخالفة النظام العام الدولي، حيث يستلزم الأخير للقضاء ببطلان حكم التحكيم لمخالفة النظام العام الدولي الفرنسي أن تكون مخالفـة النظام العام مخالفة ظاهرة أو صارخة، في حين يرى أنصار رقابة الحد الأقـصـى أنـه لا يلزم للقضاء ببطلان حكم التحكيم أو لرفض تنفيذه أن تكون مخالفة النظام العام واضحة، إذ تكفي في نظرهم أن توجد مخالفة فعلية وملموسة للنظام العام.

ولمزيد من فهم مذهب رقابة الحد الأدنى سوف نعرض أولاً لأحكام القـضاء وآراء الفقـه التي حددت مضمونه، ثم نتناول ثانياً الحجج والأسانيد المؤيدة لهذا المذهب.

أولاً- مضمون رقابة الحد الأدنى:

13. يتبين من مطالعة أحكام القضاء الفرنسي أن ثمة نزعات أو اتجاهات ثلاثة لرقابـة الحـد الأدنى.

يتمثل الاتجاه الأول في أن تقتصر الرقابة القضائية على التثبت من أن المحكم قد أخذ قواعد النظام العام بعين الاعتبار دون التطرق إلى مدى صحة تطبيق المحكم لتلك القواعد. ومـن أمثلة ذلك ما انتهت إليه محكمة استئناف باريس – والتي أيدتها محكمة النقض - مـن رفض الطعن بالبطلان المؤسس على الادعاء بمخالفة الحكم لقواعد قانون حماية المنافسة الخاص بالاتحاد الأوروبي. فقد اكتفى القضاء الفرنسي بتقرير أن المحكم قدّر أن العقـد لا يخالف قانون حماية المنافسة دون أن تمتد تلك الرقابة القضائية إلى بحـث مـا إذا كانـت النتيجة التي انتهى إليها المحكم صحيحة من عدمها، إذ إن ذلك مما يتجاوز نطـاق رقابـة الحد الأدنى.

أما عن الوجه الثاني من أوجه رقابة الحد الأدنى فيتمثل في اقتصار الرقابة القضائية علـى عـدم تعارض "الحل النهائي للنزاع مع النظام العام الدولي الفرنسي دون النظـر إلـى القواعد الآمرة أو قواعد النظام العام التي طبقها المحكم. فالمقصود - في رأينا – أن تكون الرقابة مقصورة على أثر الحل النهائي المحكوم به لا على التكييف القانوني الذي أدى إلى هذا الحل النهائي. ويمكن ذكر حكم محكمة استئناف باريس الصادر بتاريخ 27 أكتـوبر 91994، كمثال على هذا الوجه الثاني. ففي هذا الحكم قضت محكمة استئناف باريس بـأن الرقابة على احترام حكم التحكيم للنظام العام الدولي الفرنسي "- والتي تستبعد معهـا كـل مراجعة لحكم التحكيم من حيث الموضوع – يجب أن تتناول الحل النهائي للنزاع لا تقدير المحكمين لحقوق الأطراف في ما يتعلق بقواعد النظام العام المثارة، بحيث لا يبطل حكـم التحكيم، إلا إذا كان تنفيذه هو الذي يؤدي إلى الإخلال بالنظام العام الدولي". وقد تـواتر القضاء الفرنسي على ترديد هذه الحيثية في العديد من أحكامه. ويترتب على اعتناق هـذا الوجه الثاني من أوجه الرقابة القضائية في حدها الأدنى أن قاضي البطلان لا يراقب صحة التكييف القانوني للعقد بمعرفة المحكم. فعلى سبيل المثال، إذا اختلف طرفا الـشجار علـى التكييف القانوني للعقد محل النزاع بأن رأى أحد الطرفين أن العقد يعد عقد بيع، بينما تمسك الطرف الآخر بأن العقد يعد عقد تقديم خدمات، وكان لتكييف العقد بأنه بيع أو تقديم خدمات أثر مختلف من حيث خضوعه أو عدم خضوعه لقواعد حماية المنافسة المتعلقـة بالنظـام العام، فإن قاضي البطلان أو التنفيذ لا يستطيع أن يراقب صحة هذا التكييف القانوني.

فكما يقول الفقيه إيريك لوكان – منتقدا هذا المذهب – فإن القاضي بتسليمه بما انتهى إليـه حكم التحكيم من تكييف قانوني وتقدير للوقائع، فإنه – أي قاضي البطلان - يكون قد اجتزأ "برقابة ظاهرية" une apparence de contrôle.

أما عن الوجه الثالث من أوجه رقابة الحد الأدنى فقوامه ألا يتم إبطال أو رفض تنفيذ حكم التحكيم المخالف للنظام العام الدولي الفرنسي، إلا إذا كانت المخالفة ظـاهرة أو صـارخة manifeste، وذلك على أن تراعي – دائماً – قاعدة حظر مراجعة حكم التحكيم، من حيث الموضوع. وبالإضافة إلى الحكم الصادر في قضية تأليس Thales سالفة الذكر فقد تواترت أحكام محكمة استئناف باريس خلال السنوات الخمس الأخيرة على اعتناق هذا الوجه الثالث من أوجه رقابة الحد الأدنى، آخرها الحكم الصادر بجلسة 22 أكتوبر2009. وقد أكدت محكمة النقض الفرنسية في حكمها الصادر في قضية SNF بجلسة 4 يونيو 122008 هـذا النهج حين قضت بأنه:

"في ما يتعلق بمخالفة النظام العام الدولي، فإن المحكمة - باعتبارها ليست قاضي النـزاع، ولكن قاضي الحكم، فإنها لا تمارس [......] بشأنه سوى رقابة ظاهرية" extrinseque وأن "هيئة التحكيم – والتي تختص بلا ريب بنظر المسائل المتعلقة بقانون المنافسة - قـد أوضحت في أسباب حكمها] توافق العقد مع أحكام المادتين 81 و 82 من اتفاقية الاتحـاد الأوروبي CE – سواء في ما يتعلق بمجموع الوقائع والأسانيد القانونية التي عرضها عليها الخصوم، أو في ما يخص قضاء محكمة العدل الأوروبية"، وأنه "في ما يتعلـق بـالإخلال بالنظام العام الدولي فإن الاعتراف بحكم التحكيم أو تنفيذه يكون منظوراً من قبـل قاض البطلان من حيث اتفاق الحل النهائي للنزاع مع ذلك النظام العام والذي تقتصر الرقابـة على احترامه على الطابع الظاهر والفعلي والملموس للمخالفة المزعومة".

14. والمقصود بالطابع الظاهري extrinseque لرقابة الحد الأدنى اقتصاره على الحل المحكوم به حسماً للنزاع دون التطرق إلى استدلالات المحكمين وأسباب حكمهم وطريقـة تطبيقهم وتفسيرهم لقواعد النظام العام.

ولذلك، فإننا نرى أن استلزام أن تكون مخالفة النظام العام صارخة هو النتيجة المترتبة على الطابع الظاهري لرقابة الحد الأدنى، إذ إن الرقابة السطحية الظاهرية لا يمكن أن تكـشف سوى عن المخالفات الصارخة للنظام العام دون المخالفات التي يحتاج كشفها إلى تحقيـق متعمق وتمحيص دقيق. ويمكن وصف المخالفة الصارخة أو الظاهرة Flagrante للنظــام العام الدولي بأنها تلك التي "تخرق الأعين".  Crève les yeux فهي مخالفة "واضـحة" Claire لا تقبل النقاش بحيث تظهر بمجرد قراءة حكم التحكيم دون حاجة إلـى أن يبـذل قاضي البطلان أو التنفيذ ثمة جهد ذهني وتحليل اقتصادي أو قانوني للاستدلال علـى وجود تلك المخالفة أو إحالة الأوراق الى التحقيق أو الخبراء للتوصل إلـى وجـود تلـك  المخالفة. وبناء عليه، فإن اعتناق مذهب رقابة الحد الأدنى سيترتب عليه تعذر إبطـال أو رفض تنفيذ أحكام المحكمين التي قضت بحل مخالف لقوانين حماية المنافسة بالنظر إلى ما يستلزمه الكشف عن مثل تلك المخالفة من ضرورة قيام قاضي البطلان أو التنفيـذ بإحالـة الأوراق إلى التحقيق أو ندب خبراء يقومون بإجراء دراسة للسوق والقيام بتحليل اقتصادي متعمق. بيد أنه إذا تبين لقاضي البطلان أو التنفيذ - من واقع قراءته لحكم التحكـيم  أن هيئة التحكيم قد أقرت بوجود مخالفة لقوانين المنافسة – أو لأي قواعد أخرى متعلقة بالنظام العام – ولكن أحجمت، رغم ذلك، عن فرض الجزاء المدني المناسب - كـالحكم ببطلان العقد – وذلك أياً يكن سبب الإحجام، فإن حكم التحكيم يكون قد خالف النظام العام مخالفـة صارخة.

ونضرب مثلاً لذلك الفرض نادر الحدوث في قضية التحكيم الإنجليزية الشهيرة "سليماني"، والذي يعد حكم التحكيم الصادر فيها من أبرز أمثلة المخالفة الصارخة للنظـام العـام. إذ ذكرت هيئة التحكيم صراحة في حكمها أن العقد محل النزاع غير مشروع لكونـه مخالفـاً للقوانين الإيرانية بشأن مكافحة التهريب الجمركي. بيد أن هيئة التحكيم لم تحكـم بإبطـال العقد رغم عدم مشروعية سببه – على النحو السالف ذكره – لكونه متفقاً مع أحكام الشريعة اليهودية واجبة التطبيق على النزاع، وقد رفض القضاء الإنجليزي تنفيـذ حكـم التحكـيم الصادر في قضية "سليماني" لمخالفته النظام العام، إذ إن من الظاهر بوضوح أن تنفيذ هذا الحكم كان سيؤدي إلى إضفاء مشروعية على عقد مخالف مخالفة صارخة للنظام العام.

15. وتجدر الإشارة إلى أن رقابة الحد الأدنى لا تجتزأ برقابة منطـوق حكـم التحكـيم، وإلا أضحت الرقابة على احترام النظام العام غيـر منتجـة، وغيـر فعالـة علـى الإطـلاق ineffective، إذ إن المنطوق لا يكفي وحده للإفصاح عن المخالفة الصارخة للنظام العام، إن وجدت، إذ يلزم أن تستطيل الرقابة – ولو في حدها الأدنى – إلى الحل الذي قضى بـه حكم التحكيم حسما للنزاع، ولا يمكن الاستدلال على هذا الحل، إلا من قـراءة كـل مـن المنطوق والأسباب التي أدت إليه.

فالحكم بالتعويض على أحد الطرفين – حسبما قد يدون بمنطوق حكم ما – لا يعتبر في ذاته مخالفة للنظام العام، بل يجب أن يثبت، فضلاً عن ذلك – من واقع قراءة أسباب الحكـم - أن ذاك التعويض المحكوم به ناتج من إعمال أثر عقد غير مشروع أحجمت هيئة التحكـيم عن إبطاله رغم ثبوت عدم مشروعيته بشكل صارخ وواضح. ومع ذلك – وعلـى سـبيل الاستثناء نادر الحدوث – فإن المنطوق قد يكشف وحده – دون حاجة الى قراءة الأسباب - عن مخالفة صارخة للنظام العام، كما هو الحال لو قضت هيئة التحكيم على أحد الطـرفين بغرامة جنائية.

16. وعلى سبيل الاستثناء، فإنه وفقاً لمذهب "رقابة الحد الأدني" يتم الخروج على مبدأ الرقابـة الظاهرية في حالتين، بحيث تتعمق فيهما الرقابة، وذلك على النحو الذي أوضحته محكمـة استئناف باريس في حكمها الصادر في قضية تاليس.

أولى هاتين الحالتين هي المخالفة الظاهرة أو الصارخة Flagrante للنظام العام، ومـن أمثلتها الإخلال الصارخ بقانون حماية المنافسة، كما هو الحال بالنسبة للاتفاقيات التي تنص صراحة على اقتسام الأسواق وتحديد الأسعار، والمعروفـة باسـم cartel hard core. وتوضيح ذلك أنه في مرحلة أولى تكون الرقابة القضائية ظاهرية extrinséque حتى إذا ما تبين أن ثمة مخالفة صارخة للنظام العام، فإنها تستحيل إلى رقابة متعمقة بغية التثبـت أنه توجد أيضاً مخالفة فعلية وملموسة للنظام العام تبرر إبطال حكم التحكيم أو رفـض تنفيذه، وحتى يقوم قاضي البطلان أو التنفيذ بإدراج تقديره للوقائع وللقانون في أسباب حكمه وتبرير ما قام به – استثناء على الأصل - من إعادة النظر في تقـدير المحكـم للوقـائع وتطبيقه القانون.

أما عن الحالة الاستثنائية الثانية التي يجيز فيها أنصار مذهب رقابة الحد الأدنى أن تكـون تلك الرقابة القضائية أكثر تعمقا فهي الحالة التي تشكل فيها مخالفة النظام العام المدعى بها "انتهاكاً جسيماً يعكر السلام الاجتماعي"، كما لو شكلت مخالفة النظام العام غشاً أو جريمة رشوة. والأمر كذلك بالنسبة للجوء إلى التحكيم كوسيلة لارتكاب جريمة غسل أموال. ففـي جميع تلك الأحوال يبيح أنصار مذهب رقابة الحد الأدنى – وعلى سبيل الاستثناء - أن تكون رقابة قاضي البطلان أو التنفيذ أكثر تعمقاً.

ثانياً- الأسس التي تقوم عليها رقابة الحد الأدنى:

17. يثور التساؤل عن العلة من اقتصار رقابة الحد الأدنى على رقابة ظاهرية كقاعدة عامة فيما عدا حالتي الغش والإخلال الصارخ بالنظام العام. ومن أجل تبرير الرقابة القضائية فـ حدها الأدنى على النحو السالف ذكره أتى كل من الفقه والقـضاء بالعديـد مـن الحجـج والأسانيد والتي تدور حول ثلاث أفكار رئيسية: الأولى أن رقابة الحد الأدنى تكفل فاعليـة التحكيم التجاري الدولي éfficacité de l'arbitrage، والثانية أنها تحمي مـصالح دولـة القاضي، والأخيرة أن تلك الرقابة تتفق وصحيح القانون، وسوف نعـرض لتسلـسل تلـك الأفكار الثلاث الواحدة تلو الأخرى على التفصيل الوارد أدناه.

1- كفالة تلك الرقابة لفاعلية التحكيم التجاري الدولي:

18. يبين من دراسة أحكام القضاء الفرنسي ومطالعة آراء الفقه أن الرقابة القضائية في حـدها الأدنى - على النحو السالف سرده – تلبي حاجات التجارة الدولية لكونهـا تكفـل فاعليـة التحكيم باعتباره الوسيلة المعتاد اللجوء إليها لفض منازعات تلك التجارة غير الوطنية.

وقد سيقت – للتدليل على ذلك – العديد من الأسانيد، وهي أن تلك الرقابـة تـحـافظ علـى الطابع النهائي لحكم التحكيم، وأنها أكثر ملاءمة للرقابة على أحكام التحكيم الصادرة فـي منازعات معقدة كتلك التي يثور بشأنها قانون المنافسة، فضلاً عن اتفاقها ومبدأ حسن النيـة الإجرائية، وذلك على التفصيل الآتي بيانه.

أ- عدم المساس بنهائية حكم التحكيم:

19. يرى أنصار مذهب الرقابة القضائية في حدها الأدنى أنه حتى إذا ما أثيـرت قواعـد ذات تطبيق ضروري18 Lois de police أو مبادئ من النظام العام يلـزم أن تبقـى الرقابـة القضائية على احترام حكم التحكيم للنظام العام في أضيق الحدود، وذلـك بـهـدف إعطـاء الأولوية لتنفيذ حكم التحكيم. وبعبارة أخرى لا يجوز للقاضي – وفقـا لهـذا المـذهب المساس بنهائية أحكام التحكيم Finality of arbitral awards إلا في الحالات الاستثنائية.

والمقصود بنهائية حكم التحكيم هو أنه بالنظر إلى تمتع تلك الأحكام بقوة الأمر المقضي فلا يجوز مراجعة ما فصل فيه المحكمون في شأن موضوع النزاع.

ويعد حظـر المراجعـة الموضـوعية interdiction de la révision au fond قاعـدة إجرائية تواتر عليها القضاء الفرنسي في مجال الرقابة القضائية على احترام حكم التحكـيم للنظام العام، إذ أكدت محكمة استئناف باريس في أكثر من مناسبة على أن قاضي البطلان "ليس بجهة استثنائية"، وأنه "ليس قاضي النزاع الذي عرض على هيئة التحكيم"، بـل فـي حكمها الصادر في قضية تاليس الشهيرة، سالفة الذكر، قررت محكمة استئناف بـاريس الرقابة المخففة بأن "المخالفة المزعومة لقاعدة من قواعد التطبيـق الـضروري لا تجيـز الافتئات على القاعدة الإجرائية التي تحظر مراجعة الموضوع". ويضيف الفقه المؤيد لرقابة الحد الأدنى أن تدقيق الرقابة القضائية على احترام حكم التحكيم لقواعـد قـانون حمايـة المنافسة من شأنها أن تزيد من خطر الجنوح إلى مراجعـة حكـم التحكـيم، مـن حيـث الموضوع. فعلى غرار عزوف القضاء عن مراجعة صحة أسباب حكم التحكيم فإن مراجعة حكم التحكيم – حتى ولو كانت مقصورة على قواعد النظام العام – ينبغي أن تحظر كي لا تتم التضحية بما سبق، وأن ما حققه قانون التحكيم من مكاسب أدت إلى ازدهـار التحكـيم كوسيلة لتسوية جل منازعات التجارة والاستثمار الدوليين.

ب- رقابة أكثر ملاءمة لطبيعة المنازعات المعقدة:

20. يرى أنصار مذهب رقابة الحد الأدنى أنه في ما يخص المنازعات المعقدة، كتلك التي تكون متعلقة بقانون حماية المنافسة، تصعب ممارسة الرقابة القضائية فـي حـدها الأقـصى Contrôle maximaliste بشأن احترام حكم التحكيم للنظام العام.

إذ في هذه الحالة الأخيرة سيتحول قاضي البطلان أو التنفيذ حتما إلى قاضي موضوع وهو  أمر محظور. آية ذلك أن قانون المنافسة قد تطور وتحول من مجرد قانون قائم على محض قاعدة شكلية ناهية règle formelle de prohibition إلى نظام لضبط السوق بناء علـى التحليل الاقتصادي. وكقاعدة عامة يتعذر على كل من المحكم وقاضي البطلان أو التنفيـذ تطبيق قانون حماية المنافسة دون اللجوء إلى التدقيق المتعمـق لعناصـر واقعيـة وفيـرة وسريعة التطور. وبناء على ما سبق، فإن انحراف القاضي إلى رقابـة قـضائية قصوى ومتعمقة، بحيث تشمل إجراء مثل هذا التحليل الاقتصادي المعقد من شأنه أن يقلب طبيعـة تلك الرقابة القضائية رأساً على عقب. وقد عبرت محكمة استئناف باريس عن هذا الـرأي في حكمها المشار إليه والصادر في قضية تأليس Thales، إذ بـررت قـضاءها بـرفض إبطال حكم التحكيم على سند من أن "تقدير مدى احترام حكم التحكيم لقواعد النظام العـام المنصوص عليها بالمادة 81 من اتفاقية الاتحاد الأوروبي CE يستوجب إجراء بحث معمق للعقد محل النزاع وصولا إلى تدقيق ما إذا كان من شأنه إحداث آثار ضارة بالأسعار أو الإنتاج أو تجديد المنتجات أو تنوعها أو جودتها في مجال السوق المعني، والـذي ســيلزم تعريفه هو الآخر على أن تقيم على وجه الخصوص طبيعة المنتجات وحجم كل طرف من أطراف النزاع في السوق، وكذلك المشترين والمنافسين ووجود منافسين احتماليين ومستوى العوائق التي تحول دون الدخول في السوق". وبناء عليه، يرى الدكتور إبراهيم فضل الله أن تكليف قاضي البطلان أو التنفيذ بكل ما سبق يستتبع مطالبته بما يجاوز كثيـراً الرقابـة على حكم التحكيم المعروض عليه.

21. ومن ناحية أخرى، يرى أنصار مذهب رقابة الحد الأدنى أنه كلما كان النزاع الذي حـسمه حكم التحكيم معقداً – كما هو الحال في مجال حماية المنافسة مثلاً – تزداد احتمالات وقوع قاضي البطلان أو التنفيذ في الخطأ حال اضطلاعه برقابة متعمقة. وبعبارة أخـرى، فإنـه ليس صحيحاً أن تطبيق قاضي البطلان أو التنفيذ لقواعد النظام العام أو تفسيره إياها يكون دائماً أصوب من فهم المحكم الدولي لتلك القواعد، ولاسيما عندما تنظم قواعد النظام العـام مجالاً معقداً مثل حماية المنافسة الحرة. ويزداد هذا الخطر الذي يتهدد فعالية أحكام التحكيم وقابليتها للتنفيذ إذا ما وضعنا في اعتبارنا أن المحكم الدولي لا يستطيع دائماً أن يتنبأ مقدماً بالأنظمة القانونية والقضائية التي قد يطلب منها تنفيذ حكمه علـى أراضـيها أو يعتـرض أمامها على هذا التنفيذ.

22. ونتيجة لتلك العوائق والمثالب يرى جانب من الفقه في فرنسا أن الرقابة القضائية القصوى أي المتعمقة سوف تزيد من احتمالات إبطال أحكام المحكمين أو رفض تنفيذها – بحـسب الأحوال- لمجرد أن قاضي البطلان أو التنفيذ قد قدر أن المحكم قد أخطأ في تطبيق قاعدة من قواعد النظام العام أو القواعد ضرورية التطبيق lois de police، الأمر الذي تستحيل معه كل من دعوى البطلان وخصومة التنفيذ طعنا بالاستئناف على حكم التحكـيم، وذلـك بالمخالفة لاتفاقية نيويورك لعام 1958.

ج- رقابة الحد الأدنى تتفق ومبدأ حسن النية الإجرائية:

23. للوهلة الأولى بدأ حكم محكمة استئناف باريس الصادر في قضية تأليس Thales متكئاً على مبدأ حسن النية الإجرائية كسند لرقابة الحد الأدنى، إذ جاء في إحدى حيثيات ذاك الحكـ أن: "النزاهة وحسن النية الإجرائية في التحكيم التجاري الدولي يفرضان علـى الأطـراف الإفصاح عن طلباتهم في أقصر وقت ممكن [...] بما يحول دون التراخي في تقديم الطلبات بهدف عرقلة الإجراءات أو عن إهمال، في حين أن تلك الطلبات كانت واجبة الإبداء فـي تاريخ سابق أو كان يمكن إبداؤها مسبقاً .

وفي ذات المعنى يرى الدكتور إبراهيم فضل الله أن القانون لم يعهد إلى قاضي البطلان أو التنفيذ بحسب الأحوال – مهمة الفصل في الطلبات التي أغفلها المحكمـون أو التـصدر لطلب جديد لم يسبق إبداؤه أمام هيئة التحكيم، إذ إنـه بموجـب اتفـاق التحكـيم يخـتص المحكمون وحدهم -لا القاضي - بالفصل في النزاع بما في ذلك ما يتعلق ببطلان العقـد . وفي هذا الصدد أيد أحد الفقهاء الحكم الصادر في قضية تأليس Thales فيما قضى به من أن مهمة قاضي البطلان ليست "الفصل في موضوع نزاع معقد لم تسبق إثارته أمام المحكم أو الفصل فيه بمعرفة هذا الأخير". ويبدو أيضاً أن الفقيه توماس كلاي قد استند أيضاً إلـى مبدأ حسن النية الإجرائية حال مناصرته لمذهب رقابة الحد الأدنى طالمـا أن كـلاً من الأطراف والمحكمين، بل مركز التحكيم، قد عزفوا عن التمسك بمخالفة النظام العام طوال سير إجراءات التحكيم. ومن أجل ذلك فقد تساءل ذات الفقيه – في عجز تعليقه على حكـم تاليس Thales - متهكماً:

"كان بوسع محكمة الاستئناف أن تقول انها لا ترغب، وليس من حقها، ولا وقـت عنـدها، لكي تؤدي العمل الذي أبي الآخرون القيام به. فهل يمكننا حقاً لومها؟"

24. بید أنه تجنباً لحصر الرقابة القضائية وتضييق نطاقها أكثر من اللازم، بحيث تقتصر فقـط على الحالات التي تكون فيها مخالفة النظام العام قد أثيرت سابقاً أمام هيئة التحكـيم فقـد التفتت محكمة استئناف باريس عن الدفع المبدى من شركة يورومیسیل euromissiles المدعى عليها في دعوى البطلان – حيث ذهبت في حكمها الصادر فـي قـضـية تـأليس Thales إلى جواز إثارة مخالفة النظام العام الموضوعي لأول مرة أمام قاضي الـبطلان، ولو لم يسبق التمسك بها أمام هيئة التحكيم، ولاسيما أن قاضي البطلان لا يراقب سوى حكم التحكيم المطعون عليه دون نظر موضوع العقد محل النزاع، مما تختص به هيئة التحكيم.

25. وبوجه عام يخشى أنصار مذهب رقابة الحد الأدنى أن تؤدي الرقابة المتعمقة إلى ازديـاد الطعون بالبطلان على أحكام التحكيم بسوء نية بهدف الاستفادة من أثرها الواقف للتنفيذ في القانون الفرنسي l'effect suspensif.

2- حماية تلك الرقابة للمصلحة الوطنية:

26. يعترف أنصار مذهب رقابة الحـد الأدنـى أن الرقابـة القـضائية المتعمقـة – أي في حدها الأقصى- تبغي الحفاظ على المصالح التي تحميهـا القواعـد ضـرورية التطبيـق lois de police، وهي القواعد وثيقة الصلة بالنظام العام، بحيث تطبق حتماً على العلاقـة القانونية ذات العنصر الأجنبي – في نطاق مكاني معين – بالأولوية على القانون الـذي تشير إليه قاعدة الإسناد أو إلى جانب هذا القانون بحسب الأحوال. وأبرز مثـال للقواعـد ضرورية التطبيق هي قواعد النظام العام المقررة في قانون حماية المنافسة. فقـد يتفـق الطرفان على إخضاع عقد دولي ينفذ في فرنسا للقانون الإنجليزي، عملا بقاعـدة الإسـنـاد التي تجيز تطبيق قانون الإرادة على العقد الدولي. ومع ذلك يظل طرفـا العقـد ملتـزمين احترام قانون حماية المنافسة الفرنسي، لا قانون المنافسة الإنجليزي ـ وذلك لكون قواعـد حماية المنافسة المنصوص عليها في القانون الفرنسي من القواعد ذات التطبيق الضروري lois de police، والتي تسري على أي عقد ينفذ في فرنسا، ولو كان هـذا العقـد دوليـاً خاضعاً لقانون أجنبي كالقانون الإنجليزي.

ولكن في الوقت عينه، يرى فقه رقابة الحد الأدنى أن المصلحة من وراء الرقابة المتعمقـة - أي القصوى – على احترام حكم التحكيم للقواعد ضـرورية التطبيـق lois de police يجب ألا تسود على حساب أولوية السياسة المؤازرة للتحكـيم، اللهـم، إلا فـي الحـالات الاستثنائية. ويقوم هذا الرأي على فكرتين متكاملتين: أولاهما أن للتحكيم أهميـة حيويـة للدول، وثانيهما أن الفائدة المرجوة من رقابة الحد الأقصى maximaliste تتراجع لصالح تفعيل التحكيم efficacité de l'arbitrage.

أ. أولوية التحكيم بالنسبة للدول:

27. للدول مصالح اقتصادية تدفعها إلى تشجيع التحكيم من طريق تخفيف الرقابة القضائية على أحكام المحكمين. فمن ناحية أولى، يعد التحكيم عاملاً هاماً لتدعيم التجارة الدولية، والتـي تعتمد عليها الدول لمساندة أنشطتها الاقتصادية ومساعدة شركاتها في ظل عصر العولمـة. ومن ناحية ثانية، للدول مصالح اقتصادية في أن تضحى مقراً مـضيفاً للتحكـيم الـدولي والاستثمارات الأجنبية، بل تتنافس الدول بـشدة فـي هـذين المـضمارين. ومـن ثـم باتت الليبرالية تفرض نفسها على الدول في ما يتعلـق بـاحترام نهائيـة حكـم التحكـيم finality of awards وتمتعها بقوة الأمر المقضي به.

وللتحكيم الدولي مزية أخرى يشاطره فيها التحكيم الداخلي، ألا وهي تخفيف العـبء عـن محاكم الدولة. ومن أجل تلك المزايا سالفة البيان انضمت الدول إلى اتفاقيـة نيويورك، وقامت بتوسيع نطاق القابلية للتحكيم arbitrability، وقد ترتب على توسيع نطاق القابليـة للتحكيم أن أضحت الرقابة القضائية على احترام حكم التحكيم للنظام العام الـدولي رقابـة مخففة، وإلا سيتعذر تحقيق الأهداف المرجوة من اتفاقية نيويورك لعـام 1958. فالرقابـة المتعمقة على احترام حكم التحكيم للقواعد ضرورية التطبيق lois de police، ليست إذاً الثقل الموازن أو القوة الموازنة contrepoids لإتساع مجال القابلية للتحكيم، آية ذلـك أن الدول تعلم جيداً أن ذلك الاتساع سوف يصاحبه تنفيذ اختياري لعدد لا بأس به من أحكـام المحكمين، والتي بالتالي لن تخضع لرقابة قاضي البطلان أو التنفيذ. وبالمثل فإن الأحكـام الصادرة من مركز الإكسيد ICSID بواشنطن لا تخضع لرقابة القاضي الوطني، من حيث مدى احترامها للنظام العام.

فإذا كانت الرقابة على احترام حكم التحكيم للنظام العـام وللقواعـد ضـرورية التطبيـق lois de police ليست منهجية ولا إلزامية، فإن الرقابة القضائية القصوى maximaliste المتعمقة لتلك القواعد ليست كذلك من باب أولى.

وقد أجمل الفقيه دي بروزولـو di Brozolo وجهة النظر سالفة الذكر بقوله أنه في حالة جنوح قضاء الدولة إلى تعميق الرقابة القضائية على احترام النظام العام فسوف ينتهي الأمر بالدولة إلى أن تسترد بواسطة الرقابة القضائية ما سبق وأن تنازلت عنه سابقاً من خـلال توسيع نطاق القابلية للتحكيم، في حين أن "تخفيف الرقابة هو الثمن الذي لا يمكـن تجنـب سداده لقاء المزايا التي تحققها الدولة كأثر لقبولها التحكيم".

ب- تراجع الرقابة على القواعد ضرورية التطبيق لصالح تفعيل التحكيم:

28. بالنظر إلى عولمة الاقتصاد وانفتاح الأنظمة القانونية الوطنية تجاه الجهات القضائية البديلة لقضاء الدولة يرى أنصار مذهب رقابة الحد الأدنى أن الطابع الأمر دولياً للقواعد ضرورية التطبيق قد تراجع أو انحنى لصالح تفعيل التحكيم. وقد نتج من ذلك أن القواعد ضـرورية التطبيق لم تعد تندرج – إلا قليلاً – في النطاق الخاضع لرقابة قاضي الـبطلان أو التنفيـذ ودون أن تضار مصالح الدول من جراء الاستبعاد شبه الكلي لتلـك القواعـد، وهـو مـا سنوضحه في ما يلي على نحو أكثر تفصيلاً.

  • القواعد ذات التطبيق الضروري لا تعد كلها من النظام العام الذي على أساسه تراقب أحكـام المحكمين الدوليين:

29. يرى أنصار مذهب رقابة الحد الأدنى أن ما اصـطلح علـى تـسميته قواعـد البـوليس lois de police تنقسم في حقيقة الأمر إلى فئتين أولاهما قواعد البوليس ضرورية التطبيق d'application nécessaire، وثانيهمـا قواعـد بـوليس شــبـه ضـرورية التطبيـق .d'application semi-nécessaire

وتضم الفئة الأولى قواعد البوليس التي "تقتن مبدأ جوهرياً أو عالياً بالفعـل تـشترك فيـه غالبية الجماعة الدولية. كما تشمل أيضاً قواعد البوليس التي يـؤدي الإخـلال بـهـا إلـى تعكير السلام الاجتماعي. ومن الأمثلة التي تندرج تحت الفئة الأولى قواعـد البـوليس أو النظام العام التي تقضي بحظر الرشوة وتجريمها، وتلك التي تحظر وتجـرم مـا يسمى cartels hard core أي الاتفاقات الأفقية الهادفة إلى تقسيم الأسـواق وتحديـد الأسـعار إضرارا بالمنافسة. ويجمع الفقه على إدراج تلك القواعد الآمرة العليا سـالفة الذكر فـي مضمون النظام العام الدولي الذي على أساسه تراقب أحكام التحكيم بمعرفة قاضي البطلان أو التنفيذ.

 وعلى النقيض، فإن قواعد البوليس الأخرى التي لا يتوافر بشأنها أحد هذين الشرطين سالفاً الذكر تعد فقط ذات تطبيق شبه ضروري وتدخل ضمن الفئة الثانية، بما يعني أن طابعهما الأمر لا يكون سوى أمام القاضي الذي تقام أمامه الدعوى ابتداء للفصل في النزاع، وذلـك في الحالة التي لا يوجد فيها شرط تحكيم بينما تخرج عن نطاق رقابة قاضي الـبطلان أو التنفيذ بالنسبة للمنازعات التي صدر في شأنها حكم تحكيم. ومـن أمثلـة القواعـد شـبه ضرورية التطبيق نجد تلك المنظمة للاتفاقات الرئسية ententes verticales أو الاتفاقات الأفقيـة ententes horizontales المقيدة لحرية المنافسة حيثما تكون تلك الاتفاقات قابلة للإعفاء.

30. ويؤكد أنصار مذهب رقابة الحد الأدنى أن تلك القواعـد ذات التطبيـق شـبـه الـضروري quasi-nécessaire لا ينبغي أن تشكل جزءاً من النظام العام الدولي بمعناه المقـصـود فـي المادة 1502 (5) من قانون الإجراءات المدنية الفرنسي، وذلك لسببين يـرتبط كـل منهمـا بالآخر. فمن ناحية أولى، تغذي تلك القواعد نظاماً عاماً آخراً أكثر تشدداً وأكثر تقييداً للحرية التعاقدية من النظام العام الدولي الذي تراقب على أساسه أحكام التحكـيم الـدولي المطعـون عليها بالبطلان في فرنسا أو المراد تنفيذها فيها، ومن ثم فإن تلك القواعـد، والتـي يـكـون تطبيقها فقط شبه ضروري ـ قد لا تتلاءم كلية مع حاجات التجارة الدوليـة. ومـن ناحيـة أخرى، فرضت الليبرالية اللازمة لازدهار التجارة الدولية وعولمة العلاقات القانونية تضييقاً لنطاق النظام العام الدولي الذي على أساسه تراقب أحكام المحكمين الدولية، وبعبارة أخـرى، فإن القواعد ذات التطبيق شبه الضروري لا ينبغي أن تكون جزءاً من النظام العـــام الـدولي الذي على أساسه تراقب أحكام المحكمين الدولية، وذلك نتيجة لتطوره تجاه الاقتـراب، ممـا يسمى النظام العام الدولي الحقيقي Truly International Public Policy.

  • إخراج القواعد ضرورية التطبيق من دائرة النظام العام الدولي ليس فيه إضـرار بالمـصالح الوطنية للدول:

31. لن تترتب نتائج غير مقبولة من قبل الدول نتيجة عدم إدراج القواعد شبه ضرورية التطبيق في مضمون النظام العام الذي تراقب على أساسه أحكام التحكيم الدولي. فمن ناحية أولـى يتضح من استقراء السوابق التحكيمية أن المحكمين الدوليين يبغون إصـدار أحكـام قابلـة للتنفيذ، مما يدفعهم إلى تطبيق قواعد البوليس بنوعيها حيثما يكون هذا التطبيـق مـشـروعاً وسائغا. فقبول مشرعي الدول بقابلية التحكيم في المسائل التي تثير تطبيق القواعد ضرورية التطبيق أو قواعد البوليس وإخضاع هذا التطبيق لرقابة قضائية في حدها الأدنى لفتـرض بالتالي توافر الثقة في المحكم، وكذلك قدرته علـى أن يطبـق قواعـد البـوليس تطبيقـاً صحيحاً".  ومن ناحية ثانية، فإن عدم تطبيق قواعد البوليس بمعرفة المحكـم أو التطبيـق الخاطئ المزعوم لها لا يشكلان انتهاكاً لمبدأ جوهري، مما يدخل في التعريـف الـصحيح للنظام العام الذي تراقب على أساسه أحكام التحكيم. ومن ناحية ثالثة، فإن النظام العـام ذي النطاق الضيق سالف الذكر، والذي لا يشمل قواعد البوليس ذات التطبيق شبه الضروري، سيحول دائما دون تنفيذ أحكام التحكيم الدولية التي لم تبطل العقود المشوبة بعدم المشروعية مثل الإتجار غير المشروع بالمخدرات أو الإتجار بالبشر Human Trafficking.

ومن ناحية أخيرة، فإنه في الحالات التي يخالف فيها حكم التحكيم قاعدة من قواعد البوليس - مثل قانون حماية المنافسة – وبقاء تلك المخالفة بمنأى عن نطاق رقابة القاضي المخففة على احترام حكم التحكيم للنظام العام، فإن ذلك لن يـؤدي بالضرورة إلـى الإضـرار بالمصالح الجوهرية التي تحميها قواعد البوليس. آية ذلك أنه توجد بدائل للرقابة القصوى على احترام حكم التحكيم للنظام العام، وذلك من خلال ما تقوم به أجهزة حماية المنافسة من طلب الإطلاع على أحكام التحكيم في إطار التحقيقات التي تجريها للتأكد من أنها لم تخالف قوانين المنافسة المتعلقة بالنظام العام.

3- قيام رقابة الحد الأدنى على سند صحيح من القانون:

32. سعی أنصار رقابة الحد الأدنى إلى إثبات أن مذهبهم يستند إلى صحيح القانون، وفي هـذا الصدد ذكر هؤلاء أن تلك الرقابة المخففة على احترام حكم التحكيم للنظـام العـام تتفـق وأهداف اتفاقية نيويورك لعام 1958 الرامية إلى تشجيع اللجوء إلى التحكيم وتيسير سـبل الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها.  

كما استند أنصار هذا المذهب إلى عدة أسانيد قانونية تستقي مصادرها من صياغة التشريع (أ) قانون الاتحاد الأوروبي (ب) والقانون المراقب (ج) وذلك على النحو المفصل الفرنسي أدناه:

أ- الاستناد إلى أحكام التشريع الفرنسي:

33. تنص المادة 5/1502 من تقنين الإجراءات المدنية الفرنسي على جواز الطعـن بـالبطلان على حكم التحكيم الدولي "إذا كان الاعتراف بالحكم أو تنفيذه مخالفا للنظام العام الـدولي"، بينما تنص المادة 6/1484 من تقنين الإجراءات المدنية الفرنسي علـى إمكانيـة الطعـن بالبطلان على حكم التحكيم الداخلي "إذا خالف المحكم قاعدة من النظام العام".

وبالمقارنة بين هذين النصين يتضح أن الرقابة على احترام حكم التحكيم الدولي للنظام العام الدولي تكون أقل تعمقا من الرقابة على احترام حكم التحكيم الداخلي للنظام العام، آية ذلـك أنه في الحالة الأولى يكتفي قاضي البطلان أو التنفيذ بالحيلولة دون الاعتـراف أو تنفيـذ الأحكام المخالفة للنظام العام الدولي الفرنسي، في حين أنه في الحالة الثانية تتعمق رقابـة القاضي، حيث يقع على عاتقه – وفقاً لصياغة النص – مهمة التأكـد مـن أن المحكمـين أنفسهم قد طبقوا قواعد النظام العام تطبيقاً صحيحاً، ولم يخالفوها.

ب- الاستناد إلى النظام القانوني للاتحاد الأوروبي:

34. قضت محكمة العدل الأوروبية في القضية الشهيرة Eco Swiss بجلسة 1 يونيو 271999، بأنه "يتعين على المحكمة الوطنية التي تقام أمامها دعوى بطلان حكم تحكيم أن تحكم بقبول تلك الدعوى، إذا تبين لها أن حكم التحكيم مخالف للمادة 81 من اتفاقية الاتحاد الأوروبـي وفقا لقواعدها الاجرائية الداخلية – أن تقبـل طلـب الـبطلان CE طالما أنها ملتزمة المؤسس على مخالفة قواعد النظام العام الوطنية".

ويستفاد من ذلك الحكم الشهير أنه يلزم قضاء دول الاتحاد الأوروبي بـأن تراقـب عـدم تعارض أحكام المحكمين مع المادة 81 من اتفاقية الاتحاد الأوروبي CE في نفس الوقـت الذي يمنح فيه محاكم تلك الدول استقلالاً إجرائيـا Autonomie procédurale حـال ممارستها تلك الرقابة.

ويرى أنصار مذهب رقابة الحد الأدنى أن حكم Thales الذي أصدرته محكمـة اســتئناف باريس يتفق وموجبات الحكم الصادر في قضية Eco Swiss، آية ذلك أن مبدأ الاستقلال الإجرائي الذي طبقته محكمة العدل الأوروبية في قضية Eco Swiss على قاعـدة حجيـة الأمر المقضي به يمتد ليشمل جميع القواعد الإجرائية للقانون الداخلي بما في ذلك قاعـدة الرقابة المخففة أو رقابة الحد الأدنى.

ج- الاستناد إلى القانون المقارن:

35. بالإضافة إلى ما سبق نجد أن الفقهاء الفرنسيين وأنصار رقابة الحد الأدنى يـستندون إلـى أمثلة عديدة من القانون المقارن للتدليل على صحة مذهبهم وسعة انتشاره.

وأهم الأمثلة التي يمكن ذكرها في القانون المقارن حكم القضاء الأمريكـي الـصـادر فـي القضية الشهيرة Mitsubishi والذي قضت فيه بأن الهدف من الرقابة القضائية هو من أن "المصلحة المشروعة في تنفيذ قوانين حماية المنافسة قد روعيـت". وفـي الـسويد وبمناسبة نزاع متعلق بقانون حمايـة المنافسة بالاتحـاد الأوروبـي اعتنقـت محكمـة استئناف "سفيا" Svea في حكمها الصادر في 4 مايو 282005 معيار المخالفة الواضـحة Violation Flagrante للنظام العام عندما قضت بأنه "يمكن في الحالات الظـاهرة فقـط إثبات أن الحكم يخالف النظام العام لوجود انتهاك لقانون المنافسة". كما سـارت المحكمـة العليا النمساوية في ذات الاتجاه، وذلك في حكمها الصادر بتاريخ 23 فبراير 1998، فبعـد أن أكدت أن المادتين 85 و 86 القديمتين من اتفاقية الاتحاد الأوروبي تعدان مـن النظـام العام النمساوي، فقد طبقت المحكمة العليا النمساوية مبدأ استلزام أن تكون مخالفـة النظـام الـعـام violation manifeste، وحظرت المحكمة إعادة النظر في العناصـر الواقعيـة والقانونية التي أسس عليها المحكم حكمه التحكيمي.

المطلب الثاني

الرقابة القضائية في حدها الأقصى

36. وفقاً لمذهب رقابة الحد الأقصى، فإن رقابة قاضي البطلان أو التنفيذ تتعمق لتشمل عناصر الواقع والقانون المتعلق بالنظام العام، كما يرى أنصار هذا المذهب أن عزوف القضاة عن تلك الرقابة المتعمقة يجعل من الرقابة القضائية على النظام العام مجـرد رقابـة وهميـة illusoire أو رقابة على "التظاهر باحترام النظام العام .

وتجدر الإشارة إلى أن رقابة الحد الأقصى هي أساساً نظرية فقهية، ولم يطبقها القضاء، إلا في حالات قليلة، وعلى وجه الخصوص، حين يثار أن العقد محـل النـزاع باطـل لـعـدم مشروعية سببه لكون هذا العقد نتاج رشوة أو فساد بوجه عام. ففي مثـل هـذه الحـالات تقضي محكمة استئناف باريس بأن "السلطة المعترف بها للمحكم الدولي بأن يقـدر مـدى مشروعية العقد في ضوء القواعد المتعلقة بالنظام العام الدولي، وبأن يحكم بإبطاله في حالة عدم مشروعيته تترتب عليها – في إطار الرقابة التي يمارسها قاضي الـبطلان أو التنفيـذ على عدم تعارض الاعتراف بحكم التحكيم أو تنفيذه مع النظام العـام الـدولي – سـلطة القاضي في أن يقدر من حيث القانون والواقع جميع العناصر التي تبرر تطبيق قاعدة النظام العام الدولي وتقدير مدى مشروعية العقد في ضوء هذه الأخيرة".

وقد طبق القضاء الفرنسي مذهب رقابة الحد الأقـصـى حـين راقـب اختـصاص هيئـة التحكيـم في قضية هضبة الأهرامات، أي في مجال آخر خلاف احترام المحـاكم للنظـام العام.

وفي معرض تناول مستجدات الرقابة القضائية على احترام حكم التحكيم للنظام العـام الـدولي الفرنسي نشير إلى حكم محكمة استئناف باريس الصادر بتاريخ 23 أكتوبر 2012، دعوى بطلان حكم التحكيم الصادر في النزاع بين شركة دوم Daum ووكيلها التجـاري ف عدة دول عربية شركة ميشيل شلهوب، حيث بني الطعن بالبطلان على كون الاعتراف بـالحكم وتنفيذه من شأنهما مخالفة النظام العام الدولي الفرنسي على سند من القول بانتهاك حكم التحكيم قواعد تعويض الوكيل التجاري المنصوص عليها بالقانون الفرنسي واجـب التطبيـق، والتـى كرسها القانون الفرنسي امتثالا للائحة الاتحاد الأوروبي رقم CE 86- 683 -CEE.

بيد أن محكمة استئناف باريس رفضت الطعن تأسيساً على أنه لا يمكن القول بوقوع مخالفة للنظام العام الدولي الفرنسي في الحالة المعروضة عليها، إلا إذا كانت الوكالة التجارية تنفذ في إحدى دول الاتحاد الأوروبي، ألا وأن الوكالة التجارية تنفذ خارج الاتحـاد الأوروبـي ومن ثم فإن المخالفة هنا لا تعدو أن تكون مخالفة للنظام العام الداخلي الفرنسي، ممـا لا يكفي معه لإبطال حكم تحكيم دولي.

وتظهر أهمية حكم محكمة استئناف باريس سالف الذكر في أنه قـد طبـق رقابـة الحـد الأقصى، إذ لم يكتف بالقول بأن مسألة تقدير التعويض المستحق للوكيل التجاري هي مسألة موضوعية تخرج عن نطاق دعوى البطلان، وإنما مارس رقابة الحد الأقصى، وتأكـد أن القاعدة القانونية التي طبقها المحكم لا تخالف النظام العام الدولي الفرنسي، وإن خالفـت النظام العام الداخلي الفرنسي، وأوضح أن معياره في ذلك هو التفرقة بين تنفيـذ الوكالـة داخل الاتحاد الاوروبي أو خارجه.

وعلى أية حال فقد حدد الفقه الفرنسي مضمون رقابة الحد الأقصى، كمـا ذكـر الأسـانيد المؤيدة له، وذلك على النحو المفصل أدناه.

أولا- مضمون رقابة الحد الأقصى:

37. إذا كان أنصار رقابة الحد الأقصى يرون – وبحق – أن القواعد الآمرة المتعلقـة بالنظـام العام الداخلي لا تدخل – باستثناء النذر اليسير منها – في نطـاق النظـام العـام الـدولي الفرنسي، فإنهم لا يرون أن هذا الأخير يقتصر على القيم العالمية المشتركة، وإنما يؤكدون أن قواعد البوليس تدخل أيضاً في مفهوم النظام العام الدولي الفرنسي الذي يتعين على حكم التحكيم الدولي احترامه. وعلى الرغم من أن رقابة الحد الأقصى تعتبر أكثر تعمقـاً مـن رقابة الحد الأدنى، فإن الأولى تقف عند الحل النهائي للنزاع، ولا تمتد إلى أسباب الحكم في ذاته، وبعبارة أخرى يجب أن يكون الحل النهائي للنزاع متعارضاً مع النزاع العام. فإخلال المحكم بقاعدة من قواعد النظام العام أو من باب أولى وقوعه في خطأ في تطبيق القانون لا يكفي في ذاته لإبطال حكم التحكيم الذي أصدره أو لرفض تنفيذه. ومن أجـل ذلـك يـرى أنصار هذا المذهب أن ما ينطوي عليه من رقابة متعمقة لا يعتبر مـن قبيـل المراجعـة ي الموضوعية له، إذ إن تلك الرقابة لا تهدف إلى إعادة الفصل في النزاع الذي كان معروضاً على هيئة التحكيم، وإنما تقتصر على إعادة النظر فقط في عناصر الواقع والقانون المتعلقة بالنظام العام، ولا تتناول سوى الحل النهائي للنزاع. وتـشترك رقابـة الحـد الأقـصى مع رقابة الحد الأدنـى فـي أنهـا لا تتنـأول سـوى المخالفـة الفعليـة للنظـام العـام violation concrete effective. ولكن الفارق الهام بين المذهبين يكمن في أن أنـصـار مذهب رقابة الحد الأقصى ينتقدون اشتراط أن تكون مخالفة النظام العام ظاهرة أو واضحة flagrante ويرون أن حكم التحكيم يكون متعيناً إبطاله إذا كان حله النهائي للنزاع منطوياً على مخالفة جسيمة ومادية للنظام العام، وفقاً لأهداف قاعدة البوليس، وفي حـدود نطـاق تطبيقها المكاني. فهذا مثال يكون حال حكم التحكيم الذي يرتب أثراً لاتفـاق فيـه إخـلال بالمنافسة، بما يؤدي إلى التأثير سلباً على أسعار منتج من المنتجات لمدة سنوات عديدة.

وبالإضافة إلى فحص منطوق حكم التحكيم وأسبابه، فإن رقابة الحد الأقصى قد تمتد- عند وجود شك في تحقق سبب البطلان المؤسس على النظام العام – لتشمل الإطلاع على جميع المستندات المرفقة بحكم التحكيم، والتي قدمت في الدعوى. وفي الحالة التي تكـون فيهـا مخالفة النظام العام مثارة لأول مرة أمام قاضي البطلان، فإن رقابة الحـد الأقـصـى قـد تقتضي قيام قاضي البطلان أو التنفيذ بفتح تحقيق وسماع الشهود وطلب تقـديـم مـستندات وتقارير خبرة إضافية.

وعلى هدي ما سلف نادى بعض الفقهاء من أنصار مذهب رقابة الحد الأقصى إلـى أن تعرض دعاوي البطلان المتعلقة بمنازعات معقدة وفنية لدائرة يدخل في تشكيلها قاض واحد على الأقل يكون من المتخصصين في المجال المعني.

ثانياً- الأسس التي تقوم عليها رقابة الحد الأقصى:

38. من أجل تبرير رقابة قضائية أكثر تعمقا في ما يتعلق باحترام حكم التحكيم للنظـام العـام استند الفقهاء المؤيدون لمذهب رقابة الحد الأقصى إلى ثلاثة أسانيد رئيسية تتمثـل فـي أن تلك الرقابة المتعمقة لن تضر بالتحكيم التجاري الدولي، كما أنها تحمي في آن واحد مصالح كل من دولة القاضي والتحكيم، وأنها تتفق وصحيح القانون، وأخيـراً أنهـا الغايـة وراء استلزام تسبيب أحكام المحكمين، وذلك على النحو الآتي بيانه تفصيلاً.

أ- الرقابة المتعمقة ليست ضارة بالتحكيم:

39. يذهب الفقهاء المؤيدون لرقابة الحد الأقصى إلى أنهـا لـن تحـول دون تفعيـل التحكـيم L'éfficacité de L'arbitrage لأنها تختلف وتتميز عن المراجعـة الموضـوعية لحكـم التحكيم، ومن ناحية أخرى، يمتلك القضاة أدوات رادعة لمجابهة الطعون بالبطلان المنطوية على لدد في الخصومة، ومن ناحية أخيرة، ثمة طرق لعلاج الأخطاء القانونية التي يقع فيها قاضي البطلان أو قاضي التنفيذ.

1- الرقابة المتعمقة تختلف عن المراجعة الموضوعية:

40. يرى الفقهاء المؤيدون لمذهب رقابة الحد الأقصى أن هناك خلطا بين الرقابة المتعمقة التي ينادون بها وبين المراجعة الموضوعية لحكم التحكيم وينعون على أحكام القضاء الخلط بين الاثنين، بمعنى أنه كلما طلب من قاضي البطلان أو التنفيذ أن يعيد النظر في بعض عناصر الواقع والقانون التي انتهى إليها المحكم، والتي تكون وثيقة الصلة بالنظام العام، نجد القضاة يردون تلقائياً برفض تلك الرقابة على احترام النظام العام بذريعة أنه يحظر على قاضـي البطلان أو التنفيذ أن يراجع حكم التحكيم من حيث الموضوع، وذلك على الرغم مـن أن الرقابة القصوى على احترام حكم التحكيم للنظام العام تختلف عن المراجعة الموضـوعية، من حيث مجال تطبيق كل منهما، إذ إن الأولى استثناء على الأخيرة.

 

41. ويذهب الفقيه دولانوا Delanoy إلى أبعد من ذلك، إذ يرى إن الرقابـة المتعمقـة ليـست مجرد قيد أو استثناء على المراجعة الموضوعية، فهما يختلفان اختلافاً جذرياً. فالمراجعـة الموضوعية للحكم La révision au Fond تهدف إلى إعادة النظر في جميع عناصـر الواقع والقانون – سواء أكانت متعلقة بالنظام العام أم غير متعلقـة بـه – والتـي كـانـت معروضة على المحكم أي في القضية برمتها، كما لو كان المحكم لم يفصل في النزاع بعد، وذلك للتأكد من أن النتيجة التي وصل إليها المحكم في حكمه التحكيمي مطابقة تطابقاً تأمـاً للحل الذي كان القاضي سيحكم به لو كان النزاع معروضاً عليه ابتداء. وبالتالي، فإنه مـن حيث المنهج أو أسلوب الرقابة La méthode فإن رقابـة الحـد الأقصى والمراجعـة الموضوعية يشتركان في أنهما يقتضيان عدم تقيد قاضي البطلان أو قاضي التنفيذ بما انتهى إليه المحكم من تقدير لعناصر الواقع والقانون.

بيد أنهما يختلفان من حيث المدى والمنهجية méthodologie والهدف المبتغى. فالرقابـة القصوى على احترام حكم التحكيم للنظام العام تقف عند المجابهة بين الحل النهائي للنزاع الذي حسمه حكم التحكيم، من جهة، والمبادئ والقيم الجوهرية للمجتمع – أي النظام العام - من جهة أخرى. وبالتالي فإن إعادة النظر في بعض عناصر الواقع والقانون لا يكون لهـا محل، إلا فقط في الحدود اللازمة لإجراء تلك المجابهة سابقة الذكر. وعلى العكـس، فـإن المراجعة الموضوعية تفترض قيام قاضي البطلان أو التنفيذ بذات المجهود الذهني الـذي كان سيقوم به لو أن النزاع الذي فصل فيه المحكم كان معروضاً عليه ابتداء. كما أن تلـك المراجعة الموضوعية تستلزم إعادة فحص جميع الوقائع والمسائل القانونية، في حـين أن مهمة القاضي القائم بالرقابة القصوى على احترام حكم التحكيم للنظام العام تقتصر فقـط على إعادة النظر في الجوانب الخاصة المتعلقة بالنظام العام. فرقابة الحد الأدنى ذات نطاق أضيق بكثير من المراجعة الموضوعية المحظورة. ومن حيث المنهجية، فـإن المراجعـة الموضوعية للحكم تفترض في البداية أن هذا الحكم لا وجود له ولا قيمة لـه non avenu لحين قيام قاضي التنفيذ بالإفصاح أولاً عن رأيه القانوني بشأن عناصر النزاع الذي كـان معروضاً على المحكم الذي أصدر الحكم محل المراجعة. وبعد ذلك تـتم مقارنـة الـرأي القانوني الذي انتهى إليه قاضي التنفيذ بشأن النزاع والنتيجة التي انتهى إليها الحكم الذي تتم مراجعته، بحيث لا يعترف بالحكم ولا ينفذ، إلا إذا كان هناك تطابق بين الـرأي القـانوني الذي انتهى إليه قاضي التنفيذ في مراجعته للحكم، وبين ما قضى بـه الحكـم الـذي تـتم مراجعته، وذلك في ما يتعلق بجميع عناصر النزاع سواء ما كان متعلقا بالنظـام العـام أو كان منبت الصلة به.

وعلى العكس، فإن الرقابة القصوى على احترام حكم التحكيم للنظام العام تفترض أن حكم التحكيم صحيح من حيث المبدأ، وأن قاضي التنفيذ على استعداد لوضع الـصيغة التنفيذيـة على الحكم طالما أن الحل النهائي للنزاع، والذي انتهى إليه حكم التحكيم، ليس فيه إخـلال بالقواعد والقيم الجوهرية للمجتمع، والتي لا يمكن التنازل عن احترامهـا، أي ليس فيـه افتئات على النظام العام. وعلى وجه الخصوص، تختلف الرقابة القصوى عـن المراجعـة الموضوعية من حيث هدف كل منهما. فالمراجعة الموضوعية تهدف إلى التحقق مـن أن قاضي التنفيذ كان سينتهي إلى نفس النتائج القانونية، ويصدر ذات الحكـم الـذي أصـدره المحكم لو أن النزاع الموضوعي الذي فصل فيه كان معروضاً على قاضي التنفيذ ابتـداء. وعلى العكس، فإن الرقابة القصوى على احترام حكم التحكيم للنظام العام تفترض أن يقوم القاضي فقط بإعادة النظر في بعض عناصر الواقع والقانون التي فصل فيهـا المحكـم لا بهدف إعادة الفصل في موضوع النزاع الذي كان معروضاً على المحكم، ولكن فقط بهدف الفصل في دعوى البطلان أو طلب رفض التنفيذ المعروض عليه ودون أي مراجعة لصحة أو خطأ حكم التحكيم في تطبيقه للقانون.

2- وجود وسائل مانعة للطعون التعسفية:

42. يرى أنصار مذهب رقابة الحد الأقصى أن تعميق الرقابة على احترام حكم التحكيم للنظـام العام لن يؤدي إلى تضخم عدد الطعون التعسفية بالبطلان على أحكام المحكمين، وذلـك إذا لجأ القضاة – طبقاً للقانون – إلى الحكم بالتعويض وبالغرامة وبفوائد التأخير التي تـسري من تاريخ صدور حكم التحكيم، إذ إن هذه الوسائل من شأنها ردع أي طرف يتعسف فـي الطعن بالبطلان على حكم التحكيم دون أن يكون هناك ثمة سبب مـن أسـباب الـبطلان، ولاسيما مخالفة النظام العام.

3- تصحيح أخطاء قاضي البطلان أو التنفيذ من خلال رقابة محكمة النقض:

43. يعترف أنصار مذهب رقابة الحد الأقصى بإمكان تعرض قضاة البطلان أو التنفيذ للوقـوع أخطاء قضائية إذا ما قاموا بإعادة النظر في بعض عناصر الواقع والقانون التي انتهـي في إليها المحكم، والتي تكون وثيقة الصلة بالنظام العام.

بيد أن ذلك لا يبرر – في نظرهم – أن يكتفي القضاة برقابة شكلية غير متعمقة، آية ذلـك أن القضاة – باعتبارهم حراس النظام العام لوطنهم – يظلون أصحاب الاختصاص الأصيل برسم حدود التطبيق الصحيح لقواعد نظامهم العام الوطني. فضلاً عما سبق، فإن محكمـة النقض تستطيع تصحيح أي خطأ يقع فيه قاضي البطلان أو التنفيذ.

ب- الرقابة المتعمقة تحمي المصالح الوطنية ومصالح التجارة الدولية في آن واحد:

44. بالنظر إلى أهمية المصالح العامة الوطنية التي تحميها قوانين البوليس، فإن الرقابة المتعمقة على احترام حكم التحكيم لقوانين البوليس تعد النقل الموازن لقابليتها للتحكيم، وإلا ستـسـوء سمعة التحكيم وسترفضه الدول التي يتم فيها تنفيذ أحكام المحكمين.

1- رقابة الحد الأقصى هي الثقل الموازن لاتساع نطاق القابلية للتحكيم:

45. في الماضي كان التحكيم في فرنسا محظوراً في المسائل المتعلقة بالنظام العام بما في ذلـك المنازعات التي تثير تطبيق قوانين البوليس، والتي تحمـي مـصالح الدولة الجوهريـة الاقتصادية والاجتماعية. وقد اعترض جانب من الفقه على التذرع بمصالح التجارة الدولية كسبب لتخفيف الرقابة القضائية على احترام المحكم لتلك القواعد المتعلقة بالنظام العـام. إذ يرى الفقهاء من أنصار مذهب رقابة الحد الأقصى أن الرقابة المتعمقة على احترام حك التحكيم للنظام العام هـي "التقـل المـوازن" contrepoids لاتساع القابليـة للتحكـيم Arbitrability وامتداد اختصاص المحكمين لمختلف مجالات النظام العام الاقتصادي.

46. فالثقة العمياء في المحكم – والذي هو على خلاف القاضي الوطني يكـون غیـر مـضطلع بحماية أي نظام عام وطني – من خلال تخفيف الرقابة القضائية على احترامه للنظام العـام من شأنه – من وجهة نظر البعض – عدم تشجيع المحكمين على احترام قواعد النظام العام.

2- رقابة الحد الأقصى تحمي سمعة التحكيم:

47. يأمل الفقيه إيريك لوكان Eric Loquin أن يتعمق القضاء حين يراقب احترام حكم التحكيم للنظام العام الدولي حتى لا يستحيل التحكيم ملاذا آمنا للممارسات المخلة بالمنافسة، وبوجه عام للممارسات غير المشروعة. فتلك أسوأ خدمة يمكن إسداؤها لمؤسسة التحكـيم". إذ إن الممارسات غير المشروعة غالباً ما تتم في الخفاء ويصعب الكشف عنهـا إذا مـا اكتفـى قاضي البطلان بمحض رقابة شكلية مخففة.

3- رقابة الحد الأقصى تكون أكثر إقناعاً للدول التي يتم فيها تنفيذ أحكام التحكيم:

48. رداً على حجة أنصار مذهب رقابة الحد الأدنى والمتمثلة في أن اعتنـاق القـضاء لهـذا المذهب يؤدي إلى جذب التحكيمات على أرض دولة القاضي، فإن أنصار مذهب رقابة الحد الأقصى يرون - خلافاً لذلك – أن فكرة جذب التحكيمات لا تخص سوى عدد محدود مـن الدول الأوروبية المعتبرة من المراكز العالمية للتحكيم. أما البلدان الأخرى، والتـي تكـون هيئاتها العامة طرفاً في تحكيمات تجري في الدول الأوروبية الكبرى، فـإن تلـك البلــدان النامية تتضرر حين تكون الرقابة القضائية على احترام حكم التحكيم للنظام العام الـدولي رقابة شكلية غير متعمقة. وقد ينعكس سخط تلك الدول النامية مـن خـلال تشددها الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها. ومن ثم فإن رقابة الحد الأدنى لن تكفل فعاليـة التحكيم وازدهاره.

ج- رقابة الحد الأقصى ذات سند صحیح قانونا:

49. من أجل التدليل على صحة الرقابة القصوى على احترام حكم التحكيم للنظام العام الـدولي لجأ جانب من أنصار تلك الرقابة المتعمقة إلى الاستناد إلى الاختلاف في صياغة كل مـن نص المادة 1498 والمادة 5/1502 من قانون الإجراءات المدنية الفرنسي. فالأولى والتـ تنطبق على الرقابة على احترام النظام العام الدولي في مرحلة التنفيذ تـستلزم أن تكـون المخالفة "ظاهرة" manifeste، وخلافاً لذلك فإن الثانية – والتي لا تنطبق إلا فـي حـالتي الطعن بالبطلان أو الطعن على القرار الصادر بتنفيذ حكم التحكيم – لا تستلزم أن تتـصف المخالفة بكونها "ظاهرة". وتأسيساً على ما سبق، فإن استلزام أن تكون مخالفة النظام العـام الدولي مخالفة "واضحة" flagrante هو أمر مخالف لصياغة النصوص القانونيـة ولإرادة المشرع. كما استند أنصار مذهب رقابة الحد الأقصى إلى بعض الأنظمة القانونية المقارنة، والتي تختلف فيها الحلول بين رقابة مخففة، وأخرى متعمقة، وثالثة وسطية بين هذه وتلك.

د - الرقابة المتعمقة هي سبب استلزام تسبيب حكم التحكيم:

50. استقر القضاء الفرنسي على أن قاضي البطلان لا يراجع صحة أسـباب حكـم التحكـيم. ومع ذلك يرى الفقيه إيريك لوكان أن استلزام تسبيب حكم التحكيم يجد سببه فـي وجـوب الرقابة القضائية على احترام حكم التحكيم للنظام العام، وفي أن تلك الرقابة تستتبع "فحص جميع عناصر الواقع والقانون التي يتوقف عليها تطبيق قاعدة النظام العام .

المبحث الثاني

الرقابة على احترام حكم التحكيم للنظام العام في مصر

51. على خلاف ما رأيناه في فرنسا لا يوجد في مصر جدل فقهي حول درجة تعمـق الرقابـة القضائية على احترام حكم التحكيم للنظام العام. وبوجه عام، فإن القضاء المصري يحـسن صنعاً، إذ يمتنع عن المراجعة الموضوعية لحكم التحكيم، فهي محظورة. بيد أن هذا الحظر يستحيل أحياناً ذريعة للعزوف الكلي عن القيام بأي رقابة على الإطلاق في حالات قد تكون فيها مخالفة للنظام العام صارخة. لذلك يمكن القول بأن الرقابة القضائية على احترام حكـم التحكيم للنظام العام في مصر هي بلا جدال رقابة الحد الأدنى contrôle minimaliste بل أحياناً تقل عن الحد الأدنى (المطلب الأول). بيد أنه بالنظر إلى انتشار ظاهرة استخدام التحكيم الداخلي كوسيلة للغش والتحايل على القوانين المنظمة للملكية العقارية فقد تدخلت النيابة العامة، وقامت برفع دعاوى بطلان ضد أحكام التحكيم الصادرة في تلك المنازعـات العينية العقارية أو المتعلقة بصحة التعاقد على العقارات استنادا إلى مخالفتها للنظام العـام (المطلب الثاني).

المطلب الأول

الرقابة القضائية في حدها الأدنى

52. إن قاعدة حظر المراجعة الموضوعية لحكم التحكيم هي من القواعد المستقر عليهـا فقهـاً وقضاء في مصر، وتجد سندها في أن المحكمة المنوط بها نظر دعوى البطلان أو طلـب تنفيذ حكم التحكيم أو التظلم من الأمر الصادر تنفيذه لا تراقب صحة أسباب حكم التحكـيم وصحة تطبيق المحكمين القانون، لأنها ليست هيئة استئنافية لحكم التحكيم، وإنمـا تقتـصر مهمتها على إبطال حكم التحكيم إذا توافر سبب من أسباب البطلان المحددة علـى سـبيل الحصر أو رفض دعوى البطلان إذا تخلفت أسبابها أو الأمر بالتنفيذ أو برفضه. وسوف نعرض في ما يلي للاتجاه التقليدي لمحكمة استئناف القاهرة المعتنق لأدنى رقابـة ممكنـة تحت ستار حظر المراجعة الموضوعية لحكم التحكيم (أولاً) على أن نتبع ذلك بالمستجدات التي أت على قضاء محكمة استئناف القاهرة، والتي أوضحت فـي أحكامهـا الأخيـرة فحوى رقابة الحد الأدنى التي تمارسها، والحالات الاستثنائية التي تجيز لها توسـيع تلـك الرقابة حماية للنظام العام.

أولا- قاعدة حظر المراجعة الموضوعية كسند لرقابة الحد الأدنى:

53. وتطبيقا لقاعدة حظر المراجعة الموضوعية لحكم التحكيم تواترت أحكام محكمة الاستئناف على أن "دعوى البطلان ليست استئنافا لحكم التحكيم المطعون فيه فلا شأن لها بما انتهـى إليه قضاء ذلك الحكم نتيجة فهمه لوقائع الدعوى ومستنداتها .

ویری الفقه أن قاعدة حظر المراجعة الموضوعية لحكم التحكيم تجد سندها في المادة 1/52 من قانون التحكيم رقم 27 لسنة 1994، والتي تنص على أن أحكام التحكيم الصادرة طبقـاً لأحكام القانون سالف الذكر لا تقبل الطعن فيها بأي طريق من طرق الطعـن المنـصوص عليها في قانون المرافعات المدنية والتجارية..

أما في ما يتعلق بمدى عمق الرقابة القضائية على احترام حكم التحكيم للنظام العام فقد أظهر قضاء محكمة استئناف القاهرة أنها رقابة حد أدنى منصبة فقط على الحل النهائي للنـزاع لا على أسباب حكم التحكيم. فقد قضت محكمة استئناف في 29 يناير 2003، بأنـه مـن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن رقابة محكمة الاستئناف في ما يتعلـق بتطبيـق الفقـرة الثانية من المادة 53 من قانون التحكيم تنصرف إلى الحل الذي قضى بـه الحكـم حـسماً للنزاع، ومن ثم فلا يسوغ الحكم بالبطلان، إلا إذا تضمن ذلك الحل ما يخالف النظام العام .

وكان العقد محل النزاع عقد وكالة عقود أبرم بين شركة ABB ووكيلها شركة AMCO. وقد طعنت شركة AAB على حكم تحكيم مركز القاهرة رقم 201 لسنة 2000 تأسيساً على مخالفته النظام العام، وكان لها في ذلك سببين: أولهما أن العقد محل التحكيم مخالف للنظام العام بالنظر إلى عدم مشروعية محله، والمتمثل في تسهيل أعمال الشركة الطاعنـة لـدى المصالح الحكومية ولو بالمخالفة للقانون. وقد رفضت محكمة استئناف القاهرة هذه الحجـة استناداً إلى أن شركة ABB لم تثبت أن شركة AMCO قد ارتكبت أفعالاً مخالفة للقانون لصالح شركة ABB، فضلاً عن أنه على فرض صحة هذا الادعاء – فإنـه لا يجـوز لشركة ABB أن تستفيد من إثم شاركت هي في إبرامه.

ومن ناحية أخرى، نعت الطاعنة على حكم التحكيم مخالفته للنظام العام أيضاً مـن خـلال تطبيقه نص المادة 189 من قانون التجارة الجديد بأثر رجعي، وذلك تأسيساً على أن قاعدة عدم رجعية القوانين تعد قاعدة دستورية من النظام العام. وقد رفضت محكمـة اسـتئناف القاهرة هذا الدفع أيضاً تأسيساً على أنه "يتعلق بسلطة هيئة التحكيم في فهم الواقع وإنزال حكم القانون عليه، وأن التحقق من صحة هذا النعي لا يتأتى إلا بإعادة النظر في موضوع النزاع ومراجعة ما قضى به الحكم المطعون فيه بشأنه من حيث الصواب والخطأ، وكـلا الأمرين غير جائز لما هو مقرر من أنه طبقا للمادتين 52 و 53 من قانون التحكـيم لا تقبل أحكام المحكمين التي تصدر طبقا لأحكام هذا القانون الطعن فيها بأي طريقـة مـن طرق الطعن المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية والتجارية ... .

... لما كان ذلك، وكان القول بأن حكم التحكـم قـد طبـق المـادة 189 مـن قـانون التجارة الجديد بأثر رجعي، ينطوي على تعييـب قـضـاء هـذا الحـكـم فـي مـا يتعلـق بتفسير القانون وتطبيقه على موضوع النزاع، ومن ثم فهو غير مقبـول فـي الـدعوى الماثلة".

ولكن بعد أن أكدت محكمة استئناف القاهرة أن رقابتها على احترام حكم التحكـيم للنظـام العام هي رقابة حد أدنى، نجدها مع ذلك حريصة على تدعيم رفضها لهذا السبب من أسباب الطعن عن طريق التدليل على أن النتيجة التي انتهت إليه في حكمها ستكون مطابقـة لمـا كانت ستنتهي إليه لو أن رقابتها كانت رقابة حد أقصى. ويتضح ذلك من خلال ما انتهـت إليه محكمة استئناف القاهرة أن "القول بمخالفة النظام العام للسبب المبين بهذا النعي فـي غير محله، ذلك أن الحكم المطعون فيه قد استند في تكييفه للعقد موضوع النـزاع إلـى قواعد الوكالة في القانون المدني وبعض القواعد المنظمة للوكالات التجارية، وما استقر عليه العرف التجاري – وأنه إذ اعتبر المادة 189 المذكورة متعلقة بالنظـام الـعـام فقـد أعمل حكمها بالنسبة لواقعة إنهاء ذلك العقد التي حدثت بعد تاريخ العمل بقانون التجـارة الجديد ". -

ونحن نرى أن القاعدة المنصوص عليها بالمادة 1/189 من قانون التجارة الجديد هي حقاً قاعدة آمرة متعلقة بالنظام العام الداخلي فهي تهدف إلى حماية الوكيل التجاري الذ في زيادة عدد عملاء موكله.

ولا ريب في صحة النتيجة التي انتهت إليها محكمة استئناف القاهرة، وهي رفض الطعن ومع ذلك فثمة ملاحظات حول الأسباب التي أسست عليها محكمة الاستئناف حكمها. فمـن ناحية أولى، يتجلى للقارئ أن محكمة استئناف القاهرة قد طبقت رقابة الحـد الأدنـى، ولا غضاضة في ذلك، إذ إن تلك الرقابة المخففة من شأنها تفعيل التحكيم وكفالة احترام نهائية أحكامه، ولا شك في أهمية التحكيم بالنسبة لتشجيع الاستثمارات الوطنية والأجنبية.

 بيد أننا نتحفظ عن الاستناد إلى قاعدة حظر المراجعة الموضوعية لحكم التحكيم، ففي رأينا لم يكن الأمر متعلقاً بمراجعة موضوعية لحكم التحكيم، ولكن فقط التمسك بمخالفـة حكـم التحكيم لقاعدتين من قواعد النظام العام الداخلي، وكان المطلوب مـن محكمـة اسـتئناف القاهرة أن تعيد النظر فقط في عناصر الواقع والقانون المرتبطة بالنظام العام، أي أن تقوم برقابة حد أقصى على احترام الحل النهائي الذي قضى به حكم التحكيم للنظام العام.

ومن جانب ثان، نلاحظ أن محكمة استئناف القاهرة قد ترددت بين رقابة الحد الأدنى ورقابة الحد الأقصى لاحترام حكم التحكيم للنظام العام، فهي من ناحية تقول أن دعوى البطلان لا تمتد إلى مراقبة حسن تقدير المحكمين للواقع وتطبيقهم للقانون، وأنه، بالتـالي، لا يجـوز للمحكمة أن تتحقق من صحة نعي الطاعنة بمخالفة حكم التحكيم للنظام العام نتيجة لتطبيقـه نص المادة 189 من قانون التجارة الجديد بأثر رجعي، ولكن نجد في الوقت ذاته أن محكمة استئناف القاهرة قد أوضحت في أسبابها أن حكم التحكيم لم يخالف النظام العام، إذ لم يطبق المادة 189 من قانون التجارة الجديد بأثر رجعي، بل أعمل حكمها على واقعة حدثت بعـد تاريخ العمل به. وهذا التأرجح الذي كشفت عنه أسباب الحكم تظهر تردد محكمة الاستئناف بين ضرورة اتباع سياستها القضائية القائمة على تشجيع التحكيم وكفالة ازدهـاره، وبـين حرصها على احترام حكم التحكيم للنظام العام، وبيان أن النعي بمخالفة حكم التحكيم للنظام العام في غير محله سواء أكانت رقابة القضاء شكلية سطحية أم كانت متعمقة.

54. وقد ظهر أيضاً تردد محكمة استئناف القاهرة بين رقابة الحد الأقصى ورقابة الحد الأدنـى في حكمها الصادر بجلسة 30 مايو 2005. فبعد أن أسهبت في أسباب حكمها لبيـان أن الحد الأقصى للفائدة الاتفاقية المنصوص عليه بالمادة 227 من القانون المـدني لا يتعلـق بالنظام العام – أي مارست رقابة حد أقصى – نجدها قد أعقبت ذلـك التسبيب المفـصل بحيثية ذكرت فيها أنه أياً كان وجه الرأي في تلك المخالفة، فإن النعي عليها يعتبر تعييبـاً لقضاء حكم التحكيم في موضوع النزاع، مما يخرج عن نطاق اختصاص قاضي البطلان. وما سبق يعتبر خلطاً بين رقابة الحد الأقصى وبين المراجعة الموضوعية له، وقد أوضحنا سالفاً أن الأولى أضيق نطاقاً من الثانية.

55. وفي دعوى بطلان أخرى نعت الطاعنة على حكم التحكيم إخلاله بحق الدفاع وعـدم رده على الدفوع التي أبدتها والتفاته عما قدمته من مستندات. وعلى الرغم من أن هـذا النعى يتعلق بنواح إجرائية فقد طرحته محكمة استئناف القاهرة، وذلك استناداً إلى أنه يحظر عليها أن تقوم بمراجعة موضوعية لحكم التحكيم". ولا يخفى ما في هذا التسبيب من خلط بـين الرقابة على احترام النظام العام الإجرائي – وهي من صميم اختصاص قاضي البطلان - وبين المراجعة الموضوعية المحظورة عليه.

54. إن أكبر ميزة من مميزات القضاء الحالي لمحكمة استئناف القاهرة تكمـن فـي تـشجيعه التحكيم favour arbitrandum فأحكام محكمة استئناف القاهرة تضمن نهائية حكم التحكيم وعدم إبطالها، إلا في أضيق الحدود، وذلك اتساقاً مع سياسة الدولة المشجعة للتحكيم كوسيلة لحل منازعات التجارة الداخلية والدولية، فالغاية محمودة، بيد أن الوسيلة أحياناً قد لا تعلـو على التعقيب عليها، ولاسيما في ما نلمسه أحياناً من خلط بين المراجعة الموضوعية لحكـم التحكيم، من جهة، والرقابة على احترام حكم التحكيم للنظام العام، سواء أكانت تلك الرقابة "رقابة حد أدنى" أم "رقابة حد أقصى". ويؤدي ذلك إلى الإضعاف بعض الشيء من فاعلية الرقابة على احترام حكم التحكيم للنظام العام، فإذا كان من الممكن القبول بالتضحية بالرقابة المتعمقة على احترام حكم التحكيم الدولي للنظام العام، فإن مثل هذا التفريط فـي الرقابـة ينبغي أن يكون بحذر أكثر في مجال التحكيم الداخلي.

فلا يوجد خطر على الاستثمارات الأجنبية أو على خيار القاهرة كمركز جـاذب للتحكيم الدولي على الأراضي المصرية إذا ما شدد القضاء المصري نسبياً من رقابته على احترام حكم التحكيم الداخلي للنظام العام، ولاسيما أنه قد تلاحظ في الأونة الأخيرة تزايد المخالفات للنظام العام، ولاسيما في مجال بعض المنازعات العينية العقارية ودعاوى الصحة والنفاذ.

ثانياً- مستجدات رقابة الحد الأدنى التي تمارسها محكمة استئناف القاهرة:

56. كشفت محكمة استئناف القاهرة في أحكامها الحديثة صراحة عن أن رقابتها على احترام حك التحكيم للنظام العام هي رقابة "من ظاهر الأوراق" وتقتصر على المخالفات الصارخة للنظــام العام أي أنها رقابة حد أنها رقابة حد أدنى، كما كشفت عن الضوابط التي من خلالها تمـارس رقابـة الحـد الأدنى تلك، والتي من شواهدها أن تلك الرقابة تنصب على الحل النهائي للنزاع وتقـوم علـى الاكتفاء بالتحقق من أن هيئة التحكيم قد أخذت قاعدة النظام العام، في عين الاعتبـار بـصرف النظر عن كيفية تطبيقها إياها أو عن رأي هيئة التحكيم في شأن انطباق تلـك القاعـدة علـى الحالة المعروضة عليها من عدمه بحسبان أن ذلك من اطلاقات سلطة هيئة التحكيم في الفـصل في موضوع النزاع دون معقب عليها من قاضي البطلان، كما كشفت محكمة استئناف القاهرة عن أن رقابتها تتسع في حالة مسخ القانون واجب التطبيق، وأوضحت محكمة استئناف القاهرة صراحة أن الهدف من الرقابة غير المتعمقة تلك هو جعل مصر مقراً جاذباً للتحكـيـم مـع يترتب على ذلك من آثار إيجابية لصالح الاستثمار والاقتصاد المصري بوجه عام.

وفي شأن اكتفاء قاضي البطلان بالتحقق من أن المحكم قد أخذ في الاعتبار قاعدة النظــام العام قضت محكمة استئناف القاهرة في حكم حديث لها بأنه:

"يكون على قاضي البطلان مراجعة الحكم في عناصر الواقع والقانون التي كانت معروضة على التحكيم بالقدر الذي يسمح له بتقدير توافر عيب إخلال الحك له بتقدير توافر عيب إخلال الحكـم بالقاعـدة الجوهريـة المتصلة بالنظام العام من عدمه، وإذا ما تثبت قاضي البطلان من أن الحكم أهمـل هـذه القاعدة وترك العمل بها أو جردها من كل قيمة رغم أهميتها في الحل النهائي للنزاع، هنا قد يكون الحكم مخالفاً النظام العام، وهو ما يقرر القضاء ببطلانه إعمالا لنص الفقرة الثانية من المادة 53 من قانون التحكيم".

(استئناف القاهرة - الدائرة 7 تجاري - جلسة 2014/6/2 ـ 48 لسنة 130 ق)

وكانت الشركة الطاعنة تنعي على حكم التحكيم عدم إعمال القرارات الوزاريـة الـصادرة بتسعير الغاز الطبيعي والمتعلقة بالنظام العام، بيد أن محكمة استئناف القاهرة قـد انتهـت، وبحق، إلى أن هيئة التحكيم قد أخذت تلك القرارات الوزارية في الاعتبار، ولكنها انتهـت إلى عدم انطباقها على العقدين محل النزاع لتضمنهما معادلة سعرية متفق عليها.

وتجدر الاشارة إلى ما تنص عليه المادة 53-1 (د) من قانون التحكيم كأحد أسباب قبـول دعوى بطلان حكم التحكيم، وهو: "إذا استبعد حكم التحكيم تطبيـق القانون الـذي اتفـق الأطراف على تطبيقه على موضوع النزاع". –

وفي خصوص هذا السبب من أسباب البطلان فقد ورد في تقرير اللجنة المشتركة من لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية ومكتب لجنة الشؤون الاقتصادية عن مشروع قانون التحكيم المصرى أنه:

"يدخل في مفهوم نطاق استبعاد القانون واجب التطبيق الخطأ فـي تطبيقـه إلـى درجـة مسخه" .

وقد أيد بعض من الفقه هذا الرأي، ومن ذلك الأستاذ الدكتور أكثم الخولي الذي ذهب إلـى أنه يدخل تحت نص المادة 53-1(د) الحالات التي يقع فيها خطأ جسيم في تطبيـق ذلـك القانون المختار يعادل في جسامته استبعاد تطبيق ذلك القانون لأن هذا يعتبر استبعاداً غير مباشر لتطبيق ذلك القانون يعادل في أثره وخطورته استبعاده مباشرة".

وأيد هذا الرأي أيضاً الأستاذ الدكتور محمود مختار بريري – رحمه الله.

والأهم أن محكمة استئناف القاهرة في حكم حديث لها صـدر بتـاريخ 2014/6/2 (فـي الدعوى رقم 48 لسنة 130 ق) قد انتهت ضمناً إلى أن مسخ القانون واجب التطبيق يعادل استبعاده، وذلك بمناسبة طعن بالبطلان مرفوع أمامها، استناداً إلى استبعاد هيئـة التحكـيم القانون الذي اتفق الأطراف على تطبيقه، ولئن كانت محكمة استئناف القاهرة قد رفضت دعوى البطلان تأسيساً على أن الخطأ في تطبيق القانون لا يعد استبعاداً له، ولا يعتبر سبباً من أسباب البطلان، إلا أنها أشارت في حيثياتها إلى مسخ القانون المتفـق علـى تطبيقـه بحسبانه استبعاداً له على النحو التالي:

"(30) والذي تريد المحكمة إبرازه، أنه ولئن كانت سلطة المحكم تمتـد (كالحـال بالنـسبة لقاضي الموضوع) بحيث يمكنه النظر في المنازعات الخاضعة لأحكام القواعـد الحمائيـة مع التزامـه المتعلقة بالنظام العام – واجبة التطبيق بصرف النظر عن إرادة المتعاقدين الوقت ذاته بأحترامها وعدم خرقها، فإن دور قاضي البطلان في مـا يتعلـق بمراقبـة مسألة مخالفة أحكام التحكيم لقاعدة من قواعد النظام العام الحمائي (أو الموضوعي) ليس واحداً، وفي خصوص ما أثير في الدعوى الماثلة بشأن مخالفة حكم التحكيم لقواعد النظــام العام يتعين التمييز بين فرضين.

(31) الفرض الأول: إذا كان الحكم قد رفض إعمال آثار القاعدة ضرورية التطبيق لانتفاء متطلبات تطبيقها على عناصر الواقع والمراكز القانونية المطروحة، في هذه الحالة لا يكون الحكم قد ترك أو تخلى عن القاعدة المقيدة له، ولكنه لم ينزل حكمهـا بـسبب أن الواقـع المطروح لا يرتبط بها أو لا يتطابق ومفترضاتها، فعدم إعمال القاعدة هنا يندرج في نطاق تحصيل المحكم وفهمه للواقع، فهذا الواقع بعد طرحه أمام التحكيم لا بـد مـن أن يخـتلط بالقانون، ومن ضمنها قواعده المتصلة بالنظام العام. في هذا الفرض يكون المحكم قد أخـذ قاعدة النظام العام بعين الاعتبار، ومن ثم لا تتطرق رقابة البطلان إلى التعـرض لـصحة تطبيق المحكم لتلك القاعدة، كما لا تمتد هذه الرقابة إلى بحث عما إذا كانت النتيجـة التـ انتهى إليها المحكم في حكمه صحيحة أم لا. .

(32) ومع ذلك، فقد يخضع حكم التحكيم في هذا الفرض (الأول) لرقابة المـسـخ وهـو عيب يندرج تحت البند (د) من المادة 1/53 والخاصة بحالة استبعاد المحكـم تطبيـق القانون الموضوعي الذي اتفق الأطراف على تطبيقه بشأن موضوع النزاع. هذه الرقابة - كما أسلفنا – رقابة ظاهرية، لا تقتضي فحصاً أو تمحيصاً، بحيـث يتحقـق سـبب البطلان إذا تبين بمجرد قراءة حكم التحكيم وجود مخالفة ملموسة وصـارخة لقاعـدة النظام العام التي أخذها المحكم في الاعتبار. هنا يكون المحكم قـد تجـاوز صـلاحياته بشكل واضح وخرج عن التزامه بتطبيق القانون المتفق عليه، وخالف في الوقت ذاتـه النظام العام.

(33) الفرض الثاني: وهو الذي يستبعد أو يتجاهل فيه المحكم مضمون قاعدة النظام العـام ويهدر الحماية التي تكفلها أو عندما لا يعتد المحكم عنتاً بالآثار التي رتبها المشرع علـى تلك القاعدة. في هذا الفرض يكون على قاضي البطلان مراجعة الحكم في عناصر الواقـع والقانون – التي كانت معروضة على التحكيم – بالقدر الذي يسمح له بتقدير توافر إخلال الحكم بالقاعدة الجوهرية المتصلة بالنظام العام من عدمه، وإذا مـا تثبـت قاض البطلان من أن الحكم أهمل هذه القاعدة وترك العمل بها أو جردها من كـل قيمـة رغـم أهميتها في الحل النهائي للنزاع، هنا قد يكون الحكم مخالفاً النظام العام، وهو ما القضاء ببطلانه إعمالا لنص الفقرة الثانية من المادة 53 من قانون التحكيم".

(استئناف القاهرة الدائرة 7 تجاري، 2014/6/2، الدعوى رقم 48 لسنة 130 ق)

 لا شك في أن هذا الحكم القيم الصادر عن محكمة استئناف القاهرة سيظل مصباحاً منيراً يوضح أبعاد الرقابة القضائية على احترام حكم التحكيم للنظام العام، فضلا عن ربطه بينها وبين الرقابة على "المسخ"، والذي يعد بلا ريب عيبا جسيما يشوب حكم التحكيم، وينبغي أن تـستطيل إليـه الرقابة القضائية اللاحقة، حيث إن الرقابة على مسخ القانون واجب التطبيق تعد أمراً وسطاً بين انعدام الرقابة على المسخ خشية الانزلاق في محظور المراجعة الموضوعية وبين أولئك الـذين ينادون بأن تراقب محكمة النقض صحة تطبيق هيئة التحكيم للقانون، وهو ما يؤدي إلى تغول غير مألوف وغير مرغوب – في نظرنا - لقضاء الدولة في المنظومة التحكيمية.

المطلب الثاني

التدخل الاستثنائي للنيابة العامة لحماية النظام العام

57. ظهرت على الساحة حالات عدة استخدم فيها التحكيم أداة للغش في مجال بعض المنازعات العينية العقارية ودعاوى صحة التعاقد، وذلك بغية التحايل على قواعد النظام العام المتعلقة بالشهر والسعي على الاعتداء على الملكية العقارية دون وجه حق. وقد خلا قانون التحكيم من ثمة نص يجيز للنيابة العامة أن تقيم دعاوى بطلان ضد أحكام التحكيم المخالفة للنظـام العام الأمر الذي حدا النيابة العامة على الاستناد إلى أحكام المـواد 87، 6/89، 96 مـن قانون المرافعات المدنية والتجارية.

58. ونحن نرى أن تلك القواعد العامة المنصوص عليها في قانون المرافعات لا تجيز للنيابـة العامة إقامة دعاوى بطلان ضد أحكام التحكيم، ولو باسم النظام العام.

فالنيابة العامة غير مخولة التدخل في إجراءات التحكيم أثناء سيرها، ولو لحمايـة النظـام العام، ومن ثم فلا يجوز التذرع بالمادة 96 من قانون المرافعات كسند مزعوم لطعن النيابة العامة على أحكام التحكيم المخالفة للنظام العام. ويبدو أن محاكم الاستئناف قـد غـضت الطرف عن ذلك وقبلت الطعون بالبطلان التي أقامتها النيابة العامة لحماية المصلحة العامة المتمثلة في إحباط مخططات استخدام التحكيم في الغش أي كأداة للاستيلاء علـى الملكيـة العقارية والتحايل على قواعد ورسوم الشهر والمتعلقة بالنظام العام.

 59. ويؤدي تدخل النيابة العامة إلى تعميق الرقابة القضائية على احترام حكم التحكـيم للنظـام العام، بيد أن مثل هذا التدخل يفتقر حتى الآن إلى سند تشريعي. ومن هنا تظهر الحاجة إلى تعديل تشريعي بسيط ومدروس. فإذا رأى المشرع أن ثمة حالات استثنائية تستوجب تخويل النيابة العامة الحق في رفع دعوى بطلان حكم تحكيم أو الاعتراض على الأمـر الـصـادر بتنفيذه، فيتعين ألا يكون ذلك، إلا في حالات استثنائية مقصورة على المنازعـات العينيـة العقارية ودعاوى صحة التعاقد، والتي تعرض على التحكيم بنية الغش أو الاعتـداء علـى الملكية العقارية للغير، إذ إن تعميم تدخل النيابة العامة في التحكيم عن طريق رفع دعاوى البطلان استناداً إلى مخالفة حكم التحكيم للنظام العام قد يعطي إشارة خاطئة إلى أن قـانون التحكيم المصري قد ابتعد عن طابعه الحديث المستمد من القانون النمـوذجي، وأن مـصر ليست مكاناً مناسباً للتحكيم التجاري الدولي.

الخـاتمـة

اقتراح منهج سياقي ومزدوج

60. إن وضع القانونين المصري والفرنسي في ما يتعلق بدرجة تعمق الرقابة القضائية علـى احترام حكم التحكيم للنظام العام الداخلي والدولي يحتاج إلى تحسن للأفضل. ولكن ينبغـي أن نقر بأن هذا الموضوع من أشكل موضوعات التحكيم، فهيهات أن يكون محل اجمـاع، لأنه يتعلق بحماية نوعين من المصالح التي تلتقي أحياناً، ولكن تتعارض في أحيان أخرى، أولاهما تكمن في حماية النظام العام الوطني، وثانيهما تتعلق بمصالح التجارة الدولية، والتي تعود بالنفع أيضاً على الوطن، ومن أجل ذلك، فإننا نرى انتهاج ازدواجية في درجة عمـق الرقابة على احترام النظام العام بحسب ما إذا كان التحكيم داخلياً أم تجارياً دوليـاً. وهـذا الحل الذي نقترحه مستوحى من نهج القضاء الإنجليزي في قضية سليماني Soleimany والمعروفة باسم "contextual approach of judicial review"، حيث انتهى القـضاء الإنجليزي إلى أن عمق الرقابة القضائية على احترام حكم التحكيم للنظام العـام يتفـاوت بحسب جسامة مخالفة النظام العام التي تم التمسك بها، ومدى احتمال أن تكون قد وقعـت بالفعل، وما إذا كان المحكمون قد تناولوها في حكمهم من عدمه.

61. وبالإضافة إلى ذلك فنحن نرى أن طبيعة التحكيم من حيث كونه داخلياً أو تجارياً دولياً تعدّ عاملاً هاماً يجب أن يكون له أثره في تحديد درجة التعمق التي ينبغـي أن تكـون عليهـا الرقابة القضائية على احترام حكم التحكيم للنظام العام. وهذا المقترح نتقدم به لكـل مـن القضاء المصري ونظيره الفرنسي.

62. في ما يتعلق بالتحكيم الدولي، فإن على القضاء الفرنسي أن يحافظ على اتجاهه القـضائي الحالي والذي تعكسه الأحكام الصادرة في قضايا "تأليس"، SNF، وآية ذلـك أن مـصلحة فرنسا في الإبقاء على باريس كواحدة من أكبر المدن الجاذبة لإجراءات التحكيم التجـاري الدولي على أرضها، فالمصالح الاقتصادية الفرنسية لا تتحمل أي تغيير قضائي في اتجـاه تعميق الرقابة القضائية على احترام النظام العام الدولي الفرنسي، لأن تعمق تلـك الرقابـة القضائية سوف يؤدي حتما إلى هجرة إجراءات التحكيم من باريس إلى العواصم والمـدن المنافسة لها كجينيف مثلا، والتي كرس قضاؤها مفهوما ليبراليا لنظام عام غير وطني. وفي هذا الصدد يعترف الفقه الفرنسي بأهمية الاحتفاظ بباريس كأحد أهم مقرات التحكيم في العالم لما يترتب على ذلك من عوائد اقتصادية عظيمة ومن تنشيط للعديد من المهن الحـرة المرتبطة بالتحكيم مثل المحاماة والخبرة والترجمة. ونذكر أيضاً أن "رقابة الحد الأدنـى" - والتي نراها مناسبة إذا كان الحكم صادراً في تحكيم تجاري دولي – لا تعني دائماً أن تكون الرقابة على احترام حكم التحكيم للنظام العام رقابة مخففة، آية ذلك أنه في حالات الغـش والفساد والمخالفة الواضحة لقاعدة من قواعد البوليس، فإن الرقابة القضائية تستحيل إلـ رقابة متعمقة. فرقابة الحد الأدنى هي إذن رقابة سياقية Contextuelle متفاوتة في مـدى تعمقها بحسب جسامة انتهاك النظام العام ودرجة وضوحها.

63. أما في مصر، فإننا نرى أن يستمر القضاء في تطبيق "رقابة الحد الأدنى" على احترام حكم التحكيم للنظام العام في مجال التحكيم الدولي، آية ذلك أن تلك الرقابة المخففة قد سـاهمت في ازدهار التحكيم في مصر، والحفاظ على نهائية أحكامه، والمساهمة في جعل القاهرة أكثر العواصم العربية والإفريقية جذباً للتحكيم الدولي على أرضها. كل ما فـي الأمـر أن تسبيب أحكام محكمة الاستئناف يوحي أحياناً بوجود خلط بين "رقابة الحد الأقصى" وبـين المراجعة الموضوعية لحكم التحكيم، وأحياناً أخرى بوجود خلط بين "رقابة الحـد الأدنـي وبين الامتناع تماما عن مراقبة احترام حكم التحكيم للنظام العام.

ومن جانب آخر ينبغي على القضاء المصري أن يستثني من الرقابة المخففة حالات الغـش والفساد وأي اعتداء جسيم على السلام الاجتماعي. ففي تلك الحالات ينبغي أن تكون الرقابة القضائية على النظام العام رقابة أكثر تعمقاً، والأمر كذلك في حالات المخالفة الواضـحة والصارخة للنظام العام، كما لو قضى حكم التحكيم على أحد الطرفين بـسداد تعويضات عقابية Punitive damages والتي يعرفها القانون الأمريكي، ولكنها تخالف النظام العـام المصري والذي يقصر سلطة توقيع عقوبة الغرامة على القاضي الجنائي والنيابـة العامـة دون غيرها. و

64. وعلى خلاف ما سبق فلا مانع في مجال التحكيم الداخلي – سواء في مصر أو في فرنسا – أن يتجه القضاء إلى تطبيق مذهب "رقابة الحد الأقصى"، إذ إن السياق والظروف في مجال التحكيم الداخلي تختلف عنها في مجال التحكيم الدولي. آية ذلك أنه عندما يكـون التحكـيم داخلياً فإن قانون القاضي يكون واجب التطبيق بالضرورة، ومن ثم يكون أمراً طبيعيـاً أن تهدف الرقابة القضائية إلى توحيد تطبيق قواعد النظام العام بواسطة جميع الهيئـات التـي تفصل في المنازعات سواء أكانت محاكم قضائية أم هيئات تحكيم، وأن تكون هناك رقابـة على مسخ القانون واجب التطبيق مسخاً مساوياً لاستبعاده، وإلا استحال التحكـيم الـداخلي وسيلة للتهرب من تطبيق قواعد النظام العام التي تلتزم بها محاكم الدولة. أما فـي مجـال التحكيم الدولي، فإن الأمر يختلف، لأن المحكم الدولي لا يطبق بالضرورة قـانون قاضـي البطلان أو التنفيذ، وإنما يطبق قانوناً أجنبياً بما في ذلك قواعد النظام العام الخاصة بـذاك القانون الأجنبي، فضلاً عن قيامه بتطبيق قواعد النظام العام غيـر الـوطني فـي بعـض الأحيان.

فالتحكيم الداخلي لا يضع دولة القاضي في منافسة مع دول أخرى ترغب فـي استقطابه، وذلك على خلاف التحكيم الدولي الذي تتنافس الدول لجذبه إلى أراضيها. ومن ثم فلا يوجد ما يجبر قاضي البطلان أو التنفيذ على التخفيف من رقابته على احترام حكم التحكيم للنظام العام. ولا خطر من تطبيق "رقابة الحد الأقصى" في مجال التحكيم الداخلي طالما اقتصرت رقابة القاضي على الحل النهائي الذي قضى به حكم التحكيم حسما للنزاع بما يكفل عـدم تعارض هذا الحل النهائي مع النظام العام، وبشرط ألا تمتد رقابة القاضي إلى أسباب حكم التحكيم أو إلى القواعد الآمرة التي طبقتها طالما أن الحل النهائي للنزاع غير متعارض مع النظام العام.