هذا وإذا أتفق الطرفان على تطبيق قانون دولة معينة اتبع المحكم القواعد الموضوعية الواردة فيه وليس القواعد الخاصة بتنازع القوانين مالم تتجه إرادة الطرفين صراحة أو ضمناً إلى تطبيق القواعد الأخيرة .
وفي هذا الصدد قررت محكمة النقض الفرنسية، في أحد أحكامها ، أن غياب الاختيار الصريح لقانون أجنبي معين ليحكم موضوع المنازعة بين الدولة المتعاقدة مع رعايا دولة أخرى يعني بالضرورة وجود قرينة على أن قانون هذه الدولة المتعاقدة هو قانون الأرادة المفترضة الذي يجب أن يحكم هذا الموضوع الأمر الذي يجب معها استبعاد خضوعه لأي قانون أجنبي، وتميل إلى هذا الحل اتفاقية واشنطن لعام ١٩٦٦ بشأن تسوية منازعات الاختيار بين الدول الأطراف و رعاياها المستثمرين، حيث نصت المادة ٤٢ على أن تفصل محكمة التحكيم في المنازعة على مقتضى قواعد القانون الذي اختاره الطرفان فإذا لم يوجد اتفاق بين الطرفين في هذا الشأن طبقت محكمة التحكيم قانون الدولة المتعاقدة الطرف في النزاع .. " وتطبيقاً لذلك قررت محكمة التحكيم التابعة لمركز تسوية منازعات الاستثمار المنشأ بهذه الاتفاقيات، إخضاع إحدى المنازعات التي كانت دولة الكاميرون طرفاً فيها للقانون المدني و التجارى، المطبق في هذه الدولــــه وذلــك دون أن تكلف المحكمة نفسها عناء إستخلاص الإرادة الضمنية المشتركة للطرفين حيث لم يفصحا إبتداءً عن أي قانون أجنبي يكون هو الواجب التطبيق على هذا النزاع على أن أحكام التحكيم التجارى الدولي لا تسير على منوال واحد عند عدم وجود نص قانوني أو اتفاق بين طرفي النزاع فيما يعرف بعقود الدولة astats contracts على تطبيق القانون الوطني للدولة الطرق في النزاع ، إذ أحياناً ما يطبق المحكم الدولي قانون بلد إبرام العقد أو قانون بلد تنفيذه أو قانون بلد التحكيم ، ولو كان قانوناً أجنبياً.
تقييد المحكم الدولي بقانون الطرفين أو بقواعد "القانون" التي يتفق عليها الطرفان :
تنص بعض اتفاقيات وأنظمة التحكيم التجارى الدولي على أن يكون للطرفين حرية تحديد القانون " الذي يجب على المحكم تطبيقه على موضوع النزاع " وهو النص المقرر في المادة ٧ من الاتفاقية الأوروبية للتحكيم الاعتراف الدولي والمادة ١٣ من نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية والمادة ۳۳ من نظام تحكيم لجنة الأمم المتحدة هذا بينما تنص البعض الآخر من هذه الاتفاقيات والأنظمة على أن يكون للطرفين حرية الاتفاق على قواعد القانون التي يجب على المحكم تطبيقها على موضوع النزاع وهو ما قررته المادة ١٤٩٦ من النظام الفرنسي للتحكيم التجارى الدولي والمادة ٤٢ من اتفاقية واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار والمادة ۲۸ من القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي وهكذا فبينما تجيز بعض هذه الاتفاق والأنظمة الدولية للطرفين إختيار القانون Le Droit " الذي يطبقه المحكم الدولي على موضوع النزاع فإن بعضها الآخر يجيز لهما إختيار قواعد القانون Régle de droit التي يجب على المحكم الدولي تطبيقها على هذا الموضوع لذا يثور السؤال عما إذا كان هناك فارق بين تقيد المحكم الدولي "بالقانون" الذي اختاره الطرفان وبين "تقيده بقواعد "القانون" التي قد يقع عليها إختيارهما ؟ و لقد اتجه الرأي إلي أنه يوجد فارق ولاشك بين هذين الاصطلاحين ، وإذ بينما تكون حرية الطرفين مقيدة، وفقاً للاصطلاح الأول ، باختيار قانون وطني محدد يتقيد المحكم الدولـــــي بــدوره بالحكم على مقتضاه فإن الطرفين - والمحكم بالتالي - يتحرران من هذا القيد وفقاً للاصطلاح الآخر بمعنى أنه أجاز لهما النص إختيار قواعد القانون التي يلتزم المحكم الدولي بتطبيقها على موضوع النزاع كان لهما إختيار قواعد غير منصوص عليها في قانون وطني محدد، كالقواعد المستمدة من المبادئ العامة principes génraux للقانون أو قواعد الأعراف Régles coutumieres أو العادات التجارية usages de commerce التي تشكل مجموعة مانعة un corps exclusif من القواعد المعيارية التي يعتمد عليها في حل النزاع ويندرج في هذه المجموعة المانعة على سبيل المثال، قواعد وضعها البعض في مصاف القواعد القانونية الحقيقية الملزمة التى تتضمنها أغلب الأنظمة القانونية الدولية تالتزام المتعاقد ، بالتعامل بحسن نية negocier de bonne Foi التزام المتعاقد بالحد من الأضرار minimiser des pertes.
ولقد جسدت لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي في مذكرة لها عام ۱۹۸۸، أهمية الاستثناء للطرفين بحرية إختيار قواعد القانون التي يطبقها المحكم الدولي بدلاً من الاستثناء لهما بحرية إختيار "قانون" وطني فقط فيما قررته من أن هذه الأهمية تبدو من ناحيتين : فمن ناحية يكتسب هذا الاستثناء الدولي أهمية كبيرة لأن بعض القوانين الوطنية لا تعترف بحرية الطرفين في إختيار قواعد القانون التي يطبقها المحكم وتكتفي بالاعتراف لهما بحرية إختيار "قانون" وطني وحسب يتقيد المحكم بنصوصه ومن ثم يغطى الاعتراف الدولي هذا القصور الذي يعرقل التجارة الدولية ومن ناحية أخرى فإن حرية الطرفين في إختيار قواعد القانون التي تطبق على موضوع النزاع تتيح لهما - - وللمحكم الدولي بالتالي - مجموعة أوسع نطاقا من البدائل فيما يتعلق بتعيين القانون الواجب التطبيق ومن حيث أنهما قد يتفقان على قواعد القانون التى وضعها محفل من المحافل الدولية ولكنها لم تندرج بعد في أي نظام قانوني وطني.
غير أن السؤال قد ثار عما إذا كان عدم إختيار الطرفين لقانون وطني معين أو " لقواعد القانون التي يطبقها المحكم الدولي على موضوع النزاع يبيح له الفصل فيه على مقتضى المبادئ العامة" أو "القواعد العرفية الدولية" وحدها ولو لم تكن مستمدة من القانون الوطني الذي يرتبط به العقد مثار النزاع؟ ولقد سارت الإجابة على هذا السؤال في إتجاهين مختلفين الأول موسع والآخر مضيق ولكل صداه في التطبيق العملي.
فوفقاً للاتجاه الموسع يسمح القول باشتمال مدلول قواعد القانون" على المبــــــادئ العامة وأعراف التجارة الدولية بتطبيق هذه المبادئ والأعراف دون غيرها على موضوع النزاع طالما لم يختر الطرفان قانونا وطنيا loi etaitique محدداً ولو خلا القانون الـــــذي يسفر عنه توطين العقد مثار النزاع من تلك المبادئ والأعراف (۱) ولقد لقي هذا الاتجاه قبولاً من محكمة استئناف باريس عندما نظرت طعناً في حكم التحكيم الصادر في دعوى بنك الشرق الأدنى Dancine du proche orient ضد شركة فوجيرول Société fougerolle ففي هذا الطعن نعت الشركة المذكورة على المحكم الدولي الذي أصدر الحكم المنهي للنزاع أنه فصل فيه متجاوزاً للشروط المقررة في مشارطه التحكيم وأنه بذلك يكون قــد اغتصب سلطة المحكم المفوض بالصلح pouvoir damiable compiositeur حيث لم يخوله الطرفان هذه السلطة في المشاركة إلا أن المحكمة المذكورة قد قررت أن الإشارة في اتفاق التحكيم إلى "المبادئ العامة للالتزامات في التجارة الدولية تجيز للمحكم الفصل في موضوع النزاع طبقاً للعادة التجارية الدولية التى بمقتضاها يحتسب أجر وكيل العقود على أساس ما تم تنفيذه من التزاماته بالنسبة لمجموع الادعاءات المتبادلة للطرفين المنصوص عليها في العقد مثار النزاع طالما لم يصل تنفيذ هذا العقد إلى منتهاه بسبب فسخه وبالتالي فإن تطبيق المحكم لهذه العادة التجارية لا يعنى أنه لم يتقيد بقواعد القانون وأنه فصل في موضوع النزاع متجاوزاً حدود اتفاق التحكيم وهكذا تبنت محكمة استئناف باريس في نظرها هذا الطعن الاتجاه الذي يسمح بتطبيق قاعدة تجارية دولية معينة تتضمنها المبادئ العامة والأعراف الدولية ولو لم يشر الطرفان إلى هذه القاعدة - كقاعدة واجبة التطبيق - في اتفاق التحكيم وذلك طالما اكتفي هذا الاتفاق بالإشارة إلى تلك المبادئ والأعراف ولم يشر إلى قانون وطني محدد.
أما الاتجاه المقيد فيميل إلى أن الإشارة في اتفاق التحكيم إلى "المبادئ العامة وأعراف التجارة الدولية لا يجيز للمحكم تطبيقها على موضوع النزاع إلا بالربط En combinaison بينها وبين قواعد قانون وطني معين فالمبادئ العامة للقانون وعادات التجارة الدولية لا تقوم إلا بدور احتياطي subsidiaire مكمل auxiliaire للقانون الوطني أو للمبادئ العامة في قانون وطني معين وذلك كله بفرض أن يكون تطبيق هذا القانون الوطني أكثر فعالية واستقامة مع موضوع النزاع الذي يثير مصالح التجارة الدولية (1) وبعبارة أخرى فإنه لا يجب أن يؤدي تطبيق المبادئ العامة للقانون وأعراف وعادات التجارة الدولية إلى استبعاد تطبيق القانون الوطني الذي يرتبط به العقد مثار النزاع بل يجب على المحكم الدولي أن يجعل لتلك المبادئ والأعراف والعادات دور مساعد يعين على تطبيق هذا القانون الوطني على موضوع النزاع على أحسن وجه، وهو المقصود من الاعتراف للطرفين بحرية اختيار " قواعد القانون " .
ولقد طبقت فكرة ربط المبادئ العامة للقانون وأعراف وعادات التجارة الدولية بقانون وطني معين في حكم التحكيم الشهير في نزاع شركتي البترول Texaco calasiatic مع الحكومة الليبية بتاريخ ۱۹ يناير ۱۹۷۷. ففى هذا النزاع أعمل المحكم الدولي، وكان الأستاذ ريني جون ديبوى Rene-jean Dupuy ، مبادئ القانون الليبي ومبادئ القانون الدولي وخصوصاً مبدأ القوة الملزمة للعقود la force obligatoire des contrats في أن معا بمعنى أنه قد أخذ بالاتجاه الذي بمقتضاه يجب على المحكم ألا يطبق المبادئ العامة للقانون وأعراف وعادة التجارة الدولية تطبيقاً محضاً يؤدي إلى استبعاد القانون الوطني ( مبادئ القانون الليبي في حالتنا )تماماً بل يجب عليه الربط بين هذه المجموعة من المبادئ والأعراف والعادات للوصول إلى الحكم السديد في النزاع والذي يتفق مع طبيعته الدولية.
ويؤيد بعض الفقه هذا الاتجاه بقوله بأن أهميته ترجع إلى أنه يتفادى الخلط بين تطبيق قواعد القانون" التي يتقيد بها المحكم بموجب اتفاق التحكيم وبين تطبيق القواعد التي يختارها المحكم المفوض بالصلح وحيث يكون الأول مقيداً بالحكم على مقتض قواعد "القانون" بعكس الآخر الذي يصبح طليقاً من أي قانون وطني معين شريطة أن يخوله اتفاق التحكيم هذه السلطة صراحة .