وبالنسبة للقوانين العربية محل البحث، نرى أن المسألة الهامة المطروحة ، ليست في التفرقة بين النظام العام الدولي من جهة، والداخلي من جهة أخرى، ولا بتحديد مفهوم أي منهما لتمييزه عن الآخر، وهذا أقرب إلى المستحيل كما ذكرنا ، وإنما بمدى جواز إبطال حكم التحكيم أو عدم تنفيذه في إحدى هذه الدول. ونرى في هذا الشأن التفرقة بين وضعين الأول: أن يتعلق الحكم بتحكيم محلي في دولة الإمارات مثلاً. في هذه الحالة، إذا تضمن الحكم مخالفة للنظام العام في الإمارات، فإنه يكون عرضة للبطلان أو لعدم التنفيذ حسب الأحوال. ومثال واضح على ذلك، أن يتضمن الحكم فوائد ( ربوية) تزيد عن الحد القانوني، أو فوائد مركبة حيث لا يجيز القانون ذلك. الثاني: أن يتعلق الحكم بتحكيم دولي جرى في الإمارات، أو كان الحكم أجنبياً صادراً في دولة أخرى، وتم تقديمه للقضاء لتنفيذه في الإمارات. في هذه الحالة، نرى التفرقة بين عدة فروض .
فقد يكون القانون الواجب التطبيق على النزاع، هو القانون الإماراتي. في هذا الفرض، يجب على هيئة التحكيم إصدار حكمها بما يتفق مع القانون الإماراتي. فإذا كان مخالفاً للنظام العام في الدولة، يتوجب إبطاله أو عدم تنفيذه. ويلحق بهذا الفرض أيضاً، الحالة التي يصدر حكم التحكيم فيها استناداً لقانون أجنبي، وكان الحكم مخالفاً للنظام العام في ذلك القانون وفي القانون الإماراتي أيضاً.
ومن جانب آخر، قد يصدر الحكم استناداً للقانون الأجنبي الواجب التطبيق على النزاع، ويكون الحكم متفقاً معه، إلا أنه مخالف للنظام العام في الإمارات أو ، بمعنى أدق ، مخالف لقاعدة آمرة في القانون الإماراتي. في هذا الفرض، نرى التضييق من مفهوم النظام العام ما أمكن، واعتبار أنه ليس كل قاعدة آمرة داخلية تعتبر من النظام العام، ما دام أن هذه القاعدة لا تمس الأركان أو الأسس أو القيم أو المثل التي تقوم عليها الدولة أو قانونها أو مجتمعها. والمسألة بدون شك تقديرية ونسبية، قد تختلف من حالة لأخرى حسب الظروف. ولكنها في جميع الأحوال، تبقى مسألة قانون من حيث فهم وتفسير القاعدة الآمرة التي تمت ،مخالفتها، مما يجعل محكمة الموضوع، تخضع في تقديرها لرقابة محكمة التمييز.
،ومثال ذلك، أن يتضمن الحكم فائدة تزيد على 12% سنوياً، أو فائدة مركبة وكلاهما مخالف، بوجه عام، للقانون الإماراتي وتصل المخالفة هنا إلى حد القول أنها تمس النظام العام الداخلي. ومع ذلك، يمكن القول أن زيادة الفائدة أو السماح بفائدة مركبة، لا تمس كيان الدولة الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو غير ذلك.
ومثال ذلك أيضاً أن مدد التقادم في القانون الإماراتي هي من النظام العام. ولكن ليس بالضرورة أن تتطابق هذه المدد مع المدد المنصوص عليها في القانون الأجنبي، الواجب التطبيق على موضوع النزاع. فلو فرضنا أن مدة التقادم في القانون الأجنبي ثلاث سنوات، في حين هي سنتان في القانون الإماراتي. ولو فرضنا أن تحكيماً دولياً جرى على أرض الإمارات بشأن النزاع، وكانت قد مضت سنتان ونصف على التقادم. في هذا المثال، إذا صدر حكم التحكيم استنادا للقانون الأجنبي بأن رفض الدفع بالتقادم، ورفعت دعوى لإبطال الحكم في الإمارات نرى رفض الدعوى، بالرغم من أن الحكم مخالف لقاعدة آمرة تصل إلى حد المس بالنظام العام في المنازعات الداخلية. فالتقادم وبوجه أدق مدة التقادم، لا علاقة لها بالأسس التي تقوم عليها الدولة الإماراتية، أو المجتمع الإماراتي، من مثل وقيم وأخلاق ونظم اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو دينية أو غير ذلك، وإنما هي مجرد اجتهاد من المشرع قد يغير رأيه فيها في أي وقت لذلك نص المشرع على مدد تقادم مختلفة، باختلاف طبيعة العلاقة القانونية فهناك، مثلاً، علاقة تتقادم بسنة وأخرى بسنتين، وثالثة بخمس سنوات ورابعة بعشر سنوات وهكذا. بل هناك حالات قد يرفض فيها المشرع فكرة التقادم من أساسها لاعتبارات معينة. وهذا كله يؤكد ما ذكرناه بأن التقادم لا علاقة له بالنظام العام بمفهومه الضيق أي الذي يرتبط بكيان الدولة والأسس التي يقوم عليها المجتمع.
وهناك فرض لا ترتبط فيه الواقعة أو المخالفة بالنظام العام الداخلي ، ولا بالنظام العام في القانون الأجنبي المطبق على النزاع، ولكن بما يسمى بالنظام العام الدولي بالنسبة لبعض الأنظمة القانونية لدى كثير من الدول في هذا الفرض، نرى عدم ربط المخالفة بالنظام العام الدولي، وإنما فقط بالقانونين الإماراتي والأجنبي المطبق على النزاع. ومثال ذلك، أن يكون هناك تحكيم في الإمارات بين الزوجة الثانية وبين زوجها حول نفقتها، وكان الزوجان ،مسلمين فيصدر الحكم استناداً للقانون الأجنبي ( الباكستاني مثلاً) بوجوب النفقة مع تحديد مقدارها. في هذا المثال، أيضاً ، يفترض عدم إبطال حكم التحكيم
ولو كان دوليا، بالرغم من مخالفته للنظام العام الدولي بمفهوم كثير من الدول التي لا تسمح بتعدد الزوجات.
حتى التصديق القضائي على حكم التحكيم في الخارج، بل وحتى الأمر بتنفيذه لعدم مخالفته للنظام العام في الدولة التي جرى فيها ذلك، لا يحول دون رفض تنفيذه في دولة أخرى، إذا كان مخالفاً للنظام العام الداخلي فيها بالمفهوم المشار إليه سابقاً. ومثال ذلك النزاع بين عشيقة (أ) وزوجته الشرعية ( ب ) ، على حقوق كل منهما في أموال المعشوق والزوج (ب) المتوفي، وخاصة حصة كل منهما في الميراث. ولو فرضنا أن هذا النزاع أحيل للتحكيم في الدولة (ج)، وصدر حكم التحكيم لصالح ( أ ) بأن تأخذ نصف الميراث، حسب قانون تلك الدولة الذي يجيز ذلك. فلو جيء بهذا الحكم للبحرين لتنفيذه فيها ، يكون من صلاحية المحكمة المختصة في البحرين، بل من واجبها ، رفض تنفيذ الحكم لمخالفته للنظام العام في البحرين حتى لو قرر قاضي الدولة (ج) رفض هذا الدفع لعدم مخالفته للنظام العام في دولته.