الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • اجراءات خصومة التحكيم / مكان التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 30 / أهمية اختيار مكان التحكيم في مجال التحكيم الدولي

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 30
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    179

التفاصيل طباعة نسخ

    يعتبر التحكيم بشكل عام موطن الحرية، وخاصة حرية الأطراف لجهة نـزع اختـصاص المحاكم النظامية بالنظر في نزاعهم، وحريتهم في اختيار القانون الواجب التطبيق وحريتهم فـي اختیار قواعد الإجراءات.

    وهذه الحرية تتضاعف في مجال التحكيم الدولي، بحيث أن مكان التحكيم يخضع أيضاً فـي هذه الحالة لاختيار الأطراف.

   والأسباب التي تحدو الأطراف على اختيار مكان للتحكيم دون الآخر متعددة. فهناك أســباب عملية وأخرى قانونية.

   الجوانب العملية التي يأخذها عادة الأطراف بعين الاعتبار في التحكيمات الدولية، تـؤدي اليوم إلى تنافس حقيقي بين عدد من المدن، وخاصة العواصم الكبـرى لاستضافة التحكيمـات الدولية.

   وهذا السعي لجذب التحكيمات يرتكز أساساً على عامل مهم وهو المردود الاقتصادي الـذي يترافق مع اختيار مدينة من هذه المدن كمكان للتحكيم.

   والمردود الاقتصادي لهذه الجهة لا يقتصر فقط على الرسوم التي يتم دفعها لمركز التحكيم، وإنما يشمل أيضاً أتعاب المحامين المحليين الذين يتم اللجوء إليهم ونفقـات الفنادق والترجمـة والسكرتاريا والتنقلات الخ...

   ولكن مكان التحكيم ليس فقط مفهوماً جغرافياً. إنه وقبل كل شيء مفهوم قانوني. من هنـا، فمن الطبيعي أن لا تقتصر الأسباب التي تحدو الأطراف على اختيار مكـان دون الآخـر علـى الأسباب العملية، وانما يتوجب عليهم أيضاً أن يأخذوا بعين الاعتبار الأسباب القانونية. فاختيـار مكان معين للتحكيم من شأنه ترتيب مفاعيل قانونية مهمة (ثانياً).

   ولكن، وإذا كنا نبحث اليوم في مكان التحكيم وأهمية اختياره فهناك سبب رئيسي وهو وجود اتجاه للحد من الدور الذي يلعبه هذا المكان في مجال التحكيم الدولي وجعل هذا التحكـيـم قـدر الامكان متحرراً من أي رابط مع القوانين الوطنية أو الأمكنة الجغرافية (أولا).

أولاً- تراجع أهمية الدور الذي يلعبه مكان التحكيم:

   من البديهي أن تطور التكنولوجيا الحديثة قد أدى إلى تقصير المسافات وتسهيل الاتصالات. والعاملون في حقل التحكيم الدولي يعرفون اليوم أن هذا التحكيم لا يخضع للعوامل الجغرافية التي تخضع لها المحاكم النظامية. فغالبا ما ينتمي المحكمون الذين يشكلون هيئة تحكيمية واحدة إلـى دول مختلفة، ويقيمون تالياً في أماكن بعيدة الواحد منها عن الآخر. وغالبـاً مـا يكـون كـذلك المحامون في نفس القضية ينتمون إلى مكاتب تقع مراكزها في دول مختلفة. إضافة إلى ذلك من الطبيعي اليوم تبادل اللوائح والمذكرات، وأن يتم إبلاغ القرارات التحكيمية بواسطة الأنترنت. أما الشهود فيتم الاستماع إليهم في كثير من الأحيان عبر وسائل الاتصال الحديثة، ولا سيما الأقمـار الاصطناعية، وأخيراً فإن التداول بين المحكمين يجري اليوم أكثر من أي يوم مضى، إما بواسطة الهاتف وإما بواسطة الأقمار الاصطناعية.

   وإذا أضفنا إلى ذلك بعض أنماط التحكيم الخاصة كالتحكيم الإلكترونـي مـثلاً أي التحكـيم المتعلق بنزاعات الإنترنت، فإنه يتبين أنه ليس للجغرافيا أي دور فيه. ففي التحكيم الالكترونـي ليس هناك من مكان محدد يمكن توطين الإجراءات فيه.

   ومن هنا يتبين أن مكان التحكيم هو مفهوم قانوني، وليس مفهوماً جغرافياً.

   فمكان التحكيم ليس بالضرورة المكان الذي تجري فيه العملية التحكيمية أي المكـان الـذي يجلس فيه المحكمون وتعقد فيه الجلسات.

   والواقع أن الاجتهاد الفرنسي قد اعتبر منذ زمن بعيد أن مكان التحكيم ليس مفهوماً جغرافياً وأنه يمكن أن تجري الإجراءات في دولة غير الدولة التي يقع فيها المكان الذي اختاره الأطراف ليكون مكانا للتحكيم.

   فقد اعتبرت محكمة النقض الفرنسية مثلاً أنه ليس هناك أي نص يلزم الهيئة التحكيمية بـأن تجري في مكان واحد كل الإجراءات والأعمال التي يجب عليها القيام بها، بما فيهـا المناقشات وإصدار القرار.

    كما اعتبرت محكمة الاستئناف في باريس أنه بإمكان المحكم أن يصدر قراره في بـاريس، بالرغم من أن الاتفاق التحكيمي ينص على أن القرار التحكيمي يعتبر صادراً في مدينة أخـرى، فيما يبقى الطعن في هذا القرار من اختصاص محكمة المدينة التي ينص عليها الاتفاق التحكيمي.

   وفي قرار آخر طبقت محكمة الاستئناف في باريس هذا الاجتهاد في مجال التحكـيم الـدولي، معتبرة "إن مكان التحكيم هو مفهوم قانوني صرف يخضع لإرادة الأطراف، وهو ليس مفهوماً مادياً يتعلق بالمكان الذي حصلت فيه الجلسات أو المكان الذي جرى فيه التوقيع على القرار التحكيمي.

    وعلى كل حال، فإن المفهوم القانوني لمكان التحكيم أي المفهوم غير المادي له قد أخذ بـه القانون النموذجي لمنظمة اليونسيترال الذي ينص في المادة 20-2 أنه بالرغم من تحديد مكـان التحكيم من قبل الأطراف في مكان معين، فإنه يعود للهيئة التحكيمية، إلا إذا اتفق الأطراف على خلاف ذلك، الاجتماع في أي مكان تعتبره مناسباً لإجراء المناقشات بين المحكمين، للاستماع إلى الشهود والخبراء والأطراف أو لمعاينة البضائع الخ...

   وكذلك فإن قانون التحكيم الإنكليزي الصادر سنة 1996 يعتبر أن مكـان التحكـيم مفهـوم قانوني بحت.

   ولكن تراجع أهمية الدور الذي يؤديه مكان التحكيم كمفهوم جغرافي لا يستند فقط إلى هـذه المعطيات الناتجة من تطور الاتصالات في عصرنا الحديث، ومن إمكانيـة عقـد الجلـسات أو الاستماع إلى الشهود، وحتى إصدار القرارات في مكان غير المكان الذي اختاره الأطراف، ولكنه ناتج بشكل أساسي من أن مكان التحكيم في مجال التحكيم الدولي ليس فقط مفهومـاً جغرافيـاً أو رابطاً قانونياً، وإنما العامل الأساسي الذي يمكن عبره فهم دور ومكانة هذا التحكيم من الناحيـة النظرية أو الفلسفية في العصر الذي نعيش فيه، والذي تتوزع فيه السيادات على دول مستقلة، مدى استقلالية التحكيم الدولي عن الدول.

   والواقع أن هناك عدة وجهات نظر في هذا الخصوص.

   وفقاً لوجهة النظر الأولى، وهي الأقدم عهداً، لا يمكن أن لا يكون التحكيم مرتبطـاً بمكـان جغرافي معين أي دولة معينة. فالمحكم، كما القاضي النظامي، لا بد مـن أن يـرتبط بمنظومـة قانونية (Ordre juridique) يستمد منها شرعيته. وهذه المنظومة القانونية لا يمكن أن تكون إلا المنظومة القانونية للدولة التي يقع فيها مكان التحكيم. ووفقا لهذه الوجهة لا يمكن أن يكون هناك قرار تحكيمي دولي بالمعنى الحرفي للكلمة. فالقرار التحكيمي، حتى لو كان صادراً فـي مجـال التحكيم الدولي لا بد من أن يرتبط بدولة معينة هي الدولة التي يقع فيها مكـان التحكيم، أي إن القرار التحكيمي يمكن أن يكون لبنانياً أو فرنسياً أو انكليزياً، ولكن لا يمكن أن يكون دولياً.

   ووفقاً لوجهة النظر الثانية، فإن القرار التحكيمي الصادر في مجال التحكيم الدولي لا يـستمد قوته من المكان الذي صدر فيه وحده، وإنما من مختلف الأمكنة التي يمكن تنفيذه فيها. ووفقاً لهـذه الوجهة، فإن المحكم في إطار التحكيم الدولي غير مرتبط بالدولة التي يقع فيها مكان التحكيم، وإنما عة الدول التي لها علاقة بالتحكيم، والتي يمكن فيها تنفيذ القرارات الصادرة عنه. ومن هنا، فإن القائلين بهذه الوجهة يعتبرون أنه لا يمكن أن يكون للمحكم، كما للقاضي النظامي، قانون خاص يستند إليه، كما أن القرار الصادر عن المحكم الدولي لا يمكن تكييفه بأنه قرار تحكيمي لبنــاني أو فرنسي أو انكليزي، وإنما قرار دولي. وجهة النظر الثانية هذه لا تنكر ارتبـاط التحكـم بـالـدول، بمجمو ولكنها تختلف عن الأولى بأنها تعتبر أن التحكيم الدولي يرتبط بمجموعة دول لا بدولة واحدة.

   ويمكن القول إن معاهدة نيويورك المتعلقة بالاعتراف وبتنفيذ القرارات التحكيمية الأجنبيـة لعام 1958 تعتمد هذه الوجهة. فهذه المعاهدة تحدد الشروط التي تتعهد فيها كل دولة من الـدول الموقعة الاعتراف وتنفيذ القرارات التحكيمية الصادرة في دولة أخرى، وبالتالي، فـإن معاهـدة نيويورك تستند بشكل أساسي إلى مكان تنفيذ هذه القرارات.

   ووفقاً لوجهة النظر الثالثة، فإن التحكيم الدولي لا يستمد مكانتـه القانونيـة لا مـن مـكـان التحكيم ولا من أمكنة التنفيذ، وإنما من منظومة قانونية عالمية تسمو علـى القـوانين الوطنيـة (Ordre juridique arbitral). والقائلون بهذه الوجهة هم بشكل عام من القائلين أيضاً بوجـود نظام عالمي يسمو على المنظومات القانونية الوطنية تندرج ضمنه أعراف التجارة الدولية. وهـم يعتبرون بالتالي أن التحكيم الدولي يستمد مكانته من مجموعة المبادىء المعترف بها على الصعيد الدولي، وهي المبادئ التي يستند اليها القانون الدولي العام أو تلك التي يستند اليها الاجتهاد للقول بوجود نظام عام حقاً دولي.

   ولكن، وفي خضم هذه النقاشات الفقهية، فإن العامل الأساسي الذي أدى إلى تضاؤل أهميـة الدور الذي يؤديه مكان التحكيم هو ظاهرة القرارات التحكيمية المتحررة من أي قيد إقليمي. وإذا كانت هذه الظاهرة قد تمت ملاحظتها ومناقشتها منذ أواسط القرن العشرين، وربما قبل ذلـك، إلا أنها تثير اليوم أكثر من أي وقت مضى العديد من التساؤلات، علماً أن القانون الفرنسي هو الأكثر لا تطورا لهذه الجهة، واجتهاد المحاكم الفرنسية يشكل حالة متقدمة بهذا الخصوص.

   ففي عدة قرارات حديثة، اعتبرت محكمة النقض الفرنسية، أنه يمكن منح الصيغة التنفيذيـة في فرنسا لقرارات تحكيمية تم أبطالها في البلد الذي يقع فيه مكان التحكيم، بصرف النظر عـن إبطالها في هذا البلد.

   ففي قرار صـادر فـي 23 آذار 1994، وهـو القـرار الـصادر بـدعوى هيلمـارتون (Hilmarton) اعتبرت محكمة النقض الفرنسية أن قراراً تحكيمياً صادراً في سويسرا، في مجال التحكيم الدولي، هو قرار دولي لا يدخل ضمن إطار المنظومة القانونية لهذه الدولة، بحيث أنـه، وبالرغم من إبطاله في سويسرا فإنه يبقى قائماً ويمكن منحه الصيغة التنفيذية فـي فرنسا، وأن منحه هذه الصيغة لا يخالف النظام العام الدولي .

   وفي قرار آخر صادر بتاريخ 29 حزيران 2007 فـي قـضية بوترابــــالي (Putrabali) اعتبرت محكمة النقض الفرنسية أن القرار التحكيمي الدولي غير مرتبط بأي نظام قانوني، وهـو يعتبر قراراً قضائياً دولياً، بحيث إن إبطاله في دولة المقر (بريطانيا) لا يمنع من منحه الـصيغة التنفيذية في فرنسا.

   وهكذا، فإذا كان القاضي المختص للنظر في إبطال القرار التحكيمي هو قاضي المكان الذي جرى فيه التحكيم أي قاضي الدولة التي يقع فيها مكان التحكيم، إلا أن إيطال القرار التحكيمي من قبل هذا القاضي لا يعتبر في فرنسا سببا من أسباب رفض منح الصيغة التنفيذية لهذا القرار.

   إن هذه الحلول التي يأخذ بها القضاء الفرنسي تؤدي عملياً إلى جعل التحكيم الـدولي غيـر مرتبط بأي قاض معين، وبالتالي إلى إضعاف الدور الذي يؤديه مكان التحكيم.

   ولا بد من الإشارة إلى أن المحاكم في عدة دول أخرى قد سنحت لها الفرصة للتطرق إلـى هـذه الإشكالية أي إشكالية منح الصيغة التنفيذية للقرارات التحكيمية التي تم إبطالها في مكان التحكيم. وفـي مرحلة من المراحل لاقى التوجه الذي يعتمده الاجتهاد الفرنسي بعـض الأصـداء فـي دول أخـرى کالولايات المتحدة الأميركية وهولندا. ولكن الاجتهاد في هذه الدول، لم يأخذ – حتى الآن على الأقـل - بالحل الذي يعتمده الاجتهاد الفرنسي بحذافيره. ويبدو أن التوجه الحالي في الولايات المتحدة وبريطانيـا وحتى في هولندا، هو رفض منح الصيغة التنفيذية للقرار التحكيمي الذي يتم إبطاله في البلد الـذي يقـع فيه مكان التحكيم، شريطة أن يكون القرار القضائي الذي قضى بالإبطال يتحلى بحـد ذاتـه بالـصفات التي تجعل إمكانية الاعتراف به أو منحه الصيغة التنفيذية متوافرة. وبعبارة أخرى، فإن التوجه الحـالي في هذه الدول الثلاث يؤدي عمليا إلى إمكانية الأخذ بما يعتمده الاجتهاد الفرنسي فـي الحـالات التـ يكون فيها القرار القضائي الذي قضى بإبطال القرار التحكيمي مشوبا بعيب أو بخلل يمنع الاعتراف بـه أو منحه الصيغة التنفيذية. إلا أن محاكم دول أخرى رفضت رفضاً قاطعاً الـسير فـي التوجـه الـذي يعتمده الاجتهاد الفرنسي ومنها على سبيل المثال في كانون الأول 2015 المحاكم البرازيلية.

   هذا ولا بد من الإشارة إلى أنه إضافة إلى موقف الاجتهاد الفرنسي من موضوع القـرارات التي يتم إبطالها في البلد الذي يقع فيه مكان التحكيم، فإن القانون الفرنسي بعد التعديل الذي طرأ عليه عام 2011، يتضمن أيضاً عدداً من النصوص التي تصب في خانة جعل التحكيم بدون رابط جغرافي معين. ومن هذه النصوص مثلا النص الذي يسمح للأطراف بالتنازل مسبقاً عن الطعـن عن طريق الابطال بالقرارات التحكيمية الدولية الصادرة في فرنسا (المادة 1522 مـن قـانون الإجراءات المدنية الفرنسي)؟ والنص الذي يسمح للأطراف باختيار القاضي المؤازر، بحيـث لا يكون هذا الأخير بالضرورة القاضي المؤازر المختص في مكان التحكيم في فرنسا (المادة 1505 من قانون الاجراءات المدنية الفرنسي).

   ولكن، وحتى في فرنسا – وهي الدولة الأكثر تبنيا لمفهوم استقلالية التحكيم الدولي والأكثـر تقليصاً لأهمية الدور الذي يؤديه مكان التحكيم – فإن هذا المكان – كما هو الحـال فـي الـدول الأخرى، يرتب مفاعيل قانونية مهمة. والواقع أن التحكيم الدولي، ومهما كانت درجة استقلاليته لا يمكن أن يكون فعالاً في العالم الذي نعيش فيه دون مؤازرة الدول.

ثانياً- النتائج القانونية التي تترتب على اختيار مكان التحكيم:

   في موازاة التوجه المشار اليه أعلاه، والذي يؤدي إلى إضعاف الدور الذي يؤديـه مكـان التحكيم في مجال التحكيم الدولي، فإنه يبقى لمكان التحكيم دور مهم لا يمكـن التغاضـي عنـه فبالرغم من الحرية الواسعة التي يتمتع بها الأطراف في مجال التحكيم الدولي، وبالرغم مـن أن المحكم ليس قاضياً نظامياً، ولا يمكن بالتالي أن يكون ارتباطه بالدولة التي يجلس فيها كارتبـاط القاضي النظامي بهذه الدولة، فإن اختيار مكان التحكيم من شأنه ترتيب مفاعيل قانونية مهمة لا بدّ للأطراف من أخذها بعين الاعتبار.

   فمعظم القوانين المتعلقة بالتحكيم تعتبر مكان التحكيم بمثابة العنصر الذي يؤمن الربط بـين التحكيم والمنظومة القانونية لدولة معينة أي قوانين هذه الدولة ومحاكمها.

   فالعديد من الدول تحدد مجال تطبيق قوانينهـا المتعلقـة بـالتحكيم مـن الناحيـة المكانيـة، مستندة إلى معيار المكان أي مكان التحكيم. ومن ضمن هذه النصوص قانون اليونسيترال النموذجي المتعلق بالتحكيم التجاري الدولي، علماً أن عدداً قليلاً من الدول التي اعتمدت هذا القانون قد تبنـت رابطاً آخراً يستند إلى إرادة الأطراف، إلى جانب الرابط المكاني المسند إلى مكان التحكيم.

   وبعبارة أخرى، فإن معظم القوانين المتعلقة بالتحكيم السارية المفعول في دول العـالم، وإن كانت تسمح للأطراف باختيار أصول خاصة لتشكيل الهيئة التحكيمية، وباختيار إجراءات التحكيم أو النصوص التي تخضع لها هذه الإجراءات، فإنها تعتبر أن بعض المبادىء الأساسية كتلـك المتعلقة بعدد المحكمين أو بمبدأ الوجاهية لا يمكن للأطراف أو للمحكمين عدم تطبيقها. كمـا أن معظم هذه القوانين تعتبر أن قانون مكان التحكيم يطبق بشكل استطرادي على المسائل الاجرائية، إذا لم يتفق الأطراف على خلاف ذلك.

   وهكذا، ففي العديد من الأحيان يؤدي تحديد مكان التحكيم في دولة معينة إلى إلزام المحكـم باحترام قوانين هذه الدولة المتعلقة بالتحكيم الدولي أو على الأقل المبادئ الأساسية التـى تـنص عليها هذه القوانين باعتبارها تشكل بالنسبة إليه الـ 10Lex arbitri

  ولكن، الأهم من ذلك أن معظم النصوص السارية في دول العالم، تعتبر أن مكان التحكيم هو المكان الذي يمكن فيه الطعن في القرار التحكيمي والمكان الذي يمكن فيه اللجوء الـى القـضاء النظامي لمؤازرة التحكيم.

   وحتى القانون الفرنسي الذي يسمح للأطراف بإخضاع الإجراءات التحكيميـة إلـى قـانون أجنبي (المادة 1509 من قانون الإجراءات الفرنسي) وبالتنازل عن حق الطعـن عـن طـريـق الابطال بالقرار التحكيمي الدولي (المادة 1522 من قانون الإجراءات الفرنسي)، فهو ينص على أن المحاكم الفرنسية هي من حيث المبدأ المحاكم المختصة بالنظر في إبطال القرارات التحكيمية الصادرة في فرنسا (المادة 1519 من قانون الإجراءات الفرنسي) بحيث أنه مهما كـان القـانون المطبق على الإجراءات، فإن على المحكمين احترام المبادىء الأساسية التي ينص عليها القانون الفرنسي، وخاصة مبدأ الوجاهية. كما أن القانون الفرنسي، وبالرغم من سماحه للأطـراف فـي مجال التحكيم الدولي باختيار القاضي المؤازر، فهو يعتبر أن هذا القاضي عندما يكـون مـكـان التحكيم الدولي في فرنسا هو من حيث المبدأ، وإذا لم يتفق الأطراف على خلاف ذلـك، رئـيس المحكمة الابتدائية في باريس (المادة 1505 من قانون الإجراءات المدنية الفرنسي). یم،

   في المحصلة، يمكن القول إنه بالرغم من التوجه الحديث الذي نلاحظه في الاجتهاد الفرنسي لجهة إمكانية منح الصيغة التنفيذية لقرار تحكيمي جرى إبطاله في دولة مكـان التحك فـإن إمكانية الفصل بشكل كامل بين مكان التحكيم والتحكيم بحد ذاته أي جعل التحكيم الدولي متحرراً من أي قيد يربطه بمنظومة قانونية وطنية لا تزال بعيدة المنال. والسبب في ذلك هو أن الـدول والدول وحدها هي التي تملك في العالم الذي نعيش فيه اليوم الاختصاص والآليات اللازمة لتنفيذ القرارات التحكيمية. فطالما أنه لا يمكن تنفيذ القرارات التحكيمية دون مساندة الدول لا يمكـن أن يصبح التحكيم الدولي حراً وطليقاً بالمطلق.