أما بالنسبة لقواعد العدالة والإنصاف - القائم عليها التحكيم بالصلح – فهي لم تنشأ بمعرفة سلطة محددة بذاتها وإنما بمعرفة المجتمع الدولي كله وعما يعتقده عادل ومنصف ، في حين أن أى تطور وتعديل للتشريعات الوطنية الخاصة بعمليات التجارة الدولية - إن وجدت – يستلزم تدخل مشرعها الوطني للقيام بهذا التعديل ·
ومع الاعتراف بأن تطبيق القوانين الوطنية على المنازعــــات التــــي تتعلق بعمليات التجارة الدولية كان مبرراً خلال فترات زمنية سابقة بسبب عدم اكتمال الهيكل القانوني لقواعد بديلة تتصف بالصفة الدولية ولها السمعة الطيبة ، فإن هذا التبرير يتلاشى بعد ظهور قواعد العدالة والإنصاف التـى تتصف بالصفة القانونية ، وبعد اكتمال هيكلها القانوني .
وبمراجعة قواعد العدالة والإنصاف يلاحظ توافر صفة الإلزام فيها ، وإذا كانت قواعد العدالة والإنصاف غير ملزمة فى كافة منازعات التجارة الدولية ويلزم اتفاق الأطراف صراحة على تطبيقها لكي تكون واجبة التطبيق على النزاع فيما بينهم، فهذا لا يؤثر على صفة الإلزام فيها ، لأنه بالمقارنة بالقواعد القانونية المكملة Reges Supplétives و الموجودة في التشريعات الوطنية يلاحظ أنها قواعد قانونية تتوافر فيها صفة الإلزام ومع ذلك يجوز للأطراف الاتفاق على مخالفتها ، فصفة الإلزام فيها تعنى أنه إذا لم يتفق الأطراف على مخالفة أحكامها لا يجوز لأحد الأطراف منفرداً التحلل من الالتزام بها .
وإذا كان هناك اختلاف بين قواعد العدالة والإنصاف فيما بينها باختلاف الأوساط التجارية فهذا لا يتعارض مع طبيعتها ، لأن التعبير عن العدل يمكن أن يتغير من وقت لآخر ومن مجتمع لآخر ، إلا أن هذا الاختلاف لا يتعارض مع تجريدها لأنها تتوجه بالخطاب إلى جميع المشتغلين بهذه الأوساط ودون تمييز بينهم .
كما أن أساس الالتزام بعادات وأعراف التجارة الدولية هـو تــواتر العمل بها في مجتمع التجارة الدولية ، فالتزام المحكم الدولى بتطبيـق هـذه القواعد قد يفرض عليه تطبيق إحدى القواعد التى لايقتنع بعدالتها في خصوص المنازعة المعروضة عليه ، ولكن يطبقها فقط لأن المجتمع الدولي قد تواتر على تطبيقها ، بينما التزام المحكم بقواعد العدالة والإنصاف يعفيه من هذا التطبيق ويقدم له السند القانوني لهذا الإعفاء .
فالعدالة التي يهدف إليها المحكم بالصلح فى التحكيم وفقاً لقواعـــــد العدالة والإنصاف تنبع من شعور كامن في النفس يوحى بها الضمير النقــــي ويكشف عنها العقل الراجح للمحكم بالصلح ، فقواعد العدالة والإنصاف مرجعها مثل عليا تهدف إلى تحقيق التوازن في العلاقة التحكيمية ، بما توحى بها من حلول منصفة ومساواة واقعية تقوم على مراعاة دقائق ظروف المنازعات التحكيمية.
لذلك يسمى الإنصاف العدالة الحقيقية Justice veritable لأنه يحكم بروح القانون وليس بنصه ويتعامل بشكل عادل ومنصف بين أطراف النزاع التحكيمي ، إذ أن قواعد العدالة والإنصاف تتفادى النقائص المترتبة على تطبيق القانون التي لا تميز أو تراعى الظروف والوضعيات الخاصة .
يستخلص من ذلك أن قواعد العدالة والإنصاف تقابل القواعد القانونية الموضوعية ، إذ أنها أسمى من القانون الوضعي وأكثر مرونة منه .
وصفوة القول أن في الدعوى التحكيمية تحتل قواعد العدالة والإنصاف مكانة هامة ، إذ أن هدف المحكم بالصلح هو البحث عن الحل الأكثر عدالة وليس الحل الأكثر توافقاً مع القانون .
وموضوع التحكيم بالصلح له أهمية بالغة حيث أنه يتسم بالتكيف مع الاحتياجات المختلفة للمتعاملين بالتجارة الدولية .