. أكثر مناهج تحديد طبيعة حكم التحكيم شيوعاً وانتشاراً
في الوسط القانوني، هو منهج تحديد هذه الطبيعة نسبة إلى الحكم القضائي، أي نسبة إلى الطبيعة القضائية لهذا الحكم الأخير. ومن ثم فالتساؤل المثار وفقاً لهذا المنهج، عما إذا كان الحكم التحكيم طبيعة قضائية، أم لا؟
وهذا التساؤل لم يعدم من يجيب عليه بالإيجاب، ولا من يجيب عليه بالنفي، سواء في الفقه، أو في التشريع. مما يعني ليس فقط أن الطبيعة القضائية لحكم التحكيم مسألة خلافية في الفقه، إنما أيضاً أن هذه الطبيعة ذاتها مسألة خلافية في التشريع المقارن. فالاتجاه المؤيد لوجود طبيعة قضبان التحكيم يجد صدى لدى القانون الفرنسي مثلاً، بينما الاتجاه المنكر لوجود طبيعة قضائية لحكم التحكيم يجد صدى لدى القانون المصري مثلا.
أما القانون المصري فقد سلك مسلكاً عكسية في هذا الشأن، ابتداءً من منتصف القرن الماضي. فاتخذ موقفاً يختلف ليس فقط مع موقفه هو نفسه قبل هذا التاريخ إنما أيضاً مع موقف قانون المرافعات الفرنسي الملغي والمعاصر، ولو أن الموقف الجديد للقانون المصري لم يتكون مرة واحدة، إنما تكون تباعا على امتداد النصف الثاني من القرن الماضي.
قانون المرافعات المصري الملغى رقم 77 لسنة 1949، ألغى نظام المعارضة في حكم التحكيم. ثم المذكرة الإيضاحية لقانون المرافعات الحالي رقم 13 لسنة ۱۹۹۸، قد تفن الطبيعة القضائية لحكم التحكيم، وذلك بقولها صراحة « حكم المحكمين ليس حكما قضائيا» (1) وتبعها في ذلك قانون تعاث هذا، فألغى نظام استئناف حكم التحكيم، كما ألغى نظام نفاذه (معجل)، وحملت قواعد التحكيم في منازعات القطاع العام، مبدأ حظر الطعن في حكم التحكيم الإجباري باي طريق من طرق الطعن، ثم جاء قانون التحكيم الجديد رقم ۲۷ لسنة 1994، فألغى أخر ما كان يخضع له حكم التحكيم الاختياري من طرق الطعن، أي ألغي التماس إعادة النظر في حكم التحكيم (أ)، كما مد نطاق مبدأ حظر الطعن في حكم التحكيم باي طريق من طرق الطعن، إلى حكم التحكيم الاختياري، فنصت المادة ۱/۰۲ تحكيم على حظر الطعن في هذا الحكم باي طريق من طرق الطعن المقررة في قانون المرافعات.
والاختلاف بين القانونين المصري والقانون الفرنسي من حيث الطبيعة القضائية الحكم التحكيم وبالتالي مدى جواز خضوعه لطرق الطعن في الأحكام القضائية، هذا الاختلاف له أهميته، سواء على مستوى فكرة استقلال التحكيم، أو على مستوى فكرة التحكيم، أو على مستوى تقييم موقف القانون المصري:
١- إذ بهذا الاختلاف، فإن مبدأ استقلال التحكيم في القانون المصري يعني، ليس فقط استقلال اتفاق التحكيم وبالأخص شرط التحكيم (م۲۳ تحكيم)، إنما أيضاً استقلال المحكم سواء عن أشخاص وموضوع النزاع (م
۱/۱۸تحكيم) أو عن القضاء، بل كذلك استقلال حكم التحكيم عن الحكم القضائي بما يستتبعه ذلك مع عدم جواز الطعن في حكم التحكيم باي طريق من طرق الطعن في الحكم القضائي، مما يعني أن مبدأ استقلال التحكيم في مصر أوسع نطاقا منه في القانون الفرنسي الذي يوجد فكرة حكم التحكيم والحكم القضائي.
۲- بيد أن هذا الاختلاف بين القانون المصري والقانون الفرنسي، ليس سوى مجرد وجه من وجوه الاختلاف بين فكرة التحكيم المصرية وبين نظيرتها الفرنسية، وهذا الاختلاف الأخير، لا هو وليد اليوم، ولا هو منكور في الفقه، ولا هو ضئيل الأهمية.
وأقل ما يمكن استخلاصه من هذه الاختلافات الجوهرية هو أن لفكرة سواء عن فكرة التحكيم المصرية ذاتية تميزها، سواءً عن فكرة القضاء، أو حتى عن فكرة التحكيم الفرنسية.
٣- والقانون المصري، إذ يرتب على انتفاء الصفة القضائية لحكم التحكيم حظر الطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن في الأحكام القضائية، فإن موقفه هذا يتفق تماماً مع كثير من الحقائق التي فيها.