إن التحكيم بعكس القضاء في أنه يتحرر من القواعد الآمرة المنصوص عليها في قانون المرافعات والتي بموجبها يتحدد الاختصاص المكاني الذي يتقيد به الخصوم، لذلك فإن التحكيم يتأثر بمكان إجرائه ويتم تحديده وفقاً لإرادة الخصوم أو وفقاً لإرادة هيئة التحكيم في حالة عدم وجود اتفاق بين الخصوم..
ولهذا سوف نعرض لأهمية تحديد مكان التحكيم في غصن أول، تحديد مكان التحكيم وفقاً لاتفاق الخصوم في غصن ثاني، تحديد مكان التحكيم وفقاً لإرادة هيئة التحكيم في غصن ثالث.
أهمية تحديد مكان التحكيم
يحظى تحديد مكان التحكيم بأهمية كبيرة في مجال التجارة الدولية سواء بالنسبة لأطراف خصومة التحكيم أو بالنسبة لهيئة التحكيم. فمكان التحكيم يحدد إذا كان الحكم وطنياً أم أجنبياً، فبعض الدول لا تجيز التحكيم في الخارج فيما يدخل في ولاية محاكمها . فقد تتجلى أهمية مكان التحكيم في تحديد القانون الواجب التطبيق سواء على موضوع النزاع أو على إجراء خصومة التحكيم، ما لم يعلنوا عن إرادتهم صراحة على اختيار قانون آخر .
وبالنظر إلى أن حكم التحكيم يصدر في مكان إجراءات التحكيم فإن صدور ذلك الحكم في دولة منضمة إلى اتفاقية تنفيذ أحكام المحكمين والاعتراف بها، پیسر مهمة الأمر بتنفيذ ذلك الحكم في دولة أخرى منضمة إلى تلك الاتفاقية. بل إن مخالفة القواعد الموضوعية أو الإجرائية لدولة مكان التحكيم قد تكون سببا الرفض الاعتراف بحكم التحكيم أو الأمر بتنفيذه. وهو ما قررته الفقرة (د) من المادة الخامسة من اتفاقية نيويورك 1958 فطبقاً لهذه المادة فإنه يجوز رفض الاعتراف والتنفيذ متى ثبت أن "تشكيل هيئة التحكيم أو إجراءات التحكيم مخالفة لما اتفق عليه الطرفان أو لقانون البلد الذي تم فيه التحكيم في حالة عدم الاتفاق".
وقد أصدرت لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولية ملحوظات عن تنظيم إجراءات التحكيم، تضمنت توصياتها فيما يتعلق بالاعتبارات التي تؤخذ في تعيين مكان التحكيم، ومن هذه الاعتبارات ملائمة القانون المتعلق بإجراءات التحكيم الساري في مكان التحكيم، أو إذا كانت هناك معاهدة ثنائية أو متعددة الأطراف بشأن إنفاذ قرارات التحكيم مبرمة بين الدولة التي يجري فيها التحكيم والدولة أو الدول التي قد يلزم إنفاذ قرارات التحكيم فيها، أو الملائمة للأطراف وللمحكمين. بما في ذلك مسافات السفر، أو توفر خدمات الدعم اللازمة وتكلفتها أو مكان موضوع النزاع وقرب مكان الأدلة .
تحديد مكان التحكيم وفقاً لإدارة الخصوم
وعلى الاعتراف بحق الأطراف في تحديد مكان التحكيم فقد نصت العديد من التشريعات الوطنية، فقد نصت المادة 28 من قانون التحكيم العماني على أنه "لطرفي التحكيم الاتفاق على مكان التحكيم في سلطنة عمان أو خارجها وهذا النص مأخوذ من المادة 1/20 من القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي والذي جاء بها "للطرفين حرية الاتفاق على مكان التحكيم"، كما اعترف بمضمونه أيضا المادة 1/16 من قواعد اليونستيرال. كما نصت لوائح ومؤسسات ومراكز التحكيم الدولي على حق الأطراف في تحديد مكان التحكيم حيث نصت المادة 12 من نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية بباريس على أن "تحدد المحكمة مكان التحكيم ما لم يكن الأطراف قد أتفقوا على هذا المكان". ومعنى ذلك أنه في حالة عدم اتفاق الأطراف على مكان التحكيم تتولى المحكمة الدولية للتحكيم بالغرفة تحديد ذلك المكان، ومن ثم فإن لجوء الطرفين إلى مؤسسات التحكيم الدائمة الدولية لا يعني بالضرورة سلب حرية الطرفين في الاتفاق على مكان التحكيم، وعليه لا توجد صلة حتمية بين بلد مقر مؤسسة التحكيم الدائمة ومكان التحكيم، إذ يجوز للطرفين الاتفاق على أن يجري التحكيم في أي بلد آخر من بلدان العالم .
والأصل أن يخضع تعيين مكان التحكيم لما يتفق عليه طرفا التحكيم، فلهم الحرية الكاملة في اختيار مكان التحكيم دون تمييز بين العلاقات التي تتركز جميع عناصرها في الداخل والعلاقات التي يتركز عنصراً أو أكثر في الخارج. وفي حالة اتفق الأطراف على اختيار مكان التحكيم فيجب على هيئة التحكيم احترام هذا الاتفاق، اللهم إلا إذا جد من الأحداث ما يبرر مخالفته . وفي ذلك يرى بعض الفقه أنه لا يترتب على عدم احترام ذلك الاتفاق البطلان إلا إذا كان يحتوي بين طياته إخلالا بحقوق الدفاع، كما لو اتفق على إجراء التحكيم في المكان الذي وقعت فيه الحادثة مصدر الالتزام الذي يقوم عليه النزاع، ومع ذلك تم التحكيم في مكان غيره ودون معاينته، وهو ما أراده الأطراف من وراء اختيار هذا المكان .
ولذلك نجد أن قانون المرافعات الفرنسي لم يعرض أصلا لموضوع اختيار مكان التحكيم، سواء في أحكامه المتعلقة بالتحكيم الداخلي أو تلك المتعلقة بالتحكيم الدولي، الأمر الذي يعني أن موضوع اختيار مكان التحكيم باعتباره مسألة إجرائية يخضع لاختيار أطراف التحكيم فإن لم يتفقوا على ذلك فإنه يخضع لاختيار هيئة التحكيم وفقاً للمادتين 1460 المتعلقة بالتحكيم الداخلي و 1494 المتعلقة بالتحكيم الدولي.
هذا ويستحب أن يكون المكان قريباً من الخصوم وممثليهم، وقريبا من الشهود لتشجيعهم على الإدلاء بشهادتهم، وقريباً من محل النزاع وذلك لتيسير معاينته عند اللزوم، كما يستحسن أن يكون التحكيم في بلد يسهل دخوله من قبل المحكمين الأجانب أو الشهود والخبراء، وأن يكون محايداً لا يخضع لسلطة أو نفوذ أحد - الطرفين، ويمكن تنفيذ الحكم الصادر فيه دون صعوبات . ومن ناحية أخرى فإن الدول النامية تخشى من إجراء التحكيم خارج إقليمها، كما أن الطرف الأجنبي لا يطمئن إلى إجرائه في الدول النامية. ولحل مسألة انعدام الثقة بين الطرفين فيمكن الالتجاء إلى جهة أو مؤسسة تحكيم، فيتحدد مكان التحكيم وفقاً لأحكام هذه الجهة. فضلاً إلى أن هناك قرارات التحكيم وأحكام القضاء الأجنبية لا تكون نافذة في بعض الدول إلا بموجب معاهدات ثنائية أو متعددة الأطراف، لذلك يفضل اختيار مكان التحكيم في دولة ترتبط مع الدول المحتمل تنفيذ حكم التحكيم فيها بمعاهدة لتنفيذ قرارات التحكيم وأحكام القضاء .
تحديد مكان التحكيم وفقا لإرادة هيئة التحكيم
عند تقاعس الأطراف عن تحديد مكان التحكيم تولت هيئة التحكيم تحديده، وعلى هذا نصت سائر تشريعات التحكيم الوطنية وكذلك لوائح ومؤسسات ومراكز التحكيم، من هذه التشريعات المادة 28 من قانون التحكيم العماني حيث نصت على أنه "فإذا لم يوجد اتفاق عينت هيئة التحكيم مكان التحكيم مع مراعاة ظروف الدعوى وملائمة المكان لأطرافها، ولا يخل ذلك بسلطة هيئة التحكيم في أن تجتمع في أي مكان تراه مناسباً للقيام بإجراء من إجراءات التحكيم کسماع أطراف النزاع أو الشهود أو الخبراء أو الإطلاع على مستندات أو معاينة بضاعة أو أموال أو إجراء مداولة بين أعضاء أو غير ذلك.
وعند عدم اتفاق الأطراف على مكان التحكيم، كان لهيئة التحكيم سلطة اختياره مع الأخذ في عين الاعتبار أن يكون هذا المكان ملائماً لطبيعة الدعوى ومناسب لظروف الأطراف. فقد ترى هيئة التحكيم أن تجتمع في مكان آخر تراه مناسبا لسماع أطراف النزاع أو الشهود أو الخبراء أو معاينة بضاعة أو أموال أو الإطلاع على مستندات، فلا يترتب على قيام هيئة التحكيم بعقد جلسات خارج المكان الذي تحدد لإجراء التحكيم فيه تغييرا لمكان التحكيم، و عليه إذا تم عقد جلسات في غير مكان التحكيم لا يؤثر في اعتبار التحكيم حاصلا في مكان التحكيم المعين، كما لا يؤثر في كون حكم التحكيم قد صدر في مكان التحكيم، وهو ما تنص عليه صراحة المادة 2/16 من نظام تحكيم محكمة لندن للتحكيم الدولي، وما يستفاد من نص المادة 3/31 من القانون النموذجي ونص المادة 3/25 من نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية. وفي المقابل ليس للهيئة أن تسيء استعمال هذه السلطة فتعقد معظم الجلسات في غير المكان الذي اتفق الطرفان على إجراء التحكيم فيه ، كما يتعين عليها التزام بالموضوعية بحيث يكون باستطاعة الأطراف الحضور وتقديم طلباتهم ودفاعهم بسهولة ويسر وإلا كان ذلك إخلالا بحقوق الدفاع .
وفي حالة مخالفة هيئة التحكيم للمكان الذي اتفق عليه الطرفان أو للمكان الذي قررت اختياره فإنه لا يؤدي إلى بطلان الإجراءات، وإنما يجوز لأي من الطرفين رفع دعوى ضد الهيئة لتعويضه عما أصابه من ضرر. ما لم يتبين أن اختيار الهيئة مكانا معينا قد أخل بمبدأ المساواة بين الطرفين أو لم يمكن أحد الطرفين من تقديم دفاعه .