لا يوجد في قانون المرافعات المدنية العراقي ، ما يحدد المكان الذي تمارس فيه هيئة التحكيم مهامها ، وقد عرفنا أن المكان يشكل ظرفاً هاماً في الإجراء القضائي ، وكذا في الإجراء التحكيمي ، ويترتب عليه أثراً بحسب طبيعة هذا الإجراء ، ومن خلال استقراء التشريعات التي تعالج الموضوع - العراقية والمقارنة - نجد أن المشرع في هذه الدول ، والاتفاقيات الدولية ، وأنظمة التحكيم في المراكز
المؤسسية تركت لإرادة الأطراف فسحة من حرية الاتفاق على تحديد المكان الذي تتخذه هيئة التحكيم مكاناً لجلساتها ومن خلاله تتم خصومة التحكيم، وفي حال خلو اتفاق الطرفين من هذا التحديد فتنتقل هذه الحرية في التحديد إلى الهيئة ذاتها، إلا أن هذه الحرية ليست مطلقة، إذ لابد من أن تراعى الظروف المحيطة بالنزاع، ومدى عدم تعارض ذلك مع مصلحة الطرفين وحقهم في تقديم دفوعهم . وجدير بالذكر أن المادة (۲۲) من مشروع قانون التحكيم العراقي قد نصت على:
أولاً - للطرفين الاتفاق على تحديد مكان التحكيم في العراق أو خارجه، فإن لم يتفقا تولت هيئة التحكيم تحديد ذلك المكان مع مراعاة ظروف القضية وملائمة المكان لطرفي التحكيم.
ثانياً - لهيئة التحكيم الاجتماع في أي مكان تراه مناسباً للمداولة بين أعضائها أو للقيام بأي إجراء من إجراءات التحكيم بما فيها سماع أطراف النزاع أو الشهود أو الخبراء أو الاطلاع على مستندات أو معاينة بضاعة أو اموال، وفي هذه الحالة يجب تبليغ الاطراف قبل وقت مناسب من موعد الاجتماع . الملاحظ أن نظرة الدول النامية، وتوجسها من إجراء التحكيم خارج بلدها، الأمر الذي دفع العديد من هذه الدول الابتعاد عن اتفاقيات التحكيم الدولية، كما في العراق مثلا ، فعلى الرغم من أن اتفاقية الاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية وتنفيذها، الشهيرة باتفاقية نيويورك، كانت قد وقعت عام ١٩٥٨، إلا أن الخشية مما تحمله مثل هذه الاتفاقيات من الابتعاد عن قضاء الدولة الذي يتهمه رأس المال بالتحيز، إذ ترى هذه الدول أن التحكيم يتعارض مع استقلالية قضائها وحصانته، وهذا التخوف يقابله تخوف من الطرف الآخر الأجنبي الذي لا ثقة له بإجراء التحكيم في الدول النامية، ووصولاً إلى الحصول على قرار يحقق لهذا المال أكبر قدر من الأرباح والفوائد على حساب الدولة النامية، باتت الاطراف الأجنبية، وبدفع من رأس المال فيها، تتمسك بالتحكيم، لان القاعدة التي يقوم عليها التحكيم لتحقيق العدالة من أجل الاطراف، بعكس ما يهدف له قضاء الدولة بتحقيق العدالة من أجل القانون فهي لم تكتف بسحب البساط من تحت سلطة قضاء الدولة، إلى هيئات التحكيم بل أنها تسعى من خلال التشريع وأنظمة المراكز التحكيمية سحب التحكيم خارج حدود هذه الدول إلى مؤسسات تحكيميه أجنبية ، وصولاً لإجراء التحكيم خارج الإطار الجغرافي لهذه الدول لتحقيق غايات غير معلنة من خلال إيجاد هذه التشريعات أو الانظمة المؤسساتية للتحكيم، ولا أدل على ذلك من امتناع دول أمريكا اللاتينية من الانضمام لاتفاقيات التحكيم ومنها اتفاقية واشنطن على الرغم من التطمينات المعطاة لهذه الدول.
وامتناع ليبيا والعراق من الانضمام إلى اتفاقية نيويورك لسنة ١٩٥٨ لحد الآن. أما في قواعد الأونسيترال، فقد نصت المادة (۱۱۸) منها، على أن الأصل في تحديد مكان التحكيم هو اتفاق الاطراف، وفي حال عدم الاتفاق تتولى الهيئة تعيين المكان آخذة ظروف القضية في الحسبان، ويعد قرار التحكيم صادراً في مكان التحكيم، وأجازت (ف۲) منها اجتماع هيئة التحكيم في أي مكان تراه مناسباً، ويجوز لها ايضاً أن تجتمع في أي مكان مناسب، لأي غرض آخر، بما في ذلك عقد جلسات استماع، مالم يتفق على خلاف ذلك ، وقد جاءت المادة (۲۲) من قانون الأونسيترال، متضمنة احكاماً مشابهة لنص المادة (۱۸) من القواعد مع
اختلاف بسيط في الصياغة، ومن النصين المذكورين آنفاً، يتبين الآتي: أ- لا يوجد الزام على هيئة التحكيم، بموجب قواعد الأونسيترال وقانونها، بإبلاغ طرفي النزاع بتعيين أي مكان لاحق، إذا ما أرادت الهيئة الانتقال اليه للاستماع إلى شهود، أو إجراء معاينة، أو غير ذلك، مادام الاطراف لم يتفقوا على خلاف ذلك.
ب - عدت القواعد أن مكان صدور الحكم هو مكان التحكيم، المتفق عليه أو المعين من الهيئة.
يترتب على تحديد مكان التحكيم آثار هامة كالآتي:
١- تظهر أهمية تحديد مكان التحكيم في معرفة مدى إمكانية تنفيذ الحكم المذكور في دولة غير الدولة التي صدر فيها، وهذا هو الغالب في أحكام التحكيم.
2- من تحديد مكان التحكيم يمكن تحديد المحكمة المختصة في أمور تخص التحكيم، كتسمية هيئة التحكيم عند عدم اتفاق الأطراف على ذلك أو الحيلولة دون التسمية لأسباب خارجة عن الارادة.
ومن خلال تحديد مكان التحكيم يمكن الاستعانة بالقضاء في الدولة التي يجري على أرضها التحكيم . ويرى جانب من الفقه، أن على هيئة التحكيم الالتزام بالقواعد الإجرائية في قانون مكان التحكيم بل يلتزمون بذلك حتى لو اتفق أطراف النزاع على اختيار إجراءات أخرى، فاتفاق أطراف النزاع أو هيئة التحكيم على مكان تحكيم خارج بلد ما، ما هو إلا تعبير عن انصراف إرادتهم إلى تلك القواعد الإجرائية، إذ لا يسير التحكيم بمعزل عن هذه القواعد، والتي يبقى لها سلطة الرقابة على صحة الإجراءات ، وهذا الرأي ينسجم مع قواعد التنازع، التي نصت صراحة على ذلك، إذ نصت المادة (۲۸) من القانون المدني العراقي على: «قواعد الاختصاص وجميع الإجراءات يسري عليها قانون الدولة التي تقام فيها الدعوى أو تباشر فيها الإجراءات» ، ولا يوجد ما يحول دون تطبيق هذا النص إلا إذا وجد نص خاص، على خلاف ذلك أو معاهدة دولية نافذة في العراق وفي مصر. وقد جاء في قرار للقضاء المصري: أنه ولأن كان قانون التحكيم يتمتع بخواص مميزة عن غيره من القوانين فأن هذا القانون لا يستقل عن غيره من فروع القانون الأخرى استقلالاً تاماً خاصة قانون المرافعات، ولذلك فأنه عند نقص قواعد التحكيم الإجرائية، فمن المتصور اللجوء ولو ضمناً إلى قواعد المرافعات بوصفه القانون الإجرائي الأم - بحسبان أن نصوص قانون المرافعات تعد هي العامة في الإجراءات لشمولها كل أنواع النزاعات إلا ما استثني منها الأحكام وهنا لابد من التفرقة بين فرضين :
الأول: اتفاق أطراف النزاع على تحديد المكان الذي تمارس فيه هيئة التحكيم مهامها، وهنا يلزم على هيئة التحكيم الالتزام بذلك، وإذا ما استجدت أسباب تدعو هيئة التحكيم إجراء المرافعة خارج المكان المتفق عليه، فيتوجب على الهيئة الحصول على موافقة الأطراف بتغيير مكان المرافعة وأن يتم ذلك تحريرياً، ويمكن أن يكون بمحضر جلسات التحكيم.
الثاني: عدم وجود اتفاق لأطراف النزاع على تحديد مكان إجراء المرافعات فهنا الذي نراه هو أن يتم ذلك في حدود الاختصاص المكاني للمحكمة المختصة في النزاع، والذي يكون غالباً مكتب رئيس هيئة التحكيم أو مكتب أحد أعضاء الهيئة، تسهيلاً للطرفين في الحضور إلى جلسات المرافعة ومتابعة مراحل الخصومة التحكيمية.
قد يبرز تساؤل عن الحكم، فيما لو قامت هيئة التحكيم بإجراء جلسات
المرافعة خارج منطقة اختصاص المحكمة المكاني، أو في خارج العراق، هل الاجراءات باطلة أم صحيحة؟ الجواب على هذا لابد من التفرقة بين فرضين أيضاً:
1- أن يكون طرفا النزاع موجودين في جلسات المرافعة الحاصلة خارج المنطقة المذكورة، فهنا يعد وجودهم موافقة على تغيير المكان، فضلاً أن الغاية من بطلان الإجراء المذكور إنما هو لحماية حقوق الأطراف، وهذا الغرض تحقق بحضورهم، وفي قانون المرافعات المدنية والتجارية المصري، قاعدة قد تبدو بديهية وهو ما نصت عليه المادة (۲۰) من القانون المذكور . وقد أخذ المشرع العراقي بهذه القاعدة في جزئية من إجراء ات الخصومة فقد نصت المادة (۲۷) من قانون المرافعات المدنية العراقي على: «يعتبر التبليغ باطلاً إذا شابه عيب أو نقص جوهري يخل بصحته». كما في حكم المادة (۲۲) من قانون المرافعات المدنية العراقي حددت أن يكون التبليغ قبل ثلاثة أيام من موعد المرافعة عدا الامور المستعجلة، فعلى وفق حكم المادة (۲۷) آنفاً فأن التبليغ يعد باطلاً لو حصل في غير دعاوى القضاء المستعجل، بأقل من ثلاثة أيام إلا أن المادة (۷۳) من القانون المذكور نصت على يزول بطلان التبليغ إذا حضر المطلوب تبليغه أو من يقوم مقامه في اليوم المحدد » . إلا أن من حق هذا الخصم الذي جرى تبليغه بصورة غير صحيحة، أن يطلب تأجيل المرافعة لمدة لا تقل عن الايام الثلاثة آنفا لتدبير أموره أو الاتصال بوكيله إن كان هو الحاضر، أو الاتصال بموكله، إن كان الحاضر عنه وكيل قانوني.
٢- تغيير مكان جلسات التحكيم دون حضور طرفي النزاع أو حضور أحدهما، فهنا يميز بين احتمالين أيضاً :
أ- أن يكون الإجراء الذي قامت به هيئة التحكيم، إجراء غير مؤثر، كما في ربط تقرير خبير، أو ربط محضر إنابة، فهذا لا يؤثر على حقوق الخصم وبإمكانه الاطلاع عليها، ولا يتطلب الأمر الابطال كما نراه
ب- أن يكون الإجراء منتجاً في الخصومة، ومؤثراً فيها تأثيراً مباشراً، كالاستماع إلى شهود، أو دعوة خبير للمناقشة، أو إجراء المعاينة على المال المتنازع عليه، أو أي إجراء تراه هيئة التحكيم مؤثراً، فهنا يعد الاجراء باطلاً، ويتوجب على هيئة التحكيم إعادته في الموعد الجديد الذي يبلغ به الطرفان، أو الغائب منهما ، لأن حالة الإبطال التي نراها، إنما تسري على كل إجراء حصل في هذه الجلسة بما فيها التأجيل إلى تاريخ لاحق.