المحكم إذا أصدر حكمه بعد استيفاء ما يلزم له شرعاً من سماع الدعوى، والإجابة، والبينات، واستيفاء أقوال الطرفين، وحججهما، وترتب عليها آثار، هي :
بعد صدور حكم المحكم فإنه يلزم، ويكون قاطعاً للنزاع، ويجب تنفيذه، وليس للمحكم الرجوع عنه، ولذلك شروط، هي:
الشرط الأول: أن يكون التحكيم مستوفياً شروطه المقررة شرعاً، وقد سبقت.
الشرط الثاني: ألا يكون الحكم مستوجباً للنقض.
الشرط الثالث: أن يقر القاضي حكم المحكم بعد صدوره إذا لم يقنع به المحكوم عليه.
والذي يظهر لي: أن حكم الحكم ينفذ ويلزم بصدوره من دون إذن القاضي وإجازته، لكن إذا كان ثم قيد على ولاية الحكم بعدم نفوذ حكمه إلا بذلك فلا ينفذ إلا بعد إجازة القاضي؛ وذلك لما يلي :
1- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر حكم سعد بن معاذ في اليهود، وهذا إنفاذ للحكم بعد حاكمه.
2- أن المحكم كالقاضي، والقاضي إذا قيدت ولايته بعدم نفاذ حكمه إلا بعد مراجعة محكمة أخرى وتدقيقها جاز ذلك ولزم.
3- أن في ذلك رقابة على أحكام المحكمين للتأكد من صحتها ومطابقتها للشرع.
ثانياً: اقتصار حكم المحكم على طرفي النزاع:
من آثار حكم المحكم أنه لا يجري على غير المتخاصمين ولو ثبت الحكم ببينة، بل يقتصر على الخصمين؛ لذلك لأن التحكيم تم بناء على اتفاق الخصمين ورضاهما حسب ولايتهما على نفسيهما، فلا يتعدى إلى غيرهما؛ إذا ليس لهما ولاية عليه.
ورأي أنه إذا أجيز الحكم بعد صدوره من المحكمين من قبل القاضي المختص كان له قوة حكم القاضي المختص نفوذه؛ لأن إجازة القاضي المختص تكون كالمستئناف الحكم، أما إذا لم يجر على هذه الصفة فلا تتعدى حجيته غير المترافعين.
أذكر بعض الأمثلة التي أوردها بعض العلماء لعدم جريان حكم المحكم وتعديه إلى غيره، ومن ذلك:
ج) إذا تراضى الطالب والكفيل (الضامن) بمحكم ليحكم بينهما وألزام المحكم الكفيل بغير رضا المكفول (المضمون) وحضوره فإن حكمه جائز على الكفيل دون المكفول عنه.
وهكذا لو ادعى رجل قبل آخر ديناً ونازعه المدعى عليه في ذلك وحكما بينهما حكماً فحكم على المدعى عليه فإن حكمه هذا لا يتعدى إلى الضامن إن كان له ضامن؛ لأنه لم يحكمه ولم يرض بحكمه، ذكر ذلك الحنفية، والشافعية، وله قوة.
د) إذا ادعى رجل على رجلين بأنهما غصبا ثوبه، فرضي أحد المدعى عليهما بتحكيم حكم، فحكم بينهما وألزم الغاصب الذي رضي بحكمه: لم يجر ذلك على الغاصب الآخر الذي لم يحضر، ذكره الحنفية، وله قوة.
استثناء: هذا وقد استثنى الحنفية من عدم تعدي حكم المحكم إلى غير المتخاصمين صورة يتعدى فيها الحكم إلى ثالث ولو لم يرض بحكمه.
مسألتان لهما تعلق بهذا المبحث:
المسألة الأولى : أثر رأي الحكم في الشهود :
والذي يظهر لي : أن رد المحكم الشهادة للتهمة أو لأمر آخر ظهر له يلزم الخصمين إذا اتصل به الحكم وكانت الخصومة بين الخصوم أنفسهم وفي القضية نفسها، ما لم يكن هذا الرد مستوجباً للنقض بسبب معتبر.
المسألة الثانية: إعادة الشهادة التي سمعها الحكم:
والذي يظهر لي : أن المحكم إذا سمع شهادة قبل أن يكون قاضياً ثم صار قاضياً فإن كانت الخصومة بين الخصوم السابقين أنفسهم وفي ذات النزاع لم تجب إعادة البينة؛ لم تجب إعادة البينة؛ لأن القاضي سبق أن سمعها محكماً، وليس هناك فائدة جديدة في إعادتها، أما إذا كان الخصوم غير الخصوم، أو اختلف موضوع النزاع فإنه تجب إعادة الشهادة عند من ينظر النزاع؛ لأن المحكم حين سمعها كان محكماً في قضية خاصة وبين خصوم خاصين، وقد تغيروا فلا يجري عليهم ما سمعه أثناء تحكيمه.