هذه الصلة الواضحة بين خصومة التحكيم والخصومة القضائية لاتصل إلى حد التطابق بين إجراءات كلتا الخصومتين ولا تبرر إعمال قواعد المرافعات جملة وتفصيلاً لما ينطـوى عليه هذا من تجاهل لما تتسم به خصومة التحكيم من خصوصية،وهذا يدعونا إلى التساؤل عما ينبغي الإبقاء عليه،وما يمكن التجاوز عنه من قواعد المرافعات. فمـاعنـی بـه قـانون المرافعـات مـن بيـان للإجراءات والأوضاع التي تلزم مراعاتها عنـد الإلتجـاء للقضـاء والجزاءات التي تترتب على مخالفتها وكيفية التمسك بها،مرجعه تقدير أهمية الإجراءات كضمانة للمتقاضين فضلاً عما تسهم به في تحقيق العدالة .
فقد بالغ المشرع في توفير الضمانات الإجرائية حماية للمتقاضين،فجاءت إجراءات المرافعات تتسم بالإطالة والتعقيد على نحو قد يضر بعدالة الدعوى. ولعل هذا ما حرص علي تفاديه عند تنظيم خصومة التحكيم بإتباع إجراءات تتسم بالمرونة وتهدف إلى الحد مـن التمسك بالأشكال الإجرائية،ومحاولة الإفلات من شبح البطلان الذي يهدد بإعدام الإجراء. فتيسير إجراءات حسم المنازعات مطلوب للوصـول للعدالة،وبصفة خاصة عندما ينطـوى النزاع على مبالغ ضخمة أويثير مسألة هامة يتعين حسمها بأسرع وقت. غير أن هذه المرونة تجد حدودها عند الإبقاء على الهدف الذي تتغياه وهو الوصول إلى العدالة،وهو ما لايتحقق إذا ترك الأمر لمحض تقدير المحكم أوالخصوم.
فتيسير إجراءات التحكيم يتحقق من خلال تقديم إجراءات تتسم بالسرعة والمرونة مع الإبقاء على الضمانات التي تكفل صحة وعدالة الإجراء،فما يسعى إليه المتعاملون بالفعل هو السرعة في تحقيق العدالة أي السرعة التي لاتضر بعدالة الدعوى،فلا قيمة لإجراء مرن إذا فقـد عدالته، وما من خصم يسعى لحكم باطل أوجائر، فالشعور بعدم عدالة الإجراءات يدفع الخصوم لمقاومة الحكم بشتى الطرق مما يطيل أمد النزاع وتتلاشى معه ميزة السرعة.
فما يجب أن يحرص عليه المشرع عند تنظيم إجراءات خصومة التحكيم سد الثغرات أمام الخصم المماطل أوسيء النية حتى لايكيد لخصمه،وتقديم إجراءات منضبطة تتسم بالمرونة والعدالة في الوقت ذاته، مع إتاحـة قـدر مـن الحريـة لإرادة الخصـوم لوضـع التفصيلات الإجرائية في الحدود التي لاتتعارض مع الإطار القانوني الذي رسمه المشرع بدقة ووضوح،وهذا يتيح للمحكم ممارسة دور في الخصومة محدد المعالم والأبعاد، وهو ما حرص المشرع المصرى على تحقيقه،وقد نجح في ذلك إلى حد كبير.
تجد سلطات المحكم أساسها في النصوص القانونية،ويتحدد نطاقها بين جانبين همـا إرادة المشرع وإرادة الخصوم، وذلك على التفصيل الذي سنراه في هذا القسم من الدراسة،والذي نتناول فيه ثلاثة موضوعات رئيسية نفـرد لها ثلاثة أبواب، نخصص الباب الأول لنطـاق السلطات الإجرائية للمحكم في خصومة التحكيم، والباب الثاني للسلطات الموضوعية للمحكم، والثالث لسلطة المحكم في إختيار القانون الواجب التطبيق.