لا يوجد في العديد من القوانين العربية مثل الإمارات والعراق، حكم خاص حول القانون الموضوعي الذي يتوجب على المحكم تطبيقه على النزاع المعروض أمامه، مما يقتضي الرجوع للقواعد العامة في تنازع القوانين. وتقضي هذه القواعد في قوانين الدول العربية عموماً، بتطبيق قانون الإرادة على العلاقة التعاقدية. وفي حال عدم الاتفاق على قانون معين، يطبق قانون الموطن المشترك للمتعاقدين. وإذا اختلف موطنهما ، يطبق القاضي قانون مكان إبرام العقد .
القانون اللبناني
وبالنسبة للقانون اللبناني، فقد فرّق بين التحكيم الداخلي والتحكيم الدولي. فإذا كان التحكيم داخلياً، أجاز المشرع اللبناني في المادة (767) لأطراف النزاع، الاتفاق على تسوية هذا النزاع وفق أحكام قانون أجنبي، أو حتى تحرير العلاقة من أي قانون وطني بالاتفاق على تطبيق عرف أجنبي. ويجوز لهم بطبيعة الحال الاتفاق على تطبيق عرف محلي، أو الدمج بين العرف المحلي والعرف الأجنبي، كالقول مثلاً بتطبيق الأعراف التجارية على النزاع، سواء كانت محلية أو دولية. ولم يبين القانون اللبناني الحكم في حال عدم الاتفاق على القانون أو العرف الواجب التطبيق. ويعني ذلك، كما نرى أنه يتوجب على المحكم في هذه الحالة تطبيق القواعد العامة في تنازع القوانين.
وإذا كان التحكيم دولياً بمفهوم المادة (809)، فقد نصت المادة (813) على أنه يفصل المحكم في النزاع وفق القواعد القانونية التي اختارها الخصوم، وإلا وفقاً للقواعد التي يراها مناسبة. وهو مقيد في جميع هذه الأحوال بالأعراف التجارية. وهذا الحكم متفق عموماً مع أحد التوجهات الحديثة في التحكيم، حيث يميل هذا التوجه في حال عدم الاتفاق على القانون الواجب التطبيق، إلى إعطاء هيئة التحكيم صلاحية تطبيق القانون الموضوعي، الذي ترى أنه أنسب القوانين وفقاً للظروف . وبمعنى آخر ، فإن للهيئة صلاحية واسعة في تحديد هذا القانون، ولكن صلاحياتها مقيدة بالمبادئ العامة في التقاضي، ومن ضمنها أن يكون قرارها معقولاً وله ما يبرره، لا أن يكون تحكمياً وغير قائم على أساس .
فالنزاع بين شركة انكليزية وأخرى لبنانية لتنفيذ عقد في سوريا ، يعني أن صلاحية المحكم في تحديد القانون الواجب التطبيق على النزاع محصور، من حيث المبدأ ، بقوانين هذه الدول. فإذا قرر المحكم تطبيق القانون الصيني مثلاً دون مسوّغ يبرر ذلك، بالرغم من اعتراض أحد الأطراف يكون قراره تعسفياً، مما يجعل حكمه معيباً وقابلاً للطعن به لهذا السبب.
القانون القطري والبحريني
وفي القانون القطري، نصت المادة (2/198) على أنه "إذا تم الاتفاق على التحكيم في قطر، كانت قوانين قطر هي الواجبة التطبيق على عناصر المنازعة، ما لم يتفق الأطراف على خلاف ذلك". وهو ذات الحكم في المادة (237) من القانون البحريني. ويلاحظ على النص في القانونين، أنه أجاز لأطراف النزاع التحكيمي الاتفاق على قانون أجنبي ليطبق على النزاع، حتى لو كان التحكيم داخلياً بحتاً، لا ينتابه أي عنصر أجنبي.
كما يلاحظ عليه، أنه في حال عدم اتفاق الأطراف على القانون الواجب التطبيق تطبق قوانين قطر أو البحرين. وهذه القاعدة الخاصة بالتحكيم مخالفة للقواعد العامة في تنازع القوانين المشار إليها قبل قليل، والتي توجب في حال عدم الاتفاق على القانون المطبق تطبيق قانون الموطن المشترك للطرفين إذا اتخذا موطناً، وإلا فإن القانون الواجب التطبيق هو قانون محل إبرام العقد. وعلى ذلك، إذا عرض النزاع أمام القضاء القطري مثلاً، فإنه قد يطبق عليه قانون دولة معينة غير قطر، في حين لو عرض ذات النزاع على المحكم، فإنه سيطبق القانون القطري ولا خيار له في ذلك.
ولتوضيح المسألة نفترض أن موطن طرفي النزاع في الإمارات، في حين أبرم العقد في سوريا، ولم يتفق الطرفان على القانون الواجب التطبيق. في هذا المثال، سيطبق القاضي القطري على النزاع القانون الإماراتي، ولو فرضنا أن موطن أحد الطرفين في العراق والآخر في الإمارات فسيطبق القاضي القطري القانون السوري باعتبـار سـوريـا هـي محـل إبرام العقد. ولكن لو عرض ذات النزاع على التحكيم، فسيطبق المحكم القانون القطري في كلا الحالين .
على أية حال، فإن ظاهر النص في المادة (2/198) من القانون القطري، يشير إلى ربط تطبيق القانون، بمكان إبرام اتفاق التحكيم، بافتراض أن هذا المكان هو دولة قطر، بغض النظر عن مكان إجراء التحكيم، حتى لو كان هذا المكان خارج قطر. وهو فهم منتقد ولا نعتقد أن المشرع القطري قصد ذلك. إذ كما ذكرنا في موطن سابق من هذه الدراسة، فإن الأصل والمبدأ العام في قواعد التحكيم الإجرائية، ومن ضمنها المادة (2/198) محل البحث، أنها قواعد إقليمية من حيث نطاق تطبيقها ، بمعنى أن القانون القطري يطبق على التحكيم الذي يجري في قطر، والقانون الإماراتي يطبق على التحكيم الذي يجري في الإمارات، وهكذا ، سواء تم إبرام اتفاق التحكيم في قطر أو خارجها بالنسبة للحالة الأولى، أو إبرامه في الإمارات أو خارجها بالنسبة للحالة الثانية. فالعبرة إذن بمكان التحكيم وليس بمكان إبرام اتفاق التحكيم. لذا نرى تفسير عبارة " إذا تم الاتفاق على التحكيم في قطر ...... الواردة في المادة (2/198)، بأنها تعني الاتفاق على "إجراء التحكيم في قطر، وليس إبرام اتفاق التحكيم.
والقانون البحريني كان واضحاً من هذه الناحية، عندما أضاف النص بأن التحكيم يجب أن يتم في البحرين. وبمعنى أخر يشترط لتطبيق القانون البحريني على النزاع في حال عدم الاتفاق على القانون المطبق شرطان: الأول : أن يكون مكان إبرام اتفاق التحكيم البحرين الثاني: أن يكون مكان التحكيم البحرين أيضاً. فإذا تخلف أحد هذين الشرطين، تطبق قواعد تنازع القوانين في البحرين، لمعرفة القانون الواجب التطبيق على النزاع.
وحسب القواعد العامة في تنازع القوانين، فإن إرادة الأطراف في تحديد القانون الواجب التطبيق قد تكون صريحة، كالقول مثلاً بأن هذا القانون هو القانون الإماراتي أو السوري، وقد تكون ضمنية يستخلصها المحكم من الظروف. ومثال ذلك، أن يكون محل إبـرام العقد وتنفيذه في الإمارات، ويكون طرفا النزاع يحملان الجنسية الإماراتية، بالإضافة إلى أن مقر عمل كل منهما في الإمارات فيستخلص المحكم أن إرادة الطرفين اتجهت لتطبيق القانون الإماراتي، ويقرر تطبيقه بالفعل. واتفاق الطرفين على تطبيق قانون معين قد يكون عند إبرام العقد وقبل النزاع، وقد يكون بعد وقوعه، بل يمكن أن يتم ذلك أمام المحكم بعد البدء في التحكيم.
وفي الأحوال التي يجوز فيها الاتفاق على تطبيق قانون أجنبي، يجوز للطرفين الاتفاق على تجزئة العقد، وتطبيق أكثر من قانون عليه، بحيث يطبق كل قانون على جزء معين من العقد، دون الأجزاء الأخرى. ومثال ذلك ، أن يكون موضوع العقد شراء شركة إماراتية لبضاعة من فرنسا، وينص العقد على أن يقدم البائع كفالة حسن تنفيذ مصرفية في فرنسا ومن بنك فرنسي، ويتفق الطرفان على تطبيق القانون الإماراتي على المسائل الخاصة بالبيع، والقانون الفرنسي على المسائل الخاصة بالكفالة، أو يكون العقد مقاولة بناء، المقاول فيه شركة قطرية، لتنفيذ بناء في سوريا، وينص العقد على تطبيق القانون القطري على أحكام المقاولة من حقوق والتزامات متبادلة ، والقانون السوري على الأحكام الخاصة بترخيص البناء وشروط إنشائه والرسوم المتوجب دفعها ، أو يتضمن عقد المقاولة إنشاء فندقين أحدهما في السعودية، والآخر في لبنان، ويتفق الطرفان على تطبيق القانون السعودي على أحكام المقاولة بالنسبة للفندق في السعودية ، والقانون اللبناني على إنشاء الفندق في لبنان.
ووجوب تطبيق قانون موضوعي معين على النزاع، لا يمنع المحكم نفسه عند الضرورة من تطبيق قانون آخر على بعض أجزاء العلاقة القانونية الناجم عنها النزاع، بل ربما يكون من الواجب عليه القيام بذلك، وإلا كان حكمه معيباً. ومثال ذلك، أن يبرم عقد بين طرفين موطنهما المشترك في البحرين، لتوريد مواد غذائية إلى الإمارات، ولا ينص العقد على القانون الواجب التطبيق. حصل نزاع بين الطرفين تمت إحالته على التحكيم في سوريا. في هذا المثال، سيطبق المحكم القانون البحريني على حقوق والتزامات الطرفين، استناداً لقواعد تنازع القوانين المعمول بها في سوريا. ولو كانت إحدى نقاط النزاع تتعلق بمدى صلاحية البضاعة للاستهلاك البشري، ومدة هذه الصلاحية، ومواصفاتها ومدى توافقها مع الشروط التي تتطلبها السلطات الإماراتية في بضائع مماثلة، فإن من واجب المحكم تطبيق القانون الإماراتي على هذه المسائل، وليس القانون البحريني.