تعريف المحاكمة العادلة فى ضوء أحكام القضاء المقارن
يبين من إستقراء أحكام القضاء المقارن المنشورة، والتي تناولت المخالفات الإجرائية لقواعــــد المحاكمة العادلة في إجراءات تنفيذ أحكام التحكيم أو بطلانها، أن المحاكم الوطنية لم تتبن تعريفاً واحداً للمُحاكمة العادلة، بل تعددت هذه التعاريف بحسب مفهوم هذه المحاكم لهذا المصطلح، وبحسب ظروف كل قضية على حدة، ومع ذلك، فإنه يُمكن من خلال تحليــل هـذه الأحكام إستخلاص بعض الملامح لتعريف أصول المحاكمة العادلة والخصائص الإجرائية التي تتسـم بهـا، وذلك على النحو التالي:
أولاً القضاء الأمريكي :
أكدت المحاكم الأمريكية في العديد من أحكامها ، على أن العُنصر الجوهري في المحاكمة العادلة يتمثل في إتاحة الفرصة للدفاع في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة ، كمـا قــررت بالإضافة إلي ذلك، أن الحق في المحاكمة العادلة لا يتضمن مجموعة كاملة من الحقوق الإجرائية التي تكفلها القواعد الفيدرالية للإجراءات المدنية، وأن الأطراف ومن خلال إتفاقهم على التحكيم، قد أخضعوا أنفسهم لمزاياه وعيوبه .
فقد ذهبت الدائرة الثانية بمحكمة الإستئناف الأمريكية فى قضية & parsonsWhittemore Overseas Co.Inc. v. Société Générale De L'Industrie Du (Papier(Rakta ، وفى سبيلها لحسم الغموض المصاحب لمسألة القانون المختار في المـادة الخامسة(۱)(ب) من إتفاقية نيويورك الذى يُمكن القول بالرجوع لأحكامه أن هناك إخلالاً بقواعد المحاكمة العادلة، إلى القول بأن "هذا النص يُقر بصفة جوهرية تطبيق معايير المحاكمة العادلة المتبعة في دولة التنفيذ» ، وهو ما يعبر بإختصار عن جوهر السبب المشار إليه في الفقرة (ب) من البند (۱) من المادة الخامسة، بإعتباره يتعلق بالمبادىء الإجرائية الجوهرية، وهي جلسة عادلة وإجراءات متقابلة ، والمشار إليها أيضاً
بـ "الإستماع للجانب الآخر.
وهوما يُوجب على المحكم إحترام هذه المبادىء العامة في جميع الدعاوي بغض النظر عن مكان التحكيم، أو القواعد الإجرائية السارية في شأنها، بما يقتضيه ذلك من سماع الطرف الآخر، أى أنه يجب عليه ألا يكتفى بسماع أحد طرفي الخصومة دون الآخر، بل يتحتم عليه أن يُفسح لهما مجال الحديث في دعوى التحكيم، وعرض حُججهم وأسانيدهم على حد سواء.
وفي ذات السياق، قررت الدائرة السابعة بمحكمة الإستئناف الأمريكية، في قضية Generica Limited v. Pharmaceutical Basics, Inc، أنه وفقاً لمعايير المحاكمة العادلة المعمول بها، فإنه: "يجب رفض أو إبطال حكم التحكيم، إذا أثبت الطرف المعارض للحكم أنه لم تتح له فرصةً مُناسبة للإستماع إليه ... ومن الواضح أن المحكم يجب أن يوفر بشكل أساسي محاكمة عادلة، والمحاكمة العادلة التي تلبي الحد الأدنى من متطلبات العدالة ، من إعطاء مهلة كافية، وعقد جلسة للإطلاع علي أدلة الإثبات وحكم مُحايد صادر من المحكم، ومع ذلك، فلايجب على الأطراف الذين يختارون حل منازعاتهم من خلال التحكيم بدلاً من التقاضي أن يتوقعوا نفس الإجراءات التي قد يجدونها في المجال القضائي ... إذ يتمتع المحكمون بحريةً واسعة في تنظيم جلسات الإستماع في التحكيم، حيث أن إجراءات التحكيم لا تتقيد بالقواعد الرسميـة للإجراءات أو بتقديم أدلة الإثبات، ويكون دور المحكم هو حل المنازعات وفقاً لرأيه بالنسبة للأدلة المتصلة بالنزاع ، بمجرد أن تُتاح لأطراف النزاع الفُرصة الكاملة لتقديم دفاعهم .
ثانياً : القضاء الكندي:
إعتبرت المحكمة العليا الكندية فى قضية Corporacion Transnacional de International SpA And STET Inversiones SA de CV v. STET International Netherlands NY أنه لا يوجد تعريف واحد للمُحاكمة العادلة، حيث لاحظت أن بعض المحاكم قد وصفت المحاكمة العادلة في دعاوي التحكيم بأنها "العدالة تستتبع الجوهرية وهو ما يعنى إستيفاء "الحد الأدنى من مقتضيات العدالة من إعطاء مهلةً كافية، وعقــــد جلسة للإطلاع علي الأدلة، وحكم مُحايد صادر من المحكمين ، وأضافت مقررةً أن مفاهيم الإنصاف والعدالة الطبيعية المنصوص عليها فى المادة ۱۸ من القانون النموذجي تشترك مع الأمور المتعلقة بعدم قدرة أحد علي عرض قضيته، في أنها تقع ضمن نطاق النص المتعلق بالنظام العام المنصوص عليه في المادة ٣٤ (٢ ) (أ) (٢) ، (ب) (۲) .
ثالثاً: القضاء الألماني:
قررت محكمة إستئناف Bavaria، في حكم لها صادر بتاريخ ١٦ مارس ٢٠٠٠ ، في قضية بين بائع روسى ومُشترِ ألماني، أن مبدأ المحاكمة العادلة المعترف به عالمياً في كافة دعــــاوي التحكيم، يشمل الإخطار في الوقت المناسب ببدء التحكيم، والتكليف الصحيح بحضور الجلسات، كما أكدت محكمة إستئناف Cologne ، في حكم لها بتاريخ ٢٣ أبريل ٢٠٠٤ ، في قضية بين شركة إسرائيلية ومُشترِ ألماني على أن المحاكمة العادلة لاتتمثل فقط في إعطاء الأطراف الفرصة في التعبير عن أنفسهم، بل ينبغي أيضاً علي هيئة التحكيم أن تأخذ في إعتبارهــا طلبــاتهـم المطروحة في الدعوى.
رابعاً : القضاء السويسري:
قررت المحكمة الفيدرالية السويسرية في قضية .G.S.A. . T.Ltd) أن المادة الخامسة (۱) (ب) من الإتفاقية تكفل الحد الأدني من مُتطلبات الإجراء العادل والصحيح (معايير المحاكمة العادلة ومبدأ المحاكمة المنصفة وإجراءات الخصومة).
وفي حكم لاحق ، قررت ذات المحكمة، أن المحاكمة العادلة، والتي تعنى "الحق في الإستماع فى إجراءات الخصومة" Le droit d'étre Entendu en Procedure " Contradictoire ، تجمع بين مفهومين وهما: الحق في الإستماع ومبدأ الخصومة" (إجراءات الخصومة)، ويكفل الحق في الإستماع لكل طرف أحقيته في تقديم كافة دفوعه الواقعية والقانونية في موضوع النزاع، وأن يُقدم الأدلة اللازمة لذلك، وكذلك الحق في حضور الجلسات وتمثيله أو مساعدته أمام المحكمين، بينما يكفل مبدأ الخصومة» (إجراءات الخصومة) حق كل طرف في الرد علي دفوع خصمه ومُناقشة الأدلة التي قدمها ذلك الخصم وتفنيدها بالأدلة الخاصة بها .
خامساً: القضاء الأسباني
قررت المحكمة العليا الأسبانية في قضية Fashion Ribbon Company Inc. v I berband L ، أن المحاكمة العادلة في ظل المادة الخامسة (۱)(ب) من الإتفاقية تتمثل في الحق في الدفاع والضمانات الإجرائية العامة التي تشكل النظام العام.
وخلاصة ما تقدم من بيان لتعاريف القضاء الوطني لقواعد المحاكمة العادلة، أن هذه القواعد تشكل جزءاً من النظام العام المتخطى للحدود القومية أو النظام العام الدولى الحقيقى، وبعبـــارة أُخرى، هي إحدى المبادىء العالمية المعترف بها على نطاق واسع في كافة أنظمة العدالة ، حيثُ أن الإجراء الذى لايُقدم قواعد إجرائية قانونية، لايُعتبر تحكيماً على الإطلاق، أو أنه سوف يؤدى إلى صدور حكم يكون معرضاً للإلغاء أو لرفض تنفيذه.