التحكيم عقد بين طرفين، عبر فيه الطرفان عن ارادتهما بحل نزاعاتهما باللجوء الى التحكيم وليس الى القضاء الوطني.
ولطرفي هذا العقد أن يتوافقا على كل التفاصيل سواء كان الاتفاق بموجب بند تحكيمي فـي العقد الاساسي أو في اتفاقية تحكيم مستقلة، وغالباً ما تتضمن الاتفاقية والتي يتم وضـعها بعـد نشوء النزاع الكثير من التفاصيل كلغة التحكيم والقانون الواجب التطبيق وطريقة تعيين المحكمين وطرق التبليغ ومكان وزمان التحكيم. أما البند التحكيمي فغالباً ما يكون مختصراً وغير شامل لكل هذه التفاصيل.
بل يأتي عادة في أسفل العقد وينص مبدئياً على عبارة معروفة بأن:
"في حـال حصول نزاع حول تفسير أو تنفيذ هذا العقـد يـحـل النـزاع بـاللجوء الـى التحكيم..."
وأحياناً يضاف اليها بعض التفاصيل كإسم المحكم أو المحكمين أو اختيار القانون الواجـب التطبيق.
ومن المعروف أنه كلما اتسعت عناصر التوافق في البند التحكيمي تجنب الفرقاء أكثر مشكلة تنازع القوانين بين أطراف العقد والخلاف حول قانون التحكيم حتى قبل أن يبدأ التحكيم.
أما فى حالة اتفاق الفريقين على احالة التحكيم الى أحد مراكز التحكيم في بند التحكيم فـإن مسألة التنازع تصبح أقل وجوداً ويصبح نظام المركز هو الواجب التطبيق.
من هنا كانت الضرورة الى تضمين البند التحكيمي ما أمكن من التوافق علـى اجـراءات التحكيم.
وان رغبة طرفي العقد ووضوح ارادتهما في تحديده هي الطريقة الفـضلى لتعيـين محـل التحكيم. وفي حال غياب ارادة الفرقاء في التعيين فإن المحكم هو الذي يحدد مكان التحكيم.
لكن ماذا في حال صدور قرار تحكيمي في غير مكان التحكيم.
وماذا في حال صدور قرار تحكيمي دون تحديد مكان صدوره؟
والمسائل المطروحة تتزايد في ظل التطور السريع لوسائل التواصل وانتشار التحكيم عن بعد.
أهمية مكان التحكيم:
لمكان التحكيم أهمية كبرى في تحديد توصيف التحكيم بين داخلي ودولي. فالمادة الاولى من قانون اليونسترال تنص على انه:
"1- ينطبق هذا القانون على التحكيم التجاري الدولي، مع مراعاة أي اتفاق نافذ مبرم بين هذه الدولة وأية دولة أخرى.
2- لا تنطبق أحكام هذا القانون بإسثناء المواد 8 و 9 و 17 حاء و 17 طاء و17 ياء و 35 و 36 الا اذا كان مكان التحكيم واقعاً في اقليم هذه الدولة.
3 - يكون أي التحكيم دولياً:
(أ) اذا كان مقر عمل طرفي اتفاق التحكيم، وقت عقد ذلك الاتفاق، واقعـيـن فـي دولتـين مختلفتين أو
(ب) اذا كان أحد الأماكن التالية واقعا خارج الدولة التي يقع فيها مقر عمل الطرفين:
1- مكان التحكيم اذا كان محدداً في اتفاق التحكيم لو طبقاه.
أي مكان ينفذ فيه جزء هام من الالتزامات الناشئة عـن العلاقـة التجاريـة، أو المكان الذي يكون لموضوع النزاع أوثق صلة به."
استناداً لهذه المادة يكون مكان التحكيم المختار هو معيار توصيف التحكـيـم بـين دولـي وداخلي.
دون الأخذ بالإعتبار جنسية الأطراف أو مكان اقامتهم كما كان معمولاً به سابقاً.
تحديد مكان التحكيم:
المادة 20 من قانون اليونسترال:
"مكان التحكيم:
1- للطرفيـن حرية الاتفاق على مكان التحكيم. فإن لم يتفقا على ذلك تولت هيئـة التحكـيم تعييـن هـذا المكـان، على ان تؤخذ بالإعتبار ظروف القضية، بمـا فـي ذلـك راحـة الطرفين.
2- استثناء من احكام الفقرة ( أ) من هذه المادة، يجوز لهيئة التحكيم أن تجتمع في أي مكـان تراه مناسباً للمداولة بين أعضائها ولسماع أقوال الشهود أو الخبراء أو طرفي النـزاع او لمعاينة البضائع او غيرها من الممتلكات، أو لفحص المستندات ما لم يتفق الطرفان علـى خلاف ذلك.
اما المادة 16 من قواعد اليونسترال فتنص على:
اذا لم يتفق الطرفان على مكان اجراء التحكيم تتولى هيئة التحكيم تحديد هذا المكان مـع مراعاة ظروف التحكيم.
2- لهيئة التحكيم تعيين محل اجراء التحكيم داخل الدولة التي اتفق عليها الطرفان ولها سـماع الشهود وعقد اجتماعات للمداولة بين اعضائها، في أي مكان تراه منـاسـبـاً مـع مراعـاة ظروف التحكيم.
3- للهيئة ان تجتمع في أي مكان تراه مناسباً."
المادة 20 المذكورة وانسجاماً مع مبدأ الحرية في التحكيم وضعت في المرتبة الاولى مكـان التحكيم المتفق عليه بين الفريقين.
ويمكن ان يتم الاتفاق في أي مرحلة من مراحل التحكيم مثلاً:
يتفق الفريقان في البند التحكيمي على ان يكون التحكيم في بلد أحدهما او في بلد محايـد او في بلد قريب او في البلد حيث ينفذ العقد، فلا قيود على حرية الطرفين في اختيار مكان التحكيم، ويمكن للطرفين اختيار مركز التحكيم كمكان للتحكيم.
اثبات ارادة الطرفين:
ان طرق اثبات اختيار الطرفين لمكان التحكيم هي نفس طرق اثبـات البنـد التحكيم التحكيمـي او الاتفاق التحكيمي اي بالكتابة.
وهنا لا بد من العودة الى المادة السابعة من اليونسترال والتي تعرف اتفاق التحكيم وشكله."
المادة السابعة: اتفاق التحكيم وشكله:
1- اتفاق التحكيم هو اتفاق بين طرفين على ان يحيلا الى التحكيم جميع او بعض النزاعات التي نشأت أو قد تنشأ بينهما بشأن علاقة قانونية محددة، سواء أكانت تعاقدية أم غير تعاقدية.
ويجوز ان يكون اتفاق التحكيم وارد في شكل بند تحكيم وارد في عقد او في شـكل اتفـاق منفصل.
2- يتعين أن يكون اتفاق التحكيم مكتوباً.
3- يكون اتفاق التحكيم مكتوباً اذا كان محتواه مدوناً في أي شكل، سواء أكان أم لم يكن اتفـاق التحكيم او العقد قد ابرم شفويا او بالتصرف او بوسيلة اخرى.
4- يستوفي اشتراط أن يكون اتفاق التحكيم مكتوبـاً بواسـطة خطـاب الالكترونـي اذا كانـت المعلومات الواردة فيه متاحة بحيث يمكن الرجوع اليها لاحقا، ويقصد بتعبيـر الخطـاب الالكتروني أي خطاب يوجهه الطرف بواسطة رسالة بيانــات، ويقصد بتعبيـر "رسـالة البيانات" المعلومات المنشأة او المرسـلة او المتلقـاة او المخزنـة بوسـائل الكترونيـة او مغناطيسية او بصرية او بوسائل مشابهة تشمل على سبيل المثـال لا الحـصر، التبــادل الالكتروني والبرق والتلكس والنسخ البرقي.
5- علاوة على ذلك، يكون اتفاق التحكيم مكتوباً اذا كان وارداً في تبادل لبياني ادعـاء ودفـاع يزعم فيهما أحد الطرفين وجود اتفاق ولا ينكره الطرف الآخر.
6- تشكل الاشارة في العقد الى أي مستند يتضمن بندأ تحكيمياً اتفاقاً تحكيمياً مكتوباً، شـريطة أن تكون الاشارة على نحو يجعل ذلك البند جزءاً من العقد.
ان هذه البنود الستة التي تطبق في اثبات العقد هي نفسها يستحب تطبيقها لإثبـات اختيـار الفريقين لمكان التحكيم.
بمعنى ان أي وسيلة كتابية سواء كانت ورقية أو الكترونية أو مغناطيسية او برقية او تلكس او حتى رسالة متلقاة او مخزنة. والشرط الوحيد هو أن تكون محفوظة ويمكن الرجوع اليها.
ويمكن ان يتم الاتفاق بين الفريقين على مكان التحكيم في مراسلة لاحقة للإتفاق التحكيمـي انما مكملة له او تلحق به.
العبارة الثانية من الفقرة الاولى من المادة 20 من قانون اليونسترال:
"....فإن لم يتفقا على ذلك تولت هيئة التحكيم تعيين هذا المكـان علـى أن ت الإعتبار ظروف القضية، بما في ذلك راحة الطرفين."
هنا أوجب القانون على هيئة التحكيم عند تحديد المكان ان تطلع على ظروف القضية وعلى ظروف الطرفين، أين يقيمان وأين هومكان عملهما وهل بامكانهما السفروالتجول والتنقل. وهـل بإستطاعتهما حضور جلسات المحاكمة التحكيمية، كما عليها الاطلاع على ظروف اعمالهما وهل ستسبب لهما خسارة كبيرة عند انتقالهما وهل الخسارة متوازية بين الفريقين.
هذا ما تقصده المادة 20 بعبارة "راحة الفريقين ".
الفقرة 2- من المادة 20 من قانون اليونسترال فرقت بين مكان التحكيم ومكان القيام ببعض اجراءات التحكيم وقد حددتها حصراً. فأجازت للهيئة الإجتماع في أي مكان للقيام بما يلي:
1- للمداولة بين اعضائها
2 – لسماع أقوال الشهود
3 –لسماع الخبراء 4
– لسماع طرفي النزاع
5 – لمعاينة البضائع او غيرها من الممتلكات
6 – لفحص البضائع
ان تحديد مكان هذه الاجراءات انما يعود لهيئة المحكمين ما لم يتفق الطرفان على غير ذلك، عنده يكون على هيئة التحكيم الإلتزام بإرادة الفريقين.
ما تؤكده هذه الفقرة أن مكان التحكيم هو غير مكان الاجراءات.
ويمكن جدا الإختلاف بين المكانين.
وبالعودة الى تعداد الإجراءات نجد انها تغطي كافة مراحل المحاكمـة كـسماع الأطـراف والشهود ومعاينة البضائع وقد تنتقل الهيئة الى حيث مكان وجود هؤلاء لسماعهم كـذلك سـماع الخبراء.
لكن هل يمكن للهيئة انتداب أحد أعضائها للقيام بأحد هذه الاجراءات المذكورة أعلاه؟
ان حرفية نص المادة 20 تمنع ذلك فالنص ذكر أنه يمكن للهيئة.
أيضاً بإمكان الهيئة اجراء المداولة في أي مكان تريده ولا يمكـن للفرقـاء تحديـد مـكـان المداولة.
وهذا ما يطبق حالياً في التحكيم عن بعد والذي يمكن تتم فيه المداولة بواسطة الانترنت.
خلاصة لما تقدم ان مكان التحكيم يحدد اما وفقاً لإرادة الفريقين الواضحة والصريحة وامـا أن تحدده هيئة التحكيم في قرارها التحكيمي كمكان لصدور القرار حتى ولو كتب القرار في مكان آخر.
وكما سبق ذكره فإن جلسات المداولة لا تعني جلسة القرار والتمييز بينهما منصوص عليـه بوضوح.
وتطرح بعض المسائل العملية والتي على هيئة التحكيم تلافيها كأن:
يتم التداول في مكان وتتم كتابة القرار في مكان آخر ويوقع القرار بواسطة البريـد او فـي أكثر من مكان.
وهل صدور قرار تحكيمي دون تحديد مكان صدوره يعرضه للإبطال؟
المادة 31 من قانون اليونسترال حسمت المسألة عندما أوجبت على هيئة التحكيم ذكر مكان التحكيم في القرار التحكيمي.
" 1- يصدر القرار التحكيمي كتابة ويوقعه المحكم أو المحكمون ويكفي في اجراءات التحكـيم التي يوقعها أكثر من محكم واحد، أن توقعه أغلبية جميع أعضاء هيئة التحكيم، شـريطة بيان سبب غيبة أي توقيع.
2- يبين في قرار التحكيم الأسباب التي بنى عليها القرار مـا لم يكن الطرفـان قد اتفقـا على عدم بيـان الأسباب أو ما لم يكن قد صدر بشروط متفق عليها بمقتضى المادة 30. 3- يبين القرار تـاريخ صدوره ومكان التحكيم المحدد وفقـاً للفقرة 1 من المادة 20 ويعتبـر قرار التحكيم صادرا في ذلـك المكـان.
4- بعـد صدور القرار، تسلم إلى كل من الطرفين نسخة منه موقـعة من المحكمـين وفقـاً للفقرة 1 من هذه المـادة" .
المـادة 35 أوردت تحت عنوان الإعتراف والتنفيذ:
"1- يكون قرار التحكيم ملزماً، يصرف النظر عن البلد الذي صدر فيه وينفذ بنـاء علـى طلب كتابي يقدم إلى محكمة مختصة، مع مراعاة أحكام هذه المادة والمادة 36."
حسمت الجدل المادة 35 المذكورة أعلاه، وصرفت النظر عن البلد الذي يصدر فيه قـرار التحكيم، بعبارة أخرى لم تمنح هذه المادة لمكان التحكيم اي أثر.
ترى هل يبطل التحكيم إذا لم يحدد مكان صدوره؟
يعتبر دولياً التحكيم الذي يتعلق بمصالح التجارة الدولية معياراً لا يتطابق مع المادة الأولـى من قانون اليونسترال التي اعتبرت ان التحكيم الدولي هو:
أ- إذا كان مقرأ عمل طرفي التحكيم، وفق عقد الإتفاق واقعين في دولتين مختلفتين.
ب- اوإذا كان أحد الأماكن التالية واقعاً خارج الدولة التي يقع فيها مقر عمل الطرفين:
1- مكان التحكيم إذا كان محدداً في اتفاق التحكيم او طبقاً له.
2- اي مكان ينفذ فيه جزء هام من الإلتزامات الناشئة عن العلاقة التجارية.
أو المكان الذي يكون لموضوع النزاع أوثق صلة به.
ج- إذا اتفق صراحة على ان موضوع اتفاق التحكيم متعلق بأكثر من دولة واحدة.
د- لأغراض الفقرة 3- إذا كان لأحد الطرفين أكثر من مقر عمل، تكون... بمقـر العمـل الأوثق صلة بإتفاق التحكيم."
كل هذه المعايير اختصرها القانون اللبناني في المادة 809 أ.م.م.
"يعبر دولياً التحكيم الذي يتعلق بمصالح التجارة الدولية."
فمعيار تصنيف التحكيم بين دولي وأهلي هو التجارة وحركة البضائع. فإذا أتت البضائع او الأعمال او الالتزامات من خارج الحدود يصبح عندها التحكيم دوليا.
هل يعتبر التعاقد مع الأشخاص أصحاب الخبرات الأجانب هو نوع من التجارة الدولية ؟
يطبق على التحكيم الدولي الحاصل في لبنان قانون أصول المحاكمات اللبناني.
حتى ان محكمة بيروت بإمكانها ان تحل محل محكمة مركز التحكيم الحاصل في الخارج.
بمعنى انه أصبح أمامنا تنازع صلاحيات بين صلاحية محكمة مركز التحكـيم وصـلاحية محكمة بيروت.
إذا اتفق الفريقان على تعيين لبنان مركزاً للتحكيم فإن قرار التحكيم الدولي الصادر في لبنان يقبل الطعن استنادا إلى المادة 819 أ.م.م
أما الاعتراف بالقرارت التحكيمية الصادرة في الخارج او في تحكيم دولي.
فالمادة 814 نصت على:
"يعترف بالقرارات التحكيمية وتعطى الصيغة التنفيذية إذا اثبت الشخص الذي يتذرع بهـا وجودها ولم تكن مخالفة بصورة واضحة للنظام العام الدولي."
في النهاية ان توحيد مصطلح مكان التحكيم في جميع القوانين هو ضرورة من أجل توحيـد المدلول وعدة من الدول تستخدم عبارة مقر التحكيم او موقع التحكيم.
كمـا ان استلهام قانون اليونسترال والذي أصبح سائداً لدى قسماً كبيراً من الدول له مردود ايجابي على طريقة توحيد الإجتهاد وتحقيق إرساء قواعد قانونية وتسمية بعيدة عن التنازع وخلق الإشكاليات من اجل تحكيم مستقر ومنتظم.