معظم الذين سبق لهم أن تطرقوا هذا الموضوع أمكنهم الملاحظة أن عنوانه يحيل إلى مفاهيم لا تنسم بالتجانس أو التناغم.
فالتحكيم يعتبر بشكل عام موطن الحرية وخاصة حرية الأطراف في نزع اختصاص المحاكم النظامية للنظر في نزاعهم، وحريتهم في اختيار القانون الواجب التطبيق، وحريتهم في اختيار قواعد الإجراءات، الخ... وهذه الحرية تتضاعف في مجال التحكيم الدولي بحيث أن مكان التحكيم يخضع أيضاً في هذه الحالة لاختيار الأطراف بحيث يصبح التحكيم عندها بمثابة عدالة لا موطن لها، حرة، طليقة، غير خاضعة للقوانين الوطنية وللخصائص القومية.
وفي المقابل فإن القواعد الآمرة تعتبر اليوم بمثابة رأس حربة التسلط النظامي أو الحكومي أو على الأقل رأس حربة السلطة التي يتمتع بها القاضي الوطني الواضع يده على الدعوى في مجال النزاعات الدولية.
فالآلية التي تستند إليها هذه القواعد في مجال القانون الدولي الخاص مختلفة عن أسلوب تنازع القوانين الكلاسيكي. فهذه الآلية ترمي إلى تطبيق قاعدة قانونيـة داخلية ـ أي قاعدة وطنية على واقعة ذات طابع دولي أو نزاع ذي طابع دولي، بغض النظر عن تعيين هذه القاعدة من قبل قاعدة تنازع القوانين المعتمدة، وذلك في الحالات التي تعتبر فيها الدولة التي أصدرت هذه القاعدة أن تطبيقها ضروري على الحالات الداخلة ضمن إطار تطبيقها والتي تتصل بهذه الدولة بشكل من الأشكال. ومن هنا، وبشكل خاص، فإن إعمال القواعد الآمرة في المجالات التي يطبق فيها مبدأ سلطان الإرادة إنما يؤدي إلى الحد من سلطة الأطراف، كلياً أو جزئياً، لجهة إخضاع عقدهما أو علاقتهما القانونية إلى القانون الذي يتم اختياره من قبلهما.
غير أن هذا التباين بين التحكيم والقواعد الآمرة لا يعطي فكرة كاملة ووافية عن الموضوع.
فإذا كان التحكيم يعتبر بشكل عام بمثابة الأرض الخصبة لمبدأ سلطان الإرادة ولحرية الأطراف، إلا أن هذه الإرادة وهذا السلطان غير قادرين على التحرر بشكل كامل من الأنظمة القانونية النظامية. فالأطراف المحتكمون في حاجة غالباً الى مؤازرة المحاكم النظامية من أجل تكوين الهيئة التحكيمية عندما تعترضهم صعوبات لهذه الجهة. كما أن المحكمين، وإن كانوا يتمتعون بالسلطة القضائية Juridictio، إلا أنهم لا يتمتعون بالسلطة الأمرية Imperium لإتجاه الأطراف ولاتجاه الأشخاص الثالثين. والمحكمون أيضاً في حاجة غالباً الى المحاكم النظامية خلال فترة المحاكمة التحكيمية لمساعدتهم في مجالات شتى. إضافة إلى ذلك فإن القرارات التحكيمية لا تتمتع بشكل عام بالقوة التنفيذية بحد ذاتها ولا يمكن بالتالي تنفيذها جبراً دون المرور بإجراءات الصيغة التنفيذية. فالدول، والدول وحدها، حتى إشعار آخر، هي التي تتمتع بسلطة الإكراه على الأشخاص وبسلطة التنفيذ على الأموال.
ومن ناحية أخرى، إذا كان مفهوم القواعد الآمرة معترف به في يومنا الحاضر، إلا أن هذا ورد لجهة مضمونه، خاصة وأن المصطلحات المستخدمة للإشارة ܟܪ المفهوم لا يزال موضع إليه متعددة. فالبعض في فرنسا مثلاً يستعمل مصطلح "القوانين ذات التطبيق الضروري" والبعض الآخر يستخدم مصطلح "القوانين ذات التطبيق اللازم" فيما يعتمد البعض الآخر مصطلح "القوانين ذات التطبيق المباشر"، أو حتى مصطلح "قوانين القانون العام" أو "القوانين المتعلقة بالنظام العام". ولكن المصطلح الاكثر اعتمادا في يومنا هذا باللغة الفرنسية هو مصطلح Lois de police وباللغة الانكليزية مصطلح Mandatory rules. وهذه المصطلحات قد لا تتطابق دوماً لجهة المضمون الذي تحيل إليه. وبشكل خاص فإن الفقه المعاصر يسعى إلى التمييز بشكل واضح بين مفهوم النظام العام ومفهوم القواعد الآمرة في مجال تنازع القوانين، ويتم التشديد في هذا الإطار على أن فكرة النظام العام في هذا المجال إنما هي آلية تسمح للقاضي الوطني الواضع يده على الدعوى باستبعاد القانون الأجنبي الواجب التطبيق، إذا ما تبين أنه يخالف المبادئ الأساسية التي يستند إليها القانون الوطني للقاضي، فيما القواعد الآمرة، وكما أشرنا آنفاً، تستند إلى خاصية أساسية وهي أنها تطبق مباشرة على النزاع دون إعمال قاعدة تنازع القوانين. ولكن، حتى لو غضينا النظر عن الصعوبات الناتجة من تعدد المصطلحات، واعتمدنا الرأي الذي يقول به البروفسور البلجيكي غروليش لجهة وجود نوعين من القواعد الآمرة: القواعد الآمرة التي تنص على تطبيق القانون الداخلي استناداً إلى الغاية التي يرمي إليها هذا الأخير، والقواعد الآمرة التي تنص على تطبيق القانون الداخلي لأسباب تتعلق بالسياسة التشريعية التي تستند إليها هذه القواعد والتي ترمي إلى إخضاع طائفة من العلاقات الدولية المختلطة إلى القواعد نفسها التي تخضع لها العلاقات الداخلية، إلا أنه وفي مجال التحكيم، فإن القواعد الآمرة التي تندرج ضمن النوع الأول، أي تلك التي تعتبر آمرة بالنظر للغايات التي ترمي إليها، هي التي من شأنها أن تثير النقاش. ولا بد من التذكير هنا بأن النظام الأوروبي المعروف بنظام روما 1 والمتعلق بالقانون الواجب التطبيق على الالتزامات العقدية قد عرف هذه القواعد على النحو التالي: "قواعد ملزمة تعتبرها الدولة التي أصدرتها ذات أهمية قصوى من أجل حماية المصالح العامة، كالتنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لدرجة فرض تطبيقها على كافة الحالات التي تدخل في مجال تطبيقها، مهما كان القانون الواجب التطبيق على العقد"12. ولكن إذا كان هذا التعريف الذي يتضمن وصفاً لآلية القواعد الآمرة لا يسمح بتحديد هذه الطائفة من القواعد بشكل واضح، إلا أنه يبين أن مفهوم القواعد الآمرة إنما يعكس نهجاً تدخلياً أو توجيهياً من قبل الدول من أجل فرض تطبيق قاعدة قانونية على حالات تدخل في مجالها بغض النظر عن القانون الواجب التطبيق.
وهكذا، فإن دراسة الدور الذي تلعبه القواعد الآمرة في مجال التحكيم والمكانة التي تحتلها في هذا المجال، إنما هي إحدى الوسائل التي تسمح بتحديد مدى تحرر التحكيم من الأنظمة القانونية النظامية وقياس مقدار هذا التحرر.
إن مقدار هذا التحرر يمكن قياسه من زاويتين: زاوية السلطة التي يتمتع بها المحكم عندما تطرح مسألة تطبيق قاعدة آمرة (I)، وزاوية الحرية التي يتمتع بها القاضي النظامي لدى إجراء رقابته على القرار التحكيمي لجهة حسن تطبيقه للقاعدة الأمرة (II).
أولاً- المحكم في مواجهة القواعد الآمرة:
إن مسألة السلطة التي يتمتع بها المحكم عند وجود قاعدة آمرة، تثير في الواقع العديد من التساؤلات. أهم هذه التساؤلات، سواء من الناحية النظرية أم من الناحية العملية، يتعلق بتطبيق القاعدة الآمرة من قبل المحكم (أ). ولكن حتى يتمكن هذا الأخير من تطبيق القاعدة الآمرة، فإنه لا بد أن يتم الاعتراف باختصاصه للنظر في النزاع الذي يمكن ان تطبق فيه القاعدة الآمرة (ب).
أ- تطبيق القواعد الآمرة من قبل المحكم:
أمام القاضي النظامي يمكن التمييز بشكل واضح بين القواعد الآمرة الوطنية والقواعد الآمرة الأجنبية. فإذا كان القاضي النظامي ملزم بتطبيق القواعد الآمرة الوطنية فهو غير ملزم بتطبيق القواعد الآمرة الأجنبية التي يخضع تطبيقها عادة لشروط إضافية. وهكذا فإن المادة 9-3 من النظام الأوروبي المعروف بنظام روما 1 والمتعلق بالقانون الواجب التطبيق في مجال الالتزامات العقدية تنص على أنه "يمكن أيضاً أخذ القواعد الأمرة العائدة للدولة التي يتوجب أن تنفذ فيها أو نفذت فيها الالتزامات العقدية بعين الاعتبار إذا كانت هذه القواعد تجعل تنفيذ العقد غير قانوني". أما أمام المحكم الدولي فهذا التمييز لا مبرر له، ذلك لأن المحكم الدولي غير خاضع لأية دولة، وبالتالي فإن كافة القواعد الآمرة تعتبر بالنسبة إليه أجنبية.
ولكن، وبخلاف القاضي النظامي، فان سلطة المحكم وإطار المهمـة الموكلـة إليـه إنمـا يستندان، من حيث المبدأ، إلى إرادة الأطراف. ومن جهة أخرى، المحكم ملزم بتطبيـق القـانـون الذي يختاره الأطراف. فمعظم القوانين والمعاهدات الدولية المتعلقة بالتحكيم الدولي تعتمـد فيمـا يتعلق بالقانون الواجب التطبيق مبدأ سلطان الإرادة ولا تلزم المحكم بتطبيق القواعد الآمرة.
في الواقع، ينبغي التمييز بين حالتين. الحالة الأولى هي الحالة التي تندرج فيها القاعدة الآمرة ضمن اطار القانون الواجب التطبيق على العقد أي الحالة التي تكون فيها هذه القاعدة جزءا من هذا القانون. أما الحالة الثانية، فهي الحالة التي تندرج فيها القاعدة الأمرة في قانون غير القانون الواجب التطبيق على العقد.
في الحالة الأولى، أي إذا كانت القاعدة الآمرة تندرج في إطار القانون الواجب التطبيق على العقد أي القانون الذي اختاره الأطراف أو حدده المحكم لهذه الغاية، فإنه يمكن للمحكم تطبيق القاعدة الآمرة دون أي صعوبات تذكر. فلا يمكن في هذه الحالة أن يعاب عليه أنه لم يأخذ بالقانون الواجب التطبيق أو بإرادة الأطراف.
أما في الحالة الثانية، أي إذا كانت القاعدة الآمرة لا تندرج في إطار القانون الواجب التطبيق على العقد أي القانون الذي اختاره الأطراف أو حدده المحكم لهذه الغاية، فإن الوضع مختلف تماماً، إذ يمكن في هذه الحالة التحجج بأنه لا يعود الى المحكم الأخذ بقاعدة آمرة تتعارض مع القانون الواجب التطبيق على العقد أو لا تأتلف معه أو تحد من مجال تطبيقه. كما أنه يمكن أيضاً التحجج، في السياق نفسه، أن المحكم إذا أخذ في الاعتبار القاعدة الآمرة، فإنه يخرج عن نطاق المهمة الموكلة إليه من قبل الأطراف. ومن المعلوم في هذا الإطار أنه على المحكم دوماً مراعاة المهمة التي أوكلها اليه الأطراف. فالمادة الخامسة من اتفاقية نيويورك لعام 1958 المتعلقة بالاعتراف وبتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية تنص على أنه يجوز رفض طلب الاعتراف بطلب التحكيم وتنفيذه [...] (ج) إذا كان قرار التحكيم قد بحث في نزاع خارج عن نطاق الشروط التي احيل بموجبها ذلك النزاع إلى التحكيم، أو إنه يتضمن قرارات حول أمور خارجة عن نطاق التحكيم. أما المادة 1520ـ3 من قانون أصول المحاكمات المدنية الفرنسي، فإنها تنص على "أن الطعن بإبطال قرار تحكيمي جائز متى فصلت الهيئة التحكيمية دون مراعاة المهمة التي أوكلت إليها".
ومن المعلوم أن المحكمة الفدرالية السويسرية قد أخذت هذه الحجج في الاعتبار في قضية هیلمارتون Hilmarton المعروفة فأبطلت القرار التحكيمي الذي كان بموجبه أحد المحكمين قد قرر أن العقد الذي أبرمه الأطراف والخاضع للقانون السويسري قد خالف قانوناً جزائرياً آمراً متعلقا بصرف النفوذ.
ولكن هذه المقاربة لم تعد معتمدة اليوم في القانون المقارن. فكما أنه يعود الى القاضي النظامي الواضع يده على نزاع ذي طابع دولي تطبيق القواعد الآمرة الأجنبية، فإنه لا مبرر للقول أنه لا يعود الى المحكم تطبيق هكذا قواعد حتى لو كان الأطراف قد اتفقوا فيما بينهم على وجوب إخضاع نزاعهم لقانون لا يتضمن هذه القواعد. ومن المعروف في هذا الإطار أن النظام الأوروبي المعروف بنظام روما 1 والمتعلق بالقانون الواجب التطبيق على الالتزامات العقدية يجيز للقاضي النظامي تطبيق القواعد الآمرة الأجنبية وفق شروط معينة. إضافة إلى ذلك، فإن عدم وجود أي نص في القوانين الوطنية أو المعاهدات الدولية المتعلقة بالتحكيم يتعلق بتطبيق القواعد الآمرة، لا يؤدي الى تقييد المحكمين لهذه الجهة. لا بل ان خلو هذه القوانين والمعاهدات من نص صريح لهذه الجهة، إنما يسمح بإعطاء المحكمين هامشاً مهماً من الحرية لجهة تطبيق القواعد الآمرة. أما بالنسبة الى الحجة المسندة إلى فكرة أن المحكم يخرج عن نطاق المهمة الموكلة إليه من قبل الأطراف إذا ما أخذ في الاعتبار القاعدة الآمرة، فإنه لا يمكن الأخذ بها، لأن مهمة المحكم لا تتحدد وفقاً للقانون المطبق على النزاع، وإنما وفقاً لموضوع النزاع، كما يتم تحديده من قبل الأطراف في الحجج والطلبات التي يدلون بها وفي ضوء اتفاقية التحكيم.
من هنا يتبين أنه من العسير الأخذ بالرأي القائل أن لا سلطة للمحكم لتطبيق القواعد الآمرة أو أخذها في الاعتبار.
ولكن الدراسات المتعلقة بهذا الموضوع قد بينت أن المحكمين الدوليين عندما يطبقون القواعد الآمرة أو يأخذونها في الاعتبار، إنما يستندون إلى أسباب عملية أو براغماتية بحتة. فهم يعتبرون أنه يتوجب عليهم قدر الإمكان إصدار قرار تحكيمي قابل للتنفيذ في أكبر عدد ممكن من الدول بما فيها الدولة التي يقع فيها مكان التحكيم و الدولة أو الدول التي يمكن أن يطلب فيها تنفيذ القرار التحكيمي، ومن هنا، فان المحكمين يسعون إلى احترام القواعد الآمرة لهذه الدول لتحصين القرار التحكيمي ضد أي طعن بالإبطال يمكن أن يوجه ضده في أي دولة من هذه الدول.
هذه الاعتبارات العملية لا يرضى بها، لا الفقهاء الذين يؤيدون بشكل عام فكرة التطبيق الواسع للقواعد الآمرة من قبل المحكمين، ولا الفقهاء الذين يتحفظون عن تطبيق هذه القواعد من قبل المحكمين.
فبالنسبة إلى البروفسور كريستوف سيراغليني، على سبيل المثال، على المحكم أن لا يأخذ فقط بالأسباب العملية لكي يقوم بتطبيق القواعد الآمرة، بل يتوجب عليه أن يأخذ في الاعتبار مستقبل التحكيم ككل ومكانته كوسيلة لفض النزاعات التجارية الدولية. ويضيف البروفسور سیراغليني في هذا الإطار أنه على المحكم أن يأخذ في الاعتبار متطلبات الدول التي انتهجت بمعظمها حتى الآن موقفاً مؤيداً للتحكيم وأن يطبق بالتالي القواعد الآمرة التي تصدرها هذه الدول متى يتبين له أن هذه القواعد والغايات التي ترمي إليها تتسم بالشرعية حتى ولو لم تكن هذه القواعد الآمرة تدخل ضمن إطار القانون الواجب تطبيقه على النزاع. ويعتبر البروفسور سیراغليني أن المكانة التي يحتلها التحكيم الدولي اليوم واستمراريتها يستوجبان أن لا يتوانى المحكمون عن تطبيق القواعد الآمرة بشكل فعلي .
وفي المقابل، فإن البروفسور ايمانوئيل غايار يعتبر أن المقاربة العملية أو البراغماتية لمسألة تطبيق القواعد الآمرة تستند إلى الفكرة التي بموجبها ينبغي على القرار التحكيمي لكي يتسم بالفعالية في أكبر عدد ممكن من الدول أن يحترم القواعد الآمرة لكل الدول المعنية أي الدولة التي يقع فيها مكان التحكيم والدول التي يمكن أن يطلب فيها تنفيذ القرار التحكيمي، إنما تؤدي الى إعمال القاعدة الأكثر تشدداً بشكل أعمى، بحيث يتم إعمال القاعدة التي تبطل العقد بدل القاعدة التي تعتبره صحيحاً أو القاعدة التي تفرض شروطاً على صحة العقود بدل القاعدة التي تعتمد مبدأ الحرية التعاقدية. وبحسب البروفسور ایمانوئيل غايار فإنه في كل حالة من الحالات التي تطرح فيها مسألة تطبيق القواعد الآمرة، فإن هذه الحالة إنما تعكس في الحقيقة وجود تنازع بين المبادئ أو القيم التي تعبر عنها القاعدة الآمرة والمبادئ والقيم التي يعبر عنها القانون الواجب التطبيق على العقد. ولكن كل هذه المبادئ والقيم، وفقا للفقيه الفرنسي المذكور، تستوجب الاحترام ومن غير المبرر تالياً أن يعتبر المحكم الدولي أن القيم والمبادئ التي تعبر عنها القاعدة الآمرة أكثر شرعية من تلك التي يعبر عنها القانون الواجب التطبيق على العقد. انطلاقاً من هنا، يعتبر البروفسور ايمانوئيل غايار أنه من المستحسن أن لا يلجأ المحكمون للقواعد الآمرة، وإنما أن يلجأوا عند الضرورة إلى مفهوم النظام العام العابر للدول أو النظام العام الدولي الحقيقي. ويشير بهذا الخصوص إلى أنه إذا ما لاحظ المحكم أن القانون الواجب التطبيق يتعارض مع المبادئ والقيم الأساسية للمجتمع الدولي فإنه بإمكانه الاعتبار أن هذه المبادئ والقيم تسمو على القانون الواجب التطبيق باعتبارها جزءا من النظام العام العابر للدول أو النظام العام الدولي الحقيقي، علماً أن مضمون هذا النظام العام إنما يستخلص من المبادئ والقواعد والقيم التي تأخذ بها الدول التي تشكل المنظومة الدولية، بمعظمها إن لم يكن بمجموعها، والتي ترمي الى تكريس بعض الأسس التي من شأنها حماية السلم والسلام الدوليين، كالقواعد الآيلة إلى منع الرشوة ومنع الاتجار بالمخدرات ومنع الاتجار بالأعضاء البشرية والقواعد الآيلة إلى حماية المتعاقد الضعيف في مواجهة المتعاقد الأكثر قوة أو حتى القواعد المنبثقة من حظر دولي مفروض على إحدى الدول .
وفي مطلق الأحوال، إذا كانت الآراء المتعلقة بصوابية قيام المحكمين بإعمال القواعد الآمرة لا تزال حتى يومنا هذا متشعبة ومتناقضة، إلا أنه لا بد أولاً لكي يتمكن المحكم من تطبيق هذه القواعد الآمرة أو أخذها في الاعتبار من أن يكون مختصاً للقيام بذلك.
ب- أمكانية فصل النزاعات التي يمكن أن تستوجب تطبيق قواعد آمرة بواسطة التحكيم:
ليس في القوانين الوطنية أو في المعاهدات الدولية المتعلقة بالتحكيم أي نص يشير إلى امكانية عدم فصل النزاعات التي يمكن أن تستوجب تطبيق قواعد آمرة بواسطة التحكيم.
إلا أنه وبالنظر لكون القواعد الآمرة تعتبر في الدول الصادرة عنها بمثابة قواعد ينبغي احترامها بشكل إلزامي مطلق، فإن هذه الدول يمكن أن تعتبر أن الوسيلة الوحيدة للتأكد من تطبيق قواعدها الآمرة إنما تكمن في اعتبار النزاعات التي يمكن أن تطبق فيها غير قابلة للتحكيم.
ولتبرير هذا التوجه يمكن الاستناد إلى مفهوم النظام العام، ذلك أن العديد من القوانين الوطنية تستند إلى هذا المفهوم، إما مباشرة وإما بصورة غير مباشرة، لتحديد النزاعات القابلة للتحكيم. فالمادة 2060 مثلاً من القانون المدني الفرنسي تشير إلى أنه لا يمكن التحكيم في المسائل التي تتعلق بالنظام العام، والأمر نفسه يمكن ملاحظته في العديد من الدول التي تعتبر أنه لا يمكن التحكيم، إلا في المسائل أو القضايا التي يمكن فيها للأطراف إجراء مصالحة بينهم، ، ذلك أنه لتحديـد تلك المسائـل القابلـة للمصالحة يصار بشكل عام إلى الاستعانة بمفهوم النظام العام. يكفي إذن، استناداً إلى العلاقة الحميمة التي تربط مفهوم القواعد الآمرة بمفهوم النظام العام، القول أن المسائل الخاضعة لقواعد آمرة إنما تتعلق بالنظام العام وهي بالتالي غير خاضعة للتحكيم.
وقد تم الأخذ بهذا التوجه في عدة دول وفي أكثر من مناسبة. وعلى سبيل المثال فقد أخذت بها بعض الأحكام البلجيكية المتعلقة بعقود الوكالة التجارية فاعتبرت أن القانون البلجيكي الصادر بتاريخ 27 تموز/يوليو 1961 والذي يتضمن نصوصاً حمائية للوكلاء التجاريين يتعلق بالنظام العام وأن النزاعات المتأتية من هذه العقود ولا سيما تلك الناتجة من فسخها تقع بالتالي ضمن الاختصاص الحصري للمحاكم البلجيكية، الأمر الذي يستبعد إمكانية فصلها بواسطة التحكيم، وفي لبنان أيضاً، فإن بعض الأحكام القضائية الصادرة في ميدان التمثيل التجاري قد اعتمدت التوجه نفسه، معتبرة أن نصوص المرسوم الاشتراعي رقم 34 تاريخ 5 تموز/اغسطس 1967 تتعلق بالنظام العام وتحول دون إخضاع النزاعات التي يطبق عليها غير قابلة للتحكيم.
ولكن، وفي عصرنا الحاضر، فإن التوجه المعتمد في القانون المقارن يرمي إلى القبول بإمكانية فصل النزاعات التي يمكن ان تطبق عليها قواعد آمرة بواسطة التحكيم، لا بل يسود الرأي القائل أن باستطاعة العدالة التحكيمية تأمين حماية المصالح والمبادئ والقيم التي تنص عليها او تستند اليها القواعد الآمرة وأن بإمكان المحكمين تطبيق هذه القواعد عند الضرورة.
وفي هذا الإطار تتم غالبا الإشارة إلى القرار المعروف بقرار ميتسوبيشي Mitsubichi الصادر عن المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأميركية. وقد اعتبر القضاة الأمريكيون في هذا القرار أن نزاعاً يتعلق بعقد دولي خاضع للقانون السويسري ويرتبط بتطبيق قواعد المنافسة الأمريكية التي تعتبر بمثابة القواعد الآمرة، يمكن فصله بواسطة التحكيم. وقد أشارت هذه المحكمة العليا إلى أن الحاجة الملحة الى استباق الأمور من قبل الأطراف في ميدان التجارة الدولية تُحتم إعطاء كافة المفاعيل لاتفاق التحكيم الذي يبرمونه وتأمين احترامه.
ولكن الأمر الذي تقتضي الاشارة إليه هنا هو أن إمكانية اعتبار المسائل الخاضعة لقواعد آمرة غير قابلة للتحكيم لا يمكن أن تأتلف في عصرنا الراهن مع الاتجاه الرامي إلى اعتماد قواعد مادية خاصة بالتحكيم الدولي كقاعدة استقلالية البند التحكيمي وقاعدة اختصاص- الاختصاص التي يعود بموجبها للمحكم الفصل في مسألة اختصاصه، علماً أن الاجتهاد الفرنسي استقر منذ فترة على اعتماد قاعدة مادية جديدة وهي القاعدة التي بموجبها يتوجب اعتبار اتفاق التحكيم صحيحاً من حيث المبدأ في مجال التحكيم الدولي .
وعلى كل حال، فإن في الاجتهاد الفرنسي العديد من الأمثلة التي تبين أن المحاكم الفرنسية تأخذ بشكل واضح بالتوجه الرامي إلى القبول بإمكانية فصل النزاعات التي يمكن ان تطبق عليها قواعد آمرة بواسطة التحكيم.
ففي القرار الصادر عن محكمة استئناف باريس بتاريخ 19 آيار/مايو 1993 في قضية Labinal الشهيرة اعتبرت هذه المحكمة "أن المحكم في مجال التحكيم الدولي ينظر بنفسه، وفقاً لمبادئ النظام العام، في مسألة اختصاصه لجهة امكانية الفصل في النزاع المعروض أمامه بواسطة التحكيم ويتمتع بسلطة تطبيق المبادئ والقواعد المتعلقة بالنظام العام وبسلطة مراقبة حسن تطبيقها تحت رقابة القاضي الذي ينظر بالطعن عن طريق الإبطال" .
وفي قرار حدیث صدر بتاريخ 8 تموز/يوليو 2010 اعتمدت محكمة النقض الفرنسية التوجه نفسه. وفي هذه القضية كانت شركة سويدية قد أجرت مع شركة فرنسية عقداً لتوزيع منتجاتها في فرنسا وكان العقد يتضمن بنداً تحكيمياً. ولكن نتيجة عدد من الصعوبات بين الطرفين عمدت الشركة السويدية إلى فسخ العقد. عندها استندت الشركة الفرنسية إلى نص في القانون الفرنسي هو المادة 442-6 من قانون التجارة وادعت بموجبه على الشركة السويدية أمام المحاكم النظامية الفرنسية. وبموجب هذا النص فإنه في حالة الإنهاء المفاجئ لعلاقة تجارية بين طرفين فإنه يحق للمتضرر ملاحقة الجهة الأخرى للمطالبة بالتعويض على أساس المسؤولية المدنية غير العقدية. وقد اعتبرت الشركة الفرنسية أن هذا النص يشكل قاعدة آمرة من شأنها جعل اختصاص المحاكم الفرنسية إلزامياً. أما الشركة السويدية فقد تمسكت بعدم اختصاص المحاكم الفرنسية بسبب وجود بند تحكيمي في العقد. وقد وافقتها محكمة النقض الفرنسية على ذلك معتبرة أن وجود قواعد آمرة يمكن تطبيقها على النزاع لا يحول دون إمكانية فصلها بواسطة التحكيم .
يستنتج من هذه القرارات أن احتمال تطبيق قاعدة آمرة في نزاع معين لا يحول دون امكانية فصل هذا النزاع بواسطة التحكيم وأنه يجب التمييز في هذا الإطار بين موضوع النزاع من جهة والقواعد التي يمكن أن تطبق عليه من جهة أخرى.
من هنا، وإذا كان الاتجاه السائد اليوم يرمي بشكل واضح الى توسيع مجال التحكيم عبر القبول بإمكانية فصل المسائل التي يمكن أن ترتبط بشكل أو بآخر بالنظام العام بواسطة التحكيم، وأنه قد تم وفقاً لهذا التوجه القبول في العديد من الدول بفصل النزاعات المتعلقة مثلاً بقوانين المنافسة وقوانين الإفلاس وقوانين الملكية الفكرية بواسطة التحكيم، إلا أن هذا التوجه قد أدى إلى إثارة العديد من التساؤلات عما إذا كان مد سلطة المحكمين لهذه الجهة يستدعي تفعيل المراقبة على القرارات التحكيمية من قبل القضاة النظاميين.
ثانياً- مراقبة حسن تطبيق القواعد الآمرة من قبل المحاكم النظامية:
إذا كان الاتجاه السائد اليوم يرمي بشكل واضح إلى القبول بإمكانية فصل المسائل التي يمكن أن ترتبط بشكل أو بآخر بالنظام العام بواسطة التحكيم، إلا أنه لا بد من التساؤل عن مدى ارتباط توسيع مجال التحكيم ليشمل هذه المسائل بالسلطة التي تمنحها القوانين الوطنية للقاضي النظامي لمراقبة القرارات التحكيمية. فالعديد من القرارات الصادرة عن المحاكم الفرنسية في هذا الإطار تشير إلى أن على المحكم ممارسة السلطة الممنوحة له للفصل في النزاعات التي تستلزم تطبيق قواعد متعلقة بالنظام العام "تحت رقابة القاضي النظامي الذي ينظر في الطعن عن طريق الابطال" . كما أن المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأميركية قد أشارت في قرار ميتسوبيشي المشار إليه أعلاه إلى أنه في حال تغاضت الهيئة التحكيمية عن تطبيق القوانين الأميركية المتعلقة بالمنافسة، فإن المحكمة العليا لن تتوانى عن إعمال النظام العام لإبطال قرارها.
من هنا اعتبر البعض أن توسيع مجالات التحكيم على النحو المشار إليه، إنما قد تم القبول به بشرط أن يقوم القاضي النظامي بإجراء مراقبة مشددة على القرارات التحكيمية الصادرة في هذا المضمار. ويطلق على هذه النظرية تسمية "النظرة الثانية" (second look). إلا إن المحاكم على ما يبدو غير متحمسة للأخذ بما تنادي به هذه النظرية. ولا بد في هذا الإطار من البحث في الأسس التي يمكن أن يعتمد عليها القضاء النظامي لإجراء مراقبته لجهة حسن تطبيق القواعد الآمرة من قبل المحكمين (أ) قبل التطرق لمسألة نطاق هذه المراقبة (ب).
أ- الاساس القانوني لمراقبة حسن تطبيق القواعد الآمرة من قبل المحاكم النظامية:
إن القاضي النظامي المختص الذي يمكن أن يعرض عليه القرار التحكيمي بغية مراقبته يمكن أن يكون القاضي النظامي التابع للدولة التي تندرج القاعدة الآمرة في قوانينها أو قاض نظامي تابع لدولة أخرى. إضافة الى ذلك، يمكن للقاعدة الأمرة أن تكون قاعدة متعلقة بإمكانية فصل النزاع بواسطة التحكيم أو قاعدة آمرة تتعلق بالأساس.
عندما يكون القاضي النظامي المختص تابعاً للدولة التي تندرج القاعدة الآمرة في قوانينها وتكون هذه القاعدة من تلك القواعد التي تستبعد بشكل مطلق إمكانية الفصل في النزاع بواسطة التحكيم، فإنه من المرجح أن يبطل القاضي النظامي القرار التحكيمي. فالعديد من النصوص القانونية المتعلقة بالتحكيم، بما فيها معاهدة نيويورك، تنص على إمكانية رفض الاعتراف بالقرارات التحكيمية ورفض تنفيذها، إذا كان اتفاق التحكيم باطلاً أو كان موضوع النزاع غير قابل للتحكيم. كما أنه يمكن لرفض الاعتراف بالقرارات التحكيمية ورفض تنفيذها في هذه الحالة الاستناد أيضاً إلى النظام العام. غير أن إبطال القرار التحكيمي من قبل القاضي النظامي التابع للدولة التي تندرج القاعدة الأمرة في قوانينها لا يحول دون إمكان الاعتراف بها وتنفيذها في دولة أخرى.
وبالفعل، فعندما لا يكون القاضي النظامي المختص تابعا للدولة التي تندرج القاعدة الآمرة التي تستبعد بشكل مطلق إمكانية الفصل في النزاع بواسطة التحكيم في قوانينها، فإنه من غير الأكيد لا بل من المستبعد، أن يتم الأخذ بهذه القاعدة والقول تالياً أن النزاع غير قابل للتحكيم. فالاجتهاد في فرنسا مثلاً، وكما أشرنا آنفاً، قد اعتمد المبدأ القائل بأنه يجب أن تعتبر اتفاقية التحكيم، من حيث المبدأ، صحيحة على الصعيد الدولي. ويعتبر هذا المبدأ بمثابة قاعدة مادية خاصة بالتحكيم الدولي تسمو على ما عداها من قواعد وقوانين.
من هنا، فإن مسألة الرقابة على حسن تطبيق القواعد الآمرة من قبل المحكمين، إنما تطرح بشكل خاص فيما يتعلق بالقواعد الآمرة التي تتعلق بالأساس أي بموضوع الدعوى. والملاحظ في هذا الإطار أن القوانين الوطنية والمعاهدات الدولية المتعلقة بالتحكيم لا تنص بشكل عام على إمكانية إبطال القرارات التحكيمية التي لا تحسن تطبيق القواعد الآمرة. لذلك، سواء كان القاضي النظامي المختص المعروض عليه القرار التحكيمي بغية مراقبته قاضياً نظامياً تابعاً للدولة التي تندرج القاعدة الآمرة في قوانينها أو قاضياً نظامياً تابعاً لدولة أخرى، فإن مراقبة حسن تطبيق القواعد الآمرة لا يمكن أن يتم إلا استناداً إلى مفهوم النظام العام. فالسبب المسند إلى مخالفة النظام العام هو السبب الوحيد الذي يمكن إثارته في هذه الحالة وهو السبب الذي تعتمده المحاكم لإجراء رقابتها.
ولا بد من التذكير هنا بأن المادة 5-2 (ب) من معاهدة نيويورك تنص على أنه يمكن رفض الاعتراف بالقرارات التحكيمية ورفض تنفيذها في حال مخالفتها للنظام العام العائد للقاضي الواضع يده على النزاع.
ولكن، ولجهة المصطلحات المعتمدة، فإنه من الجائز التساؤل عما إذا كان من الممكن اعتبار قرار تحكيمي مخالف للنظام العام الدولي، إذا أخطأ هذا القرار في تطبيقه قاعدة آمرة. فقد سبقت الإشارة إلى أن الاتجاه في الفقه المعاصر يرمي إلى التمييز بشكل واضح بين مفهوم النظام العام ومفهوم القواعد الآمرة في مجال تنازع القوانين وإلى القول أن فكرة النظام العام في هذا المجال، إنما هي الآلية التي تسمح للقاضي الوطني الواضع يده على الدعوى باستبعاد القانون الأجنبي الواجب التطبيق إذا ما تبين أنه يخالف المبادئ الأساسية التي يستند إليها القانون الوطني للقاضي، فيما القواعد الآمرة تستند إلى خاصية أساسية، وهي أنها تطبق مباشرة على النزاع دون إعمال قاعدة تنازع القوانين. صحيح أن للنظام العام الدولي في ميدان الاعتراف وتنفيذ القرارات التحكيمية، على غرار النظام العام الدولي في ميدان تنفيذ الأحكام الأجنبية، وظيفة مختلفة عن تلك المشار اليها، لأنه لا يرمي إلى استبعاد تطبيق قاعدة معينة من قبل قاعدة تنازع القوانين، وإنما يشكل سبباً من أسباب رفض الاعتراف أو رفض تنفيذ القرارات التحكيمية أو الأحكام الأجنبية، إلا أنه لا يمكن التغاضي عن أن القيم والمبادئ التي تستند إليها القواعد الآمرة تتطابق إلى حد بعيد مع القيم والمبادئ التي يستند إليها النظام العام الدولي.
إضافة إلى ذلك، فإن الاستناد إلى مفهوم النظام العام هنا يطرح مسألة أخرى هي مسألة التمييز بين النظام العام الداخلي والنظام العام الدولي. فإذا كان من الأكيد أن مفهوم النظام العام الذي يمكن الاستناد إليه لإبطال قرار تحكيمي في مجال التحكيم الدولي هو مفهوم النظام العام الدولي، إلا أن هذا النظام العام، بالرغم من الوصف الذي يطلق عليه، أي بالرغم من وصفه بالدولي، إنما هو نظام وطني يستمد وجوده من دولة معينة لا من مجموعة الدول التي تؤلف الكون. أما القواعد الآمرة فهي من حيث المبدأ قواعد تصدرها الدول لحماية مصالحها على الصعيد الداخلي والدولي. ومن هنا فإنه يمكن من حيث المبدأ التحفظ لجهة استعمال مفهوم النظام العام من قبل القاضي النظامي لدى إجراء رقابته على القرارات التحكيمية التي لم تطبق أو لم تحسن تطبيق القواعد الآمرة التي لا تندرج في إطار قانون الدولة التابع لها هذا القاضي.
وعلى كل حال، فإنه لا يمكن استخدام مفهوم النظام العام في إطار مراقبة القرارات التحكيمية التي لم تطبق أو لم تحسن تطبيق القواعد الآمرة، إلا إذا اعتمدت رؤية واسعة لهذا المفهوم. وهذا هو التوجه الذي تعتمده المحاكم بشكل عام في القانون المقارن .
فالمحاكم الفرنسية مثلاً في معرض النظر في الطعون الرامية إلى إبطال قرارات تحكيمية بسبب عدم تطبيقها أو الخطأ في تطبيقها قواعد آمرة تسند إلى مفهوم "النظرة الفرنسية للنظام العام الدولي".
وبالمحصلة، فإنه إذا كان بالإمكان اللجوء إلى مفهوم النظام العام لمراقبة القرارات التحكيمية التي لم تطبق أو أخطأت في تطبيق القواعد الآمرة، فإن ذلك يعود إلى أن مفهوم النظام العام مفهوم مرن يمكن تطويعه من قبل القاضي. ولكن المرونة تؤدي في معظم الأحيان إلى افتقاد الدقة. ومن هنا فإن نطاق مراقبة القرارات التحكيمية التي لا تطبق أو تخطئ في تطبيق القواعد الأمرة قد أثار جدلاً ولا يزال موضع أخذ ورد في الفقه والاجتهاد المقارن.
ب- نطاق مراقبة حسن تطبيق القواعد الآمرة من قبل المحاكم النظامية:
هناك اليوم تیاران تتمحور حولهما الآراء وقرارات المحاكم فيما يتعلق بنطاق مراقبة حسن تطبيق القواعد الآمرة من قبل المحاكم النظامية: تيار متشدد وتيار متساهل. يعتبر مؤيدو التيار المتساهل أنه على القاضي النظامي أن يراقب القرار التحكيمي لجهة توافقه مع النظام العام دون الدخول في تفاصيل التعليل الذي اعتمده المحكم. أما مؤيدو التيار المتشدد فهم يعتبرون أنه على القاضي النظامي أن لا يكتفي بمراقبة القرار التحكيمي من وجهة نظر شكلية أو خارجية، وإنما يتوجب عليه أيضاً مراقبة التعليل الذي اعتمده المحكم.
وبحسب مؤيدي التيار المتشدد، فإن السير بمراقبة مخففة للقرارات التحكيمية من شأنه أن يؤدي إلى ردة فعل عكسية من قبل الدول التي اعتمدت لغاية الآن موقفاً مؤيداً للتحكيم مؤيدو التيار المتساهل فهم يعتبرون أن التشدد في مراقبة القرارات التحكيمية يمكن أن يؤدي واقعاً إلى إعادة النظر فيها من قبل القاضي النظامي، أي إلى العودة إلى نظام المراجعة بالأساس (Révision) الذي تخلت عنه معظم الدول.
وبمراجعة اجتهادات المحاكم الفرنسية، يتبين أنه إذا كانت بعض الأحكام التي صدرت خلال تسعينات القرن المنصرم قد تبنـت موقفـاً متشـدداً لجهـة مراقبة حسن تطبيق القواعد الآمرة، فإن معظم القرارات الحديثة إنما تتبنى بشكل واضح التوجه المتساهل لهذه الجهة.
ففي القرار الذي أصدرته محكمة استئناف باريس بتاريخ 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2005 في قضية Thales الشهيرة المتعلقة بتطبيق قوانين المنافسة الأوروبية، اعتبرت هذه المحكمة أن "عدم مراعاة النظام العام الدولي [...] يجب أن تكون فاضحة، أكيدة وملموسة" وأنه "لا يمكن للقاضي الناظر في الطعن بالإبطال إجراء مراجعة على تطبيق القواعد المتعلقة بالمنافسة على العقد موضوع النزاع، إلا في حالة المخالفة الفاضحة للنظام العام أو حالة الاحتيال على القانون". وقد أضافت المحكمة أن العمل بخلاف ذلك "من شأنه إعادة النظر في الطابع النهائي لقرار المحكم فيما يتعلق بأساس النزاع، علماً أن التحجج بمخالفة القرار المذكور لقاعدة آمرة ليس من شأنه الحد من القاعدة الإجرائية التي تمنع المراجعة بالأساس Révision) )".
وفي القرار الذي أصدرته محكمة استئناف باريس بتاريخ 23 آذار/مارس 2006 في قضية Cytec المتعلقة أيضاً بتطبيق قوانين المنافسة الأوروبية، اعتبرت هذه المحكمة أن عدم مراعاة النظام العام الدولي يجب أن تكون "فاضحة، أكيدة وملموسة" وأنه "فيما يتعلق بمخالفة النظام العام الدولي، فإن المحكمة من حيث أنها لا تنظر في النزاع، وإنما في القرار التحكيمي بحد ذاته فإنه لا يتوجب عليها أن تمارس على هذا الأخير سوى مراقبة خارجية".
وقد أيدت محكمة النقض الفرنسية في قرارها الصادر بتاريخ 4 حزيران/يونيو 2008 ما ذهبت إليه محكمة استئناف باريس في قرارها المشار إليه، معتبرة أنه "فيما يتعلق بمخالفة النظام العام الدولي فإن مراقبة القاضي تقتصر على مراقبة الاعتراف بالقرار التحكيمي وتنفيذه في ضوء توافق النتيجة التي توصل إليها مع النظام العام، الذي يجب أن تكون عدم مراعاته فاضحة، أكيدة وملموسة".
وهذا الموقف المتساهل الذي اعتمدته محكمة النقض الفرنسية يتوافق مع الموقف الذي كان قد سبق للمحكمة الفيدرالية السويسرية قد اعتمدته أيضاً في قرار صادر بتاريخ 8 آذار/مارس .2006
وفي مطلق الأحوال، وإذا كان يصعب في الوقت الراهن تحديد موقف كافة المحاكم لهذه الجهة وخاصة محاكم الدول التي تستقبل العدد الأكبر من التحكيمات الدولية، إلا أنه مما لا شك فيه أن التيار المتساهل هو اليوم التيار الغالب. ولكن يبقى أن التمييز بين ما يفرضه عملياً اعتماد التيار المتشدد وما يقتضيه اعتماد التيار المتساهل، ليس دائماً بالأمر الهين. فحتى أنصار التيار المتشدد يعتبرون أنه لا يتوجب على القاضي النظامي عند إجراء مراقبته أن يتصرف وكأنه ينظر في الدعوى من جديد، وإنما يعتبرون ان عليه أن يقارن النتائج العملية التي توصل إليها المحكم وتلك التي كان يمكن أن يتوصل إليها القاضي لو طرح النزاع أمامه. ومن هنا يتبين أن أنصار المقاربة المتشددة لا يستبعدون أن يتم اعتماد درجات مختلفة للمراقبة وفقاً لنوع المخالفة الحاصلة للنظام العام ولمدى خطورتها. إلا أن السير في هذا الاتجاه أي محاولة وضع تراتبية أو هرمية للمخالفات التي يمكن أن تصيب النظام العام ليس بالأمر السهل، لأنه يستوجب إعادة البحث في العلاقة الملتبسة بين مفهوم القواعد الآمرة ومفهوم النظام العام.