اجراءات خصومة التحكيم / قانون الإرادة / الكتب / بطلان حكم التحكيم ومدى رقابة محكمة النقض عليه (دراسة مقارنة) / دور إرادة الأطراف في اختيار القواعد القانونية الواجبة التطبيق
قد حرصت بعض النظم القانونية على أن تضع نصوصا قانونية صريحة تؤكد على حرية أطراف اتفـاق التحكيم في اختيار القانون الواجب التطبيـق علـى مـوضـوع النزاع، وذلك تطبيقا لقاعدة العقد "شريعة المتعاقدين".
وقـد بـدت رغبـة المشرع المصري واضحة؛ في قانون التحكيم، في منح إرادة أطراف اتفاق التحكيم الحرية الواسعة في اختيار القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع، وقد ترجمت هذه الرغبة في الفقرة الأولى من المادة (39) مـن ذات القانون.
ويبدو جليـا إن كـلاً مـن المشرع المصري والمشرع الأردنـي قـد منحا الأطراف الحرية في اختيار القانون، أو القواعد التي يرونها الأنسب لهم، والتي يرون فيها تحقيقاً لمصالحهم لتحكم موضـوع النزاع، وليس بالضرورة اختيـار نـصـوص قـانون وطـني معين، أو أن تكون لهذه القواعد أي صله بالخصوم أو باتفاقهم، وذلك على أساس إن الفقرة الأولى من المادة (39) من قانون التحكيم المصري، وكذلك الفقرة الأولى من المادة (36) من قانون التحكيم الأردني، قد استخدم فيها المشرع مصطلح ـ (القواعد القانونية) ـ وهذا المصطلح الأخير لا يعني بالضرورة نصوص قانون وطني معين، وإنما يمكن تفسيره على أنه يمكن للخصوم أن يتخيروا أيه قواعد قانونية لتحكم موضوع النـزاع، سـواء كانـت هـذه القواعد واردة في قانون وطـني معين، أو في لائحة مركـز تحكيم، أو في عقد نموذجي، أو في اتفاقية دولية، أو يختاروا من عدة قوانين القواعد التي يتعين على هيئة التحكيم أن تلتزم بها عند الفصل في موضوع النزاع.
هذا وفي حال إن اختار أطراف اتفاق التحكيم تطبيق قانون دولة معينه، فإنه يتعين على هيئة التحكيم أن تطبق القواعد الموضوعية في هذا القانون، دون القواعد الخاصة بتنازع القوانين، إذ أن هذه القواعـد قـد تميـل إلى قانون آخـر لا تتحقـق مـعـه التوقعات المشروعة للأطراف، والمثال على ذلك: إن اتفق الأطراف على أن تطبيق هيئة التحكيم القانون اللبناني، فإنه يتعين ـ والحالـة هـذه ـ على الهيئة أن تطبق القواعد الموضوعية لهذا القانون على موضوع النزاع دون القواعد الخاصة بتنازع القوانين، هذا بالطبع ما لم يكن هناك اتفاق بين الأطراف على خلاف ذلك، إذا أنه في حال إن كان هناك اتفاق بين الأطراف فإنه يتوجب على هيئة التحكيم أن تعمل هذا الاتفاق وتلتزم بقواعد الإسناد كما تلتزم بالقواعد الموضوعية سواءً بسواء.
بيد أنه يتعين على أطراف اتفاق التحكيم عند اختيارهم للقانون الذي سوف يطبق على موضوع النزاع مراعاة أن لا يخالف هذا القانون النظام العام في الدولة التي سوف ينفذ فيها الحكم.
وقد منح المشرع الكويتي أطراف اتفاق التحكيم حرية اختيار القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع، وهذا أيضاً حال القانون اللبناني حيث تنص المادة ( 767) من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني على أنه : " يجوز للخصوم الاتفاق على حل نزاع بطريق التحكيم ولو كان موضوعاً لدعوى مقامة أمام القضاء، ويمكنهم الاتفاق على أن يكون الحل وفق أحكام قانون أجنبي أو عرف أجنبي".
لكن قانون المرافعات الفرنسي، وفيما يتعلق في التحكيم الداخلي لم يشر إلى مسألة حرية الأطراف في اختيار القانون الذي يحكم موضوع النزاع، على الخلاف مما فعله عندما نظم نصوص قانون التحكيم الدولي، حيث أكدت المادة (1496) من قانون المرافعات والمتعلقة بالتحكيم الدولي على أنه للمحتكمين الحرية الكاملة في اختيار القواعد القانونية التي يرونها مناسبة لتطبق على موضوع النزاع، دون التقيد بأي قانون وطني، ودون التقيد بقواعد قانونية معينه ، وعليه فإنه يجوز للأطراف اختيار قواعـد قانونيـة مـن قـوانين متعـددة لتطبـق علـى النـزاع، ويرى البعض أن تعـدد النصوص الواردة في خصوص التحكيم الداخلي والـتي تحيـل إلى قانون المرافعات الفرنسي؛ تؤكد افتراض تطبيق القانون الوطني الفرنسي في حالات التحكيم الداخلي (الوطني).
أما فيما يتعلق بالقانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي فيلاحظ أيضاً أنه قد أخذ بمبدأ حرية الأطراف في اختيار القانون الذي يطبق على موضوع النزاع، وهـذا - ما أكدته المادة (1/28) منه، والتي ورد فيها أن: "تفصل هيئة التحكيم في النزاع وفقاً لقواعد القانون التي يختارها الطرفان، بوصفها واجبة التطبيق على موضوع النزاع ، وأي اختيار لقانون دولة ما، أو نظامها القانوني يجب أن يؤخذ على أنه إشارة مباشرة إلى القانون الموضوعي لتلك الدولة.
وبالعودة إلى قانون التحكيم المصري، وكذلك قانون التحكيم الأردني، نجد بأن المشرعين (المصري والأردني) لم يغفلا بأنه يمكن ألا يتفق أطراف اتفاق التحكيم
على تطبيق قواعد قانونية معينه لتحكم موضوع النزاع، فنظما هذه المسألة، من خلال إعطاء هيئة التحكيم السلطة في اختيار وتطبيق القواعد الموضوعية في القانون الذي ترى أنه الأكثر اتصالا بالنزاع.
أما فيما يتعلق بالقانون النموذجي، فقد عالج الحالة التي لا يكون فيها اتفاق بين الأطراف على تطبيق قانون معين، إذ أنه قـد أوجب على هيئة التحكيم إعمال
قاعدة تنازع القوانين التي ترى أنها واجبة التطبيق، والحكم بمقتضى القانون الذي تسفر عنه هذه القاعدة، وذلك بحسب ما ورد في المادة (2/28) مـن هـذا القانون والتي ، ورد فيها أنه: "إذا لم يعين الطرفان أية قواعـد ، وجب على هيئة التحكيم أن تطبـق القانون الذي تقرره قواعد تنازع القوانين التي ترى الهيئة أنها واجبة التطبيق".
ومع هـذا فإنه يتعين في هذا الشأن أن نضع في اعتبارنـا مـا يقـرره بعض الفقه المصري من أن سلطة هيئة التحكيم وفقاً لنص القانون المصري قـد قيدت بتطبيق (القانون الوطني) الذي ترى أنه أكثر اتصالاً بموضوع النزاع، سواء كـان هـذا القانون الوطني القانون المصري أو سـواه، إذ ليس لهيئة التحكيم الصلاحية التي يتمتع بها الأطراف من ابتكار قواعد قانونية.
وعليه فإنه يتضح إن سلطة هيئة التحكيم في اختيار القانون الواجب التطبيق لها الطابع الاحتياطي، إذ لا تمارس سلطة الاختيار إلا عند غياب اتفاق الخصوم عن تعيين القانون الواجب التطبيق، ويتوجب على هيئة التحكيم التقييد ، عند اختيارها للقانون الذي سوف يطبق على موضوع النزاع، عدم مخالفته النظام العام في جمهورية مصر وفقاً لما قررته المادة (28) من القانون المدني المصري، وإلا سيكون الحكم غير قابل للتنفيذ في مصر.
وتنص المادة (1474) من قانون المرافعات الفرنسي، والمتعلقة بالتحكيم الداخلي على أنه: "يفصل المحكم في النزاع طبقاً لقواعد القانون، ما لم يكن الأطراف قـد عهدوا إليه في اتفاق التحكيم بمهمة التفويض بالصلح (قواعد العدالة والإنصاف)" ويقابلها نص المادة (1497) مـن ذات القانون، والتي تتعلق بالتحكيم الدولي، والتي تنص على أنه: "يفصل المحكم النزاع كمحكم بالصلح إذا عهد إليه الأطراف ذلك في اتفاق التحكيم".
وتنص أيضاً الفقرة (3) من المادة (28) من القانون النموذجي على أنه: "لا يجـوز لهيئة التحكيم الفصل في النزاع على أساس ودي إلا إذا أجاز لها الطرفان ذلك صراحة".
ومـن النصوص آنفـة الـذكر تبـدو إن النتيجة التي تترتب علـى شـرط التفويض بالصلح هي إعطاء المحكمين سلطة استبعاد القواعد الموضوعية في القانون، والفصل في النزاع، طبقاً لقواعد العدالة والإنصاف، وهذه القواعد ـ بطبيعة الحال- هـي قـواعـد العدل كما يراها المحكمون، والذي يختلف معيارها أو مفهومها من شخص إلى آخر.
ويبقى أن نشير إلى أنه سواء اتفق الأطراف على تطبيق قانون معين أم لم يتفقوا ، وترك الأمر لهيئة التحكيم لتختار القانون الأكثر ارتباط بموضوع النزاع، فإنه يتعين على هيئة التحكيم أن تراعـي شـروط العقد محل النزاع، والأعراف الجارية في نـوع المعاملة، ويتعين أيضاً عليهـا أن تراعـي القـواعـد الآمـرة الـتي تمس النظـام العـام.