كمبدأ عام في التحكيم يترك للأطراف الحرية كاملة في اختيار اللغة التي ينعقد بها التحكيم وإلا قامت الهيئة بعد تشكيلها باختيار هذه اللغة. وهذا ما ذهب إليه المشرع المصري بالمادة ٢٩ من قانون التحكيم حيث نصت على أنه "(2) يجرى التحكيم باللغة العربية ما لم يتفق الطرفان أو تحدد هيئة التحكيم لغة أو لغات أخرى. ويسري حكم الاتفاق أو القرار على لغة البيانات والمذكرات المكتوبة وعلى المرافعات الشفهية وكذلك كل قرار تتخذه هذه الهيئة أو رسالة توجهها أو حكم تصدره ما لم ينص اتفاق الطرفين أو قرار هيئة التحكيم على غير ذلك. (2) ولهيئة التحكيم أن تقرر أن يرفق بكل أو بعض الوثائق المكتوبة التي تقدم في الدعوى ترجمة إلى اللغة أو اللغات المستعملة في التحكيم. وفي حالة تعدد هذه اللغات يجوز قصر الترجمة على بعضها" .
هذا وربما أقام النص في فقرته الأولى قرينة قوامها أن الأصل هو جريان التحكيم باللغة العربية، بيد أن هذه القرينة لا يعمل بها في حالتين:
الحالة الأولى: اتفاق الأطراف على لغة أو لغات أخرى، حيث يعد هذا الاتفاق ملزماً للجميع وتتعطل بمقتضاه كل القرائن التي يمكن أن تقرر في الصدد، وهو ما يعني أن لإرادة الأطراف الكلمة الأولى فيما يتعلق بلغة التحكيم ومن ثم يمكنهم اختيار أي لغة لتكون لغة الدعوى.
الحالة الأخرى: تحدد هيئة التحكيم لغة أو لغات أخرى، فالأصل السابق لا يتعطل بإرادة الأطراف فقط، وإنما برغبة هيئة التحكيم أيضاً التي يكون لها . في ضوء الظروف والملابسات . أن تقرر استخدام لغة أو لغات أخرى غير اللغة العربية كاللغة الإنجليزية أو الفرنسية... إلخ.
والقاسم المشترك بين الحالتين هو جواز اتفاق الأطراف أو تحديد هيئة التحكيم للغة أو لغتين أو ثلاث لانعقاد التحكيم، وهنا تتساوى هذه اللغات من حيث الأهمية، حيث تعد كل منها بمثابة لغة من اللغات التي يصح بها التحكيم. وفي غير هاتين الحالتين ينعقد التحكيم باللغة العربية، على اعتبار أنه الأصل الذي يجرى في الفروض التالية:
- اتفاق الأطراف صراحة على استخدام اللغة العربية على أنها لغة التحكيم.
- سكوت الأطراف عن بيان لغة التحكيم مع عدم تحديد هيئة التحكيم للغة أخرى.
- سكوت الأطراف عن بيان اللغة مع رغبة هيئة التحكيم الصريحة في الفصل في النزاع طبقاً للغة العربية.
وسواء كانت اللغة المستخدمة هي اللغة العربية أو غيرها، فإن هذه اللغة تعد لغة التحكيم، وطالما أنها تصير لغة المذكرات والطلبات والدفوع والإجراءات والمرافعات الشفوية ولغة استجواب الشهود وسماع تقارير الخبراء... حتى صدور الحكم النهائي في الدعوى، وذلك ما لم ينص اتفاق التحكيم أو قرار هيئة التحكيم على استثناء بعض هذه الإجراءات لتجرى بلغة مختلفة، كاتفاق الأطراف على استخدام لغة أخرى بشأن المرافعات الشفهية مثلا.
- وقد تبدو حاجة الطرفين في بعض الأحوال ملحة لتقديم أصول بعض المستندات المحررة بلغتها الأصلية، التي لا تعد في ذات الوقت هي لغة التحكيم، فهنا وللتوفيق بين المحافظة على هذا الأصل والاحتفاظ بحجيته الكاملة في الإثبات من ناحية ووجوب استخدام لغة التحكيم في جميع إجراءاته من ناحية أخرى، أوجب نص المادة ٢/٢٩ ضرورة أن يرفق بهذه المستندات ترجمة إلى اللغة أو اللغات المستعملة في التحكيم، حيث تتمتع الهيئة بسلطة الأمر بتقديم ترجمة واحدة بأحدى هذه اللغات أو تقديم ترجمات بعدد اللغات المستخدمة في التحكيم.
وببحث مسألة لغة التحكيم الإلكتروني بنظام محكمة الفضاء وجد أن هذا النظام استمر في سياسته الموسعة لاختصاصات هيئة التحكيم الإلكتروني على حساب الإرادة المشتركة للمتعاقدين فقرر في مادته الثانية عشرة أن "تتولى هيئة التحكيم تحديد لغة أو لغات دعوى التحكيم مع الأخذ في الاعتبار شروط التعاقد بما في ذلك لغة العقد". وبهذا عهد لهيئة التحكيم مهمة تحديد اللغة أو اللغات التي ستتولى الهيئة الاستعانة بها للفصل في النزاع التحكيمي.
ونحن نرى أنه كان أولى لهذا النظام أن يتم تحديد لغة التحكيم بواسطة الأفراد أولا مع الاحتفاظ بهيئة التحكيم كسلطة احتياطية تتولى تحديد هذه اللغة حالة سكوت اتفاق التحكيم عن تحديدها، وذلك حتى لا يصطدم بأحد المبادئ الأساسية للتحكيم بتجاوزه إرادة الأطراف في شأن تحديد لغة التحكيم.
بينما ذهبت جمعية التحكيم الأمريكية على عكس ذلك؛ فبمراجعة المادة 8 من الإجراءات التكميلية للجمعية بشأن التحكيم الإلكتروني وجد أنها تقرر "ما لم يتفق على غير ذلك فإن لغة التحكيم هي لغة المستند أو المستندات التي تتضمن اتفاق التحكيم ما لم يقرر المحكم خلاف ذلك" .
وبإمعان النظر في النص المذكور نجد أنه لا يختلف عن القواعد العامة حين يفرق بين فرضين أساسيين:
- اتفاق الأطراف على لغة التحكيم: إذا امتد حرص الأطراف لاختيار اللغة التي يجرى بها التحكيم الإلكتروني فإن هذا الاتفاق يكون ملزماً لهم وللمحكم على حد سواء دون أن يتمتع هذا الأخير بأية سلطة تقديرية إزاء هذا الاختيار الذي ينزل بالنسبة له منزلة القانون الذي يلتزم بتطبيقه.
وبهذه المثابة، وفي جميع الأحوال يتضح أن التحكيم الإلكتروني لن يجرى بلغة إلكترونية، فالحاسب الآلي يتم التعامل معه باللغات المتعارف عليها، ومن ثم يخضع اختيار هذه اللغة إما لإرادة الأطراف أو لتقرير المحكم وفقاً للأحكام السابقة.