يحق للمحكم بمطالبة الخصوم بالمستندات الهامة ولو لم يتمـسك الخـصم الآخر بوجوب تقديمها، والمادة "3/30" من قانون التحكيم المصري الجديـد قـد أشارت إلي حق هيئة التحكيم في أن تطلب في أية مرحلة كانت عليها الإجـراءات تقديم أصول المستندات والوثائق التي يستند إليها أي من طرفي الـدعوي، ومـن المتصور إمتناع أحد الأطراف عن تقديم مستندات في حوزته إما لما لها من سرية أو لأنها في غير صالحه، ولا شك أن هذا من شأنه عرقلة سير النزاع، مما دفـع العديد من الأنظمة القانونية الوطنية وغالبية القواعد المؤسسية، وبصفة خاصة في الآونة الأخيرة إلى منح المحكم سلطة إلزام الأطراف بتقديم المستندات التـي فـي حوزتهم، وذلك بهدف تجنب الإلتجاء إلى القضاء لإلزام الخصم بتقديم المـستند أو معاقبته، ولا يجب أن يأخذ من جانب المحكم شكل الجزاء العقابي أو الانتقامي.
وهو ما قررته المادة "35" من قانون التحكيم المصري عندما نصت علـي أنه " إذا تخلف أحد الطرفين عن حضور إحدي الجلسات أو عن تقديم ما طلب منه من مستندات جاز لهيئة التحكيم الإستمرار في إجراءات التحكيم وإصدار حكم في النزاع إستناداً إلى عناصر الإثبات الموجودة أمامها. ويتقيد المحكم عنـد مطالبـة الخصم بتقديم مستند تحت يده بأن يكون من الجائز قانونا إلزامه بتقديمه شأنه فـي ذلك شأن القاضي.
إلزام الغير بتقديم المستندات :
يملك القاضي الوطني إلزام الغير بتقديم مستند تحت يده تحت طائلة الحكـم عليه بالغرامة التهديدية، أما المحكم فلا يملك أن يأمر الغير بتقديم أية مستندات في حوزتهم كما لايملك الحكم عليهم بالغرامة التهديدية. وقد تفادي المشرع الفرنسي الإشارة إلى سلطة المحكم في إجبار الغير علي تقديم مستند تحـت يـده، ويمكـن للأطراف اللجوء إلى القضاء للمعاونة في ذلك علي نحو ما سنري بإذن الله.
خلاصة القول في تقديم المستندات أنه :
يعد تقديم المستندات إجراء جوهريا، إذ لا يتصور وجـود تحكــم بـلا مستندات حتي في ظل التحكيمـات الـسلعية المتعلقـة بمـدي مطابقـة الـسلعة للمواد اصفات المتفق عليها، يتم تقديم نسخة من العقـد المبـرم وشـهادات فحـص العينات، وغالبا ما تقدم المكاتبات المتبادلة بين الأطراف والمتعلقة بالنزاع. ولـيس هناك موعد محدد لتقديم المستندات، وإن كان الأصل أن تقدم في بداية الإجراءات فالسرعة التي هدف إليها الأطراف يجب أن تنعكس علي المسارعة بتقديم ما لديهم من مستندات تيسيرا لحسم النزاع. ومن الإجراءات التي تتميـز بهـا إجـراءات التحكيم وتعكس الروح الودية التي تسيطر علـى الإجـراءات بعيـدا عـن لـدد الخصومة في إتفاق الأطراف مقدما علي المستندات التي ستقدم في الدعوي، وذلك من خلال تقديم كل طرف قائمة بالمستندات التي في حوزته، ويتم ترقيم وترتيـب المستندات تبعاً لأهميتها.
ويتحقق المحكم من إرتباط المستندات بموضوع النزاع، وذلك إذا كان مـن شأنه تأييد إدعاء من قدمه أو دفع إدعاء خصمه أو الأمرين معـا، وتعـد الأدلـة المستندية دليلا قاطعاً في الدعوي ما لم تجحد أو يطعن عليها، ولا يملك المحكـم إستبعاد أية مستندات أو الإلتفات عنها دون التنبيه على الأطراف وإتاحة الفرصـة لهم للإعتراض أو تقديم دليل آخر وذلك إحتراما لحقوق الدفاع.
أما عن تقديم المذكرات :
تقديم المذكرات يؤدي دوراً هاماً في تكوين عقيدة المحكم أو القاضي فضلا عما توفره من وقت وجهد في الوصول لجوهر النزاع، إلا أنها لا تعد طريقاً مـن طرق الإثبات، فالمذكرات تختلف عن الإقرارات التي يقدمها الأطـراف وتعـد مستندا في الدعوي ودليلا في الإثبات. ويلتزم الأطراف بتقـديم المـذكرات فـي المواعيد المحددة لتقديمها، وتنص المادة "٢/۳٠" من قـانون التحكـيم المـصري الجديد علي أنه : " ويرسل المدعي عليه خلال الميعاد المتفق عليه بين الطرفين أو الذي تعينه هيئة التحكيم إلى المدعي وكل واحد من المحكمين مـذكرة مكتوبـة بدفاعه ردا على ما جاء بطلب التحكيم، وله أن يضمن هذه المذكرة أيـة طلبـات عارضة متصلة بموضوع النزاع أو أن يتمسك بحق ناشئ عن الدفع بالمقاصة.
كما تنص المادة "31" من هذا القانون علي أنه : " ترسل صورة مما يقدمـه أحد الطرفين إلي هيئة التحكيم من مذكرات أو مستندات، وتنص المادة " 33" علي عقد جلسات المرافعات ما لم تكتفي بتقديم المذكرات والوثائق المكتوبة ما لم يتفـق الطرفان علي غير ذلك. وبإقفال باب المرافعة يمتنع عن قبول أية مستندات، حيث تنقطع صلة الأطراف بالدعوي ، وإن ظل من المتصور إمكان إعادتها للمرافعـة لعمل مرافعات إضافية علي نحو ما يحدث في القضاء مع مراعاة القيود المتعلقـة بميعاد إصدار الحكم، وعند تقديم أية مستندات قبل قفل باب المرافعة مباشرة يلتزم المحكم بإستبعادها أو إتاحة الفرصة للخصوم للتعليق عليها، وفتح بـاب المرافعـة من جديد إذا كان مشكوكاً في صحتها أو كانت في حاجة إلى تحقيق مـع مراع المواعيد، ولا يجوز قبول أية مستندات جديدة إذا تغذر إخطار الخصم الآخر.
أما عن الوقت الذي يمكن خلاله للخصوم تقديم المستندات وتبادل المذكرات فإن قانون التحكيم لم يحدد ميعادا نهائيا لا يمكن للأطراف بعده تقديم المستندات والمذكرات وهو ما يجعل الميعاد النهائي لذلك وفقاً للقواعد العامـة فـي قـانون المرافعات هو تاريخ قفل باب المرافعة ومن ثم يجوز للأطراف تقديم المستندات والمذكرات حتى هذا الوقت ما لم يتفق أطراف الخصومة علي غير ذلك .
ولم يرد في قانون التحكيم نص يحدد ميعاد لقفل باب المرافعة علي نحو ما ذكرنا سابقاً رغم أهمية تاريخ قفل باب المرافعة بالنسبة للخصوم حيث يسقط بعده حقهم في إبداء الطلبات والدفوع والمستندات، وهو أمر قد يعطي للخصم سيئ النية ذلك. الفرصة للنعي علي هيئة التحكيم أنها لم تسمح له بتقديم طلبات أو مستندات معين أو سماع ملاحظاته حتي ولو كان قد تقدم بها قبل إصدار الحكم بـساعات بغيـة الوصول إلى إيطال الحكم، ونري أنه في ظل الوضع الحالي للنصوص ينبغـي علي هيئة التحكيم – إعمالا للفقرة الثانية من المادة 33 من قانون التحكيم الجديـد - أن تخطر الخصوم بميعاد الجلسة الأخيرة التي سيصدر بعدها الحكم بإعتبار أن تاريخ انتهاء هذه الجلسة هو تاريخ قفل باب المرافعة، فإذا لم تكن هنـاك جلـسة أخيرة وجب عليها أن تحدد لهم تاريخا معينا لإبداء آخر ما لديهم من أقوال ودفوع وملاحظات قبل إصدار الحكم، حتي لا يتفاجأ أحد الخصوم بـصدور الحكـم دون سابق إنذار.
كيفية إثبات تبادل الطلبات والمستندات :
عدم إلتزام المحكمين بإجراءات وشكليات التقاضـي المعمـول بهـا أمـام المحاكم – مثل إجراءات الإعلانات القضائية وإجراءات تبادل المستندات – أوجـد في الواقع العملي مشكلة كبيرة وهي كيفية إثبات أن مستنداً ما قد تم تبادله بطريقة صحيحة وكافية بين الخصوم، فعدم الالتزام بالشكليات التي تتسم بهـا إجـراءات التقاضي العادية قد يعطي الفرصة للخصم سيئ النية للتشكيك في صـحة وكفايـة إجراءات تبادل المستندات التي أمر بها المحكم قاصداً بذلك التشكيك فـي صـحة الحكم لعدم احترام مبدأ المواجهة، فكيف واجه القضاء الفرنسي تلك المشكلة؟
أمام القاضي يسهل إقامة الدليل على صحة الأعمـال الإجرائيـة وذلـك بالاستناد إلى الإلتزام بالشكل الذي نص عليه القانون لاتمام الإجراءات، بمعني أن عدم احترام الشكل يفترض معه عدم صحة الإجراء، أما في مجال التحكيم الـذي يعني فيه المحكم من اتباع هذه الشكليات فإن القضاء الفرنسي قـد وضـع قرينـة مقتضاها صحة كل الأعمال والإجراءات التي إتخذها المحكمون طالما أنهم اشاروا إليها في حكمهم، بمعني أنه إذا أثبت المحكمون في حكمهم أو أشاروا إلي طلبـات أو مستندات معينة فإن هذا معناه ليس فقط أنهم إطلعوا عليها جيدا وإنما أيضا أنها كانت محلا للتبادل والمناقشة الحضورية بين الخصوم، وعلي من يـدعي خـلاف ذلك أن يقيم الدليل على صحة ما يدعيه.
وقد أكدت محكمة إستئناف باريس هذه القاعدة واشترطت ليس فقط أن يشير المحكم أو يذكر أو يرد على ما جاء في مستند معين في حيثيات حكمه، وإنما لابد أن يشير المحكم إلى أن هذا المستند قد تم تبادله بطريقة صحيحة وكافيـة بـين الخصوم، فقضت ببطلان حكم المحكمين لمخالفته لمبدأ المواجهة إذا كان المحكـم قد ذكر في حكمه أنه تلقي بعض المستندات من أحد الخصوم ولكنه لم يذكر أنه تم تبادلها مع الخصم الآخر.