كانت إحدى الشركات الأمريكية من ولاية كونكتيكت تنتج أسلحة صغيرة وذخائر وتبحث عن أسواق فى الخارج فاتفقت مع شركة فرنسية فى باريس أن تقوم بدور التوزيع لحسابها - وكان ذلك عقب الحرب العالمية الثانية وأبرم الطرفان عقدا جديدا بتعيين الشركة الفرنسية وكيلة للتوزيع لمنتجات الشركة الأمريكية لقاء عمولة معينة زيدت فيما بعد.
ونص العقد على أنه يظل ساريا ما لم يقم أحد من الطرفين بانهائه بإخطار كتابى تعطى فيه مهلة ثلاثون يوما كذلك نص فيه على أن أى نزاع ينشأ عن العقد يعرض على التحكيم لدى الجمعية الأمريكية للتحكيم، وإذا كان الوكيل مقيما خارج الولايات المتحدة الامريكية يجرى التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية ويطبق عليه قوانين ولاية نيويورك.
استمر تنفيذ هذا العقد ثم أنشأت الشركة الأمريكية شركة تابعة لها في فرنسا بحجة أنها ستقوم بدراسة السوق الأوروبية – واستمرت تلك الشركة فترة ثم غيرت اسمها وبدأت تقوم بدور وكيلة التوزيع في فرنســـا مما دعا الشركة الفرنسية إلى مقاضاتها أمام القضاء الفرنســــى عـن المنافسة غير المشروعة التي تقوم بها - ولكن رفضت الدعوى أمام محكمة أول درجة، أما في الاستئناف فقد حكم بتعويض عن عمليات معينة لصالح الشركة الفرنسية - ورفضت بقية طلباتها استئنافيا ثم أبلغت الشركة الأمريكية وكيلتها الفرنسية بإنهاء العقد اعتبارا من منتصف نوفمبر ولهذه الشركة الفرنسية ان تستمر حتى نهاية ديسمبر في التوزيع وتتوقف عملياتها بعد ذلك لحساب الشركة الأمريكية.
وطلبت الشركة الفرنسية مهلة أطول لتوزيع المتبقى لديها ولكن الشركة الأمريكية رفضت - وفى سبتمبر تقدمت الشركة الفرنسية بطلب تحكيم إلى غرفة التجارة الدولية وعين محكم انجليزى وحيد لنظر الطلب في لندن - وظلت القضية متداولة أمام المحكم حيث عقد ست جلسات ثم وضع تلخيص القضية وإصدار حكمين تمهيديين أحدهما لتحديد القانون الواجب التطبيق على القضية والأخر لبحث ما إذا كان هذا القانون يحيل إلى قانون أخر – ثم صدر في مايو الحكم النهائي. وسنوضح مضمـــــــون كل من هذه الأحكام فيما يلى:
طلب الطرفان شفويا من المحكم في إحدى الجلســـات أن يصـــــدر حكما جزئيا يبين فيه ما هو القانون الذى سيطبقه عليهم – وبحث المحكــم هذه النقطة وتوصل إلى أنه إذا لم يوجد اتفاق بين الطرفين فان القــــــانـون الفرنسي هو الجدير بالتطبيق حيث أنه أقرد إلى إرادة الطرفين وفي ظله ينفذ عقد الوكالة في التوزيع - ولكن هذا القانون يستبعد باتفاق الطرفين - فقد اتفقا على تطبيق قوانين ولاية نيويورك وهو ايضا ليس قانونا بعيدا عن العقد بل في ظله تمت المفاوضات وأبرم العقد وله بالعقد صلة وثيقة أيضا وهذا المبدأ صار مستقرا سواء فى فرنسا أو الولايات المتحدة الأمريكية، بل أن أعلى محكمة في المملكة المتحدة وهى مجلس اللوردات قد اتخذت نفس هذا المبدأ فى قضية فيتا فود حيث قرر أن الأطراف إذا اتفقوا على تفسير عقد طبقا لقانون معين فأنهم يصممون بذلك على أن تكون حقوقهم محكومة بهذا القانون في مجموعه - لذلك قضى المحكـ بأنه سيطبق على النزاع قوانين ولاية نيويورك - وذكر أنه لا فرق فــــــي التعبير القانوني بين أن يقال أن العقد يفسر طبقا لقانون معين أو أنه محكوم بهذا القانون.
وأثارت الشركة الفرنسية بعد ذلك نقطة أخرى استدعت إصـدار حكم جزئى ثان، ذلك أنها قالت أن قوانين ولاية نيويورك الخاصة بتنازع القوانين تحيل إلى القانون الفرنسى فيما يتعلق بالحالة المعروضة - وهذه الإحالة Renvoi - تستوجب الحكم بأن القانون الفرنسي هو الذي يطبق على موضوع القضية - والقانون الفرنسي يعطى للوكيل في التوزيع الحق في الحصول على تعويض إذا انهى الموكل العقد دون سبب يبرر ذلك.
وقد بحث المحكم مسألة الإحالة وتبين أن الفقه عامة ســــواء فــــي فرنسا (باتيفول مثلا ) أو في أمريكا يقرر أن الطرفين إذا اتفقا في العقـــــد على تطبيق قانون معين فأن أحكام هذا القانون الموضوعية تطبق علـ العقد، أما الأحكام الخاصة بتنازع القوانين فلا تنطبق إلا إذا نص علـى ذلك المتعاقد في هذا العقد. ويخلص من هذا أن أحكام تنازع القوانين ولاية نيويورك لا تنطبق في هذه الحالة. وأن الذى يطبق هو ما يتعلـــــــق بالأحكام الموضوعية للعقد. وبذلك رفض المحكم وجهة النظر الفرنسية التي ترمي إلى الإحالة على القانون الفرنسي في الموضوع.
وجاء دور الحكم النهائى فى الدعوى، وطلب المحكم من الطرفين أن يقدم كل منهما دفاعه وحدد شهرا للشركة الفرنسية تقدم خلاله دفاعها. والشهر التالي للشركة الأمريكية لتقديم الرد ولكن أيا من الطرفين لم يقدم شيئا وعاود المحكم الاتصال بالطرفين، ولما طالت فترة الركود إلى حوالی عامين اتصل المحكم بمستشار الشركة الفرنسية وطلب منه الاتصال بموكلته للاستفسار منها عما إذا كانت تنوى الاستمرار فـــي التحكيم أم تريد أن تترك دعواها، ويلاحظ أنه لا توجد مدة معينة لاعتبار المدعى تاركا دعواه. لذلك اتصل المحامى بموكلته فكتبت إليه بأنها قـد تركت الدعوى ولا تريد الاستمرار فيها. فأبلغ المحكم بذلك.
وقد أعد المحكم حكمة النهائي بذلك وجاء إلى نقطة مصاريف التحكيم فتوقف عند الآراء المتضاربة التي قدمها الطرفان الشركة الفرنسية ترى أن تدفع الشركة الامريكية المصاريف كاملة سواء المصاريف الإدارية الخاصة بغرفة التجارة الدولية أو مصاريف المحكــ وأجره ه، ويتحمل كل طرف مصاريف دفاعه أمام المحكم. بينمـــــا طلبـــت الشركة الأمريكية أن تحمل الشركة الفرنسية كل المصاريف والمصاريف من وجهة نظر الشركة الأمريكية تعنى بالإضافة إلى المصاريف الإدارية الخاصة بغرفة التجارة الدولية ومصاريف وأتعاب المحكم، نوعا أخر من المصاريف، ذلك ان الشركة الأمريكية كانت قد تقدمت بطلب عارض في بدء التحكيم للحصول على تعويض من الشركة الفرنسية. وأدت مصاريف هذا الطلب العارض. والمحكم لا يستطيع أن ينظر هذا الطلب إلا إذا تم أداء المصاريف الخاصة به حسب تقدير محكمة التحكيم لها، وتريد الشركة الأمريكية لذلك ان تحمل الشركة الفرنسية بكل المصروفات، بمــــا في ذلك مصروفات الطلب العارض وأجور مستشاريها الذين تولوا الدفاع عنها وإلا تتحمل هي شيئا.
ناقش المحكم مشكلة المصروفات وتوصل إلى النتائج التالية:
1- أن الشركة الفرنسية هى التى أقامت الدعوى وبعد تأخير طويل أمتــــد سبع سنوات تخلت عنها وقررت تركها . وهذا يبرر أن تتحمل مصروفاتها.
2- يجب أن تؤخذ في الاعتبار بعض النقاط لصالح الشركة الأمريكية. فهي قد نجحت في الحصول على الحكم الجزئي الأول بأن تطبق قوانين ولاية نيويورك بينما خسرت الشركة الفرنسية طلبها تطبيق القانون الفرنسي والخاسر يتحمل المصاريف.
3 - نجحت كذلك الشركة الأمريكية في الحصول على الحكم الجزئي الثاني برفض الإحالة وباعتبار قوانين ولاية نيويورك الموضوعية دون المتعلقة بتنازع القوانين هى الواجبة التطبيق بينما خسرت الشركة الفرنسية طلبها اعتبار قوانين ولاية نيويورك تحيل الموضوع إلى القانون الفرنسي. ومن المنطقى أن تتحمل الشركة الفرنسية المصروفات لهذه الأسباب الثلاثة.
4 - أن الشركة الأمريكية وإن لم تكن مسئولة مباشرة عن التأخير إلا أنها قد قبلته حيث كان لها طلب عارض لم تبد الحرص على نظره عند التأخير من جانب المدعية ونزلت عنه عند ترك المدعية دعواها.
لذلك حمل المحكم كل طرف بمصاريفه وحمل الشركة الفرنســية بمصاريف دعواها.
ويلاحظ أن الترك فى قانون المرافعات لا يترتب عليه أي مساس بالحق المرفوعة به الدعوى أى يبقى قائما ولكن إذا كان قد صدر حكــم في الدعوى بثبوت حق ونزل المحكوم له عن هذا الحكم فان هذا يعتــــــبر نزولا في نفس الوقت عن الحق الذى يتضمنه. ولكن المحكم يتعرض لتطبيق هذه المبادئ على القضية لأنها ليست مثارة فيها.