الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • اجراءات خصومة التحكيم / بدء اجراءات التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 39-40 / الأركان الأساسية للعملية التحكيمية

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 39-40
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    85

التفاصيل طباعة نسخ

مقدمة:

  نظراً للتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي يعرفها عالمنا المعاصر، ونظراً لارتفاع عدد القضايا المطروحة على القضاء، تدعو كل دولة إلى توسيع المنظور إلى العدالة وتعميق الدراسة حول مستقبلها. فرغم وجود المزايا المعهودة للقضاء من سيادة القانون وإشاعة الثقة، إلاّ أنّ جُلّ الدول تدعو إلى تشجيع الوسائل البديلة.

ويشكِّل التحكيم أحد أهم الوسائل البديلة لحل المنازعات المدنية والتجارية لانسجامه مع إيقاع البيئة الدولية للأعمال المتغيّر دوماً. فهو ليس بنزعة ظرفية أو حادثة مصادفة أو ترف علمي أو إضافة غير لازمة، بل هو وليد ظروف وثمرة معطيات متصلة الحلقات جعلت منه حقيقة من العسير تجاهلها أو غضّ الطرف عنها ، حيث يشعر الداخل إلى أعماقه دقة فلسفته وأسرار قوته وتمايز أركانه وأبعاد معانيه ومحورية دوره، ممّا أكسبه مكانة علمية وعملية لافتة، تجلّت بكثافة التوجه إليه محلياً وإقليمياً ودولياً، وخاصة في العصر الحاضر . وحيث أنه، وكما هو الحال في القضاء، فإنّ الخصومة في التحكيم – أي مجموعة الأعمال الإجرائية التي يقوم بها المحكم والأطراف بقصد التحقّق من الادعاءات المطروحة والحصول على الحكم التحكيمي – يجب أن تكون عادلة .

هذه العدالة يترجمها إعمال الأركان الأساسية الآتية

الركن الأول– وجود اتفاق على التحكيم.

الركن الثاني– التبليغ والوجاهية والمساواة.

الركن الثالث– جلسات التحكيم والحضور والغياب.

 الركن الرابع– التزام هيئة التحكيم الإطار الشخصي لخصومة التحكيم.

الركن الخامس– التزام هيئة التحكيم الإطار الموضوعي للنزاع.

الركن السادس– التزام هيئة التحكيم مناقشة الدفوع والأدلة.

الركن السابع– التزام هيئة التحكيم المداولة.

الركن الثامن– التزام هيئة التحكيم إصدار حكم تحكيمي سليم.

ومن ثم الخلاصة.

 

الركن الأول– وجود اتفاق التحكيم:

إنّ اتفاق التحكيم  هو نقطة البداية في مسيرة التحكيم، ومن هنا كان تركيز الفقه على دراسته باعتباره حجر الزاوية والأساس الصلب في العملية التحكيمية ومنه يرجع إلى إرادة أطراف النزاع في إحالة الخلاف إلى التحكيم .

 واتفاق التحكيم هو في الحقيقة اتفاق شامل لكل متطلبات التحكيم، لا يقتصر عادة على تقرير الالتجاء إلى التحكيم في شأن نزاع معيّن، وإنما يتولّى فوق ذلك تنظيم كل ما يتعلّق بهذا التحكيم، ممّا يكون لطرفي التحكيم حرية الاتفاق عليه ، كتشكيل هيئة التحكيم، ورسم حدود ولايتها، واختيار الإجراءات التي تتّبعها، وتحديد القواعد الموضوعية الواجبة التطبيق على النزاع، على التفصيل وفي الحدود السابق إيضاحها. وهي بذلك تتميّز في مضمونها عن شرط التحكيم الملحق بعقد معيّن، والذي يقتصر عادة على تقرير مبدأ الالتجاء إلى التحكيم لحسم المنازعات التي قد تنشأ عن هذا العقد كلها أو بعضها .

واتفاق التحكيم بهذا المفهوم قد يعقد تنفيذاً لشرط تحكيم سبق الاتفاق عليه قبل قيام النزاع، بشرط مدرج في عقد معيّن من العقود ، أو بالإحالة في هذا العقد إلى وثيقة أخرى تتضمّن شرط التحكيم، وفي هذه الحالة يكون مبدأ الالتجاء إلى التحكيم مقرراً من قَبْل، وتكون وظيفة اتفاق التحكيم هي استكمال العناصر اللازمة لإعمال هذا التحكيم الذي سبق تقريره، كاختيار هيئة التحكيم، وتعيين النزاع الذي يطرح عليها، وغير ذلك من المسائل المتعلّقة بالإجراءات أو بالقواعد الموضوعية التي تتخذ أساساً لحكم التحكيم . وقد يُعقد اتفاق التحكيم لتقرير مبدأ الالتجاء إلى التحكيم وتنظيم كيفياته في آن واحد ، بمناسبة قيام نزاع فعلي بين الطرفين، دون أن يكون هناك شرط تحكيم متفق عليه في العقد الباعث للنزاع .

والجدير بالذكر أنّه وفقاً للمادة 25 من اتفاقية الـ ICSID فالقبول بالتحكيم يرد في أغلب الأحيان ضمن بند تحكيمي مدرج في عقد الاستثمار. وهذا ما هو معتمد عندما تكون صلاحية المركز نابعة كلياً من علاقة عقدية بين دولة مضيفة للاستثمار ومستثمر.

هذه الحالة معتمدة، إذ لا يتم طرح الغالبية الكبرى للحالات أمام المركز على أساس عقدي، وإنما بالاستناد إلى اتفاقية حماية استثمار ثنائية أو متعدّدة الأطراف، وتبعياً بالاستناد إلى تشريع وطني. وفي هذه الحالة يحصل قبول الفرقاء في مرحلتين: تعطى الموافقة من قبل الدولة المضيفة للاستثمار، وذلك في تشريعها أو بمقتضى اتفاقية حماية الاستثمار، حيث تعلن موافقتها على المثول أمام المركز في كل استثماراتها أو في جزء منها. وفي وقت لاحق، فإنّ المستثمر الذي يمكنه التمسّك بما نص عليه التشريع أو الاتفاقية في هذا المجال، يمكنه رفع القضية أمام المركز للنظر في النزاع القائم بينه وبين الدولة المضيفة وفقاً لآلية تسوية المنازعات المحدّدة في اتفاقية واشنطن. بحيث أنّ انتفاء إرادة كل من الدولة التي قبلت باختصاص المركز الدولي في قانونها أو في الاتفاقية وإرادة المستثمر، إنما تحصل عندما يطلب هذا المستثمر من المركز أن يضع يده على النزاع بموجب استدعاء تحكيمي (المادة 36) وبالتالي يكون بذلك قد أبدى قبوله باختصاص المركز.

القبول هنا غير قابل للرجوع وينبع من نصوص اتفاقية واشنطن (مادة 25/1 و70 و71 و72) وإذا كان الاختصاص ناشئاً عن بند تحكيمي وارد في عقد، فالدولة لا يمكنها أن ترجع عنه بإرادتها المنفردة (مادة 25/1)، وإذا كانت الموافقة قد صدرت في اتفاقية لحماية الاستثمارات أو في قانون وطني، فإنّ كل النزاعات التي نشأت والمتعلّقة باستثمارات سابقة للقرار المنفرد الصادر عن الدولة تكون خاضعة لاتفاقية التحكيم التي لا تزال سارية في التاريخ الذي جرى فيه التقدّم باستدعاء التحكيم أمام مركز الـ ICSID.

والسؤال: ما هو الأثر المترتّب على عدم وجود اتفاق تحكيم ؟ يرى الفقه  وجوب توافر اتفاق التحكيم لينعقد الاختصاص لهيئة التحكيم. وفي ذلك يقول الأستاذ فوشار  أنّ الرضا يكمن في اتفاق التحكيم حيث توجد الإرادة المشتركة للأطراف في أن تخضع تسوية المنازعات الناشئة بينهم أو التي يمكن أن تنشأ لقاضٍ خاص أو لعدد من القضاة، لذلك يحرص المحكمون والقضاء الوطني المكلف برقابة حكم التحكيم على التحقّق من وجود الرضا في اتفاق التحكيم، والتأكّد أيضاً قبل الحكم من صحة هذا الرضا.

وفي جميع الأحوال، يجب أن تكون إرادة الأطراف واضحة وجازمة في الإحالة إلى التحكيم ، بقرار حاسم وملزم، وإلاّ لا يعتبر ذلك من قبيل اتفاق التحكيم. ولكن ليس بالضرورة استخدام كلمة "تحكيم أو كلمة محكم" في الاتفاق ليعتبر اتفاقاً تحكيمياً، بل يمكن استخدام عبارة أو عبارات أخرى، بما يدل على قصد الطرفين في تسوية النزاع عن طريق التحكيم ، والعكس صحيح، قد تكون هنالك إشارة الى التحكيم أو المحكم في الاتفاق، ولكن بقصد التوفيق بين الطرفين، وليس لإصدار حكم نهائي ملزم لهما، كالقول مثلاً أي خلاف بين الفريقين يحال الى التحكيم أمام محكم منفرد، لتقريب وجهات نظرهما حول هذا الخلاف، أو لتسويته صلحاً إذا أمكن ، وكما هو معروف، فإن العبرة في تفسير العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني .

ولقد ذهبت محكمة استئناف باريس إلى القضاء بأنه إذا كان على محكمة التحكيم أن تفصل في مسألة اختصاصها في حالة تشكيك أحد الأطراف في هذا الاختصاص، فإنّ التقدير الذي تجريه لسلطتها القضائية ليس تقديراً سيادياً مطلقاً، إذ يخضع هذا التقدير لاختصاصها من قِبَلها، لرقابة المحكمة المعروض عليها الطعن على الحكم التحكيمي بالبطلان . والجدير بالذكر أنّ التمسّك بعدم وجود اتفاق على التحكيم، يراعى في ذلك لإبطال حكم التحكيم أن يكون طالب البطلان غائباً عن جلسات التحكيم أو حاضراً ومتمسكاً بانعدام وجود اتفاق تحكيم، لأنّ حضوره وعدم اعتراضه على الاستمرار في إجراءات التحكيم يُعدّ رضاءً منه على مبدأ اللجوء إلى التحكيم ويعادل وجود اتفاق تحكيم، ويُعدّ هذا الرضاء معادلاً لشرط الكتابة في اتفاق التحكيم على سند وجود محضر موقّع من الخصوم والمحكم.

ومن المستقر عليه قضاءً للتمسّك بالبطلان في حالات خروج هيئة التحكيم عن نطاق الاتفاق سواء بالحكم في مسألة لم يشملها الاتفاق أو الحكم في مسألة أزيد ممّا تضمّنها هذا الاتفاق، أن يعلن الطرف الراغب في التمسّك بالبطلان اعتراضه أمام هيئة التحكيم عن هذه المخالفة في وقت معقول ، ما لم تتعلّق المخالفة بالنظام العام . وبذلك إذا أثبت الطرف الراغب في التمسّك بخروج هيئة التحكيم عن نطاق هذا الاتفاق، رغم اعتراضه فله الحق في رفع دعوى البطلان، حيث لا يجوز للمحكمة التدخل من تلقاء نفسها لعدم تعلّق ذلك بالنظام العام، ولا يشمل البطلان في هذه الحالات إلاّ المسائل غير المتفق عليها أي التي جاءت بالحكم، ولم يشملها الاتفاق ، وإذا كان الحكم غير قابل للتجزئة فيشمل البطلان الحكم بكامله.

والجدير بالذكر أنّ اتفاق التحكيم قد يسقط قبل الالتجاء إلى التحكيم، كما إذا حدّد الاتفاق موعداً لعرض النزاع على التحكيم وانقضى الميعاد، فيسترد كل طرف حقّه في الالتجاء الى القاضي الطبيعي – وإذا حدد ميعاد لرفع الدعوى التحكيمية في جزء من النزاع دون باقي موضوعات العقد، فإنّ سقوط الاتفاق لا يشمل سوى الجزء المحدّد له تاريخ معيّن دون باقي موضوعات العقد. مثال ذلك أن يُتفق على تقديم الدعوى التحكيمية خلال شهرين من تسليم البضاعة في شأن عيوب البضاعة فقط، فإنّ شرط التحكيم يظل سارياً في باقي موضوعات العقد، كما إذا تعلّق النزاع بفسخ العقد أو تحديد الثمن، وإذا كان اتفاق التحكيم في شكل مشارطة بعد حدوث النزاع وحدّد مدّة لرفع دعوى البطلان، فإنّ مرور المدّة دون رفعها يشمل كامل الموضوع . وأحياناً أخرى، قد يسقط اتفاق التحكيم إلاّ أنه يعود الى الحياة ثانية، مثال ذلك، أن يكون هناك عقد يتضمّن شرط تحكيم، وفي ما بعد، يبرم الطرفان اتفاقية تسوية بينهما، تتضمّن شرطاً فاسخاً تتوافر فيه الشروط القانونية، مفاده أنه في حال إخلال أحد الفريقين بالاتفاقية الجديدة تعتبر هذه الاتفاقية ملغاة. ويطبّق العقد السابق. في هذا المثال، يعود العقد السابق الى الحياة بما فيه شرط التحكيم، ويكون الاختصاص في تسوية المنازعة للتحكيم، دون حاجة الى إبرام اتفاق تحكيم جديد .

وتحدّد التشريعات الوطنية عادة أسباب بطلان حكم التحكيم وطبقاً لقانون التحكيم السوري رقم 4 لعام 2008، فقد حدّدت المادة (50) حالات أسباب البطلان، على سبيل الحصر ، ويؤكد القضاء السوري بحكم المادة السالفة الذكر، ولا يقضى ببطلان حكم التحكيم إلاّ في الحالات المحدّدة حصراً بهذه المادة. وفي شأن أسباب البطلان التي تتعلّق باتفاق التحكيم فهي محدّدة وتتمثّل في عدم وجود اتفاق تحكيم وبطلانه وسقوطه بانتهاء مدّته والفصل في مسائل لا يشملها الاتفاق أو تجاوز حدوده. ولهذا فإنّ قيام المحكم بالفصل في الدعوى دون وجود اتفاق على التحكيم يُعدّ سبباً من أسباب القضاء ببطلان حكم التحكيم وسبب وجود هذا الطريق من طرق الطعن بالبطلان هو السماح للقاضي بالتأكد من انعقاد الاختصاص للمحكم، ومن الضروري أن يعترف للقضاء العادي بالسلطة في مراقبة هذا الاختصاص حيث يُقرّر بطلان الحكم التحكيمي إذا قدّرت محكمة التحكيم بشكل خاطئ تحقّق اختصاصها.

وهذا يعني أنه يتعيّن على المحكمة أن تفحص مسألة وجود أو صحة اتفاق التحكيم، والذي بموجبه صدر حكم التحكيم المعروض عليها في دعوى البطلان.

ولعل من أهم صور عدم وجود اتفاق على التحكيم هي عدم توقيع أحد الأطراف على العقد الذي تضمّن شرط التحكيم على أنه لا يشترط أن تكون هذه الإرادة صريحة، وإنما يمكن أن تكون ضمنية تُستنج من معاملات الأطراف السابقة ووضعهم شرط التحكيم في عقود من نفس نوع العقد الذي أغفل فيه ذكر شرط التحكيم لحل ما ينشأ عنه من منازعات طالما أنه لم يُستنتج من ظروف هذا العقد وملابساته أنهم تعمّدوا إسقاط هذا الشرط بإغفاله كونهم قصدوا عدم اللجوء إلى العملية التحكيمية .

الركن الثاني– التبليغ  والوجاهية  والمساواة:

عندما أجازت التشريعات نظام التحكيم تجسيداً لمنطلقات ايديولوجية ولمواجهة ضرورات عملية خرجت عن الأصل العام، وهو أنّ العدالة وظيفة من وظائف الدولة، ولكن وعلى الرغم من أنّ المحكم شخص خاص، يستمدّ سلطاته من إرادة أطراف الخصومة واتفاقهم على منحه الاختصاص، بالفصل في المنازعة المعروضة عليه، إلاّ أنه عند ممارسته هذه المهمة يُعدّ بمثابة قاضٍ، يؤدي ذات الوظيفة المنوط بالقاضي القيام بها، ألا وهي الفصل في المنازعة المعروضة أمامه بحكم ملزم للخصوم، ويتقيّد بالمبادئ والقواعد الأساسية التي تنظّم الخصومة بين الأطراف، وفي مقدمها احترام حق التبليغ والإعلان.

ولهذا، فإذا تعذّر على أحد طرفي التحكيم تقديم دفاعه بسبب عدم إعلانه إعلاناً صحيحاً بتعيين المحكم مثلاً، أو بإجراءات التحكيم أو لأي سبب آخر خارج عن إرادته، أو إذا قامت هيئة التحكيم بإصدار حكم التحكيم على الرغم من عدم التبليغ والإعلان، فإنّ هذا الحكم يكون مختلاً ومخالفاً لأصول التحكيم .

ويعتبر مبدأ المواجهة مبدأ عالمياً يشتمل مضمونه على حق كل خصم في العلم بكل ما هو موجّه ضده من ادعاءات من طلبات أصلية وطلبات عارضة وتمكينه بعد هذا العلم من الدفاع عن نفسه بتقديم كل الوسائل القانونية والواقعية لتفنيد كل ما هو موجّه إليه. ومن هنا يتعيّن أن تكون المواجهة حاضرة ومسيطرة على كافة إجراءات الخصومة التحكيمية، كالحال في كل خصومة، لأنّ المواجهة هي عصب كل عمل إجرائي لا يمكن فصلها عن فكرة العدل .

وقد ذهب القانون الفرنسي إلى تقرير أنّ مبدأ المواجهة بين الأطراف، من الأهمية بمكان على نحو يصلح معه أن يكون سبباً مستقلاً  من أسباب البطلان، بل تذهب محكمة النقض الفرنسية إلى وصف هذا المبدأ بأنه مبدأ أساسي لا غنى عنه لسير الدعوى على نحو عادل . كذلك فإنّ القضاء يسير في الاتجاه السابق نفسه، مستعيناً بفكرة احترام حقوق الدفاع. فلقد لاحظ أحد الأحكام الصادرة عن محكمة استئناف باريس أنّ غاية مبدأ المواجهة هو احترام حقوق الدفاع. ويتصل مبدأ المواجهة أيضاً بفكرة النظام العام الدولي، فالمواجهة ليست إلاّ إحدى مقتضيات النظام العام الإجرائي . ولعل ذلك هو السبب الذي من أجله ذهبت محكمة استئناف باريس في حكمها الصادر في 27 نوفمبر 1987 إلى الإشارة إلى احترام المبادئ الأساسية في المواجهة في ظل المفهوم الفرنسي للنظام العام الدولي.

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ مبدأ المواجهة يوجب على هيئة التحكيم ضرورة إعلان القرارات أو الأحكام الصادرة باتخاذ إجراء معيّن من إجراءات الإثبات إلى من لم يكن حاضراً من الخصوم جلسة النطق بها وإعلان الخصوم بالأوامر الصادرة بتعيين بدء إجراء ما، وإلاّ كان العمل باطلاً.

وفي قرار لمحكمة استئناف بيروت – الغرفة الأولى رقم 10 تاريخ 5/10/2011 جاء فيه:

"الاجتهاد اعتبر أنّ خرق القرار التحكيمي حق الدفاع العائد للخصوم قد يحصل في مرحلة إعداد القرار، وقد قضى بأنه لا يجوز للمحكم إسناد قراره إلى سبب قانوني من دون أن يضعه مسبقاً قيد المناقشة العلنية بين الخصوم، لئلا يؤلّف ذلك خرقاً لحق الدفاع ويعرِّض القرار التحكيمي للإبطال.

من المسلّم به قانوناً أنه يعود إلى المحكم اسناد قراره إلى القواعد القانونية التي يراها مناسبة، إلاّ أنه عليه في هذه الحال أن يضع تلك القواعد قيد المناقشة العلنية بين الطرفين".

وفي قرار لمحكمة استئناف لبنان الشمالي الغرفة الخامسة رقم 95 /2010 تاريخ 28/1/2010 جاء فيه: "وحيث أنّ التذرّع بخرق حق الدفاع يجب أن تتوافر له دلائل جازمة تحمل على التأكيد أنّ اللجنة قد منعت فعلاً طالبة الإبطال من ممارسة حقوقها الأساسية...".

"وحيث أنه ورد في القرار المطعون فيه أنّ طالبة الإبطال تبلّغت كافة المستندات والمذكّرات واللوائح والكتب، ولم تبيِّن هذه الأخيرة المستندات التي أخذ بها القرار التحكيمي، ولم يتم تبليغها إياها، حتى يعاب على اللجنة أنها خالفت القواعد المتعلّقة بحق الدفاع أو خرقت الوجاهية".

وفي قرار لمحكمة الاستئناف في بيروت الغرفة الثالثة رقم 1711/2004 تاريخ 14/10/2004 جاء فيه: "وحيث أنّ مفهوم الوجاهية واحترام حق الدفاع يقوم على عدم إصدار الحكم ضد خصم لم يجرِ سماعه أو يُمكّن من إبداء دفاعه، وأن لا يعتمد أي مستند أبرزه فريق ما، إلاّ إذا أتاح للفريق الآخر مناقشته وفق ما أكدته المادتان 372 و373 أصول مدنية".

وفي قرار لمحكمة الاستئناف المدنية في بيروت الغرفة الأولى رقم 781 تاريخ 3/6/2009 جاء فيه: "استناد الهيئة التحكيمية في قرارها إلى إفادة شاهد مسمّى من المدّعي وإلى إفادة شاهد آخر مسمّى من المدعى عليها دون سواهما من الشهود وإلى أدلة معروضة في الملف دون أخرى تعزيزاً لقناعتها لا يؤلف خرقاً لحقوق الدفاع، إذ للهيئة التحكيمية سلطة تقدير تخوّلها الأخذ بما يعزّز قناعتها ويجعلها تصدر قرارها النهائي دون أن يعود لأي من الخصوم أن يفرض عليها الأدلة التي تبني عليها قناعتها وقرارها، لأنّ المحكم لا يلزم بأن يستمع تلقائياً إلى الشهود لمجرد طلب أحد الخصوم. فلا تكون الهيئة التحكيمية قد خالفت حق الدفاع".

والجدير بالذكر أنه يوجد ربط حتمي بين التجهيل واستحالة الدفاع ، ولذلك فإنّ الحكم الصادر في هذه الحالة يعتبر غير معترف به ولا يقبل التنفيذ. فالإعلان الصحيح باعتباره إحدى وسائل إعمال حق العلم، لا يكون صحيحاً إلاّ بتحقيق الغاية منه، وهو يعني تمكين الخصم من الدفاع عن نفسه، ويجب إعمال حق العلم للخصوم عن جميع مراحل الإجراءات التحكيمية، وهو يفترض أنّ كل طرف كانت لديه الفرصة في أن يعرض ما يدّعيه من أمور، سواء كانت متصلة بالواقع أم بالقانون، ويطّلع أيضاً على ادعاءات خصمه ويناقشها.

ومن خلال ذلك يتضح أنّ الإخلال بحق التبليغ والعلم يؤدي إلى استحالة الدفاع ويشكِّل سبباً لبطلان حكم التحكيم، واستناداً إلى ذلك المبدأ فإنه لا تجوز مناقشة أحد الطرفين في خصومة التحكيم أو الاستماع لدفوعه أو إجراء معاينة مثلاً، في غيبة الطرف الآخر، وما لم يكن هذا الطرف قد توفّر له الاطلاع على المستند أو التقرير وأتيح له الرّد عليه .

والجدير بالذكر أنّ وسائل إعمال حق العلم متعدّدة وعلى رأسها الإعلان، ثم الاطلاع، والمواجهة الشفوية، وحقوق الدفاع المساعدة، كحق الحضور والاستعانة بمحام وحق التأجيل للاستعداد، ويجب التنويه أنّ إعمال هذه الوسائل لا يكون على أساس من التفاضل بينها، أو ترتيبها حسب أهميتها، فجميعها مهمة، ولكنها تكتسب أولوية حسب مقتضى الحال، وخصوصاً في خصومة التحكيم .

وفي هذا الإطار، جاء في قرار لمحكمة استئناف تونس عدد 101 المؤرخ في 23 أكتوبر 2001 ما يأتي: "اقتضى الفصل 13 من مجلة التحكيم في فقرته الأخيرة أنه وفي جميع الصور تراعى المبادئ الأساسية للمرافعات المدنية والتجارية، وخاصة منها المتعلّقة بحق الدفاع، كما اقتضى الفصل 63 من المجلة نفسها أنه يجب تهيئة فرصة كاملة لكل طرف للدفاع عن حقوقه. وحيث أنّ المشرّع قد اختار التأكيد وبوجه صريح على أحد المبادئ الأساسية للإجراءات الواجب احترامها من المحكمين أياً كان صنف التحكيم، معتبراً أنّ ذلك المبدأ هو مبدأ جوهري ضمن المبادئ الأساسية للإجراءات، وأنّ احترام حق الدفاع يقتضي أنه لكل خصم الحق في الاطلاع على جميع أوراق النازلة بما في ذلك المدلى بها من الخصم، وتلك التي تتوصل بها هيئة التحكيم إمّا بواسطة أعضائها أو بواسطة الغير كالاختبارات، كما يقتضي ذلك المبدأ تمكين الأطراف من الردّ على دعاوى خصومهم والدفاع عن أنفسهم. وحيث أنّ الثقة في العدالة سواء كانت خاصة أم عامة لا يمكن أن تقوم إلاّ إذا وقع تمكين المتقاضين من الدفاع عن أنفسهم، وعليه فإنه لا يجوز السماح بخرق المبدأ بأية علّة كانت... وحيث أنّ خرق هيئة التحكيم مبدأ المواجهة وحقوق الدفاع لا يمكن إلاّ أن يشوب قرارها بالبطلان مهما كانت سلامة المنطق الذي قام عليه، وتعيّن حينئذ قبول المطعن المتعلّق بذلك...".

أمّا عن المساواة بين الخصوم حيث يتكرّس مبدأ المساواة بحرص المحكم على أن يضع الأطراف على الدرجة نفسها من المعاملة، وأن يكون في موقع غير منحاز لطرف ضد آخر فيحرمه تقديم دفاعه أو مناقشة ادعاءات خصمه، وهذا لا يعني أن تكون المساواة آلية وآنية ولا كمية، بل تحدّد وفق خصوصيات كل حالة، فيجب أن يتعامل مع طلبات الخصوم ودفوعهم بالمعاملة نفسها.

ويعتبر من قبيل الإخلال بحق المساواة السماح لأحد الأطراف بتوكيل محامٍ وحرمان الطرف الآخر هذا الحق

 ويرى الكثير من الفقهاء أنه لا يمكن الفصل بين مبدأ المساواة ومبدأ الوجاهية وحق الدفاع فكلها مجتمعة تؤدي إلى محاكمة عادلة ونزيهة.

حيث لا يمكن تصوّر قيام العدل بدون احترام هذا المبدأ أينما وجد مقر التحكيم، ومهما كان القانون المطبّق على الإجراءات.

وعلى سبيل المثال، فقد نصّت مجلة التحكيم التونسية في الفصل 63: "يجب أن يعامل الأطراف على قدم المساواة وأن تُهيأ لكل منهم فرصة كاملة للدفاع عن حقوقه".

الركن الثالث- جلسات التحكيم والحضور والغياب:

يبدأ عرض النزاع على هيئة التحكيم بإرسال  المدّعي بيان بالدعوى إلى المدعى عليه وإلى هيئة التحكيم ، وتعتبر مسألة الحضور والغياب من المسائل المهمة لضبط إجراءات التحكيم وتحقيق مبدأ الوجاهية ،

نظام الجلسة الأولى:

جرت العادة في التحكيم أن يدعو المحكم أطراف النزاع للمثول أمامه في جلسة تمهيدية، للاتفاق على بعض الإجراءات الخاصة بالتحكيم، وبشكل خاص تقديم المحكم صحيفة دعواه والبيّنات الأولية المعزّزة لادعاءات كل منهم.

وفي القانون الكويتي مثلاً، أوجبت المادة 179 على المحكم القيام خلال ثلاثين يوماً على الأكثر من قبوله التحكيم، بإخطار الخصوم بتاريخ أو جلسة تحدّد لنظر النزاع وبمكان انعقادها، ويحدّد لهم موعداً لتقديم مستنداتهم ومذكراتهم وأوجه دفاعهم. كما أنّ القانون السعودي تضمّن نصاً مماثلاً في المادة 10 من اللائحة التنفيذية، على أنّ من واجب هيئة التحكيم، تحديد ميعاد الجلسة التي ينظر فيها النزاع، خلال مدة لا تتجاوز خمسة أيام من تاريخ إخطارها اعتماد وثيقة التحكيم، من قبل الجهة القضائية المختصة أصلاً بنظر النزاع، لو لم يكن هناك اتفاق على التحكيم ، وهذا يعني أنّ إهمال المحكم واجبه هنا بأن انقضت مدة الثلاثين يوماً في القانون الكويتي والخمسة أيام في القانون السعودي، دون قيام المحكم بإخطار الأطراف بموعد الجلسة الأولى، فمن حق الأطراف تنبيهه خطياً لحضور الجلسة، ويمكن عندئذ عزله باعتباره قد أهمل قصداً العمل باتفاق التحكيم. ويُستدل من النص في القانون الكويتي والقانون السعودي أنه يتوجب على المحكم عقد ولو جلسة تحكيم واحدة. وبعد ذلك ليس بالضرورة عقد أي جلسة تحكيم أخرى إذا رأى المحكم أنه لا لزوم لذلك. أما القوانين العربية الأخرى فلا تتضمّن نصاً مماثلاً .

وينبغي أن تجتمع هيئة التحكيم بعد تشكيلها بدعوة من رئيسها وتعقد جلساتها في المكان الذي اتفق عليه الطرفان أو المكان المحدّد، وذلك لتمكين كل من الطرفين من شرح موضوع دعواه وعرض حججه وأدلّته،

وتتولّى هيئة التحكيم إخطار طرفي التحكيم بمواعيد الجلسات التي تعقدها ومكانها قبل الموعد المحدّد بوقتٍ كافٍ، ولطرفي التحكيم حضور هذه الجلسات بأنفسهم أو بوكلاء عنهم.

وتستمر هيئة التحكيم في إجراءاتها المعتادة ولو تخلّف أحد الطرفين عن حضور بعض الجلسات أو تخلّف عن تقديم ما طلب إليه من مستندات

وعندما تُفتتح إجراءات التحكيم يبدأ إعداد تقديم المذكرات وإيداع المستندات والمرافعة وسماع الشهود واستجواب الخبراء.

ويجب أن تدوّن خلاصة وقائع كل جلسة  في محضر تسلّم صورة عنه إلى من يرغب من أطراف الخصومة، وكما هو معلوم فإنّ جلسات التحكيم يجب أن تكون سرية ثم إنّ المشرّع لم يضع ميعاداً للحضور تاركاً الأمر لاتفاق الطرفين أو لما تقرِّره الهيئة.

والجدير بالذكر أنّ حضور الخصوم جلسات التحكيم هو الأصل ، لتقديم المذكرات والوثائق المكتوبة والقيد الوحيد على سلطة هيئة التحكيم في الخروج على هذا الأصل هو ما قد ينص عليه اتفاق الطرفين.

فإنّ نص هذا الاتفاق على وجوب حضورهما جلسات التحكيم تعيّن على الهيئة الالتزام بالأصل، ولا يجوز لها أن تقرِّر الاكتفاء بالمذكّرات والوثائق المكتوبة.

وتعقد دائماً جلسات محاكمة شفهية ونادراً ما يصدر الحكم بدون جلسة شفهية بناءً على مستندات الدعوى ووثائقها.

فجلسات المحاكمة الشفهية هي القاعدة. وأحياناً تعقد جلسة واحدة، وأحياناً أخرى تعقد عدة جلسات للمرافعة وسماع الشهود. وهذه الجلسات تعقد حتماً في مكان التحكيم، ولكن الأطراف يتوافقون على عقد جلسات خارج مكان التحكيم، إلاّ أنّ عقد جلسة خاصة بموضوع معيّن تنتقل خلالها المحكمة التحكيمية إلى خارج مكان التحكيم من أجل سماع شاهد لا يمكنه الانتقال إلى مكان التحكيم، هذا الإجراء سليم ولو لم يكن متفقاً عليه، لأنّه لا ينقل ولا يغير مكان التحكيم، ولكنه يساير مقتضيات حسن سير العدالة وضروراته.

فإذا لم يتم تبليغ أحد الخصوم بالجلسة لم يكن لهيئة التحكيم سماع الخصم الآخر في غيبته، وإلاّ كان هناك مساس بحق الدفاع يؤدي إلى بطلان الحكم، ما لم تقم الهيئة بتصحيح الإجراء وإعادة التبليغ.

والجدير بالذكر أنه من المبادئ المتعارف عليها في التحكيم أنّ الأصل هو سرّية الجلسات ، وليس علانيتها خلافاً للقواعد العامة في إجراءات التقاضي، في حين أنّ القانون السعودي تضمّن نصاً يقضي بعلنية جلسات التحكيم كمبدأ عام، ما لم تقرِّر الهيئة غير ذلك، ممّا يعني أنه يجوز في القانون السعودي لأي شخص حضور جلسات التحكيم دون موافقة أو إذن من الخصوم أو هيئة التحكيم. وفي هذا الشأن تقضي المادة 20 من اللائحة التنفيذية بأن تُنظر الدعوى أمام هيئة التحكيم بصفة علنية، إلاّ إذا رأت الهيئة بمبادرة منها جعل الجلسة سرية أو طلب ذلك أحد الخصوم.

والجدير بالذكر أنه سواء كان التدوين في محاضر الجلسات على أساس القوانين المدنية أم على أساس القوانين الأنكلو – أميركية، فإنّ ما يقال في جلسات المحاكمة يجب أن يدوّن. وهناك طريقتان: إما الاختزال (ستنو) أو طريقة التسجيل على آلة تسجيل، ثم تفريغ الأشرطة على محاضر .

 والجدير بالذكر أيضاً أنه بعد التأكد من صحة التبليغ فإنّ غياب الخصم أو كليهما عن جلسات واجتماعات التحكيم لا يمنع من مضيّ الهيئة في نظر الدعوى والحكم في موضوعها وفقاً للأدلة المتوافرة في الدعوى. وفي ذلك يختلف أثر الغياب عن الجلسات في التحكيم عن أثر الغياب عن جلسات الخصومة القضائية . وهذا يعني أنّ تخلّف الأطراف عن حضور جلسات التحكيم لا يستوجب شطب الدعوى، كما هو الحال في الخصومة القضائية .

وقد يعمد أحد الأطراف، على الرغم من قبوله اختصاص هيئة التحكيم، إلى عدم حضور الإجراءات وبهدف الحدّ من فاعلية التحكيم من خلال تعطيل الفصل في النزاع لأطول فترة ممكنة، والتأثير في سمة هامة يتميّز بها التحكيم، وهي سرعة الفصل في المنازعات. وقد اتجهت معظم التشريعات الوطنية والاتفاقات الدولية ولوائح هيئات التحكيم، لضمان فعالية اتفاق التحكيم واحترامه، إلى عدم السماح بغياب أحد الأطراف التأثير في إجراءات التحكيم، وذلك من خلال قرار باستمرارية الإجراءات دون أن يؤثر في ذلك غياب الطرف الممتنع عن الحضور.

وعلى سبيل المثال، حرصت اتفاقية واشنطن لعام 1965 على تقنين هذا المبدأ من أجل ضمان الفاعلية لشرط التحكيم - الذي يشير إلى اختصاص المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار-  حيث تضمّنت المادة 45 من الاتفاقية على أنه: إذا تغيّب أحد الطرفين أو امتنع عن تقديم أوجه دفاعه فإنه لا يُعدّ لهذا السبب في حد ذاته، مسلّماً بادعاءات الطرف الآخر. كما أنه إذا تغيّب أحد الطرفين أو امتنع عن تقديم أوجه دفاعه في أية مرحلة من مراحل الخصومة، يجوز أن يطلب من المحكمة الاستمرار في الإجراءات.

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ مضي الهيئة في نظر الدعوى رغم تخلّف أحد الأطراف عن الحضور أو كليهما يتطلّب أن يكون المدعي قد قدّم بالفعل بياناً بدعواه، ولكنه لا يستلزم أن يكون المدعى عليه قد قدّم مذكّرة بدفاعه. وهذا يعني أنّ غياب المدعى عليه وحده عن الجلسة الأولى أو عن أي جلسة تالية فهو لا يمنع السير بالدعوى إذا كان المدّعي قد قدّم بياناً في دعواه مثلاً، وأمّا إذا لم يكن قد قدم هذا البيان فسوف لا يكون باستطاعة هيئة التحكيم مواصلة نظر الدعوى لعدم توافر العناصر اللازمة لنظرها، ولذلك فإنه يجوز للهيئة، إمّا أن تقرّر التأجيل، أو أن تأمر بتعليق الإجراءات، وذلك سنداً للفقرة 3 من المادة 27 من قانون التحكيم السوري

ولكن يبقى السؤال في هذا المقام:

 ماذا لو كان المدّعي قد تقدّم ببيان مكتوب بدعواه، ثم ترك دعواه أو سحبها فهل تقرِّر الهيئة إنهاء الإجراءات في مثل هذه الحالة؟

أجابت الفقرة 2 من المادة 45 من قانون التحكيم السوري عن هذا التساؤل حيث جاء فيها: "تنتهي إجراءات التحكيم بصدور حكم التحكيم المنهي للخصومة كلها، كما تنتهي أيضاً إذا قرّرت هيئة التحكيم إنهاءها في أي من الحالات المشار إليها في هذا القانون، وكذلك:

2- إذا ترك المدّعي خصومة التحكيم أو سحب دعواه ما لم يعارض المدعى عليه في ذلك ووجدت هيئة التحكيم أن له مصلحة في استمرار الإجراءات حتى حسم النزاع".

الركن الرابع- التزام هيئة التحكيم النطاق الشخصي لخصومة التحكيم:

يقصد بالعنصر الشخصي في النزاع أطراف خصومة التحكيم، والأصل أنه لا يكون طرفاً في خصومة التحكيم إلاّ من كان طرفاً في اتفاق التحكيم.

واتفاق التحكيم غير قادر على اقحام الغير في خصومة التحكيم، حتى ولو كان لهذا الغير حق أو مصلحة تتعلّق بالنزاع محل التحكيم، كما في حالة الشيوع، وحالة التضامن  فلا يكون الشريك على الشيوع أو المدين المتضامن طرفاً في خصومة التحكيم، إلاّ بتدخّله، والتدخل الإرادي في خصومة التحكيم جائز بنوعيه: الهجومي، والانضمامي في حدود ما يسمح به اتفاق التحكيم.

وفي حالة الاتفاق على التحكيم مع أحد الشركاء على الشيوع ممّن لا يملك الأغلبية اللازمة لإلزام بقية الشركاء باتفاقه. ففي هذه الحالة لا يملك أي من طرفي اتفاق التحكيم توجيه طلب التحكيم إلى الشريك الذي لم يكن طرفاً فيه. فإن وجِّه إليه كان هناك بطلان في الإجراءات يستطيع هذا الشريك أن يتمسّك به، ولا يكون الحكم الصادر من المحكم حجة عليه. وبالمثل فهذا الشريك لا يملك توجيه طلب التحكيم إلى أحد أطراف عقد التحكيم.

وأكثر من ذلك فقد يؤدي عدم التزام بعض ذوي المصلحة باتفاق التحكيم إلى بطلان هذا الاتفاق ذاته لوروده على مستحيل. وهذا ما يتحقّق في حالة الارتباط الذي لا يقبل التجزئة. ويكفي لتمثّل ذلك أن نتصور وضعاً ترتّبَ عليه ضرر لمجموعة من الأشخاص، وادعى كل منهم مسؤولية الآخرين – كلهم أو بعضهم – عن الضرر الذي أصابه. ففي هذه الحالة لو اتفق شخصان منهم على التحكيم، وبقي الآخرون خارج هذا الاتفاق، فإنّ الفصل في النزاع عن طريق التحكيم يكون غير ممكن، لأنّ هناك ارتباطاً لا يقبل التجزئة بين ادعاءات كافة الأشخاص الذين اتصل بهم الوضع المنشئ للضرر، بحيث يتعيّن أن تفصل فيها جميعاً جهة واحدة، وفي الوقت نفسه لا يمكن توجيه طلب التحكيم إلى من لم يكن طرفاً فيه أو توجيهه منه، فلا يكون هناك مناص من القول باستحالة التحكيم، بحيث يتعيّن طرح كافة الادعاءات على القضاء وحده، على الرغم من الاتفاق على التحكيم بين البعض من المدّعين

ويثور في هذا المقام السؤال الآتي:

ما مدى جواز قبول التدخل الإرادي في خصومة التحكيم؟

والجواب:

إذا كان الفقه قد تردّد في قبول التدخل الهجومي في خصومة التحكيم ، إلاّ أنه كان أقل تردداً في قبول التدخّل الانضمامي، وعلى هذا النحو فيجوز للدائن أن يتدخّل منضماً إلى مدينه في خصومة التحكيم المرفوعة ضده، باعتبار ما قد يترتّب على الحكم عليه فيها من أثر على الضمان العام للدائنين الذي يكون له حق عليه، كما يجوز للبائع أن يتدخّل منضماً إلى المشتري في الدعوى التي رفعها عليه خصمه – أي خصم المشتري– مطالباً بملكية المبيع، باعتبار أنّ البائع يكون ضامناً لاستحقاق المبيع من تحت يد المشتري

فهناك من يرى أنّ في التدخل الهجومي في التحكيم عدواناً مباشراً على إرادة الخصوم، كما أنّ فيه إطالة لأمد التقاضي، الذي يحاول الخصوم تجنّبه، كما أنّ فيه إفشاء للسرية، وأنّ الحكم في طلبات الخصوم سوف يتأثر بشكل أو بآخر بطلبات المتدخّل هجومياً .

ولقد صرّحت بعض القوانين بجواز التدخل في خصومة التحكيم، لكن بموافقة الخصوم أو على الأقل عدم اعتراضهم، من ذلك ما نصّت عليه المادة 786 من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني من أنّه "لا يجوز تدخل الغير في النزاع أمام المحكمين ما لم يوافق الخصوم على ذلك". 

إلاّ أنّ هناك من يرى أنّ ربط قبول التدخّل الهجومي بإرادة الخصوم وموافقة هيئة التحكيم، يغفل حقيقة واقعية محتملة، وهي أن يتفق الخصوم على التحكيم حول حق أو مركز قانوني معيّن يعلمون أنه ليس لأي منهم، بل هو للغير، غشاً له وتواطئاً عليه ، ولذلك فحرمان هذا الغير من التدخل الهجومي إلاّ بإرادة الطرفين قد يطيح حقه، وخاصة إذا لم يكن له حق الاعتراض على الحكم التحكيمي، وهذا هو الأصل الشائع. فقليل جداً من التشريعات تعطي الغير حق الاعتراض ، ومع ذلك فالاتجاه لا يزال سائداً حول ارتباط التدخل الهجومي بإرادة الخصوم.

وفي قرار محكمة التمييز اللبنانية الغرفة الخامسة رقم 21 تاريخ 19/2/2002، مجموعة باز 2002، صفحة 418، جاء فيه: "وحيث أنّ محكمة الاستئناف قد أجابت بأنّ المادة 768 نصّت على الإدخال لوحدة العلّة، ذلك أنّ التحكيم هو في الأصل محصور بين أطراف العقد التحكيمي فلا يجوز لهيئة التحكيم أن تقضي بإدخال شخص غير مشمول بالعقد دون إرادته، وإلاّ تكون قد خالفت المادة 786 أصول مدنية، إنما طبّقت المادة 800 فقرة أولى التي تعتبر باطلاً القرار التحكيمي الصادر دون اتفاق تحكيمي، فيتعيّن لهذا السبب القانوني المحض ردّ التمييز في شقه الوارد تحت هذا العنوان".

أمّا في التدخّل الانضمامي، فإنّ التردد في خصومة التحكيم كان أقل حدّة، إما لأنّ الرأي التقليدي لم يكن يعتبر المتدخل الانضمامي في الخصومة ، أو على الأقل طبقاً للاتجاه السائد، هو طرف تبعي منضم ، ولذلك فإنّ تدخّله للمساعدة أو للمراقبة أمر مقبول، ومقبول أيضاً أن يكون ذلك بموافقة الخصوم، سواء في اتفاق التحكيم مسبقاً أو في اتفاق لاحق أثناء سير الخصومة.

أما في ما يتعلق بمسألة إدخال الغير في خصومة التحكيم، فالمسألة ترتبط بفكرة ولاية المحكم، وهذه الولاية يستمدها من اتفاق التحكيم، سواء اتفاق التحكيم الأصلي أو اتفاق لاحق أثناء سير الدعوى، فإذا قبل الخصوم اختصام طرف ثالث، تحقيقاً للعدالة أو إظهاراً للحقيقة. فيجوز للمحكم ذلك، لكن لا يجوز له ذلك من تلقاء نفسه، وإلاّ يكون قد أخلَّ بمبدأ حياده، لأنّ ولاية المحكم تُستمد من اتفاق التحكيم، وهو اتفاق نسبي الأثر من حيث أشخاصه، فلا يلتزم غير أطرافه بالخضوع لسلطة المحكم، ولكن هناك من ربط بين سلطة المحكم في ذلك وبين أثر الاتفاق على التحكيم بالنسبة للغير، فكل من يمتدّ إليه أثر الاتفاق على التحكيم من الغير يصلح أن يكون خصماً في خصومة التحكيم، كما في حالات العقد المتعدِّد الأطراف والمجموع العقدي، والكفيل والمستفيد من عقد الاشتراط لمصلحة الغير.

غير أنه يجب أن نلاحظ أنّ فاعلية دور المحكم في هذا الصدد ليست فقط مرهونة بمشيئة الخصوم، ولكن مرهونة أيضاً بمشيئة القضاء، لأنه على فرض أنّ المحكم طلب إدخال خصم في الدعوى، أو طلب منه أحد الخصوم ذلك، فهو لن يستطيع توجيه الأمر له بالاختصام، وإنما لا بد من الاستعانة بالقضاء المختص. وهو إذا طلب من المحكمة المختصة اختصام الغير، فإنّ الأمر يظل جوازياً للمحكمة. وتملك في شأنه سلطة تقديرية واسعة .

لكن هل يجوز لهيئة التحكيم نفسها اختصام الخارج عن الخصومة بأمر منها؟

وجواباً يمكن القول:

إنّ هيئة التحكيم ملتزمة دائماً بأثر اتفاق التحكيم في ما يتعلّق بتحديد أطراف الخصومة. ولكن ليس هناك ما يمنع من أن تأمر بإدخال الخارج عن الخصومة فيها، طالما كان أثر اتفاق التحكيم ينصرف إليه، سواء باعتباره طرفاً فيه، أو باعتباره غيراً يلزمه القانون بآثاره، كما هو الحال في صاحب الحق أو المركز الحقيقي في حال الاتفاق على التحكيم من قبل صاحب المركز الظاهر، وفي حال المشترط لصالحه عندما يتضمّن العقد الذي نشأ عنه الاشتراط شرط تحكيم. وعلى العكس من ذلك فليس لهيئة التحكيم أن تدخل من لا ينصرف إليه أثر اتفاق التحكيم في الخصومة، وإلاّ كان حكم التحكيم الصادر منها باطلاً تأسيساً على بطلان اختصامه فيها. وهو بطلان يجوز لكل صاحب مصلحة من الخصوم الأصليين والخصم المدخل التمسّك به.

وفي قضية تحكيمية ذهبت هيئة التحكيم إلى التفرقة بين هيئة التحكيم الدولي والمحلي، واعتبرت الهيئة أنه في التحكيم الدولي يجوز مساءلة الشركة الأم التي تستتر وراء وليدة لها أو أكثر ويجب أن تتحمّل مسؤولية كاملة عن أفعالها. أمّا في التحكيم المحلي، فإنّ أحكام القانون المدني بشأن الخلف الخاص تمنع هذه المساءلة.

وكانت المحتكمة شركة إفريقية للاستثمارات المالية، وكانت المحتكم ضدها مجموعة شركات صناعية وسياحية إفريقية، حيث كانت المحتكمة تطلب تعويضاً عن عدم نقل ملكية أسهم مشتراة من إحدى شركات المجموعة وتطبيق شرط جزائي، وكان قد تم بين المحتكمة وبين شركة للمشروعات الصناعية والسياحية عقد بيع وتنازل للمحتكمة عن 20% من رأس مال المحتكم ضدها عام 1998 بسعر مسمّى للسهم، وعلى أن يتم نقل ملكية الأسهم خلال 15 يوماً من نقل ملكية 90% من أسهم شركة أخرى في المجموعة، وسُدّد الثمن. ولمّا تقاعست المحتكم ضدها عن الوفاء بالتزاماتها لجأت المحتكمة إلى التحكيم ضد الشركة الأم والشركات التابعة لها، وكانت من الشركات المملوكة للدولة وتأتي هذه العملية في إطار برنامج الخصخصة. وكان العقد ينص على شرط تحكيم يحال بموجبه أي نزاع ناشئ عن العقد إلى التحكيم أمام مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي. واعتبرت المحتكمة أنّ العقد مفسوخ من تلقاء نفسه من تاريخ الإخلال بالالتزامات، وطالبت بردّ المدفوع ونسبة 15% سنوياً على المبلغ المطلوب استرداده حتى تمام السداد. تقدّمت المحتكم ضدها ببيان الدفاع ونسبت إلى المحتكمة الإخلال بالتزاماتها، وأنّ نقل الملكية يسير في طريقه عندما تتم الشركة القابضة استبدال الرهن الموقّع على جزء من الأسهم، والذي كانت المحتكمة على علم به. وأضافت المحتكم ضدها دعوى مقابلة تتضمّن طلباً للتعويض عن أضرار مادية أدبية تتحدّد قيمتها فيما بعد. وادّعت أنّ هذه الأضرار قد حدثت بفعل المحتكمة وممارساتها من خلال انذارات متتالية وتسريب أنباء إلى الصحف بقصد الإساءة ولجوئها إلى القضاء المستعجل لفرض الحراسة على الشركة المباعة أسهمها. وأمام هيئة التحكيم قرّر ممثل الشركة المباعة أسهمها أنّ شركته هي المعنية بالتحكيم، وهي الطرف في عقد بيع الأسهم، أنه ليس ثمة وجود قانوني لما أطلقت عليه المحتكمة "مجموعة شركات...". وأجاب ممثل المحتكمة بأنّ مجموعة هذه الشركات هي وحدة واحدة وجميعها ملتزمة العقد، وأنّ جميع المكاتبات كانت باسم مجموعة الشركات ككل".

ومن المعتاد أن تدفع الشركة الأم الدعوى التحكيمية بأنها لم توقّع اتفاق تحكيم ولم تشارك في تنفيذ العقد، وتتخذ موقف المتمسّك بصفتها كشركة أم مسؤولة إذا كانت لها مصلحة في ذلك.

ومن المبادئ القانونية التي قرّرتها هيئة التحكيم في هذه القضية ما يأتي:

بالنسبة إلى شركات المجموعة الاقتصادية الواحدة إذا أبرمت إحداها شرط تحكيم فإنّه لا يسري على الحالات التي يسري عليها القانون الداخلي، ذلك أنّ ما تضمّنته هذه الأحكام التحكيمية الدولية لا تجد لها أساساً في القانون الداخلي، وتخرج عن القواعد المسلّم بها في أحكامه. وحيث أنّ المادة 145 من القانون المدني تنص على أن "ينصرف أثر العقد إلى المتعاقدين والخلف العام دون إخلال بالقواعد المتعلّقة بالميراث، ما لم يتبيّن من العقد أو من طبيعة التعامل أو من

نص القانون أنّ هذا الأثر لا ينصرف إلى الخلف العام". وعلى ذلك فإنّ الغير الذي لم يكن

طرفاً في العقد، ولا خلفاً لأحد من المتعاقدين، وهو ما يسمّى الغير الأجنبي أصلاً عن العقد penitus extranei لا ينصرف إليه أثر العقد ما دام بعيداً عن دائرة التعاقد. ولم يُجِز القانون امتداد أثر العقد للغير، إلاّ في حالات محدّدة ولاعتبارات ترجع إلى العدالة أو إلى استقرار التعامل. وامتداد أثر اتفاق التحكيم الموقّع من شركة أو أكثر من الشركات المكوّنة للمجموعة إلى شركة أو أكثر من الشركات الأخرى المكوّنة لذات المجموعة لم يكن قاعدة عامة مطلقة، إذ يتوقف تقرير ذلك الأمر على عوامل متغيرة قد تختلف من حالة إلى أخرى كالإرادة المشتركة لشركات المجموعة، وعلى وجه أكثر تحديداً تلك الشركات المعنية بالعقد محل المنازعة والمتعاقد معها، وعلى عامل ثابت هو وجود مجموعة الشركات وعلى وجود ما يؤكد صفة الشركة الأم أو الشركات المعنية بعملية الاستثمار أو العملية التجارية محل المنازعة ودورها المؤكد في إبرام العقد وفي تنفيذه أو ضمان ذلك التنفيذ.

وحيث أنّ المادة 152 من القانون المدني تنصّ على أنه "لا يرتِّب العقد التزاماً على الغير، ولكن يجوز أن يكسبه حقاً". فالتعهد عن الغير لا ينصرف أثره إلى الغير ولا يرتِّب في ذمته التزاماً والاشتراط لمصلحة الغير ينصرف أثره إلى الغير ويكسبه حقاً. وفي غير هذه الأحوال لم يعرف القانون المصري وهو القانون واجب التطبيق في الدعوى الماثلة حالات أخرى ينصرف فيها أثر العقد إلى الغير (السنهوري-مصادر الالتزام ص 541-556).

إنّ التساؤل في الدعوى الماثلة هو مدى صحة هذا الاتجاه في ظل أحكام القانون المصري الواجب التطبيق. وحيث أنّ البادي من نصّ المادتين 145 و152 من القانون المدني المصري أنّ القانون حدّد، على سبيل الحصر، الحالات التي يمتدّ فيها أثر العقد للغير بما لا يتيح امتداد أثره للغير في غير تلك الحالات، وليس من بينها حالة امتداد أثر العقد إلى الشركات التي تكون في مجموعة اقتصادية واحدة إذا تمتّعت كل منها بشخصية قانونية مستقلة. وممّا يؤكد صحة وسلامة هذا الاتجاه أنّ المشرّع نص في المادة 12 من قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية رقم 27 لسنة 1994 على وجوب أن يكون اتفاق التحكيم مكتوباً، وإلاّ كان باطلاً. فلا يتصور أن يمتد أثر اتفاق التحكيم إلى غير أطرافه الذين أبرموه في صك مكتوب وفقاً لأحكام القانون.

إنّ الفلسفة التي يقوم عليها النظام القانوني في مصر تقوم بصفة قاطعة على اعتبار التحكيم استثناء على اختصاص القضاء على أساس أنّ القضاء هو المختص أصلاً بالفصل في الخصومات، وأنّ اختيار الأطراف لحسم منازعاتهم عن طريق التحكيم ليس إلاّ استثناء يجب أن يفرغ بصورة واضحة في اتفاق مكتوب بين الأطراف يستبعدون فيه اختصاص القضاء صراحة بصدد منازعات محدّدة ليتم حسمها عن طريق التحكيم.

وممّا يقطع بذلك ما استقر عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا من أنّ "ولاية التحكيم لا تستنهضها قاعدة آمرة لا يجوز الاتفاق على خلافها، بل مردّها إلى الإرادة التي يفصح عنها اتفاق التحكيم (حكم 6/6/1988 قضية رقم 145 لسنة 19 ق) وكذلك ما جاء في قضائها من "أنّ التحكيم مصدره الاتفاق، إذ يحدِّد طرفاه – وفقاً لأحكامه – نطاق الحقوق المتنازع عليها بينهما، أو المسائل الخلافية التي يمكن أن تعرض لها، وإليه ترتدّ السلطة الكاملة التي يباشرها المحكمون عند بتّها (حكم 6/11/1999 قضية رقم 84 لسنة 1999 ق). وحيث أنّه بالبناء على ما تقدم فإنّ الدفع بعدم قبول الدعوى بالنسبة للشركات الثلاث غير الموقّعة على شرط التحكيم يكون قد صادف صحيح القانون ويتعيّن قبوله والحكم بعدم قبول الدعوى بالنسبة لها، وأن تقتصر الدعوى الماثلة على الخصومة القائمة بين المحتكمة والمحتكم ضدها الموقّعة .

لكن هناك رأي آخر يقول إنّ امتداد الشرط التحكيمي بات مقبولاً في التحكيم الداخلي، وذلك تماشياً مع تطور التحكيم. ولقد جاء في حكم لمحكمة الدرجة الأولى في جبل لبنان (قرار رقم 60/2007 تاريخ 19/6/2007 ما يأتي: "إنّ الاتفاقية اللاحقة وُقِّعت بالاستناد إلى الاتفاقية الأولى وبالعودة إليها بحيث جاءت الثانية مرتكزة ومعتمدة على ما تضمّنته الاتفاقية الأولى من بنود وشروط وآلية. إنّ نية الفريقين أمر باطني يستنتجه القاضي من وقائع وظروف كل قضية والنية اتجهت عند توقيع الاتفاقية الثانية الى تبنّي جميع شروط ومندرجات الاتفاقية الأولى وجعلها تسري أحكاماً وآثاراً ومفاعيل على الثانية، ويقتضي اعتبار أنّ كل نزاع ينشأ عن تطبيق أو تنفيذ الاتفاقية الأولى أو الثانية يخضع للبند التحكيمي، لكن على المحكم الداخلي قبل اتخاذه قراره باعتماد قاعدة مدّ الشرط التحكيمي التأكد من توافر نية الفرقاء المتعاقدين الحقيقية، وكذلك مدى الترابط بين العقود المتنوعة المتعلّقة بالنزاع التحكيمي ومدى ترابطها، بحيث يمكن عندئذ القول بمدّ الشرط التحكيمي من عقد إلى آخر، أو عدم مدّه، وهو أمر يعود تقديره الى الهيئة التحكيمية. ففي قضية شركة قرية معوض (تحكيم حر غير مؤسسي) قضت الهيئة التحكيمية بعدم امتداد الشرط التحكيمي إلى السيد روبير معوض غير الموقّع على شرط التحكيم مع مخالفة عضو الهيئة البروفسور هادي سليم الذي خلص في مخالفته إلى القول أنّ الاجتهاد التحكيمي الدولي الذي أقرّ مبدأ إمكانية بسط البند التحكيمي ومدّه من قبل المحكم، إنما يستند في الحقيقة إلى مبدأ حسن النية الذي يشكّل عصب التعامل القانوني والتجاري والذي يتوجب دوماً الاسترشاد به سواء في النزاعات الداخلية أو في النزاعات ذات الطابع الدولي".

أما بالنسبة  لأحكام التحكيم التي تميل إلى مسؤولية الشركة الأم ، فقد أثيرت مشكلة نسبية آثار اتفاق التحكيم في العديد من المنازعات أمام قضاء التحكيم، وصحيح أن عدداً من الأحكام قد رفض امتداد أثر شرط التحكيم إلى الشركة الأم، إلاّ أنّ غالبية أحكام التحكيم تميل إلى مسؤولية الشركة الأم عن أعمال الشركة الفرع، وذلك استناداً إلى فكرة الوحدة الاقتصادية إذا كانت ظروف العقد وملابساته تثبت ذلك، بل يذهب البعض إلى حد استخلاص قاعدة موضوعية عبر دولية مؤداها أنّ: "الشركة المتحكمة في مجموعة الشركات الوليدة تُعدّ طرفاً متعاقداً بالنيابة عن كل أطراف المجموعة على الأقل في ما يتعلق باتفاق التحكيم ".

وفي قضية كانت تعرف باسم قضية الخطيب/كير (وهو اسم كل من الشركتين المتنازعتين) يتلخص موضوعها في أنّ شركة حسن علام (قطاع عام) عهدت إلى شركة خاصة هي كير للمشروعات الانشائية (التي كانت شركة وليدة لشركة كير سرفيس تملك الأخيرة فيها 35% من رأس المال) بمقاولة لمجموعة مواسير زهر للصرف الصحي في منطقة ديروط التابعة لمحافظة أسيوط، والتي كانت تسمّى "بركة الأكسدة". واستخدمت شركة كير للإنشاءات شركة تسمّى شركة الخطيب في تنفيذ العملية بجلب المواسير ذات الأقطار الكبيرة من السوق وشحنها إلى الموقع وتسليمها إلى مخازن كير للإنشاءات دون تركيبها ويبعد الموقع عن القاهرة أكثر من أربعمئة كيلومتر. وسلّمت المواسير على دفعات وتم دفع جزء من الثمن، متزامناً مع التوريدات، بشيكات رفض البنك بعضها أحياناً، ثم توقفت شركة كير للمشروعات الإنشائية عن الدفع. ونسبت إلى شركة الخطيب أنها وردت مواسير زهر غير مطابقة للمواصفات. وردّت المحتكمة بأنها غير مسؤولة عن رفض ما سلّمته من مواسير حيث أنه تم إجراء فحص مسبق عليها، وأنّ كير للمشروعات اشترت كمية أخرى من السوق اختلطت مع المورّدة من الخطيب، ومن الصعب إن لم يكن من المستحيل التمييز بين هذه وتلك لمعرفة العيوب في أي جانب هي. وحيث أنه اتفق الفقهاء على أنّ التسليم من المقاول يكون بوضع العمل تحت تصرف رب العمل، بحيث يستطيع أن ينتفع به من دون عائق. ولا يشترط أن يضع رب العمل فعلاً يده على العمل فإنّ هذا هو التسلم وهو واجب على رب العمل لا المقاول، وأنه بصدد المسؤولية عن المبيع بعد التسليم، فملابسات القضية تؤكد العيوب المدّعى بها إن صحت لم تبدُ إلاّ بعد مرور عام كامل على التسليم، وتركت المواسير في العراء بعد أن تسلّمها أمين مخازن المحتكم ضدها. ويبيّن العقد المحرّر بين المحتكمة والمحتكم ضدها الأولى أنّ مهمة الأولى اقتصرت على توريد المواسير فقط. بمعنى أنها مجرد بائعة لمنتج باعتبار أنها مقاول توريد فحسب. واستقر الفقه على أنّ البائع لا يضمن العيوب التي كان المشتري يستطيع أن يتبيّنها بنفسه لو أنه فحص المبيع بعناية الرجل العادي. وفي هذا المعنى استقر الفقه تطبيقاً لنص المادة 449 مدني، على أنه يجب على المشتري إذا تسلّم المبيع أن يتحقق من حالته بمجرد أن يمكّن من ذلك، وفقاً للمألوف في التعامل. فإذا كشف عيباً وجب عليه أن يُخطر به البائع في مدة معتدلة. وإذا كان العيب ممّا لا يمكن الكشف عنه بالفحص المعتاد، ثم كشفه المشتري فعليه أن يخطر به البائع فور ظهوره فإذا لم يقم المشتري بالإخطار اعتبر قابلاً للمبيع ويمتنع عليه رفع دعوى ضمان العيب التي تسقط بمضي سنة واحدة. ويكذب ادعاء المحتكم ضدها خطابها الموجّه إلى مصرفها بنك الإسكندرية بتاريخ 25 أكتوبر 99 أي بعدما تمّ التسليم، حيث تشير فيه صراحة أنّ المانع من سداد باقي مستحقات الشركة المحتكمة هو مشكلة السيولة التي يتعرض لها قطاع المقاولات بشكل عام، وذيّل الخطاب بما يفيد الالتزام الكامل للشركة المحتكمة، وأنّ المحتكم ضدها الأولى تحرص على التعامل معها وأشادت بتعاونها معها.

وقد تبيّن لمحكمة التحكيم أنّ التوريد تم في مخازن شركة كير للمشروعات الإنشائية منذ أكثر من عام. وكانت كير للمشروعات قد قبضت كل قيمة العملية من شركة حسن علام للمقاولات ولم تدفع لشركة الخطيب قيمة التوريد الأخير، ممّا يعتبر من جانب شركة كير غشاً ونقضاً لاتفاقهما على أن تدفع عندما تقبض وهو شرط: pay when paid – (PWP) الذي جرى العمل عليه محلياً ودولياً (أنظر: أحكام مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي – الجزء الثالث، صفحة 230 وما بعدها).

والذي يهمنا في هذا الموضوع هو موقف الشركة الأم كير سيرفس، فقالت المحتكمة أنّ الشركة المحتكم ضدها الثانية تملك عدة شركات تأتمر بأوامرها، وإن اختلفت الشخصية القانونية الاعتبارية لكل منها عن الأخرى، إلاّ أنّ سلسلة واحدة تربط بينها وتجعل منها بمثابة الأم بالنسبة للشركات التي تدور في فلكها. وليس أدلّ على العلاقة الوطيدة التي تجعل الإدارة الرئيسية الفعلية للشركة الأم من اتحاد مسمّى الشركتين فكلتاهما من شركات كير، وإن كانت إحداهما تعمل في مجال مخالف للأخرى، إلاّ أنّ التخطيط ورسم السياسات وتلقّي الأوامر تختص به الشركة الأم شركة كير سيرفس.

وقد ثبت لهيئة التحكيم أنّ رئيس مجلس إدارة كل من الشركتين شخص واحد، وأنه يتدخّل في إدارة ومشروعات الشركة الوليدة ويوقّع مراسلات إحداهما مختلطة برسائل الأخرى ودون أن يوضح عن أيهما يتحدث، وهو الذي أمر بوقف الدفع لشركة الخطيب. ممّا يجعل للشركة الأم دوراً إيجابياً في عملية مواسير صرف صحي مدينة ديروط التابعة لمحافظة أسيوط. لهذا أخذت هيئة التحكيم الشركة الأم بتدخلها في تنفيذ عملية الصرف الصحي أمراً ونهياً.

وكانت الشركة الأم تتابع الإجراءات التحكيمية بقلق شديد فيأتي محاميها إلى مقر التحكيم قبل الجلسة التي أعلنت بها متسلّلاً، والجميع ينتظرون حضورها، ويطلب مقابلة رئيس الهيئة ليقول له أنّ شركة الخطيب تنازلت عن التمسّك بشرط التحكيم بالتجائها إلى القضاء العادي في دعاوى متبادلة بين الطرفين. وأن كير سيرفس لا شأن لها بهذه القضية، فيدعوه رئيس الهيئة – كما هو مسجّل بمحاضر القضية – إلى حضور الجلسة التي ستعقد في الحال، وله أن يثبت هذا كله في محضر الجلسة، ولكنه يتصرف حتى دون أن يثبت حضوره بالمحضر أو يثبت صفته كوكيل يتحدث باسمها. ويقدم في اليوم التالي للجلسة خطاباً منه إلى مركز التحكيم، ويجري إعلاناً على يد محضر إلى رئيس وأعضاء الهيئة بما تقدم من كلامه السابق، وينتهي إلى طلب – خارج الجلسة – يطلب فيه الحكم بإخراج كير سيرفس من الدعوى بلا مصاريف. وكان هناك محامٍ آخر يحضر عن كير للمشروعات الإنشائية، ولم يثبت صفة له عن كير سيرفس.

وأخيراً تقدّمت كير سيرفس بواسطة محام بخطاب موقع من رئيسها تقول فيه "بالإشارة إلى القضية التحكيمية رقم 212 لسنة 2001 والمرفوعة من شركة الخطيب للخدمات البترولية ضد شركة كير للمشروعات الإنشائية نتشرف بإحاطة سيادتكم علماً أنّ الشركة تفوّض الاستاذ... المحامي بالنقض (هو المحامي نفسه المشار إليه آنفاً) في الحضور عن شركة كير سيرفس، وذلك بإبداء دفاع الشركة وتقديم ما يفيد أنّ شركة كير سيرفس ليست المالكة لشركة كير للمشروعات الإنشائية، وذلك وفقاً لما أبداه بجلسة 26 مايو 2001 بطلب إخراج شركتنا من الدعوى بلا مصاريف وهذا تفويض منّا بذلك".

وانتهى الأمر بالحكم على المحتكم ضدهما شركتي كير بالتعويض.

وبعد إلزام الشركة الأم والوليدة بالتعويضات لشركة الخطيب طعنتا على الحكم بالبطلان فحكم به، ثم طعنتا على حكم البطلان لسبب غير مفهوم، كما طعنت شركة الخطيب على حكم البطلان بالنقض، وفيه تأيّد حكم التحكيم على الشركة الوليدة وحدها وألغي بالنسبة إلى الشركة الأم، وقالت محكمة النقض في أسباب هذا الطعن:

أ - بالنسبة إلى الحكم الصادر عن هيئة التحكيم الذي قضى بمسؤولية الشركة الأم وأبطلته محكمة استئناف القاهرة، ترفض محكمة النقض هذا الطعن من شركة الخطيب (ممّا يعني أنها أيدت حكم الاستئناف ببطلانه وأبرأت ساحة الشركة الأم).

ب- بالنسبة إلى الحكم الصادر ببطلان حكم التحكيم في حق الشركة الوليدة قضت محكمة النقض بإلغاء هذا الحكم لصالح شركة الخطيب وألزمت الوليدة بما حكمت به عليها هيئة التحكيم.

وتهمنا هنا أسباب محكمة النقض في تبرئة الشركة الأم، إذ قالت "من المقرّر في قضاء هذه المحكمة أنّ التحكيم طريق استثنائي لفضّ المنازعات قوامه الخروج عن طرق التقاضي العادية وما تكفله من ضمانات. وإذا كان اختصاص هيئة التحكيم بالفصل في النزاع المعروض عليها يرتكن أساساً إلى حكم القانون الذي أجاز استثناء سلب ولاية جهات القضاء، إلاّ أنّ التنظيم القانوني للتحكيم، إنما يقوم على رضاء الأطراف وقبولهم به لحسم كل أو بعض المنازعات التي نشأت أو يمكن أن تنشأ بينهم بمناسبة علاقة قانونية معيّنة عقدية أو غير عقدية فإرادة المتعاقدين هي التي توجد التحكيم وتحدّد نطاقه من حيث المسائل التي يشملها والقانون الواجب التطبيق وتشكيل هيئة التحكيم وسلطاتها واجراءات التحكيم وغيرها. وعلى ذلك متى تخلّف الاتفاق امتنع القول بقيام التحكيم وهو ما يعني نسبية أثره فلا يحتج به إلاّ في مواجهة الطرف الذي ارتضاه وقبل خصومته. ومجرد كون أحد أطراف خصومة التحكيم شركة ضمن مجموعة شركات تساهم شركة أم في رأس مالها لا يدل على التزام الأخيرة بالعقود التي تبرمها الأولى ما لم يثبت أنها تدخلت في الشركة الأخرى، وذلك كله مع وجوب التحقّق من توافر شروط التدخل أو الادخال في الخصومة التحكيمية، وفقاً لطبيعتها الاستثنائية. لمّا كان ذلك، وكان شرط التحكيم قد أبرم بين شركة كير للمشروعات الإنشائية المحتكم ضدها في الطعن رقم 4730 لسنة 72 ق وشركة الخطيب إنترناشيونال بتروليم سرفيس الطاعنة، وأن شركة كير سيرفس المطعون ضدها في الطعن الحالي لم تكن طرفاً في هذا الاتفاق ولم تتدخل في تنفيذه فلا يجوز إلزامها بشرط التحكيم الوارد فيه أو قبول إدخالها في خصومته. ولا يُعدّ الخطاب الصادر منها بتاريخ 6 يوليو 2001 الموجّه إلى هيئة التحكيم وفق عبارته الصريحة دليلاً على اتفاقها مع الطاعنة على التحكيم وفق مفهومه سالف البيان، ذلك أنّها تمسّكت فيه بطلب إخراجها منه. وإذ خلص الحكم المطعون فيه (حكم بطلان حكم التحكيم) إلى أنّ المطعون ضدها ليست طرفاً في اتفاق التحكيم أو تتدخل فيه أو في تنفيذه، ورتّب على ذلك بطلان حكم التحكيم بالنسبة لها، فإنه يكون قد التزم صحيح القانون، وكانت هذه الدعامة وحدها كافية لحمل قضائه بالنسبة لها، فإنّ النعي عليه في ما استطرد إليه في دعامته الثانية من عدم افتراض التضامن بين الشركتين ووجوب الاتفاق عليه أو النص عليه في القانون، أياً كان وجه الرأي فيه، يكون غير منتج .

وفي المقابل فقد ذهبت بعض أحكام التحكيم إلى أنّ شرط التحكيم الذي يَرِد في عقد أبرمته أحدى شركات المجموعة يمتدّ إلى الشركات الأخرى، بالرغم من عدم توقيعها على هذا العقد ما دامت قد شاركت في تكوين العقد وتنفيذه وإنهائه، الأمر الذي يفترض معه قبولها شرط التحكيم .

ولقد قضت هيئة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية بأنّ مجرد تدخل إحدى الشركات في المفاوضات السابقة على العقد لا يجعل منها طرفاً في هذا العقد إذا ما أبرمته شركة أخرى تنتمي إلى المجموعة ذاتها ، كما قضت في الوقت نفسه، بأنه إذا كان مسلك ممثل الشركة المتعاقدة أثناء التفاوض قد أضفى نوعاً من الثقة المشروعة بالتزام جميع شركات المجموعة بالعقد المتضمّن شرط التحكيم، فإنّ الشرط يكون ملزماً لجميع شركات المجموعة على الرغم من عدم توقيعها عليه .

وفي قضية KorsnasMarma : فقد حرصت محكمة استئناف باريس في حكمها الصادر في 3 نوفمبر 1988 على أن تؤكد من جديد أنّ شرط التحكيم المدرج في عقد دولي يتمتّع بالصحة والفعالية الذاتية، والتي تقتضي مدّ تطبيقه وإعماله على الأطراف المعنية مباشرة بتنفيذ العقد المدرج فيه هذا الشرط، والمنازعات الناشئة عن تنفيذه، وذلك بمجرد التحقّق من أنّ مكانتها ونشاطها يفترضان أنها كانت عالمة بوجود شرط التحكيم ومضمونه، على الرغم من عدم توقيعها العقد الذي نصّ على هذا الشرط.

وممّا تجدر ملاحظته أنّ القضاء في فرنسا يميل في إطار التحكيم الدولي، وذلك على عكس ما ذهب إليه في إطار التحكيم الداخلي، إلى مدّ نطاق شرط التحكيم على الأطراف التي لم توقّع عليه. إذ ذهبت محكمة استئناف باريس في حكمها الصادر في 14 فبراير 1989 ، وأيضاً في قضائها الصادر في 11 يناير 1991. إلى أنه وفقاً للأعراف السائدة في إطار التجارة الدولية، فإنّ شرط التحكيم المدرج في عقد دولي له صحة وكفاية ذاتية تقتضي أن يمتد تطبيقه إلى الأطراف المتصلة بشكل مباشر في تنفيذ العقد، والمنازعات الناشئة عنه، وذلك بمجرد التحقّق من أنّ مراكزهم التعاقدية وأنشطتهم والعلاقات التجارية المعتادة، القائمة بين الأطراف تدفع إلى الافتراض أنّهم قبلوا شرط التحكيم الذي يعلمون بوجوده ونطاقه، على الرغم من عدم توقيعهم العقد الذي تضمّن هذا الشرط .

ولعله من الضروري طرح السؤال الآتي:

ماذا لو كان شخص طبيعي يستحوذ على رؤوس أموال عدة شركات أو غالبية رؤوس أموالها فهل يمتدّ شرط التحكيم إليه؟

 وللجواب عن هذا السؤال نحيل إلى ما قرّرته هيئة التحكيم في هذه القضية رقم 12/1998 التي نظرت فيها هيئة التحكيم في مركز القاهرة الإقليمي:

عرضت هذه الصورة في القضية رقم 12/1998 لدى مركز القاهرة الاقليمي للتحكيم التجاري الدولي بصدد عقد بين شركة آسيوية اشترت بضائع من شركة افريقية من خلال معرض دولي، وتمت عملية تصدير البضائع إلى الطرف الآسيوي وهو من دول الاتحاد السوفياتي التي تحرّرت بانهياره، ولم تدفع الثمن إلى الطرف الافريقي، وكان الاتفاق بين الطرفين ينص على التحكيم في القاهرة دون تحديد مركز تحكيم معيّن. وفي هذه الحالة وجدت هيئة التحكيم أنّ أوصاف مركز التحكيم المنشود تنطبق على مركز القاهرة الاقليمي، وعلى أقصى تقدير، فإنّ التحكيم يمكن إجراؤه لدى هذا المركز باعتباره تحكيماً حراً. وسارت الاجراءات بإعلان الطرف الآسيوي بالجلسات ولتقديم بيان الدفاع فلم يحضر وأخذ يرسل دفاعه بوسائل الاتصالات، قائلاً إنه سيدفع وأن لديه أموالاً كثيرة وعنده مجموعة شركات يديرها بنفسه، وأنه يمتلك ثلاثة أرباع رأس مال بنك في بلاده. وأنه يتصرّف وحده في شؤون شركاته تصرّف المالكين. ورفض طلب المحتكمة ادخاله شخصياً خصماً متضامناً مع شركته في التحكيم وإلزامه بالتعويضات مع شركته المشترية.

انتهت هيئة التحكيم إلى قبول إدخال الشخص المسيطر على الطرف الآسيوي خصماً في الدعوى، وذلك بحكم جزئي (أنظر: أحكام التحكيم بمركز القاهرة الاقليمي – ج 3 ص 12. وما بعدها).

وقضت بإدخال صاحب الشركة المشترية لمساءلته شخصياً بالتضامن مع الشركة المشترية التي يعتبر هو المساهم الرئيسي فيها، وحدّدت لهما جلسة للحضور أمام هيئة التحكيم.

وقالت هيئة التحكيم إنّ القضاء الأمريكي يستخدم فكرة alter ego في الحالات التي تختلط فيها أموال الشركة بأموال أحد الشركاء الذي يتصرف كما لو كانت الشركة ضيعة يملكها بمفرده.

وطبّقت ذلك على القضية، معتبرة الشريك الذي يتصرف في أموال الشركة تصرفه في أمواله الخاصة، يجب مساءلته في أمواله الخاصة على ذلك. وهذا الحل قريب من الفقه الفرنسي بخصوص مدراء الشركات المساهمة، خاصة عند عجز الشركة عن الوفاء بديونها، وفي ما يتعلّق بما يسمّى "دعوى تكملة ما نقص من أصول الشركة" action en comblement de l’insuffisance de l’actif. وهذه الدعوى يعرفها القانون المصري في المادة 704 من قانون التجارة الجديد ويسمح بها، إذا وصل الجزء الناقص من أموال الشركة 80% من الأصول. فتقول المادة (704): "إذا طلب شهر إفلاس الشركة جاز للمحكمة أن تقضي أيضاً بشهر إفلاس كل شخص قام تحت ستار هذه الشركة بأعمال تجارية لحسابه الخاص وتصرّف في أموال الشركة كما لو كانت أمواله الخاصة".

وإذا تبيّن أنّ موجودات الشركة لا تكفي لوفاء 20% على الأقل من ديونها، جاز للمحكمة بناءً على طلب قاضي التفليسة أن تقضي بإلزام أعضاء مجلس الإدارة أو المديرين كلهم أو بعضهم بالتضامن بينهم أو بغير تضامن بدفع ديون الشركة كلها أو بعضها، إلاّ إذا أثبتوا أنهم بذلوا في تدبير شؤون الشركة عناية الرجل الحريص.

ويجوز للمحكمة من تلقاء ذاتها أو بناءً على طلب قاضي التفليسة أن تقضي بإسقاط الحقوق المنصوص عليها في المادة 588 من هذا القانون عن أعضاء مجلس إدارة الشركة أو مديريها الذين ارتكبوا أخطاء جسيمة أدّت إلى اضطراب أعمال الشركة وتوقفها عن الدفع.

والسؤال: هل يسري اتفاق التحكيم على الشركة بعد تعديل شكلها القانوني وتغييرها؟

والجواب:

يمكن سريان اتفاق التحكيم على الشركة حتى ولو تم تعديل شكلها القانوني، لأنّه لا يمكن تصوّر أن يسمح المشرّع بالجور على حقوق الغير من دائني الشركة بمجرد قيامها من تلقاء ذاتها بتعديل شكلها القانوني سواء تضمّن هذه الامكانية نظامها الأساسي وصار للشركة كيان قانوني آخر يلبي مقتضيات التعديل، أو لم يتضمّن نظامها الأساسي هذا الخيار، وهو ما يعني انقضاء الشركة الأصلية ودخولها في طور التصفية واستمرار شخصيتها القانونية بالقدر اللازم لإتمام التصفية. وقد حفل التطبيق القضائي والفقهي لقوانين التجارة المنظّمة لشركات الأشخاص والقوانين المدنية بمجموعة أحكام تعنى بحماية دائني الشركة وعدم نفاذ قرارات الشركة المتعلّقة بتعديل شكلها القانوني أو انقضائها قبل الموعد المحدّد لها، قبل دائنيها إلاّ بالقبول أو الإعلان  كما أنّ التعديل وقبوله أو الإعلان به لا يحول دون الاحتجاج بالاتفاقات والالتزامات الناجمة عن تعاقدات الشركة القديمة في مواجهة الشركة الجديدة الناتجة من هذا التعديل.

والسؤال أيضاً: ماذا لو انضمت شركة ما إلى شركة أخرى بصفتها شريكاً متضامناً؟

والجواب:

إنّ إحدى هيئات التحكيم رفضت الدفع بعدم سريان اتفاق التحكيم إلى الشركة المنضمّة تأسيساً على أنها انضمت إلى الشركة المدينة كشريك متضامن بموجب عقد تعديل عقد الشركة الأخير، ومن ثم فهي تُسأل عن ديون الشركة المذكورة مسؤولية تضامنية في جميع أموالها، كما لو كانت عقدت باسمها كشخص معنوي وقد خلا عقد التعديل سالف البيان من الاتفاق على عدم مساءلتها عن تلك العقود أو الديون. وبالتالي تحاج بشرط التحكيم الذي أبرمته الشركة المحتكم ضدها أولاً قبل تعديلها وانضمامها إليها.

والسؤال أيضاً: ماذا لو دخل شريك جديد متضامن في شركة تضامن، فهل يسري شرط التحكيم في مواجهته وهو الشرط الذي أبرمته الشركة التضامنية قبل دخوله؟

والجواب عن تلك الحالة:

إنّ دخول شريك متضامن في شركة تضامن يثير التساؤل عن مدى التزامه الشخصي والتضامني عن الديون للشركة السابقة، وهل يكفي انضمامه كشريك متضامن حتى يتساوى في المركز القانوني للشريك المتضامن القديم؟ ويفترض فيه العلم بديون الشركة السابقة قبل الغير؟

لا شك في أنّ الإجابة عن هذه التساؤلات تعتمد بداية على ما إذا كان النظام الأساسي يسمح بدخول أو خروج شركاء جدّد فيها. بحيث إذا سلّمنا بقانونية التعديل واستيفائه الشروط القانونية فإنّ الشريك الجديد يُسأل كأصل عام عن جميع ديون الشركة السابقة قِبل الغير بموجب مسؤوليته الشخصية والتضامنية، وبالتالي يسري شرط التحكيم في مواجهة هذا الشريك المتضامن الجديد.

الركن الخامس- التزام هيئة التحكيم النطاق الموضوعي للنزاع:

يمكن القول إنّ الطلب في الدعوى القضائية هو ذلك الإجراء الذي يتقدّم به شخص إلى القضاء عارضاً عليه ما يدّعيه، وطالباً الحكم له به، وتقسم الطلبات إلى قسمين رئيسيين: الطلبات الأصلية التي تفتح دعوى جديدة بموجبها، والطلبات العارضة التي تقدّم أثناء نظر الدعوى.

والطلبات العارضة التي تقدّم من المدعي تسمّى الطلبات الإضافية، وهي التي يطلب بموجبها المدعي في استدعاء الدعوى الحكم على المدعى عليه بمبلغ الدين فقط، ثم يتقدم أثناء المحاكمة بطلب الحكم بفائدة هذا الدين مثلاً، فيسمى هذا الطلب، الطلب الإضافي.

وكما هو معلوم فإنّه يحق للمدعى عليه أيضاً أن يتقدّم بطلب عارض، فقد لا يكتفي المدعى عليه بالدفاع عن نفسه في الدعوى المرفوعة عليه، وطلب ردّها، بل يتقدّم هو أيضاً بطلب الحكم على المدعي بحق يدّعيه قِبله.

وتقدّم الطلبات العارضة بمذكرة وتبلّغ إلى الخصم قبل يوم الجلسة، ويجوز أيضاً بإذن من الرئيس إبداء الطلبات العارضة شفاهة في الجلسة، وفي حضور الخصم، وتثبيتها في محضر الجلسة (م157 أصول المحاكمات المدنية السوري) وتلخّص طلبات المدّعي العارضة ما يتضمّن تصحيح الطلب الأصلي أو تعديل موضوعه لمواجهة ظروف طرأت أو تبيّنت بعد رفع الدعوى. أو ما يكون مكمّلاً للطلب الأصلي أو مترتّباً عليه أو متصلاً به بصلة لا تقبل التجزئة أو ما يتضمّن إضافة أو تغييراً في سبب الدعوى مع بقاء موضوع الطلب الأصلي على حاله أو طلب إجراء تحفظي أو مؤقت أو ما تأذن المحكمة بتقديمه.

أما طلبات المدعى عليه العارضة فتتلخّص في طلب المقاصة القضائية وطلب الحكم بتضمينات عن ضرر لحقه من الدعوى الأصلية أو من إجراء حصل فيها. وأي طلب يترتّب على إجابته ألا يحكم للمدّعي بطلباته كلها أو بعضها أو يحكم له بها مقيّدة بقيد لمصلحة المدعى عليه أو ما تأذن المحكمة بتقديمه ممّا يكون مرتبطاً بالدعوى الأصلية.

وهنا يثور التساؤل: عما إذا كانت الطلبات العارضة في الدعوى القضائية التي وردت في قانون أصول المحاكمات يمكن قبولها أيضاً في خصومة التحكيم...؟ 

وللإجابة عن هذا التساؤل لا بد من القول، إنّ التزام هيئة التحكيم بالعنصر الموضوعي للنزاع أمر في غاية الأهمية، نظراً لأنّ الاتفاق على التحكيم يعني حرمان القضاء – وهو صاحب الولاية الأصلية - من نظر النزاع، فهو يقرِّر وضعاً استثنائياً يجب تعيين أبعاده على وجه الدّقة، ولذلك فإنّه إذا خرج عن نطاق المحاكمة التحكيمية كان حكمه باطلاً، ولذلك يجب تعيين حدود النزاع وإلاّ كان الاتفاق ذاته باطلاً.

ولهذا فقد أوجبت التشريعات المختلفة أن يكون عقد التحكيم مكتوباً، وإلاّ كان باطلاً، والكتابة هنا شرط إثبات وليست شرط صحة، والحكمة من الكتابة هنا هي التزام المحكم مبدأ الدقة الواجبة في تعيين عناصر النزاع، وخاصة العنصر الموضوعي  مع الإشارة إلى أنّ التحكيم مستند إلى بند تحكيمي، فإنّ موضوع النزاع يتحدّد في إطار اللوائح المتبادلة بين الخصوم عند عرض النزاع على هيئة التحكيم وما يبدى فيها من مطالب، ويطرأ بعد ذلك من تعديل لهذه المطالب حتى موعد وضع القضية موضع المداولة تمهيداً لإصدار الحكم التحكيمي ، وفي ضوء ما تقدّم فإنّنا سنعرض للفقرات التالية:

أولاً– الفقه الرافض.

ثانياً– الفقه المؤيّد.

ثالثاً- وضع المسألة.

رابعاً- موقف المشرّع السوري.

خامساً- موقف المشرّع الفرنسي من المسألة محل البحث.

سادساً- الوضع في نظام التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية بباريس.

سابعاً– الوضع لدى قواعد مركز دبي للتحكيم الدولي.

 

أولاً– الفقه الرافض:

يذهب الرأي التقليدي في الفقه إلى أنّ قاعدة قاضي الأصل هو قاضي الفرع لا محل لتطبيقها في خصومة التحكيم ، باعتبار أنّ ولاية المحكم محصورة في ما تنصرّف إليه إرادة المتعاقدين، ولا يملك المحكم الفصل في مسألة متفرعة عن اتفاق التحكيم، طالما أنّ الأطراف لم يفوضوا اليه الفصل فيها، وإلاّ أخلّ بمبدأ حياده. وقد دعّم أصحاب هذا الرأي موقفهم بالحجج والأسانيد الآتية: إنّ تعديل نطاق الخصومة يستوجب اتفاق جميع الخصوم ولا يملك المحكم الاستقلال بتعديل نطاق الخصومة من تلقاء نفسه أو بناءً على طلب من أحد الخصوم فقط دون الآخر . إنّ المحكم حين يقبل المهمة فإنّه يقبلها في ضوء النزاع المعروض عليه، وله الحق في رفض التصدي لأية منازعات جديدة قد تجاوز خبرته أو تقتضي جهداً ووقتاً إضافياً وأتعاباً جديدة. يذهب أصحاب هذا الرأي إلى القول أنّ الأصل أن تتحدّد الخطة الإجرائية تبعاً لطبيعة النزاع، وقد يتطلّب تعديل نطاق خصومة التحكيم تعديلاً جوهرياً في الإجراءات وهو ما لا يملك المحكم الاستقلال بإجرائه احتراماً لإرادة الخصوم وتوقعاتهم، فضلاً عن تعقّد ربط الإجراءات

والواقع أنه لا يمكن قبول مثل هذا الرأي، لأنّ الطلبات العارضة لا تدخل في نطاق الخصومة الأصلية، إلاّ باتفاق الخصوم، إذن فالمسألة لا تزال اتفاقية. وولاية المحكم لا تستمد إلاّ من الاتفاق وما يتفرع عنه.

ثانياً– الفقه المؤيّد:

لقد استقر الرأي بما لا يدع مجالاً للشك في ثبوت ولاية المحكم الذي ينظر الدعوى بالفصل في الدفوع وأوجه الدفاع المتفرعة عنها، إعمالاً لمبدأ أنّ  قاضي الأصل هو قاضي الفرع، وهذه بديهية، لأنّ الدفع في الواقع هو وسيلة من وسائل استعمال الدعوى، فهو كالطلب، كلاهما يحمل ادعاءً أمام القضاء فالذي يدفع بالبطلان، كأنه يدّعي البطلان، ومن يدفع  بعدم الاختصاص أمام المحكم كأنه يدّعي أنّ المحكم غير مختص، ويقول أصحاب هذا الرأي أنّ غاية ما هنالك أنّ الطلب فعل والدفع ردّ فعل ولا يعقل أن يقدّم الفعل أمام محكم ويتخذ ردّ الفعل أمام محكم آخر. وقد دعّم أصحاب هذا الرأي موقفهم بالحجج والأسانيد الآتية:

1- يجب على هيئة التحكيم أن تنظر في الطلبات العارضة وتفصل فيها تحت طائلة إنكار العدالة. وأنه على هيئة التحكيم أن تجيب عن جميع الطلبات المقدمة إليها، فإن هي أغفلت الإجابة عن طلب من هذه الطلبات تعرّض حكمها للبطلان أو الاستئناف حسب مقتضى الحال.

2- من حق الخصوم أن يعدّلوا نطاق خصومتهم، وعلى المحكم أن يقرّهم على ذلك إعمالاً لحق الدفاع الذي لا ينفكّ عن حق التقاضي.

3- إنّ حرمان الخصم تقديم طلب عارض في خصومة التحكيم فيه إهدار لمعنى الطلب، لأنّ الطلب دائماً تعبير عن رغبة، أي أنه تعبير بالإرادة المنفردة ، وكما أنه يجوز للمدّعي تقديم طلب إضافي بإرادته المنفردة، وأنه إعمالاً لفكرة التوازن بين المصالح المتعارضة، فإنّه يجب قبول الطلبات العارضة المقدّمة من المحتكم ضده .

4- إنّ المحكم الذي تعجز كفاءاته المهنية عن الفصل في طلب عارض في خصومة التحكيم يجب عليه أن يتنحّى، فإن لم يفعل ذلك عزله الخصوم.

5- إنّ الذي يعدّل نطاق الخصومة هم الأطراف، وهم الذين يملكون تعديل الخطة الإجرائية، وإنّ هذه الخطة لا بد من أن تكون مرنة، وخصوصاً في خصومة التحكيم.

 

ثالثاً– وضع المسألة:

الأصل هو مبدأ ثبات النزاع بعناصره الثلاثة: الأطراف والموضوع والسبب. غير أنّ هذا الأصل نظري خالص  ويتراجع أمام قوة الأسس السابق بيانها التي تقوم عليها إمكانية تعديل الموضوع أو السبب بما يعرف بالطلبات العارضة، وهذه الأسس تتمثّل في ما سمّي مبدأ الرشادة الإجرائية بما في ذلك ترشيد استخدام فكرة الوقت في الدعوى ومبدأ حسن التقدير القضائي، ومنع تعارض الأحكام، واحترام حقوق الدفاع، وهذه الأسس من الصعب علينا التضحية بها في التحكيم لمجرد القول أنّ خصومة التحكيم تأبى على بعض القواعد الإجرائية المألوفة، نعم هي كذلك، ولكن لا بد من ضبط المسألة بما لا يخلّ بضمانات التقاضي الأساسية.

إذن فالأصل هو ثبات النزاع، والتزام المحكم موضوع الدعوى، كما حدّده الخصوم في نطاقه الأول، وبموضوع العقد الأساسي والاستثناء هو تعديل هذا النطاق .

من ناحية، فإنّ الاتفاق على التحكيم هو الذي يضع للمحكم حدود سلطته أو ولايته من الناحية الموضوعية، ولذلك حرصت المعاهدات الدولية والتشريعات الوطنية وأنظمة مراكز التحكيم المؤسسي على تنظيم ما يعرف ببيان الدعوى  الذي يحدِّد العناصر الثلاثة للادعاء من حيث الموضوع والأطراف والسبب ويجب على المحكم التقيد بهذه العناصر، وإلاّ يكون قد أخلّ بمبدأ الحياد.

وبنفس القدر الذي يلتزم فيه المدّعي ببيان الدعوى يلتزم كذلك ببيان الدفاع، وقد جمع القانون النموذجي بين البيانين في مادة واحدة، حيث نصّت المادة 23 منه على أنّه:

"على المدّعي أن يبيّن خلال المدة التي يتفق عليها الطرفان أو تحدّدها هيئة التحكيم الوقائع المؤيدة لادعائه، والمسائل موضوع النزاع، والتعويض المطلوب، وعلى المدعى عليه أن يقدّم دفاعه في ما يتعلق بهذه المسائل، ما لم يكن الطرفان قد اتفقا بطريقة أخرى على العناصر التي يجب أن يتناولها هذان البيانان، ويقدم الطرفان مع بيانيهما كل المستندات التي يعتبران أنها ذات صلة بالموضوع، أو يجوز لهما أن يشيرا إلى المستندات والأدلة الأخرى التي يعتزمان تقديمها".

ولهذا فإنّ مبدأ حياد هيئة التحكيم وما تقتضيه من التزام بعناصر النزاع، وخاصة العنصر الموضوعي لا يعني جمود أو ثبات هذا العنصر عند بدايته، كما حدّده الأطراف، بل يجوز لهم تعديله في أيّة مرحلة من مراحل الخصومة، ويجب على هيئة التحكيم أن تفسح المجال لذلك، وذلك إعمالاً لحقوق الدفاع، على ألاّ يكون ذلك على حساب قيمة الوقت في خصومة التحكيم . ولذلك فقد نصّت المادة 23/2 من القانون النموذجي على أنّه: "ما لم يتفق الطرفان على شيء آخر، يجوز لكل منهما أن يعدِّل ادعاءه أو دفاعه أو أن يكمله خلال سير الإجراءات، إلاّ إذا رأت هيئة التحكيم أنه من غير المناسب إجازة مثل هذا التعديل لتأخر وقت تقديمه".

وتأخير وقت تقديم طلب التعديل يعني في لغة قانون المرافعات قفل باب المرافعة، إلاّ أنّ هذا لا يعني الترادف الحتمي بين الأمرين، فقد ترى الهيئة ذلك قبل قفل باب المرافعة وقد ترى إمكان ذلك بعد قفل باب المرافعة، ولذلك نصّت اتفاقية عمان العربية على أنّه: " يجوز للهيئة إما تلقائياً أو بناءً على طلب أحد طرفي النزاع أن تقرّر في أي وقت بعد قفل باب المرافعة وقبل النطق بالقرار فتح باب المرافعة من جديد لأسباب وجيهة".

والأسباب الوجيهة هنا هي مناط إعادة فتح باب المرافعة، وهي مسألة موضوعية تخضع للسلطة التقديرية لهيئة التحكيم، وعلى الهيئة أن تأخذ أقصى درجات الحيطة والحذر عند إعادة فتح باب المرافعة لقطع الطريق على هواة الكيد والمماطلة، وخاصة أنّ الخصم بعد قفل باب المرافعة قد يستشعر ضعف موقفه في الدعوى فلا تهمه السرعة في إصدار الحكم فيها بقدر ما يهمه إعاقة وإرباك هيئة التحكيم في إنجاز الخصومة.

ولكن ممّا يثور في هذا المقام التساؤل عما إذا كانت كافة الدفوع المعروفة في قانون المرافعات مقبولة لدى هيئة التحكيم...؟

لقد ذهب رأي جدير بالاعتبار إلى أنّ خصوصية خصومة التحكيم وما تقتضيه من ضرورة التخلص من القيود الشكلية التقليدية في الخصومة القضائية تأبى التطبيق الحرفي للقواعد الحاكمة للدفوع من حيث أنواعها ومن ناحية النظام الإجرائي للتمسّك بها، من ناحية أخرى.

فالأخذ بكافة أنواع الدفوع من موضوعية، وشكلية، ودفوع بعدم القبول من شأنه إعاقة خصومة التحكيم عن بلوغ غايتها في الوقت المناسب، وإنما يؤخذ منها ما يتفق وطبيعتها، وقد عبّر عن هذا الرأي الأستاذ الدكتور أحمد السيد صاوي بعبارة لا تخلو من دلالة موحية، حيث قال: "إنّ هذه الأسلحة الإجرائية التي تعيق القضاء وتجعل العدالة بطيئة حتى تزهق روحها قبل أن تبلغ صاحبها، تخلو منها ساحة التحكيم إلاّ من قليل.." .

بينما يذهب رأي آخر إلى أنّ كل الدفوع مقبولة في التحكيم، ومنها الدفوع الموضوعية – والدفوع بعدم القبول، كالدفع بانتفاء المصلحة أو الصفة أو وجود عيب فيها والدفع بالتقادم، والدفع بسابقة الفصل في الدعوى.

والواقع أنّه إذا لم تكن كل الدفوع مقبولة أمام المحكم، ولا تمتد ولايته إلاّ إلى ما يتفق مع خصوصية التحكيم، فإنّ من البديهي أن يكون محكم الدعوى هو محكم الدفع، ويصدق ذلك على الدفع بالمعنى الدقيق، وكذلك أدلة الإثبات.

وفي ذلك تكريس لضمانة احترام حقوق الدفاع في خصومة التحكيم باعتبارها الضمانة التقليدية التي لا يمكن التحرّر منها. ولذلك استقرت التشريعات الدولية في التحكيم، وكذلك أنظمة مراكز التحكيم الدائمة، والتشريعات الوطنية على تكريس هذه البديهة.

من ذلك مثلاً ما نصّت عليه المادة 16 من القانون النموذجي للتحكيم من ولاية هيئة التحكيم في بت الدفع باختصاصها وأية دفوع تتعلّق بوجود أو صحة اتفاق التحكيم، أو الدفع بتجاوز الولاية، وما نصّت عليه المادة 23 من دفوع المدّعى عليه، وإمكانية تعديلها (م 23/2)، وقبول الأدلة (م 24)، (م 25/2).

ولكن صلاحية المحكم في نهاية المطاف كما هو معلوم تتحدّد بالمسائل التي اتفق على التحكيم بشأنها، ومن ثم فمن المفهوم أنّ الطلبات العارضة لا تكون مقبولة أمام هيئة التحكيم، إلاّ إذا كانت داخلة في نطاق المنازعات التي اتفق على التحكيم بشأنها وسلطة هيئة التحكيم في تقدير قبول الطلبات من عدمها مناطها في النهاية اتفاق التحكيم.

وهذا ما جاء في العديد من نصوص أنظمة مراكز التحكيم، ومن ذلك ما نصّت عليه المادة 20 من لائحة تحكيم غرفة التجارة الدولية بباريس الخاصة بالأدلة وقبولها، ولائحة مركز القاهرة الإقليمي، ومن ذلك المادة 19 الخاصة ببيان الدفاع المقدّم من المدعى عليه، وتعديله (م 20) والدفع بانتفاء الولاية أو تجاوزها (م 21) والمادة (24) الخاصة بأدلّة الإثبات.

وقد ردّدت التشريعات الوطنية ذلك الأمر، ومن ذلك ما نصّت عليه المادة (1466) من تقنين المرافعات الفرنسي الخاصة بالاختصاص بالدفع بالاختصاص. والدفع بالتزوير (م 1467). وإذا وجد في حيازة أحد الخصوم عنصر من عناصر الإثبات يجوز للمحكم أن يأمره بإبرازه (م 1460 م2) .

 

رابعاً- موقف المشرّع السوري:

وقد نصّت الفقرة الثانية من المادة 28 من قانون التحكيم السوري رقم 4 لعام 2008 على ما يأتي: "للمدعى عليه أن يضمّن ردّه أية طلبات عارضة متّصلة بموضوع النزاع أو يتمسّك بحق ناشئ عنه بقصد الدفع بالمقاصة، وله ذلك أيضاً في مرحلة لاحقة من الإجراءات إذا رأت هيئة التحكيم أنّ الظروف تسوِّغ التأخير".

ويستفاد من هذه المادة أنّ جواز تقديم الطلبات المقابلة من المدعى عليه مرهون بأن تكون متصلة بالنزاع.

ويستفاد من ذلك جواز تقديم الطلبات العارضة في خصومة التحكيم من قبل المدعى عليه. والواقع أن المشرع السوري حينما أجاز تقديم الطلبات العارضة في خصومة التحكيم، فإنّه لم يترك الأمر بلا ضوابط، بل قيّد ذلك بأشد ممّا قيّد به الطلبات العارضة في الخصومة العادية، فإذا كان مناط قبول الطلب العارض في الخصومة القضائية، هو بصورة الارتباط بينه وبين الطلب الأصلي، وهو إما أن يكون ارتباطاً مفترضاً بقوة القانون أو ارتباطاً واجب الإثبات ، وقد يكون ارتباطاً بسيطاً، وقد يكون متصلاً لا يقبل التجزئة إلاّ أنه في خصومة التحكيم يجب أن يكون الطلب حسب تعبير المشرّع – متصلاً بموضوع النزاع وهذا يعني أنّ المشرّع السوري قد اشترط أن يكون الطلب في خصومة التحكيم مرتبطاً بأقوى درجات الارتباط . وهذا ما تترتب عليه النتائج الآتية:

1-إنّ تقدير ارتباط الطلبات العارضة بخصومة التحكيم والتوقيت الذي قدمت فيه يرجع بلا تردد إلى سلطة المحكم، لأنه هو المختص بالفصل في اختصاصه.

2-إنّ مناط قبول الطلب المقابل هو دخوله في إطار التحكيم المتفق عليه . فإذا كان داخلاً فيه كان مقبولاً سواء كان مرتبطاً بالطلب الأصلي (استدعاء الدعوى) المقدم من المدعي أو لم يكن مرتبطاً به..

3-إنّ طلب الحكم بالتعويضات عما لحق المدعى عليه من ضرر في الدعوى الأصلية أو من إجراء فيها لا يكون مقبولاً أمام هيئة التحكيم ما لم يُتصور جدلاً النص على ذلك صراحة في اتفاق التحكيم.

إنّ كل طلب يترتّب عليه ألاّ يُحكم للمدعي بطلباته كلها أو بعضها أو أن يُحكم بها مقيدة لمصلحة المدعى عليه، وكل طلب يكون متصلاً بالدعوى الأصلية اتصالاً لا يقبل التجزئة، يكون دائماً مقبولاً أمام هيئة التحكيم دون فارق بينها وبين القضاء، لأنه يكون دائماً وبطبيعته داخلاً في إطار التحكيم. ومثال ذلك طلب الإبطال أو الفسخ الذي يردّ به المدعى عليه على طلب التنفيذ المقدّم من المدّعي، وطلب تقرير حق ارتفاق على الأرض التي يطلب المدعي تقرير ملكيتها وطلب تقرير ملكية العقار الذي يطلب المدعي تقرير ملكيته له.

4- إنّ طلب المقاصة القضائية لا يكون مقبولاً أمام هيئة التحكيم، إلاّ إذا كان الحق الذي يتمسّك به المدعى عليه بهدف إجراء المقاصة بينه وبين الحق الذي يطالب به المدّعي ناشئاً عن العلاقة محل التحكيم.

 وقد أكّد المشرّع السوري مسألة الطلبات العارضة في المادة 30 من قانون التحكيم والتي نصّت على ما يأتي: "لكل من طرفي التحكيم تعديل طلباته أو أوجه دفاعه أو استكمالها خلال سير الدعوى التحكيمية ولهيئة التحكيم ألاّ تقبل هذا التعديل أو الاستكمال إذا تبيّن لها أنّه قدِّم متأخراً بقصد تعطيل الفصل في النزاع أو تأخيره".

ولكن الملاحظ في هذه المادة أنّ المشرّع السوري قد حصر شروط قبول الطلب العارض في مسألة الوقت فقط، ولم يذكر المشرّع في هذه المادة وجوب ارتباط الطلب العارض بموضوع النزاع، فهل معنى ذلك أنّ المشرِّع السوري قد تخلّى عن شرط ارتباط الطلب العارض بموضوع النزاع؟ وممّا يجعل هذا السؤال ملحاً أنّ هذه المادة قد شملت كلاً من المدعي والمدعى عليه

لكل من طرفي التحكيم-. 

 ومن جانبنا نرى أنه للإجابة عن هذا التساؤل يمكن القول:

 إنّ تفسير هذه المادة في مفهوم خصومة التحكيم تعني أنه لا غنى عن الشرط الأول أي ارتباط الطلب العارض بموضوع النزاع، وذلك للأسباب الآتية:

1- إنّ هذه المادة هي مادة مكمِّلة للمادة 28 السالفة الذكر.

2- إنّ هذه المسألة أضحت بديهية مسلمة لا يناقش فيها أحد، ذلك أنّ كافة الاتجاهات الفقهية التي أجازت قبول الطلبات العارضة في خصومة التحكيم اشترطت أن تكون متعلّقة بموضوع النزاع

3-ولكن مع ذلك، فإنّه لا يمكن فتح الباب على مصراعيه لكل الطلبات سواء كانت متعلّقة بموضوع النزاع أم لم تكن كذلك، حيث أنه لا بد من تفسير اتفاق التحكيم تفسيراً ضيّقاً، لأنّ أساس التحكيم هو اتفاق أطراف النزاع عليه، ويتوجب على هيئة التحكيم التقيّد بكل شرط وارد في الاتفاق، ثم أنه يجوز تجزئة المسائل العقدية في العقد الواحد، بحيث يتفق الطرفان على إحالة النزاعات التي تتعلّق ببعض هذه المسائل إلى التحكيم، دون غيرها من المسائل. وفي هذه الحالة ينحصر اختصاص هيئة التحكيم بالمسائل المحدّدة بالاتفاق دون غيرها ، ومثال ذلك أن يكون العقد بيعاً ويتضمّن في الوقت ذاته كفالة شخص ثالث في دفع الثمن. فيتفق الأطراف على أنّ أي نزاع بينهم حول هذه الكفالة، يحال إلى التحكيم. في هذا المثال، إذا نشأ نزاع أمام هيئة التحكيم يتعلّق ببعض أحكام البيع وليس الكفالة، فإنّ هذا النزاع لا يخضع للتحكيم، وعلى الهيئة أن تحكم بعدم اختصاصها .

ومن الأمثلة الأخرى التي لا تكون فيها هيئة التحكيم مختصة، أن يكون هناك أكثر من عقد بين نفس الطرفين، وينص أحد هذه العقود على التحكيم، في حين لا تتضمّن العقود الأخرى ذلك حتى ولو كان بينها ارتباط  -  . 

 

خامساً- موقف المشرّع الفرنسي من المسألة محل البحث:

نصّت المادة 1460/2 من تقنين المرافعات الفرنسي على أنّه "المبادئ الأساسية الحاكمة للخصومة المنصوص عليها في المواد من 4 إلى 10، و11/1 و13 إلى 21 تنطبق دائماً على خصومة التحكيم".

ويبدو جلياً من هذا النص أنّ ضمانات التقاضي الأساسية التي دائماً ما يقال إنّها تنطبق على خصومة التحكيم تجد موطنها الأساسي في المواد المشار إليها. وعلى رأسها المادة الرابعة من تقنين المرافعات الفرنسي التي تنص صراحة على مبدأ أنّ موضوع النزاع يتحدّد بالادعاءات المتبادلة بين الخصوم، وإنّ هذه الادعاءات تتحدّد بصحيفة افتتاح الخصومة ومذكرات الدفاع، إلاّ أنّ موضوع النزاع يمكن تعديله بالطلبات العارضة متى كانت مرتبطة بالادعاءات الأصلية برابطة كافية .

ويقصد بالطلبات العارضة في القانون الفرنسي الطلبات المعروفة نفسها في قوانين المرافعات العربية، حيث نصّت المادة 63 من تقنين المرافعات الفرنسي بأنّ الطلبات العارضة هي الطلبات المقابلة والطلبات الإضافية.

وعرفت المادة 64 الطلبات المقابلة بأنها الطلبات التي يريد منها المدعى عليه الحصول على ميزة غير مجرد رفض ادّعاء المدّعي دون تحديد أنواع معينة. وعرفت المادة 65 الطلب الإضافي بأنه الطلب الذي يريد به الخصم أن يعدّل ادعاءاته السابقة، دون تحديد أنواع معيّنة، ولذلك يمكن القول إنّ نطاق الطلبات العارضة في القانون الفرنسي أوسع منه في القانون المصري، والقوانين التي أخذت عنه. وقد أكدت المادة 70 من تقنين المرافعات الفرنسي على الشرط نفسه المشار إليه في المادة 4 منه، والخاص بقبول الطلب العارض بأن يكون مرتبطاً بالطلب الأصلي برابطة كافية، فيما عدا طلب المقاصة القضائية.

وفي هذا الإطار، وفي حدوده تأتي بعد ذلك المادة الخامسة من تقنين المرافعات الفرنسي التي أحالت إليها المادة 1460/2 مرافعات بشأن التحكيم، باعتباره من المبادئ الأساسية للخصومة، لتنصّ على أنه يجب على القاضي، ومن ثم المحكم أن يفصل في كل ما هو مطلوب، وفي حدود ما هو مطلوب فقط. وإلاّ يكون قد خرج عن ولايته، وأخلّ بمبدأ حياده. ويسلّم الاجتهاد الفرنسي، بأن اختصاص المحكم يمتد بطبيعة الأمر إلى كل الطلبات الملحقة أو التبعية شرط أن تكون مرتبطة بالطلب الأصلي برابطة وثيقة، وعلى هذا النحو فإنّ المحكمين لا يتجاوزون حدود مهمتهم، وعندما يعهد إلى المحكمين بمهمة تصفية الحسابات بين الأطراف، فإنه يمكنهم إجراء مقاصة ، من دون أن يعتبروا متجاوزين حدود مهمتهم.

سادساً- الوضع في نظام التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية بباريس:

لقد فرّقت غرفة التجارة الدولية بين المرحلة السابقة على توقيع أو اعتماد وثيقة التحكيم والمرحلة اللاحقة: أمّا المرحلة الأولى: فقد نصّت المادة 4/6 على أنّه: "إذا قدّم طرف من الأطراف طلب تحكيم مرتبط بعلاقة قانونية تشكِّل موضوع تحكيم بين نفس الأطراف خاضع لهذا النظام، فيجوز للهيئة بناءً على طلب أحد الأطراف أن تقرِّر ضم الطلب أو المطالب المقدّمة لتُنظر مع التحكيم القائم، شرط ألا يكون قد تم بعد التوقيع على وثيقة المهمة أو قد تم اعتمادها من الهيئة، أمّا إذا كان التوقيع على الوثيقة قد تم أو وقع اعتمادها من الهيئة فلا يمكن ضم المطالب إلى التحكيم القائم، إلاّ طبقاً للشروط المنصوص عليها في المادة 19".

أمّا المرحلة الثانية: بعد توقيع أو اعتماد وثيقة المهمة، فقد نصّت المادة 19 من نظام تحكيم غرفة تجارة باريس على أنّه: "لا يجوز للأطراف بعد التوقيع على وثيقة المهمة أو اعتمادها من قبل الهيئة أن يتقدّموا بأية طلبات جديدة، مقابلة أو غير مقابلة، تتجاوز ما ورد في وثيقة المهمة، إلاّ إذا أجازت محكمة التحكيم ذلك، آخذة بعين الاعتبار طبيعة هذه الطلبات الجديدة، الأصلية أو المقابلة، والمرحلة التي بلغتها إجراءات التحكيم أو أية ظروف أخرى ذات صلة".

 وهكذا يتضح لنا أنه في المرحلة الأولى فإنّ الأصل هو قبول الطلبات العارضة بشرط أن تكون مرتبطة بالعلاقة القانونية الأساسية محل التحكيم. وفي المرحلة الثانية، فأنّ الأصل هو عدم قبول هذه الطلبات إلاّ إذا كانت طبيعتها والمرحلة التي وصلت إليها خصومة التحكيم تسمح – في نظر محكمة التحكيم - بقبولها على سبيل الاستثناء.

سابعاً- وضع المسألة في مركز دبي للتحكيم الدولي:

نصّت المادة 26 من قواعد مركز دبي للتحكيم الدولي على ما يأتي:

"1- مع مراعاة أي اتفاق بين الأطراف على خلاف ذلك يجوز لأي من الأطراف أن يعدِّل دعواه أو ادعائه المتقابل أو دفاعه، أو يضيف إليها أثناء سير إجراءات التحكيم، إلاّ إذا وجدت الهيئة أنه لا يجوز السماح بمثل ذلك التعديل بالنظر إلى طبيعته، أو التأخير الذي يمكن أن يؤدي إليه، أو الإجحاف الذي قد يسببه ذلك للطرف الآخر أو لأية ظروف أخرى.

2- بعد تقديم مذكرة الدعوى ومذكرة الدفاع والدعوى المتقابلة، لا يجوز لأي طرف أن يقدّم طلبات أو دعاوى متقابلة جديدة ما لم تسمح الهيئة بذلك آخذة في الاعتبار طبيعة تلك الطلبات الجديدة أو الدعاوى المتقابلة والمرحلة التي وصل إليها التحكيم وأية ظروف أخرى".

ونحن من جانبنا يمكن أن نفسِّر هذا النص بمصطلحات التحكيم فنقول:

من الواضح أنّ التزام هيئة التحكيم بعناصر النزاع الموضوعية لا يعني جمود أو ثبات هذا العنصر عند بدايته، كما حدّده الأطراف، بل يجوز تعديله، وعندما أجازت هذه المادة للطرفين تعديل طلباتهما وأوجه دفاعهما أو استكمالها فإنّها قيّدت ذلك بقيدين:

القيد الأول: أعطت هيئة التحكيم سلطة تقديرية في قبول ذلك فلها أن تقرِّر أنه من غير المناسب إجازة التعديل لتأخّر وقت تقديمه أو لما قد ينشأ عنه من ضرر للطرف الآخر أو لأية ظروف أخرى.

وذلك احتراماً لقيمة الوقت في الدعوى من ناحية، وعدم الإضرار بالطرف الآخر، من ناحية ثانية، واحتراماً لحقوق الدفاع من ناحية ثالثة، حيث قد لا يكون من الملائم قبول هذا التعديل لمفاجأته للخصم الآخر وعدم تمكّنه من الدفاع في الوقت المناسب، وهذه من قبيل - الظروف الأخرى - التي وردت في المادة.

القيد الثاني: لا يجوز إدخال تعديلات على طلب يكون من شأنها إخراج هذا الطلب بعد تعديله من نطاق اتفاق التحكيم، وذلك احتراماً لفكرة التوقّعات المشروعة للمحتكمين، والمحكمين على حد سواء، وهذا من قبيل عبارة - بالنظر إلى طبيعته - التي وردت في المادة.

والسؤال: ماهي النتائج التي تترتّب على عدم تقيّد هيئة التحكيم بالإطار الموضوعي لخصومة التحكيم؟

والجواب:

تحدِّد مهمة المحكم في الفصل بالمنازعة المعروضة عليه من خلال إرادة الطرفين واتفاق التحكيم الذي يستمدّ منه المحكم كل سلطة وسلطان. فإرادة الأطراف واتفاقهم هي التي ُتعيّن موضوع النزاع أي الأمور التي يجب على هيئة التحكيم الفصل فيها، ولهذا فإنّه من المنطقي أن يتقيّد المحكم عند فصله في المنازعة بإصدار الحكم بحدود المهمة الموكولة إليه، وهذا يعني إمكانية بطلان حكم المحكم الذي فصل في النزاع بما لا يتفق مع المهمة المعهودة إليه. وقد نصّت الفقرة (و) من المادة 50 من قانون التحكيم السوري رقم 4 لعام 2008 على إمكانية الطعن بالبطلان على حكم التحكيم.

و- "إذا فصل حكم التحكيم في مسائل لا يشملها اتفاق التحكيم أو جاوز حدود هذا الاتفاق ومع ذلك إذا أمكن فصل أجزاء الحكم الخاصة بالمسائل غير الخاضعة له فلا يقع البطلان إلاّ على الأجزاء الأخيرة وحدها ".

والواقع أنّ نص الفقرة المذكورة يشمل ثلاث فرضيات:

 الفرض الأول: وهو حالة فصل حكم التحكيم في مسائل لم يشملها التحكيم.

 الفرض الثاني: وهو حالة تجاوز الحكم اتفاق التحكيم.

 الفرض الثالث: ويتمثّل فيما إذا كان من الممكن فصل أجزاء الحكم بالمسائل الخاضعة للتحكيم عن المسائل غير الخاضعة له.

وسنحاول في استعراض سريع لتلك الحالات التي جاءت الفقرة المذكورة على ذكرها:

الحالة الأولى: وتتمثّل هذه الحالة عندما تقوم هيئة التحكيم بالفصل في مسائل لم يشملها التحكيم حيث أن هيئة التحكيم ُتعتبر مخالفة للمهمة التي ارتبطت بها، ولهذا فإنّ الفصل في مسائل تخرج عن نطاق المهمة يؤدي إلى إمكانية الطعن وبطلان حكم التحكيم،  وقد يحدث أن يكون اتفاق التحكيم عاماً، وعلى الرغم من التزام هيئة التحكيم حدود هذا الاتفاق فإنّ المحكمين قد يتصدون للفصل في مسائل وطلبات لم تقم الأطراف بعرضها على الهيئة، هذا وإنّ إقدام هيئة التحكيم على الإتيان بمثل هذا السلوك يجعل حكم التحكيم معيباً على نحو يعرّضه لوجه من أوجه البطلان. وفي اجتهاد لمحكمة النقض المصرية جاء فيه "لأنّ التحكيم طريق استثنائي للتقاضي أساسه إرادة طرفي النزاع ويتضمّن الخروج على التقاضي بواسطة قضاء الدولة، فإنه يكون مقصوراً على ما تنصرف إرادة الطرفين إلى عرضه على التحكيم. فإن ورد التحكيم على ما لم تنصرف إرادة الطرفين إلى عرضه على التحكيم، فإنّ الحكم يصدر ممن لا ولاية له بالفصل فيه لدخوله في اختصاص قضاء الدولة صاحب الولاية العامة بنظر القضايا". – نقض تجاري- 26/11/2002 في الطعن 89 لسنة 70 ق.

وفي اجتهاد آخر لمحكمة استئناف القاهرة جاء فيه: "ويمكن للطرفين قصر التحكيم الذي ينص عليه شرط التحكيم على بعض المنازعات المتعلّقة بالعقد دون البعض الآخر. فإن اتفقا على التحكيم بشأن تفسير العقد أو تنفيذه فإنّ هذا الشرط لا يغطي المنازعات المتعلّقة ببطلان العقد. ذلك أنّ تفسير الاتفاق على التحكيم باعتباره يرد على خلاف الأصل العام في ولاية قضاء الدولة يجب أن يفسّر بالنسبة للمسائل التي يشملها تفسيراً ضيقاً. وتفسّر عباراته بالنسبة للمسائل التي يشملها تفسيراً ضيقاً دون قياس أو توسع بحيث تقصر ولاية المحكمين على ما ورد صراحة في اتفاق التحكيم" – استئناف القاهرة -91 تجاري - 29/11/2004 في الدعوى 73 لسنة 120 ق. تحكيم.

فالقرار التحكيمي يعتبر باطلاً إذا فصل في الحقوق العقارية لأحد الأطراف مثلاً بينما لم يكن مختصاً إلاّ بتحديد مصير النظام القانوني للشركة. وتجدر الإشارة إلى وجوب أن يكون موضوع النزاع محدداً في العقد التحكيمي، ولكن يعود للطرفين في ما بعد الاتفاق على تعديل هذا الموضوع بالشكل الذي يريانه مناسباً لهما، وهذا يعني أنه يجوز للطرفين أن يختارا القاعدة القانونية التي يجب تطبيقها على الحكم حيث أنه يعود لهما الاتفاق على تحديد النطاق القانوني للنزاع وتقييد المحكم بوصف معيّن وبنقاط قانونية يريدان حصر المناقشة بها. وإزاء ذلك فإنّه يتعيّن على المحكم أن يتقيّد بالنطاق المحدّد للنزاع وبحدود المهمة المعينة له في اتفاق ولوائح الطرفين، وذلك حتى موعد رفع القضية للمداولة تمهيداً لإصدار الحكم التحكيمي فيها.

الحالة الثانية: وتتمثل هذه الحالة إذا جاوز الحكم التحكيمي اتفاق التحكيم حيث يكون الحكم في مثل هذه الحالة عرضة للإبطال أيضاً، وذلك لخروجه عن حدود المهمة المعيّنة له. وقد اعتبر الاجتهاد المصري أنّ هيئة التحكيم تُعتبر أنها قد تجاوزت وخرجت عن حدود المهمة الموكولة إليها، إذا قضت بإبطال عقد الشركة لعدم مشروعية الغرض منها في حين أنّ عقد التحكيم كان يقصر ولاية المحكمين على بحث المنازعات الخاصة بتنفيذ عقد الشركة. أو إذا قضى المحكم بتعويض عن إخلال أحد الطرفين بواجباته التي ترتِّب عليه الانتساب إلى صندوق الضمان الاجتماعي، في حين أنّ عقد التحكيم قد فوّض المحكم مهمة الفصل في طلب التعويض عن الضرر الناتج من فسخ العقد بوصفه تعويضاً عن زبائن.

وممّا يتعيّن ذكره في هذا الصدد أنّ التفسير الضيّق لاتفاقية التحكيم بالنسبة إلى تحديد موضوع النزاع لا يحول دون نظر المحكم للمسائل المتفرّعة عن هذا الموضوع، والتي تتّحد معه أو التي تعتبر كنتيجة حتمية للأمور المطلوب التحكيم فيها. وفي اجتهاد لمحكمة النقض المصرية جاء فيه: "ويختلف تحديد نطاق التحكيم بحسب ما إذا كان الاتفاق في صورة شرط أو في صورة مشارطة. فإن كان في صورة شرط - وهو يبرم قبل بدء النزاع-  فيجوز للأطراف الاتفاق على عرض أي نزاع ينشأ بينهما في المستقبل على التحكيم دون تعيين للمحل الذي قد يثور بشأنه النزاع. وهذا منطقي، إذ عند إبرام الشرط لا يعرف الطرفان أوجه النزاع التي قد تثور بينهما حول هذا العقد. فإذا اتفق الطرفان على عرض ما يثور من منازعات متعلّقة بعقد معيّن على التحكيم، فإنّ التحكيم يجوز بشأن أية منازعات متعلّقة بهذا العقد دون استثناء أو تخصيص"-نقض مدني 30/3/1988 في الطعن 1053 لسنة 51 ق.

فالاتفاق على التحكيم في شأن كل المنازعات المتعلّقة بتنفيذ عقد أو تفسيره يجعل التحكيم واجباً في كل منازعة تتصل بدعوى المطالبة بقيمة ما تم تنفيذه من الأعمال موضوع ذلك العقد، بحيث إنّ اختصاص المحكم يمكن أن يمتد بطبيعة الأمور إلى كامل الطلبات الملحقة أو التبعية بشرط أن تكون مرتبطة بالطلب الأصلي برابطة وثيقة، وعلى هذا النحو فإنّ المحكمين لا يكونون قد تجاوزوا حدود مهمتهم عندما يُعهد إليهم بمهمة تصفية الحسابات بين الأطراف، حيث أنه يمكنهم ذلك بدون أن يعتبروا متجاوزين حدود مهمتهم إذا ما قاموا بإجراء المقاصة.

ومما تجدر الإشارة إليه أيضاً أنّ قواعد التحكيم تأخذ بعين الاعتبار ما إذا كان التحكيم بالقانون أو بالصلح، حيث أنه إذا كانت مهمة المحكم التحكيم بالقانون فإنّ المحكم يلتزم إصدار الحكم بمقتضى القانون وطبقاً لأصول المحاكمة العادية، فإذا أصدر قراره خلاف القانون أو خلاف الاتفاق فإنه يكون قد تجاوز حدود الاتفاق والمهمة المعيّنة له، ويكون قد عرّض قراره للإبطال وفقاً للمبادئ العامة التي تسود التحكيم. فإذا كان الخلاف على عقد بيع، وكانت مطالب المحتكم تنصرف إلى الثمن مثلاً فلا يجوز له أن يقضي بالثمن مع الفوائد، وإذا كان الطلب يتعلّق بتسليم المبيع فلا يجوز له أن يلزم البائع بالتسليم مع التعويض في حين أنّ مهمة المحكم بالصلح،  فإنّه لا يُعدّ متجاوزاً سلطاته في تطبيق القانون متى اعتقد أنّ هذا التطبيق هو الأكثر عدالة وإنصافاً، ووفقاً لهذا المفهوم العام لمهمة المحكم بالصلح فإنّ هذه المهمة تتعلّق أساساً بأن يحكم بمقتضى قواعد العدل والإنصاف بين الأطراف المتنازعة مع احترام القواعد الأساسية التي تحكم الإجراءات والموضوع بحيث يكون الحكم منطقياً ومعقولاً، وإذا ما فعل المحكم ذلك، وقام بهذا الواجب فإنه يكون قد احترم المهمة المنوطة به، فلو أنّ الفائدة القانونية كانت 10% كحد أقصى، ومع ذلك فإنه  يجوز للمحكم بالصلح أن يحكم بـ5% أو أن لا يحكم بالفائدة إطلاقاً، وقد يقضي المحكم بالصلح بالتعويض بدلاً من التنفيذ إذا ما رأى المحكم ووفقاً لضميره أنّ ذلك يحقِّق العدالة والإنصاف، ولكن ليس للمحكم بالصلح الخروج عن اتفاق التحكيم فليس له أن يحكم بالتنفيذ العيني بدلاً من التعويض مثلاً.

الحالة الثالثة: وتتمثّل فيما إذا كان بالإمكان فصل أجزاء الحكم بالمسائل الخاضعة للتحكيم عن أجزائه غير الخاضعة للتحكيم، بحيث يمكن فيها فصل الأجزاء الصحيحة في الحكم عن الأجزاء الباطلة فيه، وعندها لا يقع البطلان من قبل المحكمة الناظرة في الدعوى إلاّ على الأجزاء الأخيرة وحدها أي على الفقرات الباطلة.

فإذا ما حكم المحكم بأصل المبلغ مع الفوائد موضوع المطالبة، ولكنه حدّد بداية لحساب الفوائد التأخيرية لتاريخ سابق عن ذلك الذي تمسّك به المدعي، ففي هذه الحالة يمكن إبطال الحكم جزئياً والمتعلّق بالفوائد عن الفترة السابقة للمطالبة.

أو كما لو حكم المحكم بأصل الدين مع التعويض في حين أنه لم تكن هناك أية مطالب بالتعويض إذ يمكن في هذه الحالة فصل الجزء من الحكم والمتعلّق بالتعويض وإبطاله وحده .

ومن الطبيعي أن يتعرض حكم التحكيم للإبطال عندما يفصل المحكم بمنازعات أو بمطالب غير مشمولة باتفاقية التحكيم أو زائدة عن تلك المشمولة بالاتفاق، حيث يُعتبر عندئذ خارجاً عن حدود المهمة المحدّدة للمحكم، ومتجاوزاً لها، وكل ذلك ضمن إطار وجوب التفسير الضيق لاتفاق الطرفين حول موضوع النزاع، وبما يتناسب وطبيعة التحكيم التعاقدية، ذلك أنّ السلطة المفوِّضة للمحكم ليست سلطة مطلقة، وإنما تنحصر بنزاع معيّن وهي تقتصر على ما أراده الطرفان بإخراجه من سلطة واختصاص المحاكم العادية، وعلى المحكم أن يفصل في المنازعة بكل ما هو مطلوب منه فقط ودون أية زيادة على ذلك.

وإزاء كل ما تقدّم يمكن القول: إنّ مسألة تجاوز أو عدم تجاوز المحكم حدود المهمة الموكولة إليه تُعتبر من أهم ما يمكن أن يُعرض على المحكمة الناظرة في دعوى البطلان لمراقبة الحكم، ونظراً للطابع الاستثنائي للطعن ببطلان الحكم يرى البعض أنّ هذا التجاوز لحدود الصلاحيات المعطاة للمحكم يجب أن يكون تجاوزاً ظاهراً وواضحاً حتى يمكن إبطال حكم التحكيم القائم بناءً على هذا التجاوز الزائد .

والذي نريد التركيز عليه:

يسلّم الاتجاه الحديث المعاصر المتفق مع ما تقتضيه خصومة التحكيم من تحديد مرن لولاية المحكم في قبول اتساع نطاق الخصومة وعدم التقييد بالنطاق الأولي لها ويتوجب على المحكم أن يحدِّد للخصوم موعداً لتقديم مستنداتهم ومذكّراتهم وبياناتهم وأوجه دفاعهم، وهو مبدأ عام يطبّق في التحكيم، وموعد تقديم الطلبات قد يتم الاتفاق عليه بين الأطراف، وقد يكون بقرار من المحكم من تلقاء نفسه -  في حال عدم الاتفاق – ويجب على المحكم أن يمكِّن كل خصم وعلى قدم المساواة من إبداء ما لديه من دفوع، وأن يعدِّلها في الوقت المناسب، إلاّ إذا رأت هيئة التحكيم أنه من غير المناسب إجازة التعديل لتأخر وقت تقديمه. كما أنّه لا يجوز إدخال تعديلات على طلب يكون من شأنها إخراج هذا الطلب بعد تعديله عن نطاق شرط التحكيم أو الاتفاق المنفصل عن التحكيم، ذلك أنه من المتفق عليه أنّ حرية الدفاع مقيّدة بقيد أساسي هو احترام قيمة الوقت في خصومة التحكيم، من ناحية، وبواجب حسن النية، من ناحية أخرى

والملاحظ أنّ النصوص القانونية وفّرت لهيئة التحكيم مرونة كافية لاحتواء كافة جوانب النزاع دون الوقوف عند الطرح المبدئي لموضوع النزاع، كما حدّده اتفاق الطرفين، ومع ذلك فإنّ المشكلة لم تعد في تقرير مبدأ اتساع ولاية المحكم باتساع نطاق الخصومة، ولكنها أصبحت في وضع الضوابط الكافية لتحديد ما يعتبر من الطلبات العارضة، متصلاً بموضوع النزاع، على حد تعبير المشرّع السوري مثلاً، أو مرتبطاً به برابطة كافية على حد تعبير المشرّع الفرنسي، لأنّ عدم كفاية هذه الضوابط سيفتح الباب على مصراعيه لدعوى بطلان حكم التحكيم بسبب تجاوز المحكم حدود ولايته .

الركن السادس– مناقشة الدفوع والأدلة :

لهيئة التحكيم اتخاذ كافة الإجراءات التي ترى من شأنها الإفادة في تحقيق النزاع سواء من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب أحد الطرفين، وتحقيق النزاع هو شأنها وحدها فلا تستطيع ندب غيرها للقيام به نيابة عنه. وعلى هيئة التحكيم أن تتصرّف وكأنها محكمة رسمية ، وبالتالي فلها مطلق الحق في تقدير مدى الحاجة إلى إجراء من الإجراءات التي يطلبها الطرفان، فلها مثلاً أن ترفض إستجابة طلب الخبرة إذا ما قدّرت عدم جدواها، لكن عليها في هذه الحالة أن تسبِّب رفضها ضماناً لعدم مساسها بحق الطرف طالب الإجراء في الدفاع، وحتى لو أنّ هيئة التحكيم استجابت طلب الخبرة، فهي صاحبة الصلاحية بتقدير هذه الخبرة ، ومن ناحية أخرى، فإنّ قبول طلبات الإثبات بمدى المصلحة المحتملة من وراء الاستجابة لها، على نحو يفرض على المحكم أن يبرِّر رفض طلب الإثبات المقدم إليه، وإلاّ كان مخلاً بحق الدفاع، والجدير بالذكر أنّ إجراءات تحقيق النزاع يتعيّن إتمامها من هيئة التحكيم مجتمعة، وفي حضور الخصوم، ما لم يقضِ اتفاق التحكيم بغير ذلك، فإذا قام بها أحد أفراد الهيئة دون موافقة الخصوم كانت باطلة.

وممّا تجدر الإشارة إليه أيضاً أنّ الاتفاق على إعفاء المحكم من الأصول لا يعني إعفاءه من التقيّد بالأصول الشكلية ، وهو ملزم بإتّباع مبدأ المواجهة واحترام حقوق الدفاع، وغير ذلك من الإجراءات الأساسية، وتمكين كل طرف من أن يعرض قضيته وحقه في الدفاع عنها، وتقديم بياناته، لا فرق في ذلك في أن يكون التحكيم بالقانون أو بالصلح.

وعلى سبيل المثال، فإنّ المادة 22 من قانون التحكيم السوري قد نصّت على ما يأتي: "مع مراعاة أحكام هذا القانون لطرفي التحكيم الاتفاق على الإجراءات التي سيتعيّن على هيئة التحكيم إتباعها بما في ذلك حقهما في إخضاع هذه الإجراءات للقواعد النافذة في أي منظمة أو مركز دائم للتحكيم في سورية أو خارجها". وهذا ما يفهم منه أنّ للطرفين في التحكيم الذي يجري في سورية ويخضع لأحكام قانون التحكيم السوري حرية الاتفاق على القواعد الإجرائية في الإثبات أمام المحكم دون تقيّد بالقواعد المنصوص عليها في قانون الإثبات السوري. غير أنه في الواقع، فإنّ حرية الطرفين في الاتفاق على الإجراءات لا تمتد إلى المبادئ الأساسية في مجال الإجراءات كمبدأ المساواة بين الخصوم ومبدأ المواجهة ومبدأ ضمان حق الدفاع فهذه المبادئ تعتبر من النظام العام على نحو لا يجوز معه للطرفين المساس بها.

ويتصل مبدأ المواجهة أيضاً بفكرة النظام العام الدولي، فالمواجهة ليست إلاّ إحدى مقتضيات النظام العام الإجرائي . ولعل ذلك هو السبب الذي من أجله ذهبت محكمة استئناف باريس في حكمها الصادر في 27 نوفمبر 1987 إلى الإشارة إلى احترام المبادئ الأساسية في المواجهة في ظل المفهوم الفرنسي للنظام العام الدولي.

وممّا تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أنّ مبدأ المواجهة يُوجب على هيئة التحكيم ضرورة إعلان القرارات أو الأحكام الصادرة باتخاذ إجراء معيّن من إجراءات الإثبات إلى من لم يكن حاضراً من الخصوم جلسة النطق بها وإعلان الخصوم بالأوامر الصادرة بتعيين بدء إجراء ما، وإلاّ كان العمل باطلاً.

كما أنّ من صلاحيات هيئة التحكيم في أي مرحلة كانت عليها الدعوى طلب تقديم أصل المستندات والوثائق التي يستند إليها أي من طرفي الدعوى. كما أنه يتعيّن دائماً إرسال صورة عن المستندات التي يقدّمها الخصم إلى الخصم الآخر، فلا يكفي تقديم صورة منها إلى هيئة التحكيم فإذا لم تقدّم إليه ولم يتمكّن بالتالي من إبداء دفاعه في مواجهة الدليل المستمد منها، فإنّ حكم التحكيم يكون باطلاً إذا كان قد استند إليها فيما انتهى إليه لإخلاله بحق الخصم في الدفاع .

والسؤال: هل المطلوب من المحكم الالتزام بالعقد الأساسي بين طرفي الخصومة التحكيمية؟

وللجواب عن هذا السؤال يمكن القول: هناك من يرى ضرورة التزام المحكم بالعقد الأساسي، وهم يستندون في ذلك إلى ما قرّرته المادة 28 /4 من القانون النموذجي للتحكيم على أنّه: "في جميع الأحوال، تفصل هيئة التحكيم في النزاع وفقاً لشروط العقد وتأخذ في اعتبارها العادات المتّبعة في ذلك النوع من النشاط التجاري المطبّقة على المعاملة، وقد وردت هذه الفقرة بعد التفرقة التي وردت في الفقرات السابقة عليها في نفس المادة بين التحكيم بالقانون (فقرة 1) وبين التحكيم بالصلح (فقرة 3) ممّا يدلّ على أنّ عبارة "وفي جميع الأحوال" الواردة في صدر الفقرة الرابعة المشار إليها تدل على ضرورة مراعاة هيئة التحكيم لشروط العقد، وذلك سواء في التحكيم بالقانون أو التحكيم بالصلح، ذلك أنه إذا كان التحكيم بالصلح يقوم على أساس فكرة نزول الطرفين تبادلياً – عن جزء من حقوقهما الذاتية ووضعها تحت تصرف المحكم ليحكم فيها وفق قواعد العدل والانصاف، لا يعني ذلك إطلاق سلطة المحكم وتحرّره من القيود العقدية، ذلك أنّ العقد هو شريعة المتعاقدين ويجب أن يظل محتفظاً بهذه القدسية. حتى في التحكيم بالصلح .

ونحن من جانبنا نرى: أنّه يجوز للمحكم بالصلح الخروج عن العقد الأساسي، لأنّ سلطة المحكم بالصلح بتطبيق مبادئ الإنصاف  هي إلزامية وليست اختيارية. وبإمكان المحكم بالصلح أن يطبِّق القواعد القانونية شرط أن يبيّن أنّ تطبيق هذه القواعد تتوافق ومبادئ الإنصاف. أما في العقود فيحق للمحكم بالصلح، استناداً إلى مبادئ الإنصاف، أن يقوم بتلطيف بنود العقد أو تعديلها أو حتى الخروج عنها شرط التقيّد بمبدأ المحافظة على الخلفية الاقتصادية للعقد والامتناع عن كل ما من شأنه أن يهدمه.

ومن هنا كان الحكم على مقتضى قواعد العدالة والإنصاف يعنى عدم التقيد بأحكام القانون، على الأقل كلما كانت هذه الأحكام لا تقيم وزناً لظرف أو آخر من ظروف العلاقة محل النزاع، أو تقدّم عليها اعتبارات الاستقرار.

وتأسيساً على ما تقدّم فإنّه يجوز لهيئة التحكيم استبعاد أحكام التقادم عند الفصل في نزاع يتعلّق ببيع منقولات مثلاً، رغم توافر شروطه إذا ما رأت أنّ في تطبيقها إخلالا ًبالعدالة والإنصاف.

ويجوز لها التخفيف من شروط القوة القاهرة أو تعديل أثرها على المسؤولية أو توزيع عبئها على الطرفين، إذا ما رأت أنّ في ذلك تحقيقاً للعدالة بحسب ظروف النزاع.

ويجوز لها أن تقضي بالتعويض عن عدم التنفيذ أو التأخر فيه، رغم عدم توافر الاعذار على النحو الذي يتطلّبه القانون.

ويجوز لها أن تردّ التزامات أحد طرفي العقد إلى الحد المعقول، بناءً على ظرف طارئ بعد التعاقد، رغم تخلّف شرط أو آخر من شروط تطبيق نظرية الظروف الطارئة، كما لو كان الظرف الطارئ خاصاً بالمدين، أو كانت هناك امكانية لتوقّعه وقت التعاقد.

ويجوز لها أن تقضي بالتضامن بين المدينين في أحوال غير تلك التي نص عليها

القانون.

ويجوز لها أن تعدِّل الشرط الجزائي أو أن تعفي منه إذا ما رأت أنّ العدالة تقتضي ذلك. وبالمثل يجوز لها أن تخفِّف من آثار الشروط التعاقدية الأخرى، كشرط الفسخ التلقائي أو شرط الفسخ دون تعويض.

ويجوز لها أن تغيِّر من نظام الأدلة وأن تقبل المستندات بعد الآجال.

ونحن نؤكد انّه إذا لم تكن للمحكم بالصلح هذه الصلاحيات فما الفرق بين التحكيم بالقانون والتحكيم بالصلح والتي حرص المشرع على التفريق بينهما.

 ويجوز للمحكم بالصلح أن يحكم بالقانون إذا ما رأى أن ذلك مناسباً، ولكن بشرط أن يعلِّل أنّ هذه القواعد هي التي تمثّل غاية العدالة والانصاف في الحالة المعروضة عليه.

ولكن عدم تقيّد المحكم بالصلح بأحكام القانون لا يمتّد إلى أحكامه المتعلّقة بالنظام العام، وقد قضيّ بأنه إذا تمسّك أحد طرفي العقد ببطلان العقد، ووجد المحكم أنّ العقد باطل في جملته، فله أن يثير الأمر بمواجهة الطرفين ليسمع قولهما فيه، ولا يجوز له أن يقضي بالبطلان الكلي من تلقاء نفسه دون أن يكون قد نبّه الطرفين إلى ذلك.

وسواء كان التحكيم بالقانون أم بالصلح فإنّ المحكم يكون دائماً مقيّداً بمقتضيات النظام

العام سواء كانت هذه المقتضيات المتعلّقة بالنظام العام أحكاماً موضوعية أو أحكاماً

إجرائية.

ويثور في هذا المقام السؤال عن دور المحكم في التوصل إلى أدلة الإثبات التي يمكن أن يبني عليها حكمه، هل هو دور سلبي يتوقع من الفرقاء المحتكمين تقديم وإبراز ادلتهم وإثباتاتهم؟ أم هو دور إيجابي استقصائي يسعى من خلاله المحكم إلى تكوين قناعته من الأدلة والإثباتات التي ترتكز عليها هذه القناعة؟

أي ما هو دور الهيئة التحكيمية في هذا المجال؟

في الواقع أنّ عدم التزام المحكمين إجراءات وشكليات التقاضي المعمول بها أمام محاكم الدولة أوجد في الواقع العملي مشكلة كبيرة، وهي كيفية إثبات أنّ مستنداً ما قد تمّ إبرازه وتبادله بطريقة صحيحة بين المحتكمين. من هنا وضع القضاء الفرنسي قرينة مقتضاها صحة كل الأعمال والإجراءات التي اتخذها المحكمون طالما أنهم أشاروا إليها في حكمهم، وعلى من يدّعي خلاف ذلك أن يقيم الدليل على صحة ما يدّعيه.

وقد أكدت محكمة استئناف باريس (C.A Paris 24 Oct. 1991 Rev, arb 1993 p. 110) هذه القاعدة واشترطت ليس فقط أن يشير المحكم أو أن يذكر أو يردّ على ما جاء في مستند معين في حيثيات حكمه، وإنما لا بد من أن يشير المحكم إلى أنّ هذا المستند قد تم تبادله بطريقة صحيحة وكافية بين الخصوم، فقضت ببطلان حكم المحكمين لمخالفته مبدأ الوجاهية إذا كان المحكم قد ذكر في حكمه أنه تلقّى بعض المستندات من أحد الخصوم، ولكنه لم يذكر أنه تم تبادلها مع الخصم الآخر.

ويرى R. David  أنّ التحكيم يمكن أن يؤدي دوراً مهماً في التقريب بين النظم القانونية المختلفة بصدد نظام الإثبات. ففي دول Common law يسود نظام الإثبات الاتهامي الذي يؤدي فيه الخصوم ووكلائهم دوراً كبيراً في عملية الإثبات ويقومون بأنفسهم بعملية الاستجواب والاستجواب المعاكس أي أنّ الفرقاء هم الذين يهيمنون على الإجراءات إلى حد كبير.

أمّا في الدول التي يسود فيها نظام الإثبات ذو الطابع الاستقصائي، فإنّ القاضي هو الذي يقوم بعملية الاستجواب والبحث عن أدلّة الإثبات.

وهنا يمكن أن يؤدي التحكيم دوره في التقريب بين هذه النظم (David p. 412).

وانطلاقاً من المبدأ العام الذي أقرته التشريعات الحديثة للمحكمين بتنظيم إجراءات خصومة التحكيم والأمر بما يرونه مناسباً ومنتجاً في الدعوى من وسائل الإثبات يستطيع المحكمون إلزام الخصوم بتقديم مستندات أخرى غير تلك التي قدموها بأنفسهم مع ملف الدعوى أو في بداية الخصومة، كما يمكنهم دعوة شهود آخرين للإدلاء بشهادتهم إذا كانت الأقوال التي أدلى بها الشهود الذين استعان بهم الخصوم غير كافية، ومن ناحية أخرى، يستطيع المحكمون الاستعانة بخبير أو أكثر لإبداء رأيه في نقطة أو نقاط محدّدة، كما يمكنهم الانتقال للمعاينة إذا كان لازماً للفصل في النزاع. ولكن لا يمكن للمحكمين الاستعانة بمعلوماتهم الشخصية كدليل للإثبات، إلاّ إذا كانوا معيّنين بصفتهم خبراء في الموضوع كالمهندسين وخبراء المحاسبة مثلاً.

والسؤال: هل يجوز لأحد أطراف التحكيم أن يطلب من هيئة التحكيم أن تأمر الطرف الآخر بتقديم مستند هو موجود تحت يده؟

والجواب: الأصل أن يتقدّم بالدليل الكتابي صاحب المصلحة فيه. لكن هذا الدليل قد لا يكون بيده وإنما بيد خصمه، كما هو الحال في الدفاتر التجارية، أو المحرّر الذي يكون مشتركاً بين الخصم وخصمه، ولذلك ليس ما يمنع من أن يطلب الخصم من هيئة التحكيم أن تأمر خصمه بتقديم مستند تحت يده، وإذا ما أمرت هيئة التحكيم الخصم بتقديم المستند الذي تحت يده فلم يمتثل لأمرها كان لها أن تعتمد على أقوال الطرف الآخر في صدد وجود هذا المستند ومحتوياته إذا ما ترجّح لها صدق دعواه.

والسؤال: هل يجوز لهيئة التحكيم أن تأمر الغير لتقديم ما تحت يده من أدلّة؟

والجواب: لا يجوز لهيئة التحكيم أن تأمر الغير لتقديم ما تحت يده من أدلّة، ولكن يمكن لها أن تطلب ذلك من السلطة القضائية بناءً على طلب أحد الخصوم وبموافقة هيئة التحكيم أو من تلقاء هيئة التحكيم نفسها، وقد نصّت المادة 27 من القانون النموذجي أنه في إجراءات التحكيم "يجوز لهيئة التحكيم أو لأي من الطرفين بموافقة الهيئة طلب المساعدة من محكمة مختصة في هذه الدولة للحصول على أدلة، ويجوز للمحكمة أن تنفّذ الطلب في حدود سلطتها ووفقاً لقواعدها الخاصة بالحصول على الأدلة".

والواقع أنّ هذا النص من العمومية بحيث يشمل حالات أخرى غير إلزام الغير بتقديم دليل تحت يده مثل استدعاء الشهود، وإجراء المعاينة، وتحليف اليمين، وغير ذلك.

وقد نصّت على ذلك بعض قوانين الدول العربية من ذلك: قانون الإجراءات المدنية الاماراتي، حيث ورد في المادة 209 على أنّه: يوقف المحكم عمله للرجوع إلى رئيس المحكمة المختصة لإجراء ما يأتي: ب- الحكم بتكليف الغير إبراز مستند في حوزته ضروري للحكم في التحكيم".

وكذلك المادة 238/3 من قانون المرافعات البحريني، والمادة 28 من مجلة التحكيم التونسية بالنسبة للتحكيم الداخلي، والمادة 71 بالنسبة للتحكيم الدولي، والمادة 458 مكرر 11 من قانون التحكيم الجزائري، والمادة 200 من قانون المرافعات القطري، والمادة 180 من قانون المرافعات الكويتي.

والمادة 34 من قانون التحكيم السوري ، وقد اكتفى قانون التحكيم المصري في المادة 37 في هذا الصدد بالرجوع إلى رئيس المحكمة المنصوص عليها في المادة 9 في حالتين: حالة الحكم على من يتخلّف من الشهود عن الحضور أو يمتنع عن الإجابة بالجزاءات المنصوص عليها في المادتين 78 و80 من قانون الإثبات، وحالة الأمر بالإنابة القضائية، ولم يذكر حالة إلزام الخصم أو الغير بتقديم دليل تحت يده.

والسؤال أيضاً: هل يجوز للطرفين الاتفاق على عدم قبول اليمين الحاسمة كدليل في الإثبات؟

والجواب: إنّ القواعد المنظّمة لليمين الحاسمة هي قواعد تعيّن جوهر اليمين الحاسمة وقوّتها في الإثبات وشروط توجيهها. وهي لذلك تعتبر من القواعد الموضوعية المتعلّقة بالنظام العام، والتي لا يجوز للأطراف الاتفاق على خلافها، ولكن يبقى بعد ذلك أنّ قبول الدليل أو عدم قبوله لا يعتبر من النظام العام. ولذلك يجوز للطرفين الاتفاق على عدم قبول اليمين الحاسمة كدليل في الإثبات، وهذا ما يتحقّق عملياً في الحالات التي يجعل فيها الطرفان عقدهما عقداً شكلياً لا ينعقد إلاّ بالكتابة، وبالتالي لا يجوز إثباته أو إثبات شروطه إلاّ بالكتابة ما دام أنّ هناك اتفاقاً بين الطرفين على عدم قبول اليمين الحاسمة كدليل في الإثبات.

وكذلك هو الحال، فيجوز للطرفين الاتفاق على عدم قبول اليمين المتمِّمة في الإثبات. وهذا ما يتحقّق عملياً عندما يتفّق الطرفان على اعتماد الدليل الكتابي الكامل وحده في الإثبات ورفض أي دليل آخر غيره.

والسؤال: ما هي سلطة المحكم في البحث عن أدلّة الإثبات؟

كان السائد قديماً أنّ المحكم لا يملك اتخاذ إجراءات الإثبات من تلقاء نفسه على أساس أنه كقاضٍ خاصٍ ينبغي أن يقف من الخصوم ومن النزاع موقف المحايد فلا يقضي بناءً على دليل أو إجراء لم يطلبه الخصوم. ولكن الواقع العملي سرعان ما كشف عن عدم صحة هذا الاتجاه الذي لا يتوافق مع ما وصل إليه نظام التحكيم من تطور، فقد أعطت أنظمة مراكز التحكيم للمحكمين سلطة اتخاذ ما يرونه مناسباً من إجراءات التحقيق كسماع الشهود أو الخبراء أو الاطلاع على المستندات أو معاينة بضاعة الخ... وهو ما يستشف منه أنّ المحكم يملك اتخاذ إجراءات الإثبات كافة التي يراها منتجة لحل القضية التحكيمية.

وتأسيساً على ما سبق يمكن القول إن كل وسائل الإثبات تعدّ مقبولة أمام المحكم، ولكن دون التزام باتباع القواعد الإجرائية الواردة في قانون أصول المحاكمات أو قانون الإثبات، إعمالاً للمبدأ العام الذي يقضي بإعفاء المحكمين من تطبيق إجراءات التقاضي المعمول بها أمام الماكم، ولا سيما أنّ قواعد الإثبات ليست من النظام العام. وفي الغالب أن يجري التحكيم في مسألة تجارية حيث يسود مبدأ الإثبات الحر ولا يتقيد المحكم بقواعد الإثبات في المواد المدنية.

ولكن السؤال: هل يجوز للمحكم التنبيه على الخصوم لاستكمال دفاعهم؟

لقد سكت قانون التحكيم المصري وقانون التحكيم الأردني وقانون التحكيم البحريني عن هذه المسألة.

ونحيل في الجواب عن هذا السؤال إلى ما نصّت عليه المادة 29 من قانون اليونسترال  بقولها:

1- لهيئة التحكيم أن تستفسر من الطرفين عما إذا كان لديهما أدلة أخرى للإدلاء بها. فإذا كان الجواب نفياً، جاز لهيئة التحكيم أن تقرِّر إنهاء المرافعة.

2-  ولهيئة التحكيم أن تقرِّر من تلقاء نفسها أو بناء على طلب أحد الطرفين إعادة فتح باب المرافعة في أي وقت قبل قرار التحكيم إذا رأت ضرورة ذلك نظراً لظروف استثنائية".

وحسناً أنه قد وردت هذه العبارة بهذا الشكل، لأنّ إعادة فتح باب المرافعة لا يكون إلاّ بكثير من الحيطة والحذر، حتى لا يتّخذه الخصم ذريعة لتعطيل الفصل في الدعوى، إذا ما استشعر بعد نهاية المرافعة ضعف موقفه في القضية، وذلك حرصاً على قيمة الوقت في الدعوى .

كما أنّ المادة 24 من قانون اليونسترال نصّت على أنّه: "لهيئة التحكيم أن تطلب إذا استطابت ذلك من أحد الطرفين أن يقدّم إليها وإلى الطرف الآخر خلال المدة التي تحدِّدها، ملخصاً للوثائق وأدلة الإثبات الأخرى التي يعتزم تقديمها لتأييد الوقائع المتنازع عليها والمبيّنة في دعواه أو بيان دفاعه، ولهيئة التحكيم أن تطلب من الطرفين في أي وقت أثناء إجراءات التحكيم أن يقدِّما خلال المدة التي تحدّدها وثائق أو مستندات أو أية أدلة أخرى" .

وقد نصّت على ذلك، ولكن بشكل أقل ضماناً من النص السابق المادة (22) من لائحة التحكيم لدى الغرفة التجارية بباريس، بقولها "تعلن محكمة التحكيم قفل باب المرافعة إذا رأت أنها قد أتاحت فرصة كافية لسماع الأطراف، ولا يجوز بعد هذا التاريخ تقديم أية مذكرة كتابية أو ادعاء أو دليل إلاّ إذا طلبت محكمة التحكيم ذلك أو سمحت به". واكتفت مجلة التحكيم التونسية في الفصل (29) على أنّه:

 "عندما تهيّأ القضية للحكم تعلم هيئة التحكيم أطراف النزاع بختم المرافعة".

ونحن من جانبنا نؤيّد هذا النهج، لأنّ من مقتضيات حق الإثبات توفير الفرص الكاملة حتى اللحظة الأخيرة لكل من الخصوم لإبداء ما يعنّ على بالهم من أدلة.

ويثور في هذا المقام السؤال الآتي:

هل الغش الإجرائي في عملية التحكيم يخالف النظام العام الدولي؟

تُعدّ إيجابيات التحكيم هي الدوافع الرئيسية وراء إقدام الدول والأفراد والمؤسسات على الدخول في التحكيم لحل كافة منازعاتهم بدلاً من اللجوء إلى قضاء الدولة وما يستتبعه من سلبيات منذ نظر الدعوى وحتى تنفيذ الحكم، لذلك يجب المحافظة على مميزات التحكيم من السلوك غير المشروع، وعلى الأخص الغش.

ويعتبر الغش في مباشرة إجراءات التحكيم من النظام العام الدولي، فحكم التحكيم الصادر بناءً على غش أحد الخصوم مخالف للنظام العام الدولي، وتطبيقاً لذلك قضت محكمة استئناف باريس بأنه لا يقبل أن تبنى أحكام التحكيم الدولية على الغش والتزوير، وإذا صدرت بالمخالفة لذلك يمكن الطعن عليها بالبطلان لمخالفة حكم التحكيم النظام العام الدولي، حيث أنّ قاعدة حظر الغش الإجرائي في خصومة التحكيم من النظام العام الدولي.

كذلك قضت محكمة النقض الفرنسية في قضية Westman، أنّ الغش يكون معاقباً عليه بالرجوع إلى فكرة النظام العام الدولي في المادة 1502 فقرة 5 مرافعات فرنسي، فعندما يثبت الغش، فإنّ ذلك مبرراً لبطلان حكم التحكيم .

وفي حكم حديث لمحكمة استئناف باريس، قضت فيه بأنه لا يكون لقاضي البطلان في حالة الادعاء بمخالفة النظام العام، إعادة النظر في موضوع حكم التحكيم، إلاّ إذا كانت هناك مخالفة واضحة أو تبيّن وجود غش في إجراءات التحكيم .

والمستفاد من أحكام محكمة استئناف باريس ومحكمة النقض أنهما اعتبرتا الغش في إجراءات التحكيم من النظام العام الدولي، وإنّ النظام العام الدولي يجب أن يحترمه الخصوم والمحكمة، فإذا صدر الحكم بالمخالفة لذلك – بأن بُني على وثائق أو شهادة مزورة كانت منتجة في الدعوى – فإنه يتعرض للبطلان أو عدم التنفيذ، باعتبار أنّ إحدى حالات بطلان أو عدم تنفيذ حكم التحكيم الدولي هو مخالفته النظام العام الدولي .

والسؤال: ما الحل في حال تبدّل المحكم؟ وهل يستوجب ذلك إعادة سماع الأقوال؟

فعلى سبيل المثال، نصّ نظام الويبو أنّه في حال تعيين محكم بديل يترك لمحكمة التحكيم تقرير ما إذا كان عليها إعادة سماع كل الأقوال التي سبق سماعها، أو بعضها أو عدم الحاجة إلى ذلك .

ويثور في هذا المقام السؤال الآتي:

هل يجوز لأطراف خصومة التحكيم المصالحة واعتبار عقد الصلح بمثابة سند تنفيذي؟

ونحيل في الجواب عن هذا السؤال إلى ما قرّرته هيئة التحكيم في الحكم التحكيمي الصادر عن مركز قطر الدولي للتوفيق والتحكيم، حيث جاء في حيثيات الحكم: ".. إذا طلب طرفا التحكيم إلحاق اتفاقهما بمحضر الجلسة وجعله في قوة السند التنفيذي فإنّ المحكم يصدر قراره بذلك وينهي إجراءات التحكيم...".

(حكم تحكيمي – القضية رقم 3 لسنة 2007 – مركز قطر الدولي للتوفيق والتحكيم – صدر بالدوحة – قطر – بتاريخ 21/6/2007)

الركن السابع– التزام هيئة التحكيم المداولة :

يخضع تحديد موعد انتهاء المرافعة في الدعوى لتقدير هيئة التحكيم. ويتعيّن ابلاغ الطرفين أو ممثليهما بهذا الموعد حتى يتمكّن كل منهما من تقديم ما لديه من أوجه دفاع أو من ملاحظات أو مستندات في غضونه فإذا ما انتهى هذا الموعد انتهى حق كل من الطرفين في تقديم دفاعه وملاحظاته ومستنداته. لكن يبقى لهيئة التحكيم أن تطلب إليه تقديم ما ترى حاجة لها من ذلك.

وتقديم الطرفين أوجه دفاعهما خلال الفترة المحدّدة للمرافعة هو حق لهما لا يجوز حرمانهما منه. فإذا ما أصدرت هيئة التحكيم حكمها قبل انتهاء هذه الفترة كان حكمها باطلاً ، ومن باب أولى يكون باطلاً حكم التحكيم الذي يصدر في يوم تشكيل هيئة التحكيم، دون تحديد فترة للمرافعة، بحجة الاستعجال  استناداً إلى أنّ مناط أخذ الاستعجال في الحسبان هو تحديد الطرفين ميعاد التحكيم. ومع ذلك فقد ينتهي الطرفان من تقديم دفاعهما، وتنتهي هيئة التحكيم من تحقيق الدعوى، قبل انتهاء الميعاد المحدّد للمرافعة. وفي هذه الحالة لا جناح على هيئة التحكيم إن هي أصدرت حكمها بعد تمام هذه الاجراءات وقبل انتهاء ميعاد المرافعة، إذ في هذه الحالة يمكن القول باتفاق الطرفين على تخويلها سلطة إصدار حكمها قبل ميعاد المرافعة .

ثم إنّ انتهاء ميعاد المرافعة لا يمنع من استناد الحكم إلى دفاع أو مستند قدمه أحد الخصوم بعد الميعاد. لكن ذلك مشروط بالطبع باحترام مبدأ المواجهة بتمكين خصمه من الاطلاع على المستند المتأخر والردّ عليه.

والجدير بالذكر أنّ المداولة تتم على الوجه الذي تحدِّده هيئة التحكيم، وهذا مفيد في التحكيم التجاري الدولي، ولا سيما أنّ المحكمين قد يجرون المداولة هاتفياً أو بالبريد الالكتروني ومن الضروري الاجازة للمحكمين التداول على الوجه الذي يحدّدونه لأنه في أكثر الأحيان يتم تبادل الرسائل بين المحكمين ، ولكن ينبغي أن تكون هذه الطريقة مشمولة بالسرية.

وفي التحكيم الذي تتكوّن فيه الهيئة التحكيمية من عدة محكمين، اعتبر الاجتهاد الفرنسي أنّ المذاكرة يجب أن تضم المحكمين بأجمعهم ، وأنّ هذه المذاكرة الجماعية هي من النظام العام . وقد أكدت محكمة استئناف باريس في حكم أصدرته في 16/1/2003 هذا المبدأ، ولكنها أمام حكم تحكيمي موقّع من محكمين مع مخالفة المحكم الثالث، فإنّها تأكّدت وتثبتّت ودقّقت في مشاركة المحكم المخالف في المذاكرة ولم تعتبر أنّ مجرد ارفاق مخالفته يثبت عدم مشاركته في المذاكرة، وبالتالي فإنّها ردّت طلب الابطال الذي يزعم أنّ المذاكرة لم تكن جماعية .

وفي حكم للدائرة 91 بمحكمة استئناف القاهرة قضى بأنّ: "... العبارات التي استعملها المحكم (صاحب الرأي المخالف) والنصوص الواردة في مذكّرته تكفي للدلالة على إجراء المداولة (المطلوبة) بين أعضاء هيئة التحكيم، وأنّ (المحكم المذكور) الذي رفض التوقيع على الحكم الطعين كان على دراية بمجريات هذه المداولة، وأنّه قد أبدى لزميليه المحكمين وجهات نظره بشأن الحكم موضوع النزاع ومعارضته لهما في ما انتهى إليه قضاؤهما فيه، وكذا الأسباب التي تحمله، وكل ذلك ممّا تتحقّق به المداولة التي اشترطها القانون قبل إصدار الحكم..." .

وفي حالة إجراء المداولة التي يتطلّبها القانون فإنّه يفضّل إثبات حصولها في مدوّنات حكم التحكيم، ذلك أنه في مثل هذه الحالة لا يجوز إثبات عدم حصول المداولة إلاّ باتخاذ طريق الطعن بتزوير الحكم المذكور، أمّا إذا أغفل الحكم بيان حصول المداولة. فإنّه لمّا كان الأصل في الإجراءات أنه قد روعيت، ومن ثم يكون عبء إثبات ما يخالف ذلك على عاتق مدّعيه، وله أن يقيم الدليل على ذلك بكافة طرق الإثبات مع ملاحظة ما في ذلك من صعوبات .

والسؤال: عندما يصدر حكم التحكيم بأغلبية الآراء هل من حق المحكم المخالف في

الرأي إثبات رأيه المخالف في وثيقة مكتوبة ومنفصلة عن حكم التحكيم يقدّمها إلى أطراف النزاع؟

والجواب: إنّ الفقه الأنكلو أميركي يرى أنّ إثبات المحكم رأيه المخالف على النحو المذكور مسألة طبيعية تتمشّى مع نموذج أحكام المحاكم في نظام الـ Common Law، بينما يرى فقه الـ Civil Law عدم ملاءمة هذا الإجراء وإن لم يقل بعدم مشروعيته. وقد ذهب بعض الفقه الفرنسي إلى حظر الآراء المخالفة التي يبديها المحكم الأقلية قولاً بأنّها تشكِّل إفشاءً لأسرار المداولة ليس من أحوال بطلان حكم التحكيم، فضلاً عن أنّ إصدار رأي مخالف قد لا يتضمّن بالضرورة إفشاء تلك الأسرار متى كان المحكم المخالف لا يكشف آراء زملائه .

ولعل قانون التحكيم الاسباني هو القانون الأوروبي الوحيد الذي يعترف بحق المحكم الأقلية في إثبات رأيه المخالف 37/3، ويضاف إليه قانون التحكيم الدولي التركي رقم 4686/2001 المادة 14/4، بينما سكت القانون الإنكليزي عن التعرض لهذه المسألة، وتجدر الإشارة إلى أنّ حكماً حديثاً أيّدته محكمة الاستئناف الإنكليزية قضى بأنه في حالة سكوت لائحة تجارة الحبوب والغذاء، فإنّه ليس من حق المحكم الامتناع عن توقيع الحكم بدعوى أنّ أصحاب الأغلبية رفضوا إثبات رأيه المخالف في مدوّناته، وقد أضافت المحكمة القول في عبارات عامة أنّه من الخطأ الاعتقاد أنّ أحكام المحكمين يجب أن تتضمّن ذكر الآراء المخالفة لرأي الأغلبية، وأنه من حق أصحاب الأغلبية إرهاق إرفاق الرأي المخالف بالحكم أو عدمه دون أن يكون للمحكم الأقلية أي حق في هذا الخصوص.

وفي ما يتعلّق بسرية المداولات لا توجد ثمة صعوبة في المداولة عندما تكون هيئة التحكيم مؤلفة من محكم واحد. ولكن الصعوبة تنشأ عندما تكون هيئة التحكيم جماعية. حيث تجري المداولة بين المحكمين سراً، وذلك ضماناً لسرية الجلسات، فلا يجوز أن يشترك في المداولة أشخاص غرباء، وكذلك فإنّه يمتنع عن الحضور كاتب الجلسات، وفي قانون التحكيم السوري فقد نصّت الفقر 2 من المادة 36 على ما يأتي: "تجتمع هيئة التحكيم بعد إغلاق باب المرافعة للمداولة ولإصدار الحكم النهائي وتكون المداولة سرية". وحسناً فعل المشرِّع السوري بالإلزام على سرية المداولة بنص صريح، لأنّ أكثر القوانين الحديثة بدورها لا تنصّ صراحة على سرية المداولة، ولكن لا يمنع من تبنّي ضرورة الأخذ بأهميتها، وسرية المذاكرة تعني الطريقة التي تمت بها المداولة.

وقد قضت محكمة استئناف القاهرة في هذا الشأن "بأنّ التحكيم وإن كان قضاءً خاصاً يتميّز عن القضاء العادي، إلاّ أنّ المحكمين يتمتّعون فيه وفق ما خوّلهم القانون بسلطات القاضي في خصوص النزاع المعروض عليهم، وبالتالي فهم يخضعون لما يخضع له القاضي من قيود تتعلّق المبادئ الأساسية للتقاضي، والتي تتصل بالنظام العام في المجتمع... ومن هذه القيود ضرورة أن تصدر أحكامهم.... بعد مداولة تتم بينهم مجتمعين، وأن تتِّم هذه المداولة شأنها في ذلك شأن الأحكام سراً بين من سمعوا المرافعة في طلب التحكيم . على الرغم من ذلك، فإنّ أكثر ما يرد من إخلال بشأن السرية يكون في شأن المداولات. وقد يرجع هذا إلى أنّ بعض المشتغلين بالتحكيم لم يمارسوا العمل القضائي من قبل، ومن ثم لا يحيطون بأبعاد واجباته وقواعده واجبة الاتباع في التحكيم كما يلمّ بها القاضي المتمرِّس في العمل القضائي.

فسريّة المداولة، وعلى ما تقدّم من النظام العام في المجتمع ولا خلاف على وجوب الالتزام بها.

والسؤال: ما هو أثر إفشاء أسرار المداولة من قبل المحكم؟

إنّ المقصود بسرية المداولة وجوب عدم إبلاغ أطراف النزاع بالآراء التي تبادلها المحكمون أثناء المداولة بينهم، وإنّ مخالفة ذلك لا تترتّب عليه سوى مسؤولية المحكم المحتملة عن إفشاء سرية المداولة دون المساس بصحة حكم التحكيم .

وإنّ هذا السبب الذي قد يستحدثه مدعي البطلان في شأن إبطال الحكم التحكيمي لا يقع بأي حال – على نحو ما هو معلوم – بين حالات بطلان الأحكام التحكيمية التي أوردتها حصراً المادة 53 من قانون التحكيم المصري – على سبيل المثال-.

والسؤال: ما هو أثر امتناع أحد المحكمين عن الاشتراك في المداولة وبدون عذر مشروع؟

والجواب: قد يستقيل أحد المحكمين قبل بدء إجراءات التحكيم أي في البداية وقد يتم أثناء سير إجراءات التحكيم.

وهنا يتم تعيين محكم بديل وفقاً للقانون الإجرائي المطبّق على إجراءات التحكيم لتعيين محكم بديل.

وقد تتم في نهاية سير تلك الإجراءات عند المداولات النهائية للتوصل إلى الحكم.

وهنا تثير استقالة المحكم مشكلة في حالة إذا ما حدثت بعد بدء إجراءات التحكيم أو تعمّد المحكم الاستقالة وذلك بقصد شلّ التحكيم لمصلحة الشخص الذي اختاره إذا ما شعر بأنّ اتجاه باقي المحكمين يميل لصالح الطرف الآخر.

والاستقالة تعني أنّ المحكمة التحكيمية أصبحت غير مكتملة وغير مطابقة للشرط التحكيمي، حيث أنّ المحكمة لم تعدّ مشكّلة من عدد وتر، كما تشترط معظم قوانين التحكيم .

إذاً إنّ المحكم المستقيل قد تعسّف باستقالته، خصوصاً إذا كان يهدف بها المماطلة والتسويف، وبالتالي فإنّ مسؤوليته القانونية تبقى قائمة ويمكن ملاحقته بالمسؤولية المهنية، ولكن التحكيم في هذه الحالة سينتهي بدون حكم تحكيمي، إلاّ إذا اعتمدت صيغة المحكمة المبتورة من محكمين اثنين أو إذا ما تم تعيين محكم بديل.

ولهذا بدأ التفكير بفكرة جديدة، وهي أنه عندما تكون الهيئة مشكّلة من ثلاثة محكمين أو أكثر ويستقيل أحد المحكمين، فإنّه يجوز لمن بقي من المحكمين – بعد التنحي – مواصلة المداولة وإصدار حكم التحكيم في القضية، دون حاجة إلى تعيين محكم بديل، ويسمّى هذا النظام بنظام المحاكمة المبتورة Truncated - Tribunals.

وقد عمدت بعض نظم التحكيم إلى إجازتها بنص صريح بها، بحيث يكون رضاء الطرفين بتطبيق الإجراءات التي ينصّ عليها النظام رضاءً بشرعية هيئة التحكيم المبتورة .

وبالنسبة إلى نظام غرفة التجارة الدولية بباريس، وإن لم يُقرّ في بداية الأمر اعتماد المحكمة التحكيمية المبتورة بشكل صريح، إلاّ أنّ التطبيق العملي في دعوى Milutinovic والتي خضعت لنظام الـ ICC، ففي هذه الدعوى أصدر المحكمان حكماً جزئياً، وقد صادقت عليه محكمة التحكيم الدائمة في الـ ICC، وقد تحوّل هذا الاجتهاد الفرنسي في موقفه فسلّم بصحة الحكم التحكيمي الصادر عن محكمين إذا تعذّر تعيين المحكم الثالث، ولكنه اشترط أن يكون العقد التحكيمي قد لحظ ذلك. (أنظر حكم محكمة استئناف باريس المدنية – الغرفة الأولى 8/9/2005.n.-2004- 08195).

وفي قرار لمحكمة استئناف القاهرة جاء فيه: "... إنّ التحكيم يختلف عن القضاء،

لأنّ التحكيم شيء والقضاء شيء آخر، فكان من الطبيعي أن يختلف حكم التحكيم في عدد

من الأمور عن الحكم العادي الصادر من المحاكم النظامية للدولة. لذلك، فإنّه في مجال التحكيم وحتى لا يسمح لأحد أعضاء هيئة التحكيم إفساد دعوى التحكيم بمجرد إعلان انسحابه أو برفضه توقيع الحكم بعد أن يكون قد شارك في جميع الإجراءات، ومنها سماع المرافعات وحصول المداولة فإنّ امتناعه هذا – حسبما هو مقرّر في النظم التحكيمية المختلفة – لا يؤثر في سير التحكيم، بحيث يعتبر امتناعه عن توقيع الحكم أو تنحيّه عن المشاركة في إجراءات إصداره بدون أثر قانوني.

التنحّي لا يعدو في حقيقة الأمر سوى اعتراض من المحكم المنسحب على حكم التحكيم المرتقب، وليس تنحّياً منه عن نظر الدعوى التحكيمية، وذلك لأنّ الطلب بالانسحاب قدّم – حسبما تقدّم ذكره – بعد حصول المداولة في الحكم أكثر من مرة وبعد الاتفاق على اتجاه الحكم التحكيمي وخطوطه العريضة ومعرفة المحكم المنسحب بمضمون ما سيحكم به، وبعد تفويض رئيس الهيئة التحكيمية بتحرير أسباب الحكم التي تبلورت الآراء بشأنه خلال المداولة الحاصلة بين كافة أعضاء هيئة التحكيم. والسائد على مسرح التحكيم التجاري الدولي هو السعي نحو اقفال كل الطرق للمماطلة والتسويف سواء عن طريق تسمية محكمين يسيئون التصرف أو عن طريق تقديم المحكمين استقالات تعسفية وعدم قيامهم بمهمتهم. وعليه، فإنه إذا ما امتنع محكم أحد الأطراف عن المداولة أو توقيع الحكم دون مبرِّر جدي مشروع رغم توافر الظروف المناسبة للمشاركة في ذلك، فهذا لا يؤثر في سير التحكيم أو الحكم الصادر فيه...".

(محكمة استئناف القاهرة – الدائرة السابعة التجارية – الدعوى رقم 64 لسنة 127 قضائية – تحكيم – جلسة 7/9/2011).

ولكن السؤال في هذه القضية:

هل هذا الحكم يخالف النظام العام في مصر، وعلى وجه التحديد، مبدأ وترية عدد المحكمين، ومبدأ المساواة بين الأطراف؟

الجواب عن ذلك نجده لدى محكمة الاستئناف بمصر والذي يقضي من حيث النتيجة:

أنّه لا يعتبر مخالفاً للنظام العام الحكم الصادر خارج مصر من عدد زوجي من المحكمين، فيجوز الأمر بتنفيذه في مصر شريطة أن يكون قانون الدولة التي صدر فيها أو طبقاً للقانون الإجرائي المعمول به يجيز للأطراف الاتفاق على هيئة تحكيم زوجية العدد.

ويلاحظ أنّ الفقه يرى أنّ قاعدة وترية المحكمين، وإن كانت من النظام العام بالنسبة لأحكام التحكيم الوطنية الصادرة حسب القواعد الواردة في قانون التحكيم المصري أو قواعد اليونسترال، فإنها ليست بالضرورة من النظام العام الدولي .

والجدير بالذكر أنّ المادتين 12، 26/1 من لائحة محكمة لندن للتحكيم الدولي قد نصّت على أنه إذا رفض المحكم الاشتراك في المداولة بعد منحه فرصة معقولة للمشاركة، كان لباقي المحكمين المضي في عملية إصدار الحكم دونه. وبالمثل تقضي لائحة جمعية التحكيم الأمريكية AAA بأنه إذا امتنع المحكم عن الاشتراك في المداولة – في غير حالة عزله أو استقالته – كان لباقي المحكمين الخيار بين استكمال الإجراءات وإصدار الحكم بمفردهم، أو طلب استبدال المحكم المذكور. وقد أخذت بذات الحل المادة 35 من لائحة تحكيم المنظمة العالمية للملكية الفكرية WIPO والمادة 32/2 من لائحة مجمع التحكيم بغرفة تجارة ستوكهولم. والمادة 14 من لائحة مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي حيث تجيز للمركز أن يصرِّح لباقي المحكمين بالاستمرار في التحكيم وإصدار الحكم.

وقد تناولت بعض التشريعات الحديثة وضع حلول لامتناع أحد المحكمين عن الاشتراك في المداولة، من ذلك مثلاً قانون المرافعات الألماني لسنة 1997 في المادة 1052/2 منه، حيث نصّ على أنه في حالة رفض محكم الاشتراك في المداولة يكون للمحكمين المضي بمفردهما وإصدار الحكم، على أنّ هذا الحل مقيّد بعدم اتفاق أطراف التحكيم على حلٍ مغاير، وبإلزام المحكمين الذين في نيتهما اللجوء إلى هذا الحل بأن يحيطا الأطراف علماً بهذه النية قبل تنفيذها، وذلك حتى يتمكّن هؤلاء من إقناع المحكم الممتنع أو عزله أو استبداله. وذات الحل نصّت عليه المادة 604/2 من قانون المرافعات النمساوي المعدّل بقانون 13/1/2006. وأيضاً يقضي قانون التحكيم السويدي الجديد المادة 30 بأنه إذا امتنع المحكم – دون مبرِّر مشروع – عن المشاركة في إصدار قرار هيئة التحكيم كان للمحكمين إصدار الحكم وحدهما.

ونحن من جانبنا:

نساند نظام المحكمة التحكيمية المبتورة لأنّ اعتماد هذا الأسلوب يؤدي إلى قطع الطريق على المحكم المستقيل الذي كان  يريد إفشال التحكيم من خلال استقالته غير المبرّرة، وخاصة إذا كانت الاستقالة قد جاءت في وقت متأخر أثناء المداولة، وبعد أن شعر المحكم المستقيل التوجهات في من سيصدر الحكم لصالحه فما كان منه إلاّ اللجوء إلى هذه الاستقالة خاصة، وبالتأكيد فإنّ المحكم المستقيل كان يتخيل أنّ صدور الحكم من محكمين إثنين سيكون باطلاً، ولهذا فقد بادر إلى الامتناع عن المشاركة في المداولة عن طريق الاستقالة غير المشروعة اعتقاداً منه أنّ هذا الأمر سيمنح الطرف الخاسر في دعوى التحكيم فرصة لإبطال حكم التحكيم من خلال التمسّك بهذا السبب في دعوى البطلان.

ولهذا فإنّ الحل في أن يكون لمن تبقّى من أعضاء هيئة التحكيم المضي بمفردها وإصدار الحكم هو حل مناسب للقضاء على ظاهرة التسويف والمماطلة والتعسف في استعمال الحق، خاصة وأنّ هذه الظاهرة يمكن أن تؤدي – إن تفاقمت – واستشرت الى تعطيل نظام التحكيم برمته.

ونحن نؤكد، مرة أخرى، أنّ استقالة المحكم غير المبرّرة، تبرهن في نهاية المطاف عن وجود ازدواجية لدى المحكم الذي كانت له مصالح مشتركة مع أحد الفرقاء.

ونحن نؤكد أنّ استقالة المحكم غير المبرّرة، تبرهن في نهاية المطاف عن وجود ازدواجية لدى المحكم الذي كانت له مصالح مشتركة مع أحد الفرقاء.

صدور حكم التحكيم من العدد المطلوب: هناك بعض القوانين ميّزت بين أن يكون التحكيم بالقانون وبين أن يكون التحكيم بالصلح، وعلى سبيل المثال، فقد نصّت المادة 16 من النظام السعودي على أنه إذا كان التحكيم بالقانون فيجب أن يصدر حكم المحكمين بالإجماع أو بالأغلبية، وإذا كان المحكمون مفوضين بالصلح وجب صدور الحكم بالأجماع. ولكن الجدير بالذكر أنّ غالبية القوانين والأنظمة تتفق على عدم التفرقة بين التحكيم بالقانون وبالصلح من هذه الناحية ففي كلا النوعين من التحكيم، يجوز أن يصدر الحكم بالإجماع أو بالأغلبية ولا فرق في ذلك.  

 

وفي قانون التحكيم السوري تبنّى المشرّع في الفقرة 2 من المادة 41  قاعدة أنه عند عدم توافر الأكثرية فإنّ الرئيس يصدر الحكم منفرداً وفق رأيه، وهذه القاعدة تحتاج الى وقفة، فإذا كان المحكم فرداً فلا حاجة الى المذاكرة، أمّا إذا تعدَّد المحكمون فلا بد أن يتداولوا في ما بينهم حتى يتوافقوا على الحلول التي سيكتبونها في الحكم التحكيمي. ولكن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أنّ الحكم قد صدر بالأكثرية أو بالأجماع. وعند تعدّد المحكمين يطرح في المذاكرة أية أكثرية؟ وكيف...؟

فهناك اتجاهان في هذا الموضوع، اتجاه يعتمد الأكثرية واتجاه آخر يعتمد أيضاً الأكثرية فإذا لم تتوافر الأكثرية فإنّ توقيع الرئيس، أي المحكم الثالث يكفي لصحة الحكم التحكيمي . والفكرة من ذلك أنّ المحكمة التحكيمية المؤلفة من ثلاثة محكمين سمّى كل فريق محكماً منهم، سيعطف فيها كل من المحكمين اللذين سماهما الطرفان على مطالب الطرف الذي سمّاه. وفي هذه الحالة فإنّ كل محكم سيكون له رأي يختلف عن رأي المحكم الآخر، أمّا المحكم الثالث أي رئيس هيئة التحكيم الذي قد يكون له رأي أفضل من الرأيين وموقفاً أكثر حياداً، فسيقف موقف المضطر للانضمام إلى موقف أحد المحكمين، الأمر الذي قد يبدو أنه ليس الموقف المثالي، ولكنه سيضطر إلى الانضمام إليه لتأمين الأكثرية. أمّا إذا كان قرار الرئيس هو الذي يعطي الحكم التحكيمي صحته وأثره إذا تعادلت الأصوات، فإنّ أحد المحكمين الآخرين هو الذي سينضم إلى الرئيس بحيث تصبح الأكثرية على الموقف المثالي والحيادي والمجرد. وقد ينضم المحكمان معاً إلى رأي الرئيس، وهذا الاحتمال كبير. أما إذا لم يتحقّق وبقي كل من المحكمين المسميين على موقفه فإنّ قرار رئيس المحكمة كافٍ وحده لإعطاء الحكم التحكيمي آثاره ومفاعيله.

والجدير بالذكر فإنّه من أجل علاج الصعوبات الناجمة عن عدم تحقيق الأغلبية

المطلوبة فقد حرصت بعض لوائح التحكيم على النص على أنه عند عدم تحقّق الأغلبية يقوم رئيس هيئة التحكيم بإصدار الحكم منفرداً، ومن ذلك المادة 31/1 من لائحة غرفة التجارة الدولية بباريس والملاحظ أنه تطبيقاً لنظام غرفة التجارة الدولية، فإنّ رئيس المحكمة التحكيمية قد انفرد بإصدار القرار في دعوى واحدة من أصل 182 دعوى عرضت على تحكيم الغرفة سنة 1994 .

والمادة 24/2 من لائحة غرفة التجارة الأوروبية، والمادة 16/3 من لائحة محكمة لندن للتحكيم الدولي، وقد أخذ المشرِّع الفرنسي بهذا الحل بالنسبة للتحكيم الدولي في المادة 1513/3 من قانون المرافعات الجديد المعدّل بمرسوم 48/2011.

والاجتهاد الفرنسي لا يبدو بعيداً عن التسليم بقاعدة سلطة الرئيس باتخاذ القرار في غياب الأكثرية، ولكن الشرط الأساسي أن يكون المحكمون قد شاركوا جميعاً في المذاكرة أو أتيحت لهم الفرصة كاملة للمشاركة في المذاكرة.

وقد تبنّت أنظمة كثيرة من مراكز التحكيم الدولي فكرة أن يصدر الرئيس الحكم بمفرده إذا لم تتوافر الأكثرية. وإنّ مركز تحكيم غرفة تجارة زوريخ تبنّى الفكرة مع تعديل لافت، وهو أنه جعل الرئيس مقيّداً في حكمه، بحيث لا يحق له أن يعطي الطرف الرابح ليس أقل ولا أكثر ممّا اقترحه الحكمان الآخران المسميان من الطرفين.

وبالنسبة لقواعد تحكيم اليونسترال فإنّها تبنّت فكرة أكثرية المحكمين، وكذلك القانون النموذجي للتحكيم ، ونظام تحكيم الهيئة الأميركية للتحكيم ، ونظام تحكيم اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى .

والتجربة العملية تثبت أرجحية وأفضلية فكرة أنّ رئيس المحكمة التحكيمية يصدر الحكم إذا لم تتوافر الأكثرية، وهي التي تبنّاها المشرّع السوري . هذه التجربة تؤكد فائدة أن يكون الرئيس هو الذي يصدر الحكم، وتجلّت في النزاع التحكيمي الايراني الاميركي الذي طبّق قواعد تحكيم اليونسترال، أي الاكثرية، وظهرت خلال التطبيق العقبات التي كانت تعترض توافر الأكثرية، حتى أنّ رؤساء لجان تحكيم دوّنوا في تسبيب الأحكام التحكيمية أنهم يعتبرون الحلول التي جاءت في الحكم غير ملائمة، ولكنهم اضطروا إلى الانضمام والسير بها بهدف توفير أكثرية تتطلّبها القواعد التحكيمية (اليونسترال) المطبّقة .

أما القانون المصري، وكذلك القانون الاردني والقانون القطري والقانون التونسي والقانون البحريني، فقد تبنّت جميعاً القانون النموذجي لليونسترال واعتمدت قاعدة الأكثرية.

وفي حالة إجراء المداولة التي يتطلّبها القانون فإنّه يفضّل إثبات حصولها في مدوّنات حكم التحكيم، ذلك أنه في مثل هذه الحالة لا يجوز إثبات عدم حصول المداولة إلاّ باتخاذ طريق الطعن بتزوير الحكم المذكور، أمّا إذا أغفل الحكم بيان حصول المداولة، فإنّه لمّا كان الأصل في الإجراءات أنه قد روعيت، ومن ثم يكون عبء إثبات ما يخالف ذلك على عاتق مدّعيه، وله أن يقيم الدليل على ذلك بكافة طرق الإثبات مع ملاحظة ما في ذلك من صعوبات .

الركن الثامن– إصدار حكم تحكيمي سليم:

إنّ المقصود بحكم التحكيم، هو الحكم النهائي الذي تصدره هيئة التحكيم في موضوع النزاع ، سواء كان الحكم شاملاً كل النزاع أو جزءاً منه، وسواء قبلت هيئة التحكيم طلبات أي من الطرفين ورفضت الجزء الآخر . ففي النزاع المعروض على هيئة التحكيم، قد يطلب أحد الطرفين طلبات معيّنة يرفضها الآخر كاملة، بل يتقدم بدعوى متقابلة. وبعد تبادل اللوائح والمذكّرات وتقديم البيّنات، تحجز الهيئة الدعوى للحكم وتصدر حكمها النهائي في كل طلبات الطرفين مرة واحدة، وهذا هو الحكم النهائي الشامل . وإذا كان المعروض على هيئة التحكيم أكثر من نزاع، يمكن لهيئة التحكيم تسوية هذه النزاعات بحكم واحد، أو الفصل بينها وإصدار حكم تحكيم نهائي في كل نزاع على حدة ما دام بالإمكان ذلك ، ومثاله أن يكون العقد مقاولة بناء، تعهّد فيه المقاول بتوريد المواد وإنشاء البناء، وكان العقد ينص على شرط تحكيم لتسوية المنازعات. وقد حصل نزاع بين الفريقين حول أسعار المواد، من جهة، ونوعية البناء، من جهة أخرى، وتمت إحالته الى التحكيم، في هذا المثال، يمكن للمحكم الفصل في مسألة أسعار المواد بحكم، ومسألة نوعية البناء بحكم آخر ما دام ذلك ممكناً، أو الفصل بهما بحكم واحد، حسبما يراه المحكم مناسباً. وإذا أصدر حكمه في بعض هذه الخلافات دون الأخرى على النحو المذكور، يكون الحكم قابلاً للطعن والمصادقة والتنفيذ بمعزل عن الخلافات الأخرى .

والجدير بالذكر، فإنّ القرارات الصادرة عن محكمة التحكيم والمتعلّقة بالفصل في اختصاص المحكمة أو بتحديد القانون الواجب التطبيق أو بصحة العقد أو بتقرير مسؤولية أحد الأطراف، فإنها أحكام تحكيمية حقيقية، حتى ولو أنها لم تفصل في المسائل المتنازع عليها على نحو كلي حتى لو أنّه لا يمكن ترجمتها في صورة إلزام مالي مباشر .

وعلى هذا فإنّ الإجراءات التي يتخذها المحكمون والتي لا تهدف إلى الفصل في المنازعة على نحو كلي أو جزئي لا تعتبر أحكاماً تحكيمية يمكن الطعن عليها بالبطلان. ومن هذا القبيل إجراءات التحقيق في الدعوى التي لا تعدو أن تكون مجرد إجراءات إدارية ذات طابع قضائي لا يمكن الطعن عليه بالبطلان.

ولا تُعدّ القرارات التي تصدر من هيئة التحكيم داخل خصومة التحكيم من قبل الأحكام التحكيمية، ومن ثم فلا تتمتّع بالحجية كالشأن في أعمال الإدارة التحكيمية كتحديد زمان ومكان انعقاد التحكيم أو تأجيلات نظر موضوع النزاع أو تنظيم طرق ممارسة حق الدفاع أمام المُحكم. كذلك لا تتمتّع بالحجية القرارات الصادرة من هيئة التحكيم بندب خبير أو معاينة مكان أو سماع شاهد. ذلك أنه يجوز لهيئة التحكيم أن تصدر، بالإضافة الى قرار التحكيم النهائي، قرارات تحكيم مؤقتة أو تمهيدية، فضلاً عن الأوامر الإجرائية التي تتخلّل الخصومة التحكيمية.

ويذهب جانب آخر من الفقه إلى أنّ القرارات الصادرة عن محكمة التحكيم حتى تلك المتصلة بموضوع المنازعة، والتي لا تفصل في طلب محدّد لا تُعدّ أحكاماً تحكيمية، إلاّ إذا أنهت بشكل كلي أو جزئي منازعة التحكيم.

فوفقاً لهذا الجانب من الفقه فإنّ كل القرارات التي تفصل في المسائل المتصلة بالموضوع كصحة العقد الأصلي، أو مبدأ المسؤولية، لا تُعدّ أحكاماً تحكيمية ولا تعدو أن تكون مجرد أحكام تحضرية أو أولية. وبهذه المثابة، لا يمكن أن تكون هذه الأحكام محلاً للطعن عليها بالبطلان استقلالاً عن الحكم التحكيمي الذي سوف يصدر بناءً على الطلبات المقدمة من الأطراف.

والقرار الصادر عن محكمة التحكيم والذي أطلق عليه قرار من الدرجة الأولى والذي يضع مشروعاً للحكم التحكيمي والذي لا يتحوّل إلى حكم تحكيمي إلاّ إذا قبلته الأطراف، والذي يتعين في حالة عدم تحقّق هذا القبول عرض المنازعة على محكمة تحكيمية من الدرجة الثانية تصدر حكماً نهائياً، لا يمكن أن يكون محلاً للطعن عليه بالبطلان .

ويذهب الأستاذ الفقيه E. Gaillard إلى تعريف الحكم التحكيمي بأنه القرار الصادر عن المحكم الذي يفصل بشكل قطعي، على نحو كليّ أو جزئي، في المنازعة المعروضة عليه، سواء تعلّق هذا القرار بموضوع المنازعة ذاتها أو بالاختصاص أو بمسألة تتصل بالإجراءات، أدّت بالمحكم إلى الحكم بإنهاء الخصومة.

البيانات الإلزامية:

لا بد لحكم التحكيم من أن يتضمّن البيانات الجوهرية التي لا غنى عنها في أي حكم سواء كان صادراً من محاكم الدولة أو من محكمين مختارين من الأطراف، وذلك لأنّ تلك البيانات يقضي بها المنطق السليم، فمنها مثلاً التعريف بأطراف النزاع والمحكمين الذين أصدروا حكم التحكيم، ومن هنا فقد عُنيت تشريعات كثيرة بتعداد البيانات الجوهرية التي يجب أن يتضمّنها حكم التحكيم بصفة عامة، وهي: أسماء الخصوم، أسماء المحكمين، مكان إجراء التحكيم أو المكان الذي صدر فيه الحكم، موضوع النزاع، وأسبابه، تاريخ الحكم وتوقيع المحكمين. وقد أوجبت المادة 31 من قانون اليونسترال النموذجي للتحكيم التجاري الدولي صدور حكم التحكيم كتابة، وأن يوقّعه المحكم أو المحكمون أو أغلبيتهم بشرط بيان سبب عدم توقيع الأقلية، مع بيان أسباب الحكم المذكور ما لم يتفق الطرفان على عدم تسبيبه، وبيان تاريخ ومكان صدوره.

ويجب أن يشتمل حكم التحكيم، بوجه خاص، على صورة من اتفاق التحكيم ويستفاد من ذلك أنّ اتفاق التحكيم يجب أن يدوّن في صلب الحكم وليس في ورقة ملحقة به، ومتى خلا الحكم من نص اتفاق التحكيم فأنه يكون حكماً باطلاً ولا أثر له

وتشترط بعض قوانين التحكيم اشتمال حكم التحكيم على بيان ملخص لطلبات الخصوم وأقوالهم ومستنداتهم، من ذلك مثلاً المادة 1482 من قانون المرافعات الفرنسي الجديد والمادة 43/3 من قانون التحكيم المصري، والهدف من اشتراط ذكر تلك البيانات في الحكم هو توفير الرقابة على المحكم للتأكد من إحاطته بموضوع النزاع وطلبات الخصوم ومستنداتهم، وأنها كانت محل اعتبار عند إصدار الحكم.

تسبيب الحكم:

يعتبر التعليل هو ذلك البناء المنطقي القانوني الذي اعتمده المحكم لإصدار قراره، وبالتالي يعكس مدى استيعاب المحكم للنزاع المعروض عليه، وموقفه في اختيار الحل الملائم له، ففي التعليل حماية للمحكم من الشطط والانزلاق وضمانة للمحتكمين من التعسّف وسوء تطبيق القانون والاتفاق.

ويعتبر تعليل الحكم واجباً مهنياً محمولاً على المحكم والمقصود به هو بيان أسباب حكم التحكيم أي العلل التي بُني عليها، سواء تعلّق الأمر بحجج قانونية أو شرعية أو منطقية أو بالعدل والإنصاف. وقد اعتبر فقه القضاء الذي تقضي تقاليده تعليل الأحكام أنّ فقدان التعليل صنوٌّ لخرق حقوق الدفاع، إذ أنه ضرب من العشوائية والتحكّم، ومن ثم فإنّ جزاء غياب التعليل هو إبطال حكم التحكيم.

ولذلك فالقاعدة أنّ حكم التحكيم ينبغي أن يكون كافياً بذاته بحيث يتمكّن من يقرأه من فهم موضوع النزاع ومواقف الأطراف، ثم موقف المحكم دون حاجة إلى الرجوع إلى أي وثيقة أخرى.

ويثور في هذا المقام السؤال الآتي: هل يجوز للمحكم بالصلح أن يتساهل في مسألة تعليل الحكم التحكيمي؟

والجواب: من المقرّر في الأصل أنّ الحكم بمقتضى العدالة والانصاف لا يعني ترك الحرية للمحكمين دون قيد. كما لا يجوز لهم الحكم بما لا يستند إلى الوقائع الثابتة في الدعوى. ولهذا لا يكفي أن يستند الحكم إلى قواعد العدل والانصاف، فمن المقرّر أنّ حكم التحكيم يجب أن يكون مسبباً وفقاً لضوابط تسبيب أحكام المحكمين، ولو كان التحكيم مع التفويض بالصلح، اذ لم يستثنِ القانون هذا التحكيم من ضرورة التسبيب.

وفي اجتهاد لمحكمة استئناف القاهرة جاء فيه:

".. إذا لم يتفق الطرفان على عدم التسبيب وخلا الحكم من التسبيب فهو باطل...".

(محكمة استئناف القاهرة – الدائرة 8 – تجاري – رقم 102 /124 تاريخ 22/4/2008).

ولكن تجدر الإشارة الى أنّ تعليل الحكم لا يفرض على هيئة التحكيم الردّ على جميع الدفوع، والتي هي غير جديّة، وقد أكدت محكمة التعقيب في تونس في القرار عدد 26338 المؤرخ في 28 ماي 2009 والذي جاء فيه أنّه: ".. لا يفترض الردّ وجوباً على جميع الدفوعات، وإنما يقتصر الأمر على بيان المنهج الذي سلكته هيئة التحكيم في مراحل تفكيرها للتوصل إلى القناعة بالحكم الذي أصدرته، ممّا تجعله وليد مراحل منطقية مبررّة ولم يكن نتيجة نزوة أو من محض الصدفة، ولذلك فإنه لا يتوجب على هيئة التحكيم الردّ على جميع الدفوعات، خاصة وأنّ المحاكم القضائية لا يحق لها تفحص المعطيات والدفوعات لإعادة تقييم الوقائع ومراجعة النزاع وطبيعته وطريقة فصله، وإنما يقتصر نظرها على التثبت من احترام ما أوجب القانون احترامه ورتّب على الإخلال به بطلان القرار التحكيمي، وهي صورة محدودة بالنص ولا يحق التوسع فيها..".

ونجد هذا التوجه المرن نفسه في خصوص تعليل أو تسبيب الأحكام التحكيمية، فمن المعلوم أنّ التعليل مرتبط ارتباطاً وثيقاً بحق الدفاع، إذ يسمح التعليل بتبيّن أنّ المحكم قد تمعّن في طلبات الأطراف واتخذ موقفاً منها. ومحكمة التعقيب في تونس في قرارها عدد 20596/2007 المؤرخ في 27 نوفمبر 2008 اعتبرت أنه من الضروري وجود تعليل للحكم التحكيمي، لكن محكمة الرقابة تقتصر على التثبت من وجود التعليل، دون أن يكون ذلك مطيّة لمراجعة الحكم التحكيمي، إذ يقتصر دورها على رقابة شكلية دون إمكان الولوج إلى أصل النزاع للتأكد من صحة التعليل، ومن ثم فإنّ مجرد وجود تعليل يكفي لاستيفاء هذا الواجب واعتبار أنه تم احترام الإجراءات الأساسية، باستثناء الحالة التي قد يوجد فيها تناقض في التعليل وهي حالة شبيهة بعدم وجود تعليل: "حيث أنّ تعليل القرارات التحكيمية من الضروريات المحمولة وجوباً على المحكمين حسبما يقتضيه الفصل 30 و 75 من مجلة التحكيم، إلاّ أنّ الأسانيد لا تقتضي أن تكون عادلة في مضمونها سواء في ما يتعلّق بالوقائع أم بالقانون، وإنما يكفي أن تكون مقنعة ومرتبطة الصلة بموضوع القرار.

وحيث أنه ترتيباً على ذلك فإنّ تعليل القرارات التحكيمية يمكن أن يقتصر على ما تحتّمه طبيعة النزاع وهو ما يعفي من شمول الردّ على جميع دفوعات الأطراف.

وحيث أنّه لا يمكن إبطال القرار التحكيمي إلاّ إذا كان فاقداً تماماً التعليل أو إذا كانت أسانيده متناقضة ممّا يجعلها في حكم العدم...".

وقد جرى قضاء النقض في مصر على أنّ مجرد إغفال الحكم بيان ملخص أقوال الخصوم لا يُعدّ سبباً لبطلانه، إلاّ إذا كانت هذه الأقوال تتضمّن دفاعاً جوهرياً لو تم بحثه لتغيّرت النتيجة التي انتهى إليها الحكم .

كما جرى قضاء محكمة استئناف القاهرة على أنّ عدم اشتمال الحكم على بيان دفاع جوهري أدلى به أحد الخصوم إيراداً ورداً يعيبه بالإخلال بحق الدفاع ويبطله .

ويثور في هذا المقام السؤال الآتي: هل يتطلب صدور حكم التحكيم باسم الشعب؟

ومن جانبنا نرى: أنه للإجابة عن مثل هكذا تساؤل نقول: ليس مطلوباً في أحكام المحكمين أن تصدر باسم الشعب كأحكام المحاكم النظامية، لأنّ حكم التحكيم يُصدره أشخاص عاديون تم اختيارهم من أطراف النزاع ولا يتبعون أي سلطة من سلطات الدولةٍ، كما يختلف القاضي عن المحكم، إذ يملك الأول سلطة الاجبار imperium لتنفيذ ما يأمر به بينما لا يتمتّع الثاني بأي سلطة من هذا النوع حيال المحتكمين، بل نراه يستمدّ منهم ولايته في النزاع، وهم الذين يُحدّدون له نطاق هذه الولاية ومدّتها، كما أنّ لهم سحبها بالاتفاق على عزله، والقاضي، سواء في إجراءات التقاضي أو الحكم الذي يصدره، مُقيّد بقواعد قانون المرافعات فلا يملك عنها حولاً، بينما يُصدر المحكمون حكمهم غير مقيدين بإجراءات المرافعات عدا ما نص عليه القانون بنصوص آمرة.

وممّا تقدّم يتبيّن أنّ حكم التحكيم يُشبه حكم القضاء في أن كلاً منهما يصدر فصلاً في نزاع وحسماً له بصفة نهائية ويتمتع بحجية الأمر المقضي، بيد أنهما يختلفان بعد ذلك من حيث المصدر والطبيعة والأثر، إذ حين يصدر حكم القضاء من قاضٍ محترف يشغل إحدى الوظائف العامة في الدولة ممثلاً للسلطة القضائية فيها ويُفرض على أطراف النزاع فرضاً.

والجدير بالذكر أنّ تصوّر البعض أنّ حكم التحكيم يجب أن يصدر باسم الأمة أو الشعب إنما هو في الحقيقة أمر مفترض ولا يلزم إيراده ضمن بيانات الحكم، وإن خلو الحكم ممّا يُفيد صدوره باسم السلطة المذكورة لا ينال من شرعيته.

والجدير بالذكر أنّ البعض يعتقد أنّ المادة 72 من الدستور المصري - لعام 1971 - على سبيل المثال - والتي تقضي بأن "تصدر الأحكام وتنفّذ باسم الشعب"، وأنّ هذا النص يشمل أحكام المحكمين، وفي الردّ على ما يعتقد به البعض في هذا الجانب، فإننا نقول: صحيح أنّ الدستور المصري قد نص على أنّ الأحكام يجب أن تصدر وتنفذ باسم الشعب، ولكن هذا النص المقصود به هو الأحكام التي تصدرها المحاكم التي تتولى السلطة القضائية في البلاد، ومن ثم لا شأن لها بالقرارات التي يصدرها المحكمون أو أحكام التحكيم.  وإنّ ما نص عليه الدستور، إنما هو من قبيل الإفصاح عن أصل دستوري أصيل من أنّ الأحكام تصدر باسم السلطة العليا صاحبة السيادة وحدها الأمة أو الشعب، ومن ثم فإنّ خلو الحكم التحكيمي من صدوره باسم الأمة أو الشعب لا ينال من شرعيته أو يمس ذاتيته، إضافة إلى أنّ التحكيم قضاء خاص يستند إلى إرادة الأطراف الحرة، ولذلك فإنّ المشرّع لم يوجب تضمينه كافة البيانات التي نص عليها القانون بالنسبة لأحكام المحاكم، واكتفى المشرِّع في قانون التحكيم المصري ببيانات أوردها على سبيل الحصر تكفي لكي يحقّق حكم التحكيم وظيفته .

والخلاصة من كل ذلك تتجلّى في أنّ التحكيم، كوسيلة اتفاقية لحسم المنازعات، يملك خصوصياته التي من أبرزها أنه يستنكف الخضوع للقضاء، ذلك أنّ مجرد الاتفاق على التحكيم يعني رغبة أطرافه في البعد عن قضاء الدولة وتحقيق عدالة تحكيمية مرنة، باعتبار أنّ هذا الأمر أكثر ملاءمة لمصالحهم، وبالنظر إلى هذه الخصوصية المرتبطة بالتحكيم فهو نظام قانوني مستقل عن القضاء، لا يتفرع عنه، وليس استثناء منه – ولهذا فإنّ المشرّع لم يعامل حكم التحكيم المعاملة التي يعامل بها الحكم القضائي، لأنّ الحكم الذي يصدره المحكم هو حكم تحكيمي خالص، له خصائصه الذاتية، وإن اشتبه بالحكم القضائي، فهما غير متساويين.

مكان صدور حكم التحكيم:

التمييز بين المكان المادي والمكان القانوني للتحكيم:

لا يخفى مدى أهمية مكان التحكيم، فاختيار مكان التحكيم لا يُعدّ اختياراً مادياً فقط، بل هو اختيار لقانون وقضاء دولة معيّنة. فمكان التحكيم، هو المكان الذي يصدر الحكم فيه، ويتحدّد وفقاً لذلك ما إذا كان حكماً وطنياً أو أجنبياً، وتأسيساً على ذلك تتحدّد المحاكم ذات الولاية بالمسائل المتعلّقة بالتحكيم وصحته وتنفيذه، وأيضاً المحكمة المختصة بنظر طلب إبطاله، فضلاً عن أنّ اختيار الأطراف مكاناً معيّناً للتحكيم ينطوي ضمناً على اختيارهم القانون الإجرائي لهذا المكان لتخضع له إجراءات التحكيم ما لم يتفقوا صراحة على اختيار قانون إجرائي آخر لسير إجراءات التحكيم بينهم.

ووفقاً لأحكام قانون التحكيم السوري، يجوز للأطراف الاتفاق على مكان التحكيم سواء في سورية أو خارجها، ويمكن أن يرد هذا الاتفاق في اتفاق التحكيم أو في اتفاق لاحق، وإذا لم يتفق الأطراف على مكان للتحكيم، يجوز لهيئة التحكيم اختياره مع مراعاة ظروف الدعوى وملاءمة المكان لأطراف التحكيم.

ولا يعني اختيار مكان معيّن للتحكيم وجوب أن تتم كل إجراءات التحكيم في هذا المكان، بحيث يجوز لهيئة التحكيم سماع أطراف النزاع أو سماع الشهود أو الخبراء أو الاطلاع على مستندات أو معاينة بضاعة أو أموال في مكان آخر.

اكّد حكم لمحكمة استئناف القاهرة على الفرق بين المكان الجغرافي للتحكيم والمكان القانوني على النحو الآتي "إنّ تعبير مكان أو موقع التحكيم، كما يطلق على المكان الفعلي أو المادي الذي تنعقد فيه جلسات أو اجتماعات التحكيم، فإنه قد يكون المقصود به المكان القانوني للتحكيم وأحياناً لا يجتمع المكانان.

وإنّ العبرة دائماً بمكان أو مقر التحكيم القانوني، ويعتبر حكم التحكيم صادراً في بلد هذا المقر وليس المكان الجغرافي الذي حصلت فيه إجراءات التحكيم أو الذي تتم فيه المداولة بالفعل أو حتى المكان المادي الذي صدر فيه حكم التحكيم.

وليس من اللازم أن يصدر المحكم حكمه في المكان القانوني لإجراء التحكيم (المادة 28 تحكيم)، فإذا رأى المحكم أن يصدر حكمه في مكان ما بخلاف بلد المقرّ القانوني للتحكيم، فإنّ هذا يُعدّ تغييراً في المكان الجغرافي فحسب ويظل حكم التحكيم خاضعاً لقانون المكان القانوني وتصبح محاكم قضاء دولة ذلك المقرّ القانوني هي وحدها المختصة بمسألة رقابة البطلان على حكم التحكيم. وفي القانون المصري فإنّه لا يجوز الطعن في حكم التحكيم بالبطلان، إلاّ في نطاق الأسباب الخاصة بذلك، والواردة في القانون الوطني". (محكمة استئناف القاهرة، الدائرة السابعة التجارية، الدعاوى أرقام: 20 و64 لسنة 128 قضائية تحكيم و16 و20 و129 قضائية تحكيم جلسة 7/4/2013) .

تاريخ صدور الحكم:

يجب أن يتضمّن حكم التحكيم بيان تاريخ صدوره ، وعدم ذكر هذا البيان يترتّب عليه بطلانه، ذلك أنّ حكم التحكيم يكتسب حجية الأمر المقضي فور صدوره وتبقى له هذه الحجية منذ تاريخ صدوره إلى أن يقضى بإلغائه أو بطلانه، وتنتهي مهمة المحكم في تاريخ صدور الحكم، كما يُعدّ ذكر هذا التاريخ بياناً جوهرياً للتأكد ممّا إذا كان الحكم قد صدر خلال مدة سريان اتفاق التحكيم من عدمه، والتحقّق كذلك مما إذا كان قد صدر خلال المهلة المقرّرة قانوناً أو اتفاقاً. ومن المقرّر أنّ حكم التحكيم يكون قابلاً للإبطال إن كان تاريخ صدوره لاحقاً لسقوط اتفاق التحكيم بانقضاء مدّته، ومن هنا فقد اعتبرت غالبية التشريعات الحديثة تاريخ حكم التحكيم من بياناته الجوهرية التي يترتّب على إغفالها بطلانه، وهو بطلان متعلّق بالنظام العام تقضي به المحكمة من تلقاء نفسها وقد نص القانون الفرنسي على البطلان صراحة في المادة 1483 مرافعات.

طبيعة حكم التحكيم:

حكم التحكيم ليس حكماً قضائياً، إنما هو حكم تحكيمي له خصائصه الذاتية . هذه الذاتية تنبع من ركيزة أنّ التحكيم أداة متميِّزة ووسيلة اتفاقية للفصل في نزاع معيّن بواسطة فردٍ من غير قضاة الدولة يرتضيه الخصوم يسمى المُحكِّم. وليس لازماً أن يُطبِّق هذا المُحكم المنهج الإجرائي المطبّق في المحاكم أو القانون ذاته الملزم القاضي بتطبيقه، بل هو يطبِّق في الأساس منهجاً إجرائياً تحكيمياً اتفاقياً أو توافقياً. وحتى العدالة التحكيمية المطبّقة فهي مختلفة، ولو قليلاً عن عدالة المحاكم، وعند الفقيه الروماني سيسرون فإنّ التحكيم هو وسيلة عدم الكسب الكامل حتى ولو كانت القضية جيدة وعدم الخسارة الكاملة، حتى ولو كانت القضية سيئة .

حجية حكم التحكيم:

مع أنّ حكم التحكيم لا يتمتّع بكافة الخصائص الذاتية لحكم القاضي ولا يصدر من محاكم الدولة ولا باسمها، فإنّ المشرِّع التحكيمي يمنحه مباشرة الحجية بمجرد صدوره ويجعله حجة على الخصوم مفترضاً صحة ما انتهى إليه الحكم من قبول أو رفض ، آخذاً في الحسبان أنّ هذه الحجية تستند في الأساس الى إرادة الأطراف، ذلك أنّ مجرد اتفاق هؤلاء على التحكيم يعني منحهم المُحكم سلطة إصدار قرار ملزم لهم .

ورغم أنّ نص المادة 53 من قانون التحكيم السوري - على سبيل المثال- وردت فيه عبارة  "حجية الأمر المقضي به"، وهي تعني في مجال الحكم القضائي كمصطلح قانوني أنّ للحكم حجية في ما بين الخصوم وبالنسبة الى الحق ذاته محلاً وسبباً، وهي تثبت للحكم فور صدوره ولو كان قابلاً للطعن فيه . وعلى كل حال يكون حكم التحكيم دليلاً على الحقيقة في ما فصل فيه، أي تكون له قوة إثبات ما جاء به من مراكز قانونية أو مسائل أساسية، وذلك احتراماً للحقوق المكتسبة، فالحجية تثبت لمنطوق حكم التحكيم ولو ورد هذا المنطوق ضمن أسباب الحكم، وكذلك تثبت الحجية لأسباب الحكم التي ترتبط بالمنطوق ارتباطاً وثيقاً في تلك الأسباب التي تقوم مقام السبب بالمسبِّب .

وتمتدّ حجية حكم التحكيم الى الأحكام الإضافية التي تصدر بناءً على طلب أحد الأطراف متى كانت هيئة التحكيم قد أغفلت (بعد الحكم المنهي للخصومة في الموضوع) طلبات موضوعية سواء أكانت أصلية أو احتياطية أو تبعية مقابلة .

ولا تُعدّ القرارات التي تصدر من هيئة التحكيم داخل خصومة التحكيم من قبيل الأحكام التحكيمية ، ومن ثم فلا تتمتع بالحجية كالشأن في أعمال الإدارة التحكيمية مثل تحديد زمان ومكان انعقاد التحكيم أو تأجيلات نظر موضوع النزاع أو تنظيم طرق ممارسة حق الدفاع أمام المُحكِّم. كذلك لا تتمتّع بالحجية القرارات الصادرة من هيئة التحكيم بندب خبير أو معاينة مكان أو سماع شاهد. ذلك أنه يجوز لهيئة التحكيم أن تصدر، بالإضافة الى قرار التحكيم النهائي، قرارات تحكيم مؤقتة أو تمهيدية، فضلاً عن الأوامر الإجرائية التي تتخلّل الخصومة التحكيمية.

ويثور في هذا المقام السؤال الآتي: هل يجوز لأطراف الحكم التحكيمي أن يعودوا ويعرضوا النزاع على القضاء أو على هيئة تحكيمية أخرى رغم صدور حكم تحكيمي بينهم؟

والجواب: يذهب اتجاه في الفقه الى أنّ حكم التحكيم وإن حاز الحجية فور صدوره، إلاّ أنّ هذه الحجية لا تتعلّق بالنظام العام بدلالة جواز التجاء أطراف خصومة التحكيم اتفاقاً الى القضاء أو الى هيئة تحكيم أخرى لإعادة عرض النزاع ذاته دون أن يواجهوا بحكم يقضي بعدم جواز نظره لسابقة الفصل فيه بحكم تحكيمي سابق.

 بينما يذهب رأي آخر الى القول إنّ حجية حكم التحكيم تتعلّق بالنظام العام، كما هو الشأن بالنسبة لأحكام المحاكم.

وقد أصدرت محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 28/5/2008 حكماً قضى بأنه لا يمكن لحكم تحكيمي لاحق أن يخالف حجية حكم تحكيمي سابق .

ونحن من جانبنا نرى: أنّ حكم المُحكِّم، سواء كان مُحكماً بالقانون أو بالصلح، ليس له الحجية، إلاّ في ما يتعلّق بالمنازعة التي حسمها الحكم، وتولّد هذه الحجية دفعاً متعلّقاً بالنظام العام بعدم قبول المنازعة أو بعدم جواز نظر الموضوع إذا ما عُرضت المسألة بعناصرها ذاتها، سواء أمام محاكم الدولة أو أمام هيئة تحكيم أخرى طالما تمسّك الخصم بالحجية، ذلك أنّ حجية الشيء المحكوم فيه تحول دون معاودة النظر في ذات المسألة المحكوم فيها قضائياً أو تحكيمياً في دعوى ثانية، لأنّ الحجية تمنع الرجوع عن الحكم أو تناوله بالتعديل أو التغيير أياً كان وجه الرأي فيه.

والجدير بالذكر أنه عندما ينظر القاضي في أمر تنفيذ حكم التحكيم بناءً على طلب صاحب الشأن، لا يجوز أن ينظر إليه بحسبانه حمكاً قضائياً، أو بحسبانه عملاً قضائياً ناقصاً، ذلك أنّ حكم التحكيم يظل في كل الأحوال حكماً تحكيمياً يُعدّ عنواناً للحقيقة في النزاع الذي فصل فيه. ولا تسبغ عليه القوة التنفيذية التي يثبتها أمر التنفيذ الصفة القضائية. وكذلك لا يمنح هذا الأمر الحجية للحكم، ذلك أنّ حجية أحكام التحكيم تثبت لها بمجرد صدورها.

والملاحظ أنّ القوة التنفيذية لحكم المحكم تختلف عن القوة التنفيذية التي يمنحها قانون أصول المحاكمات المدنية للحكم القضائي، ولا يُعدّ هذا الأمر جزءاً من العملية التحكيمية ذاتها، بل هو لاحق عليها. وما نريد أن نلفت إليه هو أنّ الأمر بالتنفيذ لا يغيّر من طبيعة حكم التحكيم أو من خصائصه الذاتية، لكنه يجعل منه فقط سنداً تنفيذياً.

ثم إنّ الأمر بالتنفيذ يسبغ على حكم التحكيم فقط القوة التنفيذية، لذلك يجوز إجراء الحجز التحفظي على أموال المحكوم ضده تحكيمياً بموجب حكم التحكيم دون حاجة الى أمر التنفيذ، بل أنه يجوز توقيع الحجز التحفظي بموجب حكم التحكيم ولو كان قد تم رفض إصدار الأمر بتنفيذه، فحكم التحكيم وإن لم تكن له في ذاته قوة تنفيذية فإنّ له حجية وقوة تحفظية.

الخلاصة:

لا بد من الاعتراف بأنّ المشرِّع لم يبتكر القواعد التي تنظِّم الشأن التحكيمي، وإنما كان عاكساً لواقع حاصل فعلاً في النطاق الدولي، لم يكن في مقدوره أن ينفيه. فظاهرة التحكيم العصري ولدت وتطورت في مختلف الدول بشكل تدريجي نتيجة لاحتياجات مجتمع السوق، وككل نظام قانوني للتحكيم أوجه من المزايا، ومن ثم فهو في حاجة دائمة إلى مراجعة أفكاره المرنة، تلك القابلة للتغيير والتطور، لتلافي ما قد يظهر في التطبيق من عورات تجافي العدالة بصورة واضحة ملموسة، ولأنّ التحكيم تحكمه نصوص قانونية متميِّزة عن تلك التي تحكم القضاء.

لقد أصبح التحكيم في الوقت الحاضر من الموضوعات التي تشغل مكاناً بارزاً في الفكر القانوني والاقتصادي على المستوى العالمي، كثرت فيه المؤلفات والأحكام وأنشئت هيئات متخصصة فيه ذات أنظمة معترف بها دولياً، وعقدت معاهدات دولية للاعتراف بالأحكام الصادرة عن هيئات ومراكز التحكيم وتنفيذها، كما تنفّذ الأحكام الصادرة عن القضاة الوطنيين.

ولا خلاف على أنّ التحكيم هو نتاج ضرورة فرضتها حاجة الحياة الاجتماعية والاقتصادية إلى نظام قانوني قادر على الفصل في المنازعات التجارية بعيداً عن قضاء الدولة ومحاكمها، ولهذا لا بد لهذا النظام من أن يؤدّي دوره القانوني في تحقيق عدالة تحكيمية رغب فيها الأطراف مقدماً. ومن ثم لا يقوم النظام القانوني للتحكيم ويحقِّق أهدافه بمجرد وجود القواعد القانونية، بل لا بد من محاكمة تحكيمية عادلة، ذلك أنّه على الرغم من أنّ التحكيم نابع من إرادة أطرافه، إلاّ أنّ دور المحكم شبيه بدور القاضي، وبما أنّ حكم التحكيم يمثّل الهدف النهائي للعملية التحكيمية، فعلى هذا الأساس، ينبغي على هيئة التحكيم إصدار حكم تحكيمي سليم.