والتساؤل الذي يتعين علينا طرحه قبل مغادرة هذا المقام: إذا كان القانون قد كفل للأطراف حرية الاتفاق على الأغلبية اللازمة لصدور الحكم، فهل يجوز لهم - في حالة تشعب هيئة التحكيم إلى ثلاثة آراء - الاتفاق على صدور الحكم استناداً لرأي الرئيس وحده؟
نرى أن نص المادة 40 تحكيم يجيز للأطراف الاتفاق على هذه المكنة، ويتأيد هذا الرأي بالحجج التالية:
1- إن عبارة «ما لم يتفق طرفا التحكيم على غير ذلك» الواردة في عجز المادة 40 يتسع مداها - كما ذكرنا - ليس فقط لاتفاق الأطراف على أسلوب المداولة، وإنما أيضا على العدد اللازم توافره من المحكمين لإصدار حكم التحكيم، سواء كان هذا العدد متمثلا في الإجماع أو الأغلبية أو حتى في مجرد الاستناد لرأي الرئيس عند عدم استطاعة الوصول إلى أغلبية.
2- التحكيم نظام قضائی خاص يتأسس على الحرية الفردية؛ فالمحكم يستمد سلطاته ومداها من اتفاق الأطراف، وما دام الأطراف قد اتفقوا على إمكان صدور الحكم بالاستناد لرأي الرئيس وحده، فإن هيئة التحكيم لا تمت خيرة من أمرها، وإنما تلتزم بإصدار الحكم بالكيفية التي أرادها الأطراف وهي تغليب رأي الرئيس في حالتي عدم الوصول إلى إجماع أو أغلبية.
3- يضاف للحجة السابقة - وهي تساعد على الإقناع بالرأي الذي ننادي به - أن تغليب رأى الرئيس يعد أفضل الأوضاع؛ لأن من شأنه تجنب النتائج المأساوية التي تترتب على إنهاء إجراءات التحكيم بسبب عدم جدواه أو استحالته طبقا للمادة 1/48/ج.
4- لا يعتبر هذا الحل غريباً عن الذهن القانوني المصري، فقد كان المشروع المقدم من الحكومة للمادة 40 ينص - كما أشرنا - على أنه إذا لم تتوافر الأغلبية رجح رأى الرئيس ويصدر الحكم بمقتضاه ما لم يتفق طرفا التحكيم على غير ذلك».
وهكذا ننتهي - من هذا الاستعراض - إلى أن المبدأ هو صدور حكم التحكيم إما بالإجماع أو الأغلبية أو الاستناد إلى رأي الرئيس وحده على حسب التفصيل السابق، وذلك مع الأخذ في الاعتبار المبادئ التي قررتها محكمة استئناف القاهرة في شأن المداولة - والتي ذكرناها سابقا - وأهمها ضرورة إعادة الدعوى التحكيمية للمرافعة إذا تم تبديل أحد المحكمين بعد قفل باب المرافعة، وإلا يشترك في المداولة غير المحكمين الذين سمعوا المرافعة.
المداولة الإلكترونية :
خلت الإجراءات التكميلية من بيان أمام المداولة المتعلقة بالحكم الإلكتروني. وبالرجوع إلى القواعد المعتمدة لدى الجمعية بشأن التحكيم التقليدي نجد قاعدتين هامتين:
القاعدة الأولى: «يعتبر تفسير أو تطبيق هذه القواعد من سلطات المحكم والتزاماته. وفي حالة تشكيل هيئة التحكيم من أكثر من محكم مع اختلافهم في تفسيرها أو تطبيقها، يرجح رأي الأغلبية. وإذا لم يكن ذلك ممكنا جاز لأي محكم أو لأي طرف إحالة الأمر إلى الجمعية للحصول على قرار نهائی» (المادة 53). |
القاعدة الثانية: «عندما تكون هيئة التحكيم مشكلة من أكثر من محكم، فإنه يجب ترجيح رأي الأغلبية بخصوص جميع القرارات، مالم يتطلب القانون أو اتفاق التحكيم غير ذلك» (المادة 40)
ولا شك أن القاعدتين تصبان في اتجاه تبنى رأي الأغلبية، وإن اختلفا - بعض الشئ - في مضمونهما بحسب ما إذا كانت المداولة على تفسير نصوص القانون أم على إصدار القرارات المتعلقة بالتحكيم:
- المداولة على تفسير النصوص القانونية وأسلوب تطبيقها: اعتبرت قواعد الجمعية هذه المسألة من سلطات المحكم الإلكتروني والتزاماته التي يجب أن يؤديها باجتهاد ونزاهة في ذات الوقت. فالمؤكد أن تفسير النصوص القانونية وتطبيقها بالأسلوب الأمثل هو المؤدي إلى بلوغ الصورة المثلى للعدالة. ولا توجد أية صعوبات - كما هو المعتاد - إذا كانت هيئة التحكيم الإلكتروني مشكلة من محكم وحيد، فالفرض أنه لا توجد إلا وجهه نظر واحدة لتفسير وتطبيق النصوص القائمة، ومن ثم تسري هذه الوجهه من النظر دون منازعة. أما إذا تعدد المحكمون في واحد، أو اثنين مقابل واحد تعد المحكمون، فالأمر كسابقه: إما الإجماع على تفسير ان مقابل واحد، أو وجود ثلاثة تفسيرات مختلفة. ولا يحتاج الحكم إلى بيان في الحالتين الأولى والثانية؛ حيث يعتمد - ووفقا لنص المادة و الاجماع والأغلبية. أما الفرض الثالث الذي يتعذر فيه الوصول حتى إلى أغلبية - لوجود ثلاثة آراء مختلفة - فإنه يمكن لأي طرف أو لأي محكم - نزولا على حكم النص المشار إليه - أن يلجأ للجمعية - عن طريق الموقع الإلكتروني للدعوى بطبيعة الحال - لاتخاذ القرار المناسب في هذا الموضوع، ويكون قرارها نهائيا وملزمة للجميع، محكمين وأطرافا.
- المداولة على جميع القرارات بما في ذلك الحكم النهائي: لم تتخل جمعية التحكيم الأمريكية عن عادتها في إتاحة الفرصة الكاملة للأطراف للاتفاق على ما يعن لهم من قواعد بشأن مختلف مسائل التحكيم ومنها الطريقة المثلى لانعقاد المداولة؛ ولهذا فإنه يمكن - في مفهوم المادة 40 - التفرقة بين أمرين:
ا- وجود أحكام خاصة في القانون الواجب التطبيق أو في اتفاق التحكيم التعلق بالمداولة. إذا وجدت هذه الأحكام تعطلت القاعدة المنصوص عليها في المادة 40 لصالح سريان أحكام القانون الواجب التطبيق أو اتفاق التحكيم الإلكتروني، فإذا كانت أحكام هذا القانون، أو كان الأفراد قد اتفقوا على ضرورة أن يكون رأي الرئيس ضمن الأغلبية أو على صدور الحكم الإلكتروني بالاستناد لراي الرئيس وحده في حالة عدم الوصول لأغلبية، فإن هذه الأحكام هي التي يعول عليها. ولا صعوبة في استنتاج هذا الحكم من عبارة نص المادة 4 سما لم يتطلب القانون أو اتفاق التحكيم غير ذلك».
. 2- عدم وجود أحكام خاصة في القانون الواجب التطبيق أو في اتفاق التحكيم: إذا لم توجد هذه الأحكام انطبق حكم المادة 40، وبالتالي يستأثر المحكم الإلكتروني الفرد بالفصل في النزاع، كما يسرى الإجماع ومطلق الأغلبية في الهيئة الجماعية. ورغم ذلك فقد خلت المادة المذكورة من مواجهة الفرض الذي تتشعب فيه هيئة التحكيم الإلكتروني إلى ثلاثة آراء، حيث سكتت تماما عن بيان الحكم المقرر لهذه الحالة. ولا يعد من المناسب - في مفهوم قواعد الجمعية - القول بترجيح رأى الرئيس؛ لأنها قد اشترطت - وبصريح نص المادة 40 - أنه «يجب ترجيح رأي الأغلبية بخصوص جميع القرارات»
When the panel consists of more than one arbitrator... a majority of the arbitrators must make all decisions
وبالتالي لا مناص من القياس على حكم المادة 53 والرجوع للجمعية ذاتها التقرر ما تراه مناسبة، كإتاحة فرصة أخرى للمحكمين لإعادة المداولة أو تعيين هيئة تحكيم جديدة. وعلى أية حال فإنه يمكن اللجوء لمختلف وسائل الاتصال الحديثة لإجراء المداولة مثل التليفون والفاكس ومؤتمرات الفيديو ومؤتمرا التليفون، ودون حاجة لاجتماع المحكمين بذواتهم في مكان واحد يبدو التحكيم الإلكتروني مميكنة، فليس هناك ما يمنع من ميكنة المداولة
وبهذه المثابة ننتهي إلى أن تنظيم محكمة القضاء بعد - وهذه من المرات النادرة - أفضل وأدق وأكمل من القواعد المعتمدة لدى جميعية التحكيم الأمريكية بشأن المداولة الإلكترونية nline deliberian Fin فالتنظيم الأول يقرر أحكاما صريحة لمواجهة مختلف الفروض التي يمكن أن تنتهي إليها المداولة من إجماع واغلبية وتفرق هيئة التحكيم إلى آراء بعدد المحكمين المكونين لها، في حين أن قواعد الجمعية تقرر - وعلى استحياء - شريان رأي الإجماع والأغلبية لإصدار جميع القرارات ومن بينها الحكم النهائي، وذلك دون الاهتمام ببيان حكم الفرض الذي تتشتت فيه هيئة التحكيم الإلكتروني إلى آراء بعدد المحكمين المكونين لها، وهو ما قد يؤدي إلى تعيين الحكيم جديدة تستغرق من الزمن والنفقات ما قد يلحق الضرر الجسيم بالأطراف.