القدرة على المواجهة، فإن أحسن الخصم استخدامها بالتمسك بوسائل دفاعه فهنيئاً له بحقه الذي ظفر به سواء في خصومة قضائية أو في خصومة تحكيم.
أما الخصم الذي جهل بما اتخذ في مواجهته، فهو لم ير أي من هذه المواقف، لأن الجهل ظلمة، ولا أحد يرى في الظلام، ولذلك فقد ظلم، فالتجهيل من طبيعة الظلم وإن اختلف عنه في الدرجة، فإن كان التجهيل ظلمة، فإن «الظلم ظلمات، كما قال رسول الله و لسائر الأمم. وهو القائل أيضا، والخطاب كان موجها لعلي بن أبي طالب جودة عندما ولاه القضاء، ومن ثم لسائر قضاة الأمة، وإذا جلست بين الخصمين، فلا تقضي بينهما إلا اذا سمعت من الآخر، كما سمعت من الأول، فقال علي مكة «فما زلت قاضيا .
ومن ثم يعتبر حق العلم أحد مكونات فكرة العدالة، لأن عدمه ظلم - فهو في نظرنا - بين حقوق الدفاع قدس الأقداس
ولذلك لا تندهش إن وجدنا كافة التشريعات الدولية، وأنظمة التحكيم الاقليمية والتشريعات الوطنية قد اعتبرت الإخلال بحق العلم في خصومة التحكيم سبية مستقلاً لبطلان الحكم، ومانعة من موانع تنفيذه، لأنه في حقيقته إخلال بكل حقوق الدفاع قاطبة.
وهذا ما يبدو على الأقل ابتداءً من معاهدة نيويورك في شان الاعتراف بأحكام التحكيم وتنفيذها المبرمة بتاريخ ۱۹۵۸/۹/۱۰، حيث نصت المادة ( ۱/۵) منها على أنه لا يجوز رفض الاعتراف وتنفيذ الحكم بناء على طلبه الخصم الذي يحتج عليه بالحكم إلا إذا قدم هذا الخصم للسلطة المختصة في الدولة المطلوب الاعتراف والتنفيذ فيها الدليل على؛ (ب) أن الخصم المطلوب تنفيذ الحكم عليه لم يعلن إعلان صحيحاً بتعيين المحكم أو باجراءات التحكيم أو كان من المستحيل عليه السبب آخر أن يقدم دفاعه .
فهنا نلاحظ الربط الحتمي بين التجهيل واستحالة الدفاع، ولذلك فالحكم الصادر في هذه الحالة غير معترف به غير قابل للتنفيذ .
وهذا النص قد أخذت به حرفياً الاتفاقية الأوروبية للتحكيم التجاري الدولي المنعقدة في جنيف بتاريخ ۲۱/ 4/ ۱۹۹۱ (م ۱/۹/ب). أما القانون النموذجي للتحكيم الصادر سنة ۱۹۸۹، والذي أخذت عنه العديد من تشريعات التحكيم العربية فقد أكد هذه المسألة مرتين:
مرة عندما نص في المادة (34) على أسباب بطلان حكم التحكيم . ومرة عندما نص في المادة (۳۱) على أسباب رفض الاعتراف أو تنفيذ حكم التحكيم وبعبارات متطابقة لما ورد في نص المادة (5) من معاهدة نيويورك وهي الأسبق تاريخيا.
ومن أنظمة التحكيم الإقليمية ما أخذ بذلك أيضا حرفية: من ذلك اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائية الموقع عليها بتاريخ 6/ 4/ ۱۹۸۳ حيث نصت المادة (۲۰/پ) على أنه: «يرفض الاعتراف بالحكم. اذا كان غيابياً ولم يعلن الخصم المحكوم عليه بالدعوى أو الحكم إعلاماً صحيحاً يمكنه من الدفاع عن نفسه.
فالإعلان الصحيح - باعتباره كما سنرى - إحدى وسائل إعمال حق العلم لا يكون صحيحة إلا بتحقق الغاية منه، وهو كما أشارت المادة تمكين الخصم من الدفاع عن نفسه، فحق العلم، ليس مقصودا لذاته، بل لغيره وغيره كثير وهي حقوق الدفاع.
أما اتفاقية عمان العربية للتحكيم التجاري المبرمة بتاربع ۱۹۸۷ ودخلت حيز التضاد بتاريخ ۱۹۹۲/۹/۲۰ ، فقد نصت على أن: بحوز لأي من الطرفين بناء على طلب كتابي يوجه إلى رئيس المركز العربي للتحكيم) طلب إبطال القرار إذا: (ب) أثبت بحكم قضائي وجود وافعة جديدة من طبيعتها أن تؤثر تأثيراً جوهرية بشرط أن لا يكون الجهل بها راجعاً لنصير طالب الإبطال، والذي يعنينا من هذه المادة، الشطر الأخير منها الذي وضرين الشرط فإن كان الجهل بالواقعة المنتجة في الدعوى راجعاً إلى تقصير طالب الإبطال فلا يلومن إلا نفسه، وهذا ما قلنا في مستهل حديثنا عن أهمية العلم في خصومة التحكيم، أما إن كان هذا الجهل راجعاً إلى سبب أخر، كتجهيل المحكم للواقعة، أو عدم مراقبته لتجهيل الخصم الآخر لها فالحكم يقع باطلاً في مفهوم هذه المادة.
أما اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول المضيفة للاستثمارات العربية وبين مواطن الدول العربية الأخرى، المبرمة في ۱۹۷۵/۹/۱۰ ودخلت حيز التنفيذ اعتبارا من ۸/۲۰/ ۱۹۷۹| فقد اعتبرت أن السبب السابق وجهاً لإعادة النظر في الحكم حيث نصت المادة ( ۱/۲۳) منها على أنه: «يجوز لأطراف النزاع طلب إعادة النظر في الحكم بالشروط الآتية:
1- أن يقدم الطلب كتابية إلى الأمين العام المجلس تسوية المنازعات).
۲- أن يبني الطلب على أساس اكتشاف واقعة جديدة يكون من طبيعتها أن تؤثر في الحكم تأثيراً جوهرياً وعلى ألا يكون جهل الطالب بها راجياً إلى تقصيره». وما قلنا في الفقرة السابقة بصدق هنا تماماً. غير أن المادة ( 1/24) من نفس الاتفاقية قد حصرت أسباب بطلان الحكم في خمسة رابعها أنه قد وقع تجاوز خطير لقاعدة أساسية من قواعد الإجراءاته، ومما لا شك فيه أن مبدأ المواجهة بما يكرسه من حق العلم يعتبر قاعدة أساسية من قواعد الإجراءات في مفهوم هذه المادة، وإن مجرد الإخلال به يعتبر من قبيل «التجاوز الخطيرة في مفهومها أيضاً.
ومن الجدير بالإشارة أن قواعد البونسترال لم تنص على حالات البطلان الحكم أو موانع تنفيذه، ولا كان نظام التحكيم الاقليمي لدی فر القاهرة، قد أخذ بها حرفية، فلم يرد فيه أيضاً شيئاً مما ذكر، و کذا لا في نظام التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية I.C.C .
أما نظام تحكيم مركز التحكيم التجاري الدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية , G.C.C ، فقد نص على حالات حصرية لبطلان الحكم.
ومن ناحية أخرى، وبناء على نفس الأساس، نصت المادة ( ۲/۵۸ ) من قانون التحكيم المصري على أنه: «لا يجوز الأمر بتنفيذ حكم التحكيم وفقا لهذا القانون إلا بعد التحقق مما يأتي: .... (ج) انه قد تم إعلانه للمحكوم عليه إعلاناً صحيحاً.
وفي هذه المادة خالف القانون المصري، القانون النموذجي، لأنه لم يكتف لرفض التنفيذ بعدم إعلان الحكم فقط، وإنما بالإخلال بحق العلم في الخصومة كلها، وعلى هذا النهج سارت بقية تشريعات الدول العربية التي حذت حذو القانون المصري في التحكيم.
والقوانين العربية التي لم تحذو هذا الحذو أيضا لم تخلو من النص على ذلك، ومنها: قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني الذي كان له أفضل المواقف العربية في تكريس حق العلم في خصومة التحكيم أخذا بذلك بموقف قانون المرافعات الفرنسي كما سنرى ذلك تفصيلا.
أما الاستئناف فقد نصت عليه المادة ( ۹/۹۹) أ.م.م .م إلى عليه بالنسبة الحكيم الداخلي، ومناط الطعن بالاستئناف كمناط كل طعن عادي هو الخطأ في التقدير، أو الخطأ في الأجراء ومن صور الخطأ في الاجراء الإخلال بحق العلم في الخصومة، فهو إخلال بكل حقوق الدفاع كما قدمنا.
وقد نصت كذلك المادة (۸۱۷) أحمل على استئناف القرار الصادر بمنع الاعتراف أو الصيغة التنفيذية للحكم التحكيمي، ومن بين أسباب هذا الاستئناف كما حددتها المادة المشار إليها صدور القرار التحكيمي) بدون مراعاة حق الدفاع للخصوم.
أما إعادة المحاكمة (التماس إعادة النظر) فقد نصت عليها المادة (۸۰۸) أ.م.م . ل. بقولها يقبل القرار التحكيمي الطعن بطريق إعادة المحاكمة للأسباب وبالشروط المعينة للطعن في الأحكام بهذا الطريقه.
ومن أسباب الطعن بالمادة المحاكمة في قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني التي نصت عليها المادة ( 2/690) منه ( إذا حصل طالب الإعادة بعد صدور الحكم على أوراق حاسمة في النزاع كان المحكوم له قد احتجزها أو حال دون تقديمها .
ونحن نرى أن هذه صورة فاضحة لعدم المواجهة، راجعة إلى غش الخصم، أو حسب تعبير رای) تدليس أوقع المحكمة ومن ثم الحكم في غلط بغرض تغيير أو اخفاء الحقيقة. فنحن بصدد حالة من حالات التجهيل الإجرائي.
ولذلك قضت محكمة النقض المصرية - في شأن الحالة المقابلة في المادة (۲4۱) من قانون المرافعات المصري - على أن مناط قبول الالتماس في هذه الحالة أن تكون الورقة التي يحصل عليها الملتمس بعد صدور الحكم قاطعة في الدعوى بحيث لو قدمت لغيرت وجه الحكم فيها لمصلحة الملتمسه وأن تكون قد احتجزت بفعل الخصم أو حال دون تقديمها بالرغم من التزامه قانونا بذلك، وأن يكون الملتمس جاهلا أثناء الخصومة وجودها تحت يد حائزها، فإن كان عالماً بوجودها ولم يطلب إلزام حائزها بتقديمها فلا يقبل منه الالتماس.
...أما "قانون التحكيم القضائي الكويتي، فقد حصر الطعن في الحكم الصادر من هيئة التحكيم في طريق وحيد هو الطعن بالتمييز (النقض).
ونصت المادة (10) منه على أسبابه، ومن بينها: «اذا وقع بطلان في الحكم أو في الاجراءات أثر في الحكم». (م ۱۰/ب) وهذا هو نفس السبب الوارد ضمن أسباب البطلان في حكم التحكيم العادي في المادة ( ۱/۱۸۹) مرافعات كويتي. ويصدق عليه ما قلناه تماما.
ومن هذه القوانين كذلك، قانون المرافعات المدنية الإماراتي حيث نصت المادة ( ۱/۲۱۹/ج) على أنه: «يجوز للخصوم طلب بطلان حكم المحكمين عندما تنظر المحكمة في المصادقة عليه في الأحوال الآتية... اذا وقع بطلان في الحكم أو بطلان في الإجراءات أثر في الحكم»، وكذلك المادة ( ۶/۲۰۷) من قانون المرافعات القطري.
فيمكننا إسناد طلب البطلان للإخلال بحق العلم على أي من هذين السببين، أو إلى كليهما معاً. أما المادة (۷۸) من مجلة التحكيم التونسية الخاصة بالتحكيم الدولي فقد أخذت بنفس سبب البطلان الوارد في القانون النموذجي وكذلك المادة (۸۱/ أولا/ب) بشأن رفض الأمر بتنفيذ الحكم. كما سبقت الإشارة.