ما زالت إجراءات قضايا التحكيم تثير خلافات في الرأى على المستوى الدولى، وتدعو إلى مزيد من بحث هذه المسألة، والأصل المتفق عليه ابتداء هو حرية الأطراف في تحديد القواعد الإجرائية والموضوعية التي تطبق بواسطة المحكمين على القضية، ولكن الخلاف يحتد ويشتد عندما ينسى الأطراف أن يضعوا أحكاما في العقد أو في اتفاق التحكيم على الإجراءات التي سوف تتبع إذا حدث خلاف، وتبدو أهمية هذه المسألة محدودة في التحكيم النظامى الخاضع لإشراف أحد مراكز التحكيم الدولى لأن لائحة هذا المركز تغطى الفجوة الإجرائية المتروكة. أما فــــــي التحكيم الحر فسنرى كيف تعالج هذه المسألة.
في شهر يوليو ۱۹۸۷ تم إبرام عقد بين جهتين على إطلاق قمر صناعي في الفضاء، والجهة التي ستقوم بإطلاقه تسمى مدك أما الجهة التي سيعمل القمر لحاسبها فتسمى ،دوس، وتضمن العقد شرط تحكيم حـــر يجرى بين الطرفين عند الاختلاف حول العقد وبين هذا الشرط طريقة تعيين المحكمين، وهى أنه بعد إعلان أحد الطرفين للآخر برغبتـــــه فــــي إجراء التحكيم يعين كل منهما محكما ثم يتفق الطرفان على تعيين رئيس هيئة التحكيم على أن يتم ذلك كله خلال ستين يوما من الإخطار بالتحكيم وإعلان الرغبة في الدخول فيه، فإذا تعذر ذلك قام بالتعيين رئيس محكمة التحكيم الدولية بغرفة التجارة الدولية. أى أنه رغم أن القضية لن تعوض على هذه الغرفة للفصل فيها طبقا للائحتها، إلا أن سلطة التعيين حددت في شخص رئيس محكمة التحكيم الدولية فإذا مارس سلطته في ذلك سار التحكيم بعيدا عن الغرفة. ويكون تعيين المحكمين فى هذه الحالة مقابل رسوم إدارية تدفع للغرفة، ولابد من إطلاع سلطة التعيين على ظروف وطبيعة النزاع وشخصية كل من طرفيه وجنسيته حتى تحسن الاختيار.
وتضمن شرط التحكيم تحديد مكانه بأن يتم في لندن كمــــا نـــص على أن قانون العقد هو القانون الهندى وأن يطبق قانون التحكيم الهندى الصادر عام ١٩٤٠.
وهنا ثار الخلاف بين الطرفين، فالمدعى (وهو مشترى القمر الصناعي) يدعى أن إجراءات التحكيم يجب أن تكون محكومة بقانون التحكيم الهندى، بينما يتمسك المدعى عليه بأن القانون الانجليزي هو الذي يطبق على إجراءات التحكيم.
ويستند المدعي في رأيه على أن العقد قد حدد صراحة أن قانون التحكيم الهندى هو الذي يطبق، وهذا القانون توجد فيه القواعد الإجرائية التي تنطبق على التحكيم وأمام الاختيار الصريح الصحيح من الأطراف لا يمكن قبول أى قانون أخر لتطبيقه على الإجراءات.
ويستند المدعى عليه على التفرقة بين مقر التحكيم ومكان التحكيم ويقول أن مقر التحكيم مكان ينعقد فيه التحكيم ويرتبط التحكيم بقانون هذا المقر فيما يتعلق بالإجراءات. فالمقر فكرة قانونية وجغرافية، أما مكان التحكيم ففكرة جغرافية بحتة لا تستتبع وجود علاقة بين التحكيم وبين المكان الذي يتم فيه، فإذا رئى للمحكمين أن يغيروا مكان التحكيم بالنسبة إلى إحدى الجلسات إلى مكان آخر أقرب لأحد الطرفين فهذا تغيير مكــان وليس تغيير مقر ، إذ يظل التحكيم خاضعا لقانون إجراءات بلد مقره. ويطلق على مقر التحكيم .SEAT . أما مكان التحكيم فيطلق عليــه PLACE . وهذه التفرقة كان قد استحدثها مجلس اللوردات في انجلترا حوالي عام ۱۹۹۱ وأيدتها محكمة النقض الفرنسية عام ١٩٩٧ وقالت ان مقر التحكيم يطلق عليه siege de l'arbitrage وان مكان التحكيم يطلق عليه lieu de l'arbitrage . ويبنى المدعى عليه على ذلك أن القضية المعروضة فيها اتفاق على مقر التحكيم أن يكون لندن، وهذا لا يعتبر اتفاقا على مكان جغرافي فقط للتحكيم، بل هو اتفاق له آثار قانونية تجعل القانون الانجليزى هو القانون الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم وبذلك يستبعد القانون الهندى والواقع ان القانون الانجليزى والهندى ينتميان إلى عائلة قانونية واحدة هي عائلة القوانين الانجلوسكسونية ولا يوجد فارق ملموس بينهما ، إلا أنه كان من الضرورى حسم المسألة من حيث المبدأ تحسبا للحالات التي يوجد فيها مثل هذا الفراق ولأن أحكام القضاء الانجليزى يمكن أن تقرر مبادئ قانونية تؤخذ حجة في المستقبل.
وإزاء هذا الخلاف حول القانون الذى سيطبق على الإجراءات احيل الأمر إلى محكمة العدالة العالية للفصل فيه وهذه المحكمة موجودة في لندن.
وقد رأت محكمة العدالة أنه توجد عدة قوانين تتعلق بالنزاع فهناك قانون يحكم العقد وقد يخضع العقد لقانون واحد أو لعدة قوانين ولتحديد قانون الإجراءات يتبع ما قد يتفق عليه الأطراف صراحة. فإذا لم يتفقوا صراحة بحثنا عن اختيار ضمني يكونون قد قبلوه ضمنا اثناء التعاقد. وهذا الاتفاق الضمني يمكن أن يكون مستمدا من الاتفاق على مقر التحكيم فى بلد معين، فيشير ذلك إلى قصد الطرفين إلى تطبيق قانون هذا البلد على الإجراءات. ولكن المشكلة القائمة فى هذه القضية هي أن الطرفين مع اختيارهما لندن مقرا للتحكيم قد اتفقا على تطبيق قانون التحكيم الهندي الصادر عام ١٩٤٠.
وقد يشير ذلك إلى تطبيق القانونين معا على التحكيم أو إلى أن القانون الهندى هو الذي يطبق، ولكن الجمع بين القانونين لا يخلو من التناقض مع كثير من الصعوبات، وكذلك إخضاع إجراءات التحكيم للقانون الهندى سيؤدى إلى أنه إذا دعيت محكمة انجليزية في لندن إلى المساعدة في أية مشكلة تواجه هذا التحكيم فإنها سوف تتباطأ إذا وجـــــدت أن قانونا أجنبيا هو المطبق على الإجراءات لأن ذلك يبعث على التردد ومن ناحية أخرى لا يتصور أن تحكيما في لندن يظل تابعا لمحكمة فـ الهند تشرف على شئونه خاصة إذا كان تحكيما دوليا.
لذلك لم يبق الا اختيار واحد هو ان هذا التحكيم يخضع في إجراءاته للقانون الانجليزى باعتبار أن لندن مقر التحكيم، ومع ذلك يظل القانون الهندى من ناحية الموضوع مطبقا على عقد إطلاق القمر الصناعي، أما اتفاق التحكيم فانه يخضع لقانون التحكيم الهندي الصـــــــادر عام ١٩٤٠ فيما يتعلق بصحته وبطلانه ونفاذه وتفسيره وهذا الجانب مختلف عن الإجراءات التي تطبق أمام المحكمين أثناء سير التحكيم والتي أخضعتها المحكمة للقانون الانجليزي.