الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • اجراءات خصومة التحكيم / تحديد القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 31-32 / تقصي المحكم إرادة الأطراف الصريحة والضمنية في خصوص اختيارهم للقانون الواجب التطبيق على النزاع في العقد الدولي

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 31-32
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    285

التفاصيل طباعة نسخ

مقدمة:

   لقد ازدهر التحكيم التجاري الدولي بازدهار التجارة الدولية وارتبط بهـا، فـالتحكيم وجـد من أجل حل مشاكل التجارة الدولية، ولم توجد هي لحل مشاكله، ولقد أصبح التحكـيم التجـاري الدولي في الآونة الأخيرة ضرورة من ضرورات التعامل بين الشعوب وأداة لابد منهـا للتنميـة والازدهار.

   وكما هو معلوم فالتحكيم يتميز باحترام إرادة الأطراف، وإن النجاح في مهمة التحكيم يتطلب أول ما يتطلب، معرفة القانون الواجب التطبيق على القضية التحكيمية المعروضة علـى هيئـة التحكيم من أجل حل وحسم النزاع الحاصل فيها.

   ولا صعوبة في تحديد القواعد التشريعية الواجبة التطبيق عندما يكون الأمر متعلقاً بعلاقـة داخلية. فاختيار أطراف النزاع لقانون أجنبي لا يوقف تنفيذ أي من القواعد الآمرة فـي القـانون الوطني الذي تنتمي إليه العلاقة.

   وإذا كان للأطراف اختيار القواعد القانونية التي تحكم أساس النـزاع، وأن هـذا الاختيـار ينصب على القواعد الموضوعية بشرط عدم مخالفة النظام العام الدولي والقواعد ذات التطبيـق الضروري، فإن تساؤلا يطرح حول التنظيم القانوني الذي يحكم عملية الاختيار؟

   ثم إن الأطراف أحياناً قد لا يشيروا صراحة إلى القانون الواجب التطبيق على العقد، ولكـن يلاحظ المحكم من الظروف المحيطة بالعقد أن إرادة الأطراف اتجهت نحو قانون معين، في هذه الحالة تطرح التساؤلات عن القيمة القانونية التي يعطيها المحكم لهذه الإرادة؟ وما الـذي يميـز هذه الإرادة عن حالة انعدام الإرادة؟ وما هي المعايير التي يعتمدها المحكـم لاستخلاص هـذه الإرادة؟

   ثم إن هناك تساؤلا آخر عن الوقت الذي يحق فيه للأطراف اختيار هذه القواعد؟ وهل يحق لهم تعديل هذه القواعد متى شاؤوا؟

   للإجابة عن هذه التساؤلات فإننا سنعرض للمباحث الآتية:

المبحث الأول- الإرادة الصريحة.

وفيه نعرض لكل من:

   أ - موقف القوانين.

   ب - موقف المعاهدات.

   ج - موقف مراكز التحكيم.

المبحث الثاني- الإرادة الضمنية.

وفيه نعرض لـــــ:

   أ- القرائن التي يعتمد عليها المحكم للوصول إلى الإرادة الضمنية الحقيقية.

   ب – التطبيقات التحكيمية للإرادة الضمنية.

المبحث الثالث - التسوية بين الإرادة الصريحة والإرادة الضمنية.

المبحث الرابع - وقت الاختيار والحق في تعديله.

ومن ثم الخلاصة.

المبحث الأول- الإرادة الصريحة:

  إن اختيار الأطراف للقواعد القانونية يتم التعبير عنها، إما بمقتضى بند في العقد أو بمقتضى اتفاق مستقل عن العقد. لي،

   وقد قرر مجمع القانون الدولي في دورة انعقاده بمدينة Balle في سويسرا عام 1991 على أن "شرط اختيار القانون الواجب التطبيق إذا كان مدرجاً ضمن الشروط العامة للعقـد الأص فإنه يتعين أن تكون موافقة الأطراف على هذا الشرط كتابة أو أن تتم هذه الموافقة فـى ضوء معاملاتهم السابقة أو طبقا للعادات المهنية التي يعرفها المتعاقدون".

   وكما هو معلوم، فإن المحكم الدولي لا يعمل في إطار قانون معين تكون أحكامه قيداً عليه، وإنما يعمل في إطار إرادة الطرفين، فتكون هذه الإرادة وحدها هي القيد الذي يقيده. وانطلاقاً من هذه الحقيقة فإذا اختار الطرفان قانوناً معيناً للتطبيق على موضوع النزاع تعين عليه إعمال قواعد هذا القانون برمته.

   ويكون الاختيار صريحاً إذا ما تم الاتفاق على القانون الواجب التطبيـق بموجـب شـرط صريح يدرج ضمن شروط العقد أو بمقتضى اتفاق مستقل عنه.

   وهناك من يرى أن السماح لطرفي العقد في اختيار القانون الواجب التطبيق يجد تبريره في أن القانون يحظى برضاء الطرفين، لهذا فهو يستجيب لمقتضيات العدالة، ومن شأنه أن يـصـون توقعاتهم فلا يفاجأ المتعاقدان بقانون لم يخطر على بالهم. ويعزا التسليم بهذا المبدأ إلـى أسـباب عملية أكثر منها نظرية، إذ تستجيب فكرة حرية الأطراف في اختيار القانون الذي يسري علـى عقدهم للتعدد الكبير وللاختلافات في التعاملات العقدية الدولية، ذلك أنها تسمح للمتعاقدين باختيار القانون الملائم لتحقيق النتيجة التي يرغبان في تحقيقها، كأن يختاران قانون دولة أخرى أجنبيـة عنهم نظراً لما يتضمن من أحكام تنظم عقدهم بصورة معينة أو بصورة تفصيلية وأفضل من تلك التي كانت ستحققه الأحكام التي وردت في قوانينهم الوطنية، كأن يختاران القانون السويسري مثلاً ليسري على عقدهم لما يحققه ذلك من قيود أقل.

     ومن أمثلة الاختيار الصريح ما نصت عليه المـادة 9 مـن العقـد المبـرم بـيـن شـركة Atlantic Triton Company Limited ودولة غينيا من أن القانون الغينـي الواجـب التطبيق على العقد. وكذلك المادة 39 من العقد المبرم بين شركة Vacuum Salt Product Ltd وحكومة غانا التي نصت على تطبيق القانون الثاني على هذا العقد، وأيضاً مـا ورد فـي العقد المبرم بين حكومة جامايكا وشـركة Alcpa minerals of Jamaica مـن أن "محكمـة التحكيم سوف تطبق القانون الجامايكي وقواعد القانون الدولي التي يمكن تطبيقها".

   وإذا قام الطرفان صراحة باختيار القانون الذي يريدان أن يحكم العقد، فمن الواجـب علـى المحكمة أن تنفذ اختيارهما، وذلك على أساس أن أطراف العقد أحرار في اختيار القانون الـذي يحكم عقدهم بشأن المسائل التي تدخل ضمن صلاحياتهم التعاقدية باعتبارهم الأقدر على اختيـار القانون الملائم لطبيعة العلاقة القائمة بينهم.

    لم تكن موجودة وغير حقيقية ويحيط بها الكثير من اللبس والغموض.

أ - موقف القوانين:

   لقد حرصت معظم القوانين والتشريعات الوطنية على النص صراحة على مبـدأ خـضوع العقود الدولية لقانون الإرادة.

    وهو ما فعله المشرع السوري في المادة 1/20 من القانون المدني والتي تنص على أنه:

   "يسري على الالتزامات التعاقدية قانون الدولة التي يوجد فيها الموطن المشترك للمتعاقدين إذا اتحدا موطناً، فإن اختلفا موطناً سرى قانون الدولة التي تم فيها العقـد. هـذا مـا لـم يتفـق المتعاقدان أو يتبين من الظروف أن قانوناً آخراً هو الذي يراد تطبيقه"، وكذلك ما ورد في الفقرة الأولى من المادة 38 من قانون التحكيم السوري والتي نصت على أنه: "تطبق هيئة التحكيم على موضوع النزاع القواعد التي يتفق عليها الطرفان..".

   وكذلك فقد أقر المشرع الاسباني حريـة أطراف العقـود الدوليـة فـي اختيـار القـانـون الذي تخضع له علاقاتهم، فنص في المادة 5/10 من القـانـون المـدني الاسباني لعـام 1974 على أن "تخضع العلاقة القانونية بين الطرفين فـي الالتزامـات التعاقديـة بـيـن الطـرفين للقانون الذي يختارانه.." وهو ما فعله المشرع السويسري، فـنـص فـي المـادة 1/116 مـن القانون الدولي الخاص السويسري لعام 1987 على أن: "يخضع العقد للقـانون الـذي يختـاره الأطراف..

   كذلك فقد كرس مجمع القانون الدولي مبدأ حرية أطراف عقود الاستثمار في اختيار القانون الواجب التطبيق على عقدهم، وذلك بموجب القرار الصادر عنه في دورته المنعقدة في أثينا عـام 1979، والمخصصة لدراسة القانون الواجب التطبيق على العقود المبرمة بين الدول والأشخاص الأجنبية الخاصة التابعة لدولة أخرى، فقد نصت الفقرة الأولى من المادة الثانية من القرار علـى أنه:

   "تخضع العقود المبرمة بين الدول وشخص خاص أجنبي إلى القواعد القانونية المختارة مـن قبل الأطراف المتعاقدة..". كما جاء قرار المجمع في دورته الثالثة والستين عام 1989 والمنعقدة في Santiago de compostela تحت عنوان "التحكيم بين الدول أو مـشروعاتها أو هيئاتهـا، والمشروعات الأجنبية موافقاً لقراره الصادر في أثينا لسنة 1979 مـن حيـث تقريـره حريـة الأطراف في تحديد القواعد القانونية الواجبة التطبيق وذلك في المادة السادسة مـن القـرار المذكور، والتي نصت على أنه:

   "يتمتع الأطراف باستقلال كامل في شأن تحديد القواعد والمبادئ الإجرائيـة والموضـوعية الواجب تطبيقها على التحكيم"

ب- موقف المعاهدات:

   وأياً ما كان الأمر، فإن إرادة المتعاقدين تؤدي دوراً مميزاً في تحديـد القـانون الواجـب التطبيق وعلى المحكم احترام هذا القانون المختار، وقد نصت على ذلك العديد مـن الاتفاقيـات الدولية والتشريعات الوطنية، ومن الاتفاقيات ما ورد في الفقرة الأولى من المادة السابعة مـن الاتفاقية الأوربية للتحكيم لعام 1961، إذ نصت على أنه:

   "للأطراف الحرية في تحديد القانون الذي يتعين على المحكمين تطبيقـه علـى موضـوع النزاع..".

    وكذلك ما ورد في الفقرة الأولى من المادة 21 من الاتفاقية العربية للتحكيم، اتفاقية عمـان لعام 1987، والتي نصت على أنه: "يفصل في النزاع وفقاً للعقد المبرم بين الطرفين وأحكـام القانون الذي اتفق عليه الطرفان صراحة أو ضمناً إن وجد..". وقد أخذت بقاعدة قانون الإرادة اتفاقية جنيف المبرمة في 21 نيسان 1961 في شأن التحكيم التجاري الدولي، إذ تـنص المـادة (1/70) على أنه: "يتمتع الأطراف بموجب الاتفاق بحرية تحديد القانون الذي يطبقه المحكمـون على موضوع النزاع". وبموجب اتفاقية واشنطن لعـام 1965، والخاصـة بتـسوية منازعـات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى، فإن المادة (42) منها تجعل من إرادة الأطراف المبدأ الأساسي الذي يحكم تعيين القانون الذي يلتزم المحكم تطبيقه، إذ تنص الفقرة الأولى مـن هـذه المادة على أنه: "تفصل هيئة التحكيم في النزاع طبقاً لقواعد القانون التي يتفق عليهـا الأطـراف المتنازعة". كما أكدت اتفاقية روما لعام 1980 بشأن القانون الواجب التطبيق علـى الالتزامـات التعاقدية على أن مهمة تحديد القانون الواجب التطبيق تتم عبر آلية الاختيـار الإرادي المطلـق للأفراد، إذ تنص المادة (1/3) على أنه: "يحكم العقد بالقانون المختار من جانب الأطـراف.. كما أن مبدأ الحرية التعاقدية، أي حرية الأطراف في إبرام ما يريدون مـن العقـود وتحديـدهم لمضمون، عقدهم، قد ورد النص عليه في الفقرة الأولى من المادة الأولى من مبادئ معهد روما (اليونيدروا) المتعلقة بعقود التجارة الدولية.

ج- موقف مراكز التحكيم:

   وفي مجال القواعد الناظمة للتحكيم، تكاد لا تخلو لائحة من لوائح هيئات التحكيم الدائمة أو معاهدة دولية متعلقة بالتحكيم من نص على تطبيق القانون الذي يتفـق الأطـراف عليـه بـشأن موضوع النزاع الذي يحل بالتحكيم.

  إذ تنص قواعد تحكيم غرفة التجارة الدولية المعدلة والسارية منذ الأول من ينـاير 1998، وفقا للمادة 1/17 على أنه:

  "للأطراف حرية الاتفاق على القواعد القانونية الواجب على المحكم تطبيقها على موضوع النزاع.

   كذلك تنص المادة 1/33 من قواعد تحكيم مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الـدولي على أنه:

    "تطبق هيئة التحكيم على موضوع النزاع القانون الذي يعينه الطرفان"

   ويثور التساؤل في هذا البحث عن مدى شرط توفر الصلة بالعقد للقانون المختار من عدمه؟

   هناك من يذهب إلى أنه يشترط أن يكون القانون المختار ذا صلة بالعقـد، فمـا زال فقـه القانون الدولي الخاص يشترط وجود هذه الصلة، مقرراً أن الدافع المـشـروع لاختيـار الأطـراف لقانون دولة هو الذي ينفي نية الغش، ويؤكد هذا الفقه، أن الدافع إلى الاختيار لا يكون مشروعاً إلا بوجود صلة بين الدولة التي يتم اختيار قانونها وبين بقية العناصر، ويرجح فقـه القـانـون الـدولي الخاص التقليدي معيار الصلة المعقولة للاعتداد بالقانون المختار، لأن الإرادة، عندما خولها القانون حق الاختيار، ليست طليقة، باعتبار أن ما قصده المشرع بمقتضى قاعدة التنازع هـو أن للأفـراد تعيين القانون الواجب التطبيق من بين القوانين المتنازعة، أي التي تتصل بالعقد الدولي " إذ يـرى الفقيه (باتيفول) أن الإرادة ما هي إلا ضابط إسناد في قاعدة من قواعد تنازع القوانين في دولة ما.

   ويثور التساؤل أيضاً عن مدى حق الأطراف في اختيار أكثر من قانون ليحكم العقد؟ كـأن يختاروا القانون السوري من أجل تطبيقه على شروط إنشاء وصحة العقد، والقانون الفرنسي على مسألة تنفيذه.

   وقد اتجه بعض الفقه إلى ضرورة إخضاع العقد الدولي لنظام قانوني واحد وذلك للاعتبارات الآتية:

   1- إن اختيار الأطراف عدة قوانين لتحكم العقد تؤدي إلى اختلال التوازن العقـدي، فـإذا تضمن العقد التزامين، وأخضع كل منهما لقانون مختلف، قد يؤدي ذلك إلى الإطاحـة بالانسجام اللازم للرابطة العقدية.

   2- إن قاعدة الإسناد في العقود الدولية، تقرر حق الأطراف في اختيار قانون وليس قوانين.

  إلا أن هناك اتجاهات حديثة تسمح بتطبيق أكثر من قانون على العقـد، خصوصاً العقـود الدولية، وحججهم في ذلك:

1- إن النصوص القانونية والاتفاقيات الدولية تؤكد حق الأطراف في اختيار أكثر من قانون لحكم العقد.

فقد نصت المادة الثانية من التوصية التي أصدرها مجمع القـانـون الـدولي فـي دورة

 انعقاده، عام 1979 على أنه:

"يمكن للأطراف أن يختاروا قانوناً أو أكثر لحكم عقدهم، أو المبادئ المشتركة بين هـذه القوانين، والمبادئ العامة للقانون، أو المبادئ المطبقة على العلاقات الاقتصادية الدولية، أو القانون الدولي، أو مزيج من هذه الأنظمة».

وقد اعتمد قانون التحكيم المصري الاتجاه ذاته، حيث نص في المادة 1/39 من القانون رقم 27 لسنة 1994 على أنه:

"تطبق هيئة التحكيم على موضوع النزاع القواعد التي اتفق عليها الطرفان..".

2- أن بعض العقود تدفع المتعاقدين إلى اختيار أكثر من قانون لحكم العقد، كعقد القـرض الدولي، وعقد بيع الآلات اللازمة لمصنع معين، وعقد التحكيم .

وقد لاحظ هذا الفقه أن تطبيق أكثر من قانون على العقد يؤيده أنصار النظريـة الشخـصية والموضوعية معاً، ولكنهم يشترطون لذلك:

  أ – أن تتوافر في كل من هذه القوانين الصلة المتطلبة بالعقد.

  ب – أن لا تؤدي تجزئة العقد إلى الإخلال بانسجام العقد.

    ويتفق الدكتور هشام صادق مع الفقيه بأتيفول، بتحويل القاضي الحق فـي عـدم الاعتـداد بالقانون المختار إذا ما تبين له أن هذا القانون ليس منبت الصلة بالعقد، وبالتالي عدم الاحتجـاج بما قد ينطوي عليه هذا المسلك من إخلال بتوقعات المتعاقدين، على أساس أن هؤلاء كان يجـب عليهم أن يتجنبوا من البداية الاختيار غير المنطقي لقانون العقد، إذ لا يعقل أن ينصاع القاضـي وراء أهواء الخصوم أو رغباتهم غير المشروعة ليبارك اختيارهم الخطأ الذي خرجوا بـه عـن أهداف قاعدة الإسناد التي منحهم حق الاختيار مقيداً بضرورة تحقيق غايتها وإدراك مقاصدها في حل مشكلة تنازع القوانين الموضوعية للعقد، كمحل الإبرام أو محل التنفيذ أو قـانون مـوطن الأطراف أو قانون جنسيتهم .

   وبالمقابل، يذهب اتجاه آخر إلى القول بأن حرية الأطراف في اختيار القـانون الواجـب التطبيق هي حرية مطلقة، وليس للقاضي تغيير القانون بادعاء أنه يفتقد الصلة المزعومـة بينـه وبين الرابطة العقدية، لأن من شأن ذلك أن يخل بتوقعات الأطراف ويهدد المصالح الفردية التي يسعى القانون الدولي الخاص إلى حمايتها.

   ويذهب رأي آخر إلى أنه لا ضرورة لوجود اتصال مادي وثيق بـين العقـد والقـانون المختار، إنما يكفي تحقيق مصلحة مشروعة حقيقية وجدية للأطراف في اختيارهم لقانون معـين يحكم عقدهم، وهذه المشروعية تتحدد بهذه الأوصاف من خلال المزج بين القـانون المختـار وقانون دولة القاضي، بهدف تحقيق المصلحة الجدية مع مصلحة التجارة الدولية، مما يتطلب من القاضي إبداء المرونة في التقدير، ومن شأن ذلك أن يهدر كل اختيار مغشوش أو مصطنع، ومتى توافرت هذه الأوصاف، وهي المصلحة الجدية المشروعة ومصلحة التجارة الدولية وكذلك هـدر الاختيار المغشوش والمصطنع، فعند ذلك تتحقق الصلة المعقولة والمنطقية بين العقـد والقـانون المختار.

   ويرجع سند هذا الرأي إلى أن المادة 25 من القانون المدني السوري -على سبيل المثـال- التي خولت القاضي الرجوع إلى المبادئ العامة للقانون الدولي الخاص فيما لم يرد بشأنه قاعـدة إسناد تشريعية وهو قيد مرن.

   وقد أخذت اتفاقية روما 1980 في شأن القانون الواجب التطبيق على الالتزامات التعاقديـة، بالاتجاه الثاني، حيث خولت المتعاقدين حرية مطلقة في اختيار القانون الواجب التطبيق، ولا تنقيد المحكمة في تطبيق القانون المختار إلا بما تقرره القواعد الآمرة في قانون الدولة الأوثق صلة.

   بيد أن القضاء اتخذ مواقف متباينة في هذا الصدد، ويلاحظ أشد هذه الاتجاهات مـا تبنتـه المحكمة الفيدرالية السويسرية التي لم تكتف بوجود مصلحة معقولة من وراء هذا الاختيـار بـل أوجبت أيضاً أن تكون هناك رابطة إقليمية بذلك القانون، في حين يشترط القضاء الانكليزي توافر صلة حقيقية، وهو الاتجاه ذاته في ألمانيا، ومع ذلك فقد يكون المقصود بالصلة، الصلة الذهنيـة التي تكشف الارتباط بين العقد ونظام قانوني معين.

   والجدير بالذكر هنا أن جانباً من يرى أن التنازع لا يقوم إلا بين قوانين دول تتمتـع كل منها بصفة الدولة وفقا لمبادئ القانون الدولي العام، ومن ثم فإن فكرة قانون الإرادة لا تعنـ غير اختيار المتعاقدين في العقد الدولي لقانون دولة معينة

   وبالمقابل يرى جانب آخر من الفقه، واستنادا إلى التطورات وحاجات التجارة الدولية، إلــ م تصور قيام التنازع بين شرائع لا تنتمي لسيادة إقليمية، العقد، وبناء عليه يمكن للمتعاقدين، عملاً بقاعدة التنازع التي تخولهم حق اختيار قانون العقد، الاختيار بين قواعد مأخوذة من نظام وطنـي معين، وكذلك قواعد ذات صبغة عالمية لا تنتمى لسيادة إقليمية معينة، كالأعراف الجاريـة فـي ميدان التجارة الدولية، ومن التشريعات التي أخذت بالاتجاه الثاني، التشريع الفرنسي، حيـث نصت المادة 1496 من قانون المرافعات الفرنسي على أنه: " يفصل المحكم في المنازعة وفقـاً للقواعد القانونية المختارة من قبل الأطراف".

   وقد أخذ بهذا الاتجاه أيضاً المشرع المصري في قانون التحكيم رقم 27 لعام 1994 عنـدما منح الأطراف سلطة تحديد القواعد الواجبة التطبيق على موضوع النزاع، إذ نصت المـادة 39 على أنه: "

   1- تطبق هيئة التحكيم على موضوع النزاع القواعد التي يتفق عليها الطرفان، وإذا اتفق على تطبيق قانون معين اتبعت القواعد الموضوعية فيه دون القواعد الخاصة بتنـازع القوانين، ما لم يتفق الطرفان على غير ذلك.

   2- إذا لم يتفق الطرفان على القواعد القانونية الواجبة التطبيق على موضوع النزاع طبقت هيئة التحكيم القواعد الموضوعية في القانون الذي ترى أنه الأكثر اتصالاً بالنزاع..".

   وكما هو ملاحظ أنه يحق للمتعاقدين اختيار قواعد لا تنتمي للقانون الداخلي لدولة معينة، حيث اسـتخدم المشرع مصطلح (القواعد)27 بدلاً من اصطلاح (القانون) مما ينبئ تماماً عن نية المشرع في هذا الشأن.

   إلا أن الفقه الغالب، يرى مع ذلك، أن تدويل العقد، لا يتصور إلا أمام قضاء التحكـيم القضاء الداخلي فلا يقبل خضوع العقد إلا للقانون الوطني لدولة ما.

   ذلك على إعطائهم الحق في تغير طبيعة القانون المختار من نصوص تشريعية تكتسب قوتها من صدورها عن مشرع وطني أو دولي معين لتكتسب الزاميتها مـن كونهـا شـروطاً تعاقدية، إذ يسمح المبدأ للأطراف بأن يدرجوا القواعد القانونية التي اختاروها في مـشارطتهم مثلها مثل أي شرط آخر من الشروط التعاقدية، بل إن للأطراف المتعاقدين أن يذهبوا إلى أكثـر من هذا بالاتفاق على تجزئة النظام القانوني الذي يركزون في ظله على علاقتهم، ليطبـق مـن بعض نصوصه مع استبعاد ما دون ذلك.

المبحث الثاني- الإرادة الضمنية:

   إن قانون الإرادة الضمنية يحمي توقعات الأطراف ويحقق لهم الأمان القانوني، لـذلك فـإن المنطق يقضي بأن يكون الاختيار صريحاً أو من الممكن الوقوف عليه بطريقة مؤكدة، ويطلـق على العبارة الأخيرة مفهوم الإرادة الضمنية وهي لإرادة حقيقية، لكنها غير معلنة.

   إن هذه الإمكانية للمتعاقدين في اختيار القانون الذي يحكم العقد، هي نادراً ما تكون مهملـة في الممارسات العملية للتجارة الدولية المتعلقة بالعقود الدولية. بيد أنه قد يحدث أن يعبر الأطراف عن نيتهم في ذلك الاختيار بطريقة غامضة أو ناقصة، وفي هذه الحالة يكون للمحكمـين مطلـق الصلاحية في تفسير تلك الشروط الغامضة أو الملتبسة، وذلك من تحديد أوفى للنظام والقواعـد القانونية الأكثر ملاءمة للموضوع مع الإشارة، عند الاقتضاء الى القواعد العامة لتنازع القـوانين والنظام الأكثر ملاءمة في هذا الشأن. ولذلك يلجأ المحكم إلى البحث عن الإرادة الضمنية بقرائن ،أو مؤشرات تعينه على الكشف عن القانون الواجب التطبيق الذي انصرفت إرادتهم إليه، وفي هذه الحالة تقع على عاتق المحكم مهمة تحديد القانون من خلال دراسة واضحة لطبيعة العقد وظروف التعاقد حتى يتسنى له استخلاص تلك الإرادة بطريقة مؤكدة، وإن الطريقة المؤكدة تعني أن تكون هناك جملة مؤشرات أو قرائن تدل بما لا يقبل الشك على اتجاه الإرادة نحو قانون معين يكـون واجب التطبيق على عقدهم، إذ من المعروف أن الكشف والاستخلاص للإرادة الضمنية يعتمـد على تفسير المحكم وسلطانه المطلق، ولكن على الرغم من ذلك فإن سؤالا يطرح حـول المـدى الذي يمكن من خلاله الاعتماد على قرائن جامدة لا تراعي الإرادة الحقيقية للأطراف المتعاقـدة، كمكان تنفيذ العقد مثلاً لكي نحدد من خلاله القانون الواجب التطبيق؟

   الواقع إن هذا المعيار لا يكفي وحده لحسم الإرادة الضمنية، بل لا بد لاستكمال هذه الإرادة من اللجوء إلى قرائن أخرى لتدعيم هذه القرينة.   

أ- القرائن التي يلجأ إليها المحكم الدولي للوصول إلى الإرادة الضمنية الحقيقية والمؤكدة:

  1- قرينة مكان إبرام العقد.

  2- القرينة المستمدة من استناد الطرفين في حججهما القانونية في الدعوى علـى قـانون معين دون أن يشيرا صراحة إلى تطبيقه.

  3- القرائن المستمدة من مضمون القوانين التي تتنازع عادة لحكم العقد.

  4- القرينة المستمدة من شرط التحكيم، وهي القرينة المستمدة من شرط الخضوع لهيئ تحكيم دائمة من دولة محددة مقراً لها. فبعض الفقهاء يعتبر أن قانون مقر التحكيم قـد يكشف عن أن إرادة المتعاقدين الضمنية قد اتجهت نحو إخضاع العلاقة العقدية لقانون هذه الدولة.

  5- القرينة المستمدة من اللغة المستخدمة في العقد .

فلا يكفي مثلاً كتابة العقد باللغة الانكليزية حتـى يفيـد اختيـار الأطـراف للقـانون الانكليزي لكي يحكم العقد، ولكن يجب أن تدعمها مؤشرات أخرى.

وهذا بالفعل ما انتهت إليه محكمة التحكيم في غرفة التجارة الدولية ICC التي طبقت القانون الانكليزي، ليس فقط لأن العقد كان محرراً باللغة الانكليزية، ولكن أيضاً لأنه يتضمن شروطاً مألوفة في القانون الانكليزي، وكانت عملـة الوفـاء هـي الجنيـه الإسترليني.

  6- القرينة المستمدة من الاصطلاحات المعروفة في قانون معين.

  7- القرينة المستمدة من وجود الدولة أو إحدى هيئاتها أو مؤسساتها العامة طرفاً في عقد من عقود التجارة الدولية مع طرف آخر من أشخاص القانون الخـاص، كـالأفراد أو الشركات الخاصة من رعايا الدول الأخرى.

  8- القرينة المستمدة من محل إقامة المتعاقدين.

  9- القرينة المستمدة من العملة الواجب الدفع بها.

 10- القرينة المستمدة من الصيغة النمطية المعمول بها طبقا لقانون دولة معينة.

   والجدير بالذكر أن القوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية تساوي بين أن يتم اختيـار القـانون صراحة أو ضمناً، ومن ذلك ما نصت عليه المادة 1/20 من القانون المدني السوري على أنه:

   "يسري على الالتزامات التعاقدية، قانون الدولة التي يوجد فيها الموطن المشترك للمتعاقدين إذا اتحدا موطناً، فإن اختلفا موطناً سرى قانون الدولة التي تم فيها العقـد. هـذا مـا لـم يتفـق المتعاقدان أو يتبين من الظروف أن قانوناً آخراً هو الذي يراد تطبيقه".

  وكذلك ما نصت عليه المادة 1/16 من القانون الدولي الخـاص السويــســري لـسنة  1987 على أنه:

 

  "اختيار القانون يجب أن يكون صريحاً أو يستخلص بطريقة مؤكدة من أحكام العقد أو مـن الظروف".

   ففي القضية رقم 1526 التي تم الفصل فيها وفقا لنظام غرفة التجارة الدولية بباريس عـام 1968، ذهب المحكم إلى أن تحديد القانون الواجب التطبيق على عقد الامتياز المبرم بين الدولـة وشركة بلجيكية، في حالة عدم اختيار الأطراف صراحة لقانون يحكم العقد، هو قـانون الدولـة المتعاقدة. فعلى الرغم من أن العقد قد تم إبرامه في بروكسل مع شخص بلجيكي، وعلى الرغم من طابعه الدولي، فإن الشروط الموضوعية له تخضع للقانون الوطني للدولـة المتعاقـدة، إذ أن إرادة الأطراف انصرفت إلى خضوع العقد لهذا القانون، علاوة على أن هذا العقد يتعين تنفيذه في إقليم هذه الدولة، ويمكن القول بوجود عدد من المؤشرات العامة التي يتفق الفقه والقضاء على اعتبارها مؤشراً على الإرادة الضمنية في هذا الصدد. ولعل من أهمها وجود اختيـار للمحكمـة المختصة أو وجود شرط للتحكيم يشير إلى دولة بعينها كمكان للتحكيم ، وكذلك مكان تنفيذ العقد مع مراعاة صعوبة إعمال هذه القرينة في الفروض التي تتعدد فيها أماكن تنفيذ العقد في أكثر من دولة33، وأيضاً استخدام لغة معينة في العقد أو مكان إقامة الطرفين، وأحياناً جنسيتهم المشتركة، ومن المؤشرات الأخرى تضمين العقد أحكاماً وقواعداً مستمدة من قانون دولة معينة لتنظيم جانب مهم من العقد.

ب- تطبيق القضاء التحكيمي للإرادة الضمنية:

   لقد طرح سؤال على واقع تطبيق القضاء التحكيمي لفكرة الإرادة الضمنية، وهل أنـه قـد اعتمد فعلا لمظاهر محددة لا تترك مجالا للشك؟

   وللجواب عن هذا التساؤل يمكن القول: أنه إذا كان قضاء التحكيم الدولي قد طبـق الإرادة الصريحة دون أن يثير بشأنها تساؤلات قانونية كثيرة، فإنه على العكس من ذلك، نلحظ في تطبيق قضاء التحكيم الدولي للإرادة الضمنية الكثير من الملاحظات القانونية.

   فقد ذهب قضاء التحكيم في إحدى القضايا التي فصل فيها وفقاً لنظام غرفة التجارة الدوليـة إلى أن القانون الواجب التطبيق على عقد الامتياز المبرم بين الدولة وشركة بلجيكية في حالة عدم اختيار الأطراف صراحة لقانون يحكم العقد هو قانون الدولة المتعاقدة، مستندة في ذلك إلـى أن إرادة الأطراف اتجهت إلى تطبيق قانون الدولة المتعاقدة، وأن العقد يجري تنفيذه في إقليم هـذه الدولة.

   ولعل أكثر تحكيم أثار ملاحظات قانونية هو التحكيم الصادر عن المركـز الـدولي لفـض منازعات الاستثمار بين شركة SPP وجمهورية مصر العربية في 20 مايو 1992، وفيما يلـى عرض لأبرز ما ورد في هذه القضية:

  تعرضت محكمة التحكيم في هذه القضية إلى مسألة تحديد القانون الواجب التطبيـق علـى النزاع.

   فقد تمسكت الحكومة المصرية بأنه استناداً إلى القوانين المشار إليها في العقد المبرم في 23 سبتمبر 1974، اختار الأطراف ضمنياً القانون المصري، وذلك إعمالاً للجملة الأولى من الفقـرة الأولى من نص المادة، لأن الأطراف استخدموا حقهم في الاختيار، مما لا يتوافق مع أحكام هذه الفقرة، وبالتالي فإنه لا يجب تطبيق مبادئ القانون الدولي، إلا على ضـوء القواعـد والمبـادئ المجسدة في القانون المصري الذي اختاره الأطراف. .

   وقد ردت الشركات المدعية برفض فكرة أن الأطراف اختاروا ضمنياً القـانون المـصري، وطالبوا بتطبيق الجملة الثانية من الفقرة الأولى من المادة 42 من الاتفاقية التي تنص على تطبيق "قانون الدولة المتعاقدة (القانون المصري) ومبادئ القانون الدولي".

   وقد قررت محكمة التحكيم بأن الطرفين متفقان على أن القانون رقم 43 واجب التطبيق على المنازعة، ولم ينكرا أن اتفاق اليونسكو المبرم في 6 نوفمبر 1972 بشأن حماية التراث العـالمي والطبيعي على اتصال بالمنازعة.

   وعلى الرغم من أن الأطراف اتفقوا ضمنياً على تطبيق القانون المصري، إلا أن هذا الاتفاق لا يمكنه استبعاد التطبيق المباشر للقانون الدولي على بعض الأوضاع على أسـاس أن القـانون المصري لا يعد قانوناً كاملاً.

   واستناداً إلى هذا المنطق فإن المحكمة لاحظت أنها إذا طبقت المادة 42 فقرة 2، فإن النتيجة هي ذاتها طالما أنها لن تطبق القانون المصري إذا انتهك القانون الدولي.

ومما يلاحظ أن نقاط الضعف في هذا الحكم كثيرة، وقد أخذت عليها عدة مأخذ نذكر منها:

  1- أن تطبيق الإرادة الضمنية ليس كانعدام الإرادة، فلا يحق للمحكم الادعاء أنه لا توجـد فائدة من الاختيار بين إعمال الجملة الأولى أو الثانية من الفقرة الأولى من المادة 42 من معاهدة واشنطن.

    وربما كان ذلك ناتج من اعتقاد الحكم المسبق أن القانون المصري، حتى ولو اختير صراحة من قبل الأطراف، فهو بنظر المحكمة قانون ناقص، لا يستطيع مواجهة كل المسائل التي تطـرح عليه، والأمر كذلك فإن سد النقص يكون بتطبيق مبادئ القانون الدولي.

   والواقع أن المادة 42 – 1 من المعاهدة ألزمت المحكمة باحترام اختيار الأطـراف، إلا إذا كان هذا الاختيار يتعارض مع النظام العام الدولي، والقانون المصري لا يتضمن أدنى تعـارض لمقتضيات النظام العام الدولي.

   ولكن لو كان واضعو الاتفاقية قصدوا إعمال القانون الدولي، إذا ما تعارض مـع القـانون المصري، فما الفائدة حينها من الجملة الأولى من الفقرة الأولى من هذه المادة ما دامت المحكمـة تنظر إلى كل القوانين الوطنية بأنها ناقصة وليست أهلا لتنظم هذه العلاقات؟

   وهل يعقل أن يقال أن واضعي اتفاقية واشنطن لم يقصدوا العبارات الصريحة والواضـحة التي وردت في الفقرة الأولى من المادة ، والتي أشارت فيها إلى أنه لا محل لتطبيق القـانون الدولي إذا أعلن الأطراف إرادتهم الصريحة أو الضمنية المؤكدة؟

   2- رد الفقه على الحجة التي ساقتها المحكمة لجهة اعتبار أن القانون المصري هو قـانون ناقص بأن هذا القانون تتجسد فيه المبادئ والقواعد العام منها والخاص، ويستطيع أن يواجه هـذا النوع من العلاقات ويمكن أن يقدم الحل المناسب للمنازعة المعوضة على هيئة التحكيم.

   والقوانين الوطنية، ومنها القانون المصري تلزم القاضي بأن لا يمتنـع عـن الفـصـل فـي النزاع.

المبحث الثالث - التسوية بين الإرادة الصريحة والإرادة الضمنية:

   إن الإرادة الضمنية هي حالة تمثل مركزاً وسطاً بين الإرادة الصحيحة وبين الفرض الخاص بعدم اختيار قانون العقد أصلاً إذا كانت هذه الإرادة الضمنية تنبئ حقيقة عن اختيار قانون معين، مقدم الاعتداد بها وإلحاقها بالفرض الخاص بعدم اتفاق المتعاقدين على اختيار قانون العقـد أمـر يناهض المنطق الصحيح، لما يؤدي إليه من تجاهل لقاعدة الإسناد التي تقضي بخـضوع العقـد  لقانون الإرادة.

   عليه يذهب جانب من الفقه إلى التسوية بين الإرادة الصريحة والإرادة الضمنية، بشرط أن يتأكد المحكم من وجود هذه الأخيرة من خلال قرائن (يرتاح) إليها كونها تكـشـف عـن اختيـار حقيقي، مما يتعين معه الاعتداد بالاختيار بين البين والمؤكد لقانون العقد ولو لم يكن صريحاً.

   وتساوي القوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية بين اختيار القانون صراحة أو ضمنا، من ذلـك مـا نصت عليه المادة 1/61 من القانون الدولي الخاص السويسري لسنة 1987 والتي تنص علـى "اختيار القانون يجب أن يكون صريحاً أو يستخلص بطريقة مؤكدة من أحكام العقد أو من الظروف".

   وكذلك ما ورد في المادة 20 من القانون المدني السوري والتي نصت على أنه: ".. هذا ما لم يتفق المتعاقدان أو يتبين من الظروف أن قانوناً آخراً هو الذي يراد تطبيقه، أو كما عبرت عنه اتفاقية روما 1980 في المادة (3 أولاً) والتي تنص على أنه: "يحكم العقد بالقانون المختار مـن جانب الأطراف، ويجب أن يكون هذا الاختيار صريحاً أو مستخلصاً بطريقة مؤكدة من نصوص العقد أو من ظروف التعاقد". وبالنسبة لاتفاقية واشنطن لعام 1965 فقد نصت المادة 1/42 والتي تعرضت لمسألة القانون المطبق على منازعات الاستثمار على أن:

   "تفصل هيئة التحكيم في النزاع طبقا لقواد القانون التي يتفق عليها الأطراف المتنازعة..".

   والملاحظ على هذا النص أنه قد جعل من إرادة الأطراف المبدأ الأساسي الذي يحكم تعيين القانون الذي يلتزم المحكم تطبيقه، إلا أنه لم يبين فيما إذا كان يلزم لإرادة الأطـراف أن تكـون صريحة لإعمال هذا المبدأ أم يكفي أن تكون ضمنية يمكن الاستدلال عليها مـن شـروط العقـد والظروف المحيطة به. ولقد اختلف الفقه في ذلك، فبينما ذهب البعض إلى أنه يـشترط لإعمـال قانون الإرادة اختيار الأطراف له صريحاً، فقد ذهب البعض الآخر إلى أن اتفاق الأطراف قـد يكون صريحاً وقد يكون ضمنياً.

   ولهذا فإن القيمة القانونية بين الاختيار الصريح والاختيار الضمني قيمة متساوية، بيد أنهـ تغلق الطريق أمام ما يطلق عليه الإرادة المفترضة، بحسبان هذه الفكرة تستند إلى محض مجـاز من جانب القاضي والمحكم يتم بمقتضاه افتراض إرادة لم تكن موجودة وغير حقيقية ويحيط بهـا الكثير من اللبس والغموض.

   ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن بعض الفقه وتؤكده كذلك بعـض التشريعات الوطنية إلى أنه ليس للقاضي أو المحكم تطبيق قانون الإرادة على العقود الدولية إلا في حالـة الاختيار الصريح لهذا القانون من جانب المتعاقدين، فإذا لم يتم التعبير عن هذا الاختيار صراحة فيجب على القاضي أن يتصدى مباشرة لتركيز الرابطة العقدية وإسنادها للقانون الأوثق صلة بها وذلك دون البحث عما يسمى بالإرادة الضمنية للأطراف. حيث ينتهي هذا الاتجاه إلى رفض فكرة الاختيار الضمني لقانون العقد، تأسيساً على أن سكوت الأطراف عن الاختيار الصريح إنما يرجع إما إلى عجزهم عن التوصل إلى اتفاق في هذا الصدد، أو عدم إدراكهم عند التعاقد للطابع الدولي للعقد، ومن ثم فإن تصدي القاضي للبحث عما يسمى بإرادتهم الضمنية سيؤدي بالضرورة إلـى تطبيق قانون يخل بتوقعات الأطراف لكونه لا يعبر عن إرادتهم الحقيقية.

   ومما يجدر قوله هنا أن أهم ما يلاحظ على أحكام القضاء الفرنسي أن غالبيتها لم تعن العناية الكافية بالبحث عن الإرادة الحقيقية للمتعاقدين في اختيار قانون العقد عند سكوتهم عن الإفصاح عن هذه الإرادة صراحة، وإنما هي طبقت في واقع الأمر القانون الـذي افتـرض اتجـاه إرادة المتعاقدين، إلى إعماله. وبالتالي فإن هذه الأحكام لم تستند، في الواقـع، إلـى الإرادة الـضمنية للمتعاقدين والتي يتعين أن تكون حقيقية، وإنما استندت إلى ما يطلق عليه الإرادة المفترضة، وهو الأمر الذي كان محل نقد من جانب الفقه على أساس أن الإرادة إما أن توجد أو لا توجـد، أمـا الإرادة المفترضة فهي مجرد وهم وخيال.

المبحث الرابع- وقت الاختيار والحق في تعديله:

   كما سبقت الإشارة، فإن قانون الإرادة هو القانون الذي تشير إليـه إرادة الأطـراف لحك عقدهم المبرم بينهم. إلا أن التساؤل الذي يثور هنا عن الوقت الذي يتعيّن فيه علـى الأطـراف ممارسة حقهم في اختيار قانون العقد لكي يعتد به، فإذا كان عدم اختيار القانون الواجب التطبيـق عند إبرام العقد لا يحول دون إمكانية إبرام العقد، فهل يجوز للأطراف بعد إبرام العقد الحق فـي اختيار القانون الواجب التطبيق على العقد في وقت لاحق؟

   تذهب غالبية الفقه إلى تخويل المتعاقدين الحق في الاختيار اللاحق لقانون العقـد، حيـا يمكنهم تحديد قانون العقد بعد إبرامه في اتفاق مستقل عن العقد، وحتى ولو في مرحلة متأخرة وعند طرح النزاع القائم بينهم أمام المحاكم المختصة أو أمام المحكم وقبل الفصل في النزاع. فما دام تحديد القانون الواجب التطبيق هو من مهمة الأطراف بالدرجة الأولى فإنه يتعين الإقـرار بحقهم في الاختيار اللاحق لهذا القانون. وكذلك فإن الممارسات التحكيمية تضفي أهميـة علـى اتفاقات اختيار القانون الواجب التطبيق، حتى ولو في مرحلة لاحقة أثناء النظر في النزاع. حيث اعتدت هيئات التحكيم باتفاقات الأطراف بين شركة AAPL وحكومة سريلانكا حيث لـم يتفـق الأطراف عند إبرام العقد على القانون الواجب التطبيق، لكنهم استندوا في تنفيذ العقد إلى الاتفاقية الثنائية للاستثمار الموقعة بين المملكة المتحدة وسريلانكا. وعندما ثار النزاع بين الطرفين وتـم عرضه على المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، فقد صرحت هيئة التحكيم عنـد نظـر مسألة القانون الواجب التطبيق بما يلي:

  "في ظل هذه الظروف الخاصة سوف تتجسد عملية اختيار القانون عقب ظهـور النـزاع، وذلك عن طريق ملاحظة وتأصيل سلوك وتصرف الأطراف عبر وقائع التحكيم. وفي حالتنا هذه تصرف كل من الطرفين بشكل يظهر الموافقة المتبادلة على احترام ومراعـاة بنـود الاتفاقيـة السريلانكية – البريطانية (ثنائية الأطراف) لتكون المصدر الأساسي للقواعـد القانونيـة واجبـة التطبيق وهذه القواعد الأساسية استند إليها الطرف المدعي وقوبلت بموافقة تامة من قبل المدعى عليه".

   والأمر ذاته ينطبق في ما يتعلق بقضية أخرى تم طرحها على المركـز الـدولي لتسوية منازعات الاستثمار، وتتعلق بالعقـد المبــرم بـين .S.A.R.L. Benvenuit & Bon Fantv Peoples Republic of The congo ففي غياب نص يتعلق باختيار القانون الواجب التطبيق بعد نشوء النزاع، وذلك عندما فوض الأطراف في إحدى الجلسات هيئة التحكـيم للفـصـل فـي نزاعهم طبقا لقواعد العدالة والإنصاف ex aequo et bono°

   والجدير بالذكر هنا أن الاعتراف للمتعاقدين بحق الاختيار اللاحق لقانون العقـد، يتـضمن قدرتهم على تعديل القانون الذي سبق لهم أن اختاروه بشرط أن يتم هذا التعديل قبل الفصل فـي النزاع وفي غرفة محكمة الموضوع، ويترتب على هذا التعديل سريان القانون بأثر رجعي يرتـد إلى وقت إبرام العقد، باستثناء الغير الذين وجد لهم وضعاً ظاهراً فلا يسري عليهم التعديل.

  ولا يجوز أن يؤدي تعديل القانون المختار إلى إبطال العقد، أما إذا كان هذا التعديل يـؤدي إلى صحة العقد الذي كان باطلا من حيث الشكل، وفقا للقانون الذي كان واجب الإعمـال، فإنـه يتعين التسليم بصحة العقد في هذا الفرض .

   وفي ذلك ينص القانون الدولي الخاص الألماني الصادر عام 1986 في المادة 2/27 علـى "يجوز للأطراف في أي وقت، الاتفاق على إخضاع العقد لقانون غير ذلك الذي كان يحكمه سابقا".

   وفي ذات السياق فقد نصت المادة 2/3 من اتفاقية روما بشأن القانون الواجب التطبيق على الالتزامات التعاقدية، والمادة 2/7 من اتفاقية القانون الواجب التطبيق على البيع الدولي للبـضائع .1986

الخلاصة:

   لقد أضحت قاعدة الإرادة واقعاً مكرساً ومعترفاً بها حيث يتمتع أطراف النـزاع بأسـتقلال كامل في شأن تحديد القانون والقواعد الموضوعية الواجبة التطبيق لتحكم العقد الدولي.

  ومن كل ما تقدم يمكن القول:

   أن للأطراف حق اختيار أي قانون يرونه ملائماً ليحكم علاقاتهم التعاقدية، بغض النظر عما إذا كان هذا القانون المختار قانوناً وطنياً لا ينتمي لسيادة إقليمية لدولة معينة، حيث يمكنهم اختيار نظام قانوني متكامل لكي يطبق على عقدهم، وكما هو معلوم فإن قواعد التفسير تتطلـب مـن المحكم أن يضع اختيار الصريح والضمني على مستوى واحد ويكون للمحكم الكشف عن الاختيار الضمني لقانون الإرادة من خلال الملابسات والظروف المحيطة بالعقد، إذ توجد عدة مؤشـرات يستطيع المحكم من خلالها أن يقيم القرينة على اتجاه الإرادة نحو هذا القانون أو ذاك من خـلال دراسة كافة ظروف العقد، ومن ثم الترجيح بين هذه العناصر للوصول إلى أكثرها أهمية في نظر المتعاقدين كمكان التحكيم، أو مكان تنفيذ العقد، أو مكان إقامة الطرفين وأحياناً جنستهم المشتركة.

   وتذهب غالبية الفقه إلى تحويل الأطراف الحق في الاختيار اللاحق للقانون الواجب التطبيق وتعديله حتى ولو في مرحلة متأخرة وقبل الفصل في النزاع.

  وإذا لم يتفق الأطراف على تعيين القانون الواجب التطبيق على العقد، وإذا لم يتمكن المحكم من الوصول إلى هذه الإرادة، ولو بشكل ضمني، فإنه يتعين على المحكم أن يجتهد للوصول إلى قانون العقد بالاستناد إلى القواعد العامة الأمر الذي يستدعي التأكيد على أهمية أن يقوم الأطراف باختيار صريح للقانون الواجب التطبيق على العقد تحاشياً لما يمكن أن يثيره غياب هذا الاختيـار من مشاكل وتحوطا للمستقبل.