- ثلاثة اتجاهات: يمكن أن نميز بين ثلاثة اتجاهات متباينة تتنازع مسألة الاختلاف بين حكم التحكيم، والحكم القضائي، من حيث القوة الملزمة، أي من حيث الحجية. والمسألة هي ما إذا كان حكم التحكيم أقوى أو في نفس قوة أو أضف من الحكم القضائي:
- الاتجاه الأول: حكم التحكيم أقوى:
- وفقاً لهذا الاتجاه، لحكم التحكيم قوة الأمر المقضي، لا مجرد حجية الأمر المقضي، وقد قضت محكمة النقض بانه «متى كان الثابت أن طرفي الخصومة قد لجأ إلى التحكيم فيما كان ناشئة بينهما من منازعات متعددة بشان زراعة الأطيان المملوكة لهما، وكان حكم المحكمين قد فصل بصفة نهائية في هذه المنازعات، وقضى لأحدهما بأحقيته في استلام أطيان معينة بما عليها من الزراعة، وكانت هذه الزراعة قائمة في تلك الأرض فعلاً وقت صدور حكم المحكمين، فإن أحقية المحكوم له للزراعة المذكورة تكون مقضياً له بموجب حكم المحكمين ضد الخصم الآخر، وتكون دعوى هذا الأخير بطلب أحقيته لهذه الزراعة مردودة بما لهذا الحكم من قوة الأمر المقضي ومن حجية قبله….."
نقد:
صحيح أن قوة حكم التحكيم تختلف عن قوة الحكم القضائي الابتدائي لكن ليس الأخير أضعف قوة من الأول بحيث يحوز حكم التحكيم قوة الأمر المقضي، بينما لا يحوز الحكم القضائي الابتدائي سوی حجية الأمر المقضي. ويؤخذ على الاتجاه المعروض أنه يخالف القانون الوضعي:
۱- فطبقا للمادة 1476 مرافعات فرنسي والمادة 55 تحكيم مصري، الحكم التحكيم حجية الأمر المقضي، لا قوة الأمر المقضي. وقد يرد على ذلك بأن القانون قد يستخدم أحياناً اصطلاح حجية الأمر المقضي بمعنى قوة الأمر المقضي. لكن يجاب على هذا الرد بأنه، وإن كان صحيحا أن القانون قد خدم أحيانا عبارة حجية الأمر المقضي في غير معناها الاصطلاحي، لكن صحيح أن المشرع في كل هذه الأحيان يستخدم اصطلاح حجية الأمر يقضي بمعنى قوة الأمر المقضي.
وطبقا للمادة ۱/۰۲ تحكيم، فإن حكم التحكيم في مصر ليس مجرد قابل للطعن بالاستئناف بحيث يعد حكماً انتهائياً يحوز قوة الأمر وإنما هو حكم غير قابل للطعن فيه باي طريق من طرق الطعن في الأحكام القضائية.
لكن فضلا عما سبق أن عرضناه من أن حكم التحكيم لا يخضع لنظام الأحكام القضائية الصادرة بصفة انتهائية، فإن لم يقل أحد أن حكم التحكيم يخضع لنظام الأحكام القضائية الباكة. مما يعني أن حكم التحكيم، لا هو حكم انتهائي، ولا هو حكم بات) وهذا لا يعني أن حكم التحكيم حكم قضائي ابتدائي، إنما يعني أن حكم التحكيم ليس حكما قضايا، وبالتالي فهو لا يخضع لتقسيمات الأحكام القضائية إلى أحكام ابتدائية وأحكام انتهائية وأحكام باتة.
٣- ولو كان حكم التحكيم حكمة انتهائيا حائزا لقوة الأمر المقضي، لما كان مقبولا من الناحية المنطقية أن يحظر القانون الأمر بتنفيذه في حالة تعارضه مع حكم قضائي سابق عليه إلا إذا كان هذا الحكم القضائي حائزا لقوة الأمر المقضي، علما بأن القانون لم يشترط هذا الشرط في الحكم القضائي السابق (م ۲/۰۸/ تحكيم).
الاتجاه الثاني: الحكم التحكيم قوة الحكم القضائي الابتدائي:
قنن المشرع الفرنسي والمصري الاتجاه السائد - فقها وقضاء - الذي يرى أن الحكم التحكيم حجية الحكم القضائي الابتدائي، أي حجية الأمر المقضي، لا قوة الأمر المقضي، ولا حجية خاصة بحكم التحكيم. فنصت المادة ۱۶۷۹ مرافعات فرنسي على أن «لحكم التحكيم منذ صدوره حجية الأمر المقضي…"
نقد:
صحيح أن لحكم التحكيم قوة ملزمة بمعناه الإجرائي، أي بمعنى حجية الأمر. وأن هذه الحجية نوع واحد، سواء كان حكم التحكيم يقبل الاستئناف كما النظام الفرنسي، أو لا يقبل الطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن في الأحكام كما في النظام المصري. وأن قوة حكم التحكيم هذه لا تزيد عن قوة الحكم القضائي الابتدائي.
لكن ليست قوة الحكم القضائي الابتدائي وحكم التحكيم واحدة، بحيث يحوز حكم التحكيم حجية الأمر المقضي التي يحوزها الحكم القضائي الابتدائي.
وليس نص القانون الفرنسي أو المصري حجة قاطعة على أن الحكم التحكيم حجية الأمر المقضي.
وقاعدة حيازة حكم التحكيم لحجية الأمر المقضي في القانون الفرنسي، تساير التوجه الفرنسي السائد الذي يوحد فكرة حكم التحكيم والحكم القضائي ويوجد بالتالي فكرة حجية حكم التحكيم وحجية الحكم القضائي. لكن هذه القاعدة في القانون المصري تخالف توجهه الذي لا يوجد فكرة حكم التحكيم الحكم القضائي، إعلانا لاستقلال حكم التحكيم عن الحكم القضائي، وإعلام السلطان القضاء على سلطان التحكيم).
بل كذلك لا جدوى من حيازة حكم التحكيم لحجية الأمر المقضي التي يحوزها الحكم القضائي الابتدائي، إذا كانت هذه الحجية لا توجب خضوع حكم التحكيم لنظام الطعن في الأحكام القضائية، ولا توجب عدم خضوعه لنظام دعوى البطلان المبتدأة، ولا توجب وجود حل لحكم التحكيم المتعارض مع حكم قضائي سابق عليه حتى لو كان حكما ابتدائيا. فعدم جواز الأمر بتنفيذ كم التحكيم المتعارض هذا، حل مقرر لصالح الحكم القضائي، وليس حلا المشكلة حكم التحكيم المتعارض.
بهذا فإن حجية حكم التحكيم، إذ هي لا تكفل له أي وجه من وجوه الحصانة التي تكفلها حجية الأمر المقضي للحكم القضائي، فهي من ثم ليست فقط حجية مختلفة عن حجية الأمر المقضي التي يحوزها الحكم القضائي الابتدائي، إنما أيضاً هي حجية لا تعادل حجية الأمر المقضي بمعناها الاصطلاحي بل كذلك هي حجية أضعف من الحجية الأخيرة.
الاتجاه الثالث: الحكم التحكيم حجية الأمر المحكم فيه:
القوة الملزمة لحكم التحكيم باعتبارها أثرا له يتبع طبيعته التحكيمية ليست فقط تختلف عن القوة الملزمة للحكم القضائي الابتدائي، أي حجية الأمر المقضي، إنما أيضا لا تزيد عنها، بل كذلك لا تعادلها.
وهذا الاصطلاح جدير بالتأیید. ليس فقط لأنه يتفق مع ما لحكم التحكيم من طبيعة تحكيمية تعد أساس آثاره بما فيها قوته الملزمة، أي حجيته أيضاً لأنه يتمشى مع مبدأ استقلال حكم التحكيم وبالأخص عن الحكم القضائي، بل كذلك لأنه يتلاءم مع مبدأ عدم على الحكم التحكيمي على الحلم خصائي. وأخيرا لأنه يجسد وحدة حجية حكم التحكيم:
١- وفكرة عدم علو الحكم التحكيمي على الحكم القضائي، تعد وجها من وجوه مبدأ أعلاه سلطان القضاء، وهذا المبدأ توجه من توجهات قانون التحكيم المصري الجديد، وبالأخص قاعدة عدم جواز الأمر بتنفيذ حكم التحكيم المتعارض مع حكم قضائي سابق عليه (م ۲/۰۸/ أ تحكيم). ففي شأن هذه القاعدة تقول المذكرة الإيضاحية لهذا القانون «.... وأوجدت التحقيق من أن حكم التحكم المطلوب تنفيذه لا يتعارض مع حكم سبق صدوره من المحاكم المصرية في ذات النزاع، إعلاء السلطان القضاء المصري». وهكذا فالمبدأ هو على سلطان القضاء الوطني على سلطان التحكيم الوطني، ومن باب أولى على سلطان التحكيم الأجنبي. لذا فإنه طبقا للمادة ۲۹۸ و4/۲۹۹ مرافعات، لا يجوز الأمر بتنفيذ حكم التحكيم الأجنبي المتعارض مع حكم أو أمر سبق صدوره من محاكم الجمهورية. مما يعني على الحكم القضائي - حتى لو كان ابتدائيا - على حكم التحكيم.
وفكرة على الحكم القضائي على الحكم التحكيمي، ليس مبناها اعتبارات إنما مبناها طبيعة الحكم القضائي.
وليس يعني الحكم القضائي أقوى تلك الأعمال من حيث القوة التنفيذية. لأن هذه وتبعا لوحدة مصدرها وهو القانون، وبالتالي فهي لا تتنوع بتوع السندات. إنما ذلك يعني أن الحكم القضائي أقوى هذه الأعمال من حيث قوته الملزمة، أي حجيته.
ولأن حجية الأمر المحكم فيه هي بطبيعتها أضعف من حجية الأمر المقضي، فإنها لا توجب خضوع حكم التحكيم النظام الطعن في الأحكام القضائية. إذا حظر القانون المصري خضوع حكم التحكيم نظام الطعن. كما أنها لا توجب عدم خضوع حكم التحكيم لنظام دعوى البطلان المبتدأ. لذا لا يخلو نظام من أنظمة التحكيم في القانون المقارن، من تنظيم الدعوى بطلان حكم التحكيم، بل وهي لا توجب إيجاد حل مصيري لحكم التحكيم المتعارض مع حكم قضائي سابق عليه، حتى أن القانون لا يجعل من هذا التناقض مسببة من أسباب دعوى بطلان حكم التحكيم.
- والقوة الملزمة الحكم التحكيم تتميز بأنها نوع واحد ومن ثم يكفي لها اصطلاح «حجية الأمر المحكم فيه، وذلك خلافا للقوة الملزمة للحكم القضائي التي تتدرج في ثلاث درجات: القوة الملزمة للحكم الابتدائي، وهي حجية الأمر المقضي autorité de la close juice'1. والقوة الملزمة الحكم الانتهائي، وهي قوة الأمر المقضي la force de la chose jugee. والقوة الملزمة للحكم البات، وهي قوة البتية.
أساس اختلاف العمومية:
: المحكم، لا هو قاضِ دولة، ولا هو قاضٍ عام، ولا هو قائم بخدمة عامة دائمة.
ومع ذلك acte public وبالتالي فهو عمل رسمي ntique التحكيم شأنه في ذلك شان الحكم القضائي لكن هذا لا يعني أن حكم التحكيم والحكم القضائي سواء من حيث العمومية أو الرسمية.
۱- فالشرط اللازم لعمومية عمل المحكم أخف كثيراً من الشرط اللازم تعمل القاضي، ولو أن كلاهما لازم لعمومية العمل. وقد ورد الشرط في المادة ۲/۱۹ تحكيم، والشرط الثاني ورد في المادة 38 من قانون الشرطة القضائية. وبينما يكفي كمال أهلية المحكم، يلزم كمال أهلية القاضي ألا يقل سنه عن ثلاثين سنة. وبينما يكفي في المحكم ألا يكون محرومة من حقوقه المدنية بسبب الحكم عليه في جناية أو جنحة مخلة بالشرف أو بسبب شهر إفلاسه، يلزم ألا يكون قد حكم على القاضي من المحاكم أو مجالس التأديب لأمر مخل بالشرف. وبما يكفي في المحكم أن يكون قد رد إليه اعتباره الذي فقده من قبل، يلزم في القاضي ألا يكون قد فقد اعتباره من قبل. وبينما لا يلزم في المحكم أن يكون محمود السيرة حسن السمعة، يلزم في القاضي أن يكون محمود السيرة حسن السمعة.
۲- أساس عمومية عمل المحكم أضعف كثيرا من أساس عمومية عمل القاضي. فالمحكم يقوم بعمله، لا تحقيقاً لوظيفة عامة أو حتى خدمة عامة " دائمة، وإنما تحقيقاً لمهمة عامة عرضية موقوتة ومأجورة من جانب الخصوم وتوقف على قبوله لها. بينما القاضي يقوم بعمله، لا تحقيقاً لمهمة عامة أو حتى خدمة عامة دائمة، وإنما تحقيقاً لوظيفة عامة دائمة وغير مأجورة من جانب الخصوم ولا تتوقف على قبوله لها.
بيد أن ذلك، كما لا يعني انتفاء الصفة العمومية لحكم التحكيم، لا يعني وجود تطابق بين حكم التحكيم والحكم القضائي من حيث العمومية، إنما هو يتبين فقط أن حكم التحكيم أقل والحكم القضائي أقوى من حيث العمومية، وهو من ثم يثير التساؤل عما إذا كان إلى ثمة تأثير على الرسمية؟
اختلاف الرسمية:
حكم التحكيم شانه في ذلك شان الحكم القضائي، هو ورقة مرافعات تتميز كغيرها من أوراق المرافعات بالشكلية والرسمية. ومن ثم فإن حكم التحكيم يرقى إلى مصاف الحكم القضائي، من حيث القوة الإقناعية للرسمية في مجال الإثبات القضائي؛ لأن كلاهما ورقة رسمية.
لكن حكم التحكيم لا يرقى إلى مصاف الحكم القضائي، من حيث الرسمية اللازمة لورقة المرافعات العادية.
بينما المسلم أن حكم التحكيم ليس عمل وظيفة عامة، بل ولا هو عمل خدمة عامة دائمة. إذ هو مجرد عمل مهمة عامة عرضية وموقوتة.
بيد أن ذلك، كما لا يعني انتفاء الصفة الرسمية لحكم التحكيم، لا يعني تطابق بين حكم التحكيم والحكم القضائي من حيث الرسمية اللازمة لورقة المرافعات العادية. فحكم التحكيم أقل، والحكم القضائي أقوى، في هذا مما يعني أن حكم التحكيم ورقة مرافعات غير عادية بالنسبة للحكم باعتباره ورقة مرافعات عادية. وحكم التحكيم ورقة مرافعات غير عادية، بمعنى أنها ورقة مرافعات أقل من الورقة العادية.
- أثر الاختلاف بين الحكمين:
لأن حكم التحكيم لا يرقى إلى مصاف الحكم القضائي، سواء من حيث العمومية أو من حيث الرسمية، فإن القانون لا يتطلب استصدار أمر بتنفيذ الحكم القضائي قبل تزويده بالقوة التي تفنن حكم التحكيم قبل تزويده بالقوة التنفيذية.
- خلاصة المبحث الأول: القوة التنفيذية لحكم التحكيم باعتبارها أثرا من آثاره ولو أنها أثر غير مباشر له، فهي تتميز عن آثاره التي تترتب عليه مباشرة منذ صدوره، وذلك من حيث المصدر المباشر، ومن حيث وقت ترتبها.
لكن هذه الآثار تبع طبيعة حكم التحكيم، سواء طبيعته الإجرائية باعتباره حكما بالمعنى الإجرائي لا بالمعنى القضائي، أي باعتباره عملاً إجرائياً ذا طابع عام، أو طبيعته التحكيمية باعتباره تحكيمه وليس مجرد حكم. وحكم التحكيم على الاعتبار الأول، يرتب أنواع القوة التي يرتبها الحكم القضائي، وهي أنواع ثلاثة لا أربعة، تتمثل في القوة التنفيذية والحبية وقوة الرسمية في الإثبات: أما على الاعتبار الثاني، فإن أثاره المباشرة أضعف من الدار الحكم القضائي. فحكم التحكيم أقل من حيث الحجية مما يقتضي تحت مسمى «حجية الأمر المحكم فيه». كما أنه أقل من حيث العمومية وليس من حيث الرسمية اللازمة لورقة المرافعات العادية باعتبارها من لوازم السند التنفيذي. مما يقتضي تعويض ذلك النقص، من خلال نظام الأمر بالتنفيذ. وبهذا يكون السند التحكيمي باعتباره مفترضا للقوة التنفيذية، سندا مركبا. لذا ندرس في المبحث التالي مفترض القوة التنفيذية لحكم التحكيم.