اتجهت غالبية التشريعات إلى ضرورة تحري الإرادة الضمنية للأطراف حال تخلف إرادتهم الصريحة.
ويقصد بالإرادة الضمنية تلك التي تستفاد من الظروف المختلفة المحيطة بالتعاقد. والتي تستشف في الواقع من خلال عدة قرائن، مثل اللغة التي حرر بها العقد، والعملة التي اتفق على استخدامها في الوفاء، والاتفاق على تنفيذ العقد في دولة معينة.. أو غير ذلك من الضوابط التي يبتغي التوصل من خلال بحثها إلى معرفة المحل الذي قصد الأطراف تركيز عقدهم فيه، ومن ثم تكون إرادتهم الضمنية قد اتجهت إلى إعمال قانون التركيز الموضوعي للعقد.
وبذلك تتول قاعدة قانون الإرادة الضمنية إلى قاعدة إسناد أخرى يكون ضابطها هو المحل الذي تركز فيه العقد.
وعلى ذلك جاء تقنين التشريعات المختلفة في تنازع القوانين بوضع ، ضابط الإرادة الضمنية حال تخلف الإرادة الصريحة.
فتضمن ذلك القانون المدني المصري في المادة ١/١٩ منه والتي نصت على أنه "يسري على الالتزامات التعاقدية قانون الدولة التي يوجد فيها الموطن المشترك للمتعاقدين إذا اتحدا موطناً، فإن اختلفا موطناً سرى قانون الدولة التي تم فيها العقد، هذا ما لم يتفق المتعاقدان أو يتبين من الظروف أن قانوناً آخـر هـو الـذي يـراد تطبيقه".
كما نص القانون الدولي الخاص النمساوي لعام ١٩٧٩ على أنه عند غياب التحديد الصريح، إذا بان من الظروف أن الأطراف قد اعتبروا نظاما معيناً واجب التطبيق، فيعد هذا تحديداً ضمنياً.
كما تضمنت الاتفاقيات الدولية ذات القاعدة، ومن ذلك ما تضمنته المادة ۳/١ من اتفاقية روما لعام ١٩٨٠ حول القانون واجب التطبيق على الالتزامات التعاقدية من أنه "يسري على العقد القانون الذي يختاره الأطراف. ويجب أن يكون هذا الاختيار صريحاً أو يستخلص بطريقة مؤكدة من أحكام العقد أو من ظروف التنفيذ".
ولم تكن هناك أية صعوبة في تطبيق قاعدة قانون الإرادة الضمنية على اتفاق التحكيم، كما تطبق في الأصل على "العقد الدولي" ومرجع ذلك ما سلفت الإشارة إليه من أن قاعدة قانون الإرادة الضمنية هي مظهر من مظاهر التوسع في إعمال مبدأ سلطان الإرادة. ومن ثم فهي تتسق مع الفلسفة التي يقوم عليها نظام التحكيم من اعتماده على مبدأ "الرضائية".
ولكن بالرغم من تلاقي "اتفاق التحكيم" مع "العقد الدولي" من حيث مبدأ إعمال قاعدة الإرادة الضمنية. إلا أن اختلافهما في تطبيقه كان محتوماً.
إذ يفرض اختلاف "اتفاق التحكيم" عن العقد الدولي في تطبيق قانون الإرادة الضمنية، ما يتسم به اتفاق التحكيم من طبيعة خاصة تميزه عن غيره من العقود، والتي تتمثل في كون محله ينصب على عمل إجرائي قوامه تسوية نزاع ناشئ عن علاقة أخرى تعاقدية، أو غير تعاقدية بطريق التحكيم.
وقد تجلى هذا الاختلاف في تطبيق قانون الإرادة الضمنية بين اتفاق التحكيم "والعقد الدولي" في قاعدة قدمت بوصفها تمثل قانون الإرادة الضمنية في شأن "اتفاق التحكيم"
وهي وهي قاعدة قانون العقد الأصلي أو قانون العلاقة الأصلية
وهي قاعدة لا يتصور ظهورها بشأن "العقد الدولي".. لأن العقد الدولي لا يثور بشأنه ما يسمى "عقداً أصلياً أو علاقة أصلية".
ومن ثم فهي قاعدة خاصة باتفاق التحكيم.
وقد استند في تقديم قاعدة قانون العقد الأصلي أو العلاقة الأصلية، بوصفه قانون الإرادة الضمنية، إلى ارتباط اتفاق التحكيم بالعقد الأصلي أو العلاقة الأصلية برابطة توصف بثلاثة أوصاف: أنها رابطة موضوعية، وأنها رابطة وظيفية، وأنها رابطة عضوية.
فهي رابطة موضوعية، بحسبان أن موضوع اتفاق التحكيم هو تهيئة وسيلة قضائية ملائمة لفض ما يثور من نزاع بشأن موضوع العلاقة الأصلية، وهي رابطة وظيفية بحسبان أن اتفاق التحكيم هو مجرد اتفاق acte instrumental أو اتفاق خادم convention de service للعقد للعلاقة الأصلية، بإبعاد ما ينشأ عنهما من منازعات عن قضاء الدولة، وجعله لقضاء التحكيم، وهي أخيراً رابطة عضوية لأن اتفاق التحكيم يندرج حينما يأخذ صورة شرط أو بند التحكيم في صلب العقد الأصلي وبنائه الصياغي. وحتى وإن اتخذ صورة المشارطة، فهو يدون في محرر أو مستند يلحق بملف العلاقة الأصلية أو العقد، أو يشير إلى أنه أبرم بخصوصه.
وبتلك المثابة وفضلاً عن أن الواقع يدل على أنه حينما يتفق الأطراف على قانون معين ليحكم عملية التحكيم فهو يحكم كل جوانب تلك العملية من بدايتها وحتى نهايتها، بما فيها اتفاق التحكيم، فإنه استصحاباً لذلك يتعين، عند غياب الاختيار الصريح للقانون الذي يحكم ذلك الاتفاق، تطبيق القانون الذي يحكم العلاقة الأصلية، المبرم بشأنها اتفاق التحكيم، على ذلك الاتفاق ذاته.
وقد تضمنت النص على تقرير ذلك الاتجاه، عدد من تشريعات القانون المقارن مثل :
أولا : القانون السويسري لعام ١٩٨٧ حيث نصت المادة ٢/١٧٨ منه على أنه :
" يحكم اتفاق التحكيم القانون الذي اختاره الأطراف .... وعند انعدام هذا الاختيار يطبق القانون الذي يحكم موضوع النزاع وخصوصا القانون واجب التطبيق على العقد الأصلي
ثانيا : قانون التحكيم الجزائري لعام ١٩٩٣ حيث نصت المادة 61 منه على اختصاص القانون الذي يختاره الأطراف لاتفاق التحكيم وآثاره .... وعند انعدام ذلك الاختيار يسرى القانون واجب التطبيق على العملية القانونية الناشيء عنها النزاع .
كما تبنت هذا الاتجاه أحكام تحكيم عديدة.. وبصفة خاصة تلك التي أصدرتها غرفة التجارة بباريس :
ومن ذلك الحكم الصادر في القضية التحكيمية رقم 6840 لعام ١٩٩١:
وقد ورد في هذا الحكم أنه: "من المعقول والطبيعي عند انعدام أي تحديد من جانب الأطراف بشأن القانون واجب التطبيق على اتفاق التحكيم إخضاع شروط التحكيم لنفس قانون العقد الأصلي، بحيث يختص ذلك القانون بتحديد صحة أو بطلان الشرط واستقلاله عن العقد الأصلي من عدمه، وقد يبدو ذلك مقبولا حيث إنه في الغالبية العظمى من الحالات يخضع الأطراف العقد الأصلي واتفاق التحكيم لقانون واحد وعند غياب التعبير الصريح عن الإرادة فإن دلائل الإسناد تحدد أيضاً ذات القانون ليحكم كلاهما" .
وفي شأن تطبيق قانون العقد الأصلي على اتفاق التحكيم قضت محكمة النقض المصرية بأنه:
"إذا كان الطاعنان تمسكا بعدم جواز تنفيذ حكم المحكمين موضوع التداعي لمقولة أن عقد الإيجار التمويلي الذي تضمن شرط التحكيم الذي صدر على أساسه هذا الحكم لم ينعقد قانوناً بما مؤداه أن حكم المحكمين قد صدر دون وجود اتفاق على التحكيم وكان يبين من عقد الإيجار آنف الذكر والمقدم ترجمة رسمية له بالأوراق إنه تضمن في البند الواحد والعشرين منه النص على أن القانون واجب التطبيق على هذا العقد هو القانون السويدي وعلى إحالة أي نزاع ينشأ عن تفسيره أو تنفيذه إلى التحكيم بالسويد وفقاً لأحكام قانون التحكيم السويدي فإن المرجع في ذلك يكون إلى القانون السويدي باعتباره القانون الذي اختاره الأطراف ليحكم العقد الأصلي الوارد باتفاق التحكيم ضمن بنوده وإليه وحده يكون القول الفصل فيما أثير حول وجود هذا العقد والاتفاق التحكيمي المتصل به من حيث وجود التراضي وكيفية تلاقي القبول بالإيجاب وتحديد القوة الملزمة للإيجاب والشروط اللازمة لاعتبار القبول متأخراً من عدمه إلى آخر ذلك من الشروط الموضوعية اللازمة لانعقاده ووجوده .
دون القانون المدني المصري الذي يصدر عنه دفاع الطاعنين في هذا الشأن وإذ لم يقدم الطاعنان الدليل على القانون السويدي المشار إليه حتى تتبين المحكمة على هدى من قواعده مدى صحة هذا الادعاء وخلافاً للأصل الذي يفترض في حكم المحكمين صدوره استناداً إلى اتفاق تحكيمي تتوافر له مقوماته وصحته قانوناً وكان الحكم الابتدائي المؤيد بالحكم المطعون فيه وهو في سبيله للتحقق من موجبات إصدار الأمر بتذييل حكم المحكمين موضوع التداعي بالصيغة التنفيذية قد خلص إلى الاعتداد بوجود الاتفاق على التحكيم معولاً في ذلك على شرط التحكيم المدرج بعقد الإيجار التمويلي فإنه يكون قد أصاب صحيح القانون في نتيجته .
وهذا الحكم بعد مثالاً نموذجياً في إعمال قانون العقد الأصلي باعتباره قانون الإرادة الضمنية في شأن اتفاق التحكيم.
وقد بدا واضحاً أن الحكم يتصدى لفرض خاص، وهو عدم وجود اتفاق صريح بين الأطراف على القانون واجب التطبيق على اتفاق التحكيم، بينما يوجد اتفاق على إعمال القانون السويدي على العقد الأصلي، فقرر الحكم سريانه أيضاً على اتفاق التحكيم باعتباره القانون الذي اختاره الأطراف ضمناً.
وقد تعرض الاتجاه لإعمال قانون العقد الأصلي على اتفاق التحكيم باعتباره قانون الإرادة الضمنية لانتقادات فقهية تقوم على ما يأتي:
أولا : أنه لا يوجد مبرر قانوني للربط بين اتفاق التحكيم والعلاقة الأصلية في شأن القانون واجب التطبيق، حيث إن موضوعهما مختلف تماما ، فالأول اتفاق له طبيعة إجرائية ، في حين أن الثاني اتفاق له طبيعة موضوعية تتعلق بالمعاملات المالية بين الطرفين .
وقد وجد هذا النقد صداه لدى بعض أحكام التحكيم التي بدت متأثرة به ومن ذلك :
ما قضت به محكمة التحكيم بغرفة التجارة الدولية بباريس عام ١٩٧٠ من أنه: "بما أن الأطراف لم يتفقوا عند التعاقد على خضوع شرط التحكيم والعقد الأصلي للقانون الألماني، وكان لا يوجد أي نص اتفاقي يخضع شرط التحكيم للقانون الألماني الواجب التطبيق على العقد الأصلي، فانه يجب على المحكم البحث عن القانون واجب التطبيق على شرط التحكيم" .