إذ مسلم أن التحكيم أسبق في الوجود تاريخيا من القضاء مما يعني أن حكم التحكيم أقدم تاريخية من الحكم القضائي.
وقبل ظهور القضاء، كان حكم التحكيم يستغرق فكرة الحكم. أما بعد ظهور القضاء، فلا حكم التحكيم يستغرق فكرة الحكم، ولا الحكم القضائي يستغرق فكرة الحكم.
- الحكم:
حكم التحكيم شانه في ذلك شان الحكم القضائي، هو حكم وبالتالي فكلاهما حكم، ولو أن الأول تحكيمي بينما الثاني قضائي. ومن ثم فإن الفكرة الجامعة بين الحكم التحكيمي والحكم القضائي، ليست هي فكرة الحكم القضائي على نحو ما ذهب إليه الرأي الغالب في الفقه الفرنسي، ولا هي فكرة الحكم التحكيمي على نحو ما ذهبت إليه المدرسة التاريخية التقليدية التي اعتبرت أن التحكيم أصل القضاء، إنما هي فكرة الحكم.
وكلاهما حكم بمعناه الإجرائي aul sens processuel de terme، لا بمعناه القضائي aul sens juridictionnel لأن حكم التحكيم ليس حكما قضائية، ولا بمعناه التحكيمي لأن الحكم القضائي ليس حكماً تحكيميا.
ومن ثم فكلاهما حكم بمعناه الإجرائي المجرد عن الطبيعة القضائية والطبيعة التحكيمية، أي حكم بمعناه الإجرائي المجرد عن الطبيعية الخاصة الكل حكم منهما، ولو أن هذه الطبيعة الخاصة هي أساس نظام كل حكم منهما.
فالطبيعة القضائية هي أساس النظام الخاص للحكم القضائي، والطبيعة التحكيمية هي أساس النظام الخاص للحكم التحكيمي.
وقد انتقد هذا الرأي على أساس أن الحكم ليس عملا نظرية إنما هو عمل تطبيقي pratique. وأن الحكم ليس عملا أكاديمية، لأن المحاكم ليست أكاديميات للعلوم القانونية. وأن هذا النشاط الذهني، وإن كان موجودة، لكنه ليس هو الحكم.
والحقيقة أن المعنى الإجرائي المجرد للحكم، لا هو من أملاك المنطق، ولا هو من أملاك نظرية القانون، إنما هو من أملاك النظرية الإجرائية وحدها. وفي الحكم الإجرائي الحكم بمعناه المجرد، هو عمل إجرائي ذو طابع عام. مما يعني أن الحكم الإجرائي، لا هو عمل إجرائي بلا طابع عام، ولا هو عمل عام acte public بلا طبيعة إجرائية. وهذا ما يميزه، سواء عن التشريع أو عن العمل الإداري، أو عن العمل الخاص acte prive.
ومن ثم فحكم التحكيم أو الحكم القضائي باعتباره مجرد حكم، وبصرف النظر عن الطبيعة الخاصة، سواء كانت تحكيمية أو قضائية، هو عمل إجرائي ذو طابع عام.
- مبادئ الحكم الإجرائي:
حكم التحكيم نوع قائم بذاته، ويقابل الحكم القضائي باعتباره نوعا آخر قائمة بذاته، في جنس الحكم الإجرائي، أي في جنس الحكم باعتباره عملا إجرائيا ذا طابع عام، وبالتالي فإنه:
١- يخضع حكم التحكيم لنظامه الخاص، كما يخضع الحكم القضائي النظامي الخاص.
۲- لا يخضع حكم التحكيم لنظام الحكم القضائي، كما لا يخضع الحكم القضائي النظام حكم التحكيم..
٣- كلاهما يخضع للمبادئ العامة للحكم الإجرائي، لكن بما يلائم الطبيعة الخاصة لكل حكم منهما، ومن هذه المبادئ ما يلي: ا - مبدأ دعوى بطلان الحكم المبتدئة. ب - مبدأ الغير المحايد Ie tiers irnpartial وبالتالي مبدا الرد. ج- مبدأ حجية الحكم. د- مبدأ القوة التنفيذية للحكم. ه - مبدا الحكم ورقة مرافعات، أي مبدأ شكله الحكم، ومبدأ رسمية الحكم.
وهذه المبادئ تجد تطبيقاً لا في نظام كل حكم، لكن بما يلائم طبيعته الخاصة. وقد رأينا فيما سبق، أن دعوى بطلان الحكم المبتدأة مقررة في نظام الحكم القضائي كاستثناء، لكنها مقررة في نظام حكم التحكيم كأصل يستند إلى طبيعته التحكيمية، وأن هناك اختلاف بين الدعويين، سواء من حيث الموضوع أو الأسباب أو الاختصاص أو الميعاد أو مدى اتساع الدعوى لطلب الأمر بوقف التنفيذ، مما يعني أن كل نظام منهما بعد تطبيقا خاصا لمبدأ دعوى بطلان الحكم المبتدأة.
ومبنى هذا المبدأ الأخير أن الحكم باعتباره عملا إجرائيا ذا طابع عام، فإنه بطبيعته لا يستعصي على الخضوع لدعوي البطلان. لكن هذه الدعوى، لا هي دعوى بطلان عقد وبالتالي فهي لا تخضع لنظام دعوى بطلان الحقد، ولا هي دعوى بطلان قرار إداري وبالتالي فهي لا تخضع لنظام دعوى الإلغاء. إذ هي دعوى بطلان حكم. وهذه الدعوى هي بطبيعتها دعوى قضائية، لا دعوى تحكيمية، لأنها ليست دعوى بطلان عقد. لذا لا يجوز أن يكون بطلان الحكم موضوعا لدعوى تحكيمية.
كما أن هذه الدعوى هي بطبيعتها دعوى مدنية، لا دعوى إدارية، لأنها ليست دعوى إلغاء قرار إداري، ولأنها دعوى بطلان عمل إجرائي عام، فهي دعوى خاصة، وذات أسباب محصورة، ولا تقبل الطعن مقدمة.
وهذا التأصيل يفسر لنا التطابق والاختلاف بين الحكم التحكيمي والحكم القضائي، من حيث القوة أو الأثر، وبالأخص من حيث القوة التنفيذية.