يثير اتفاق التحكيم عدة مسائل يتطلب حسمها تحديد القانون الواجب التطبيق عليها مثل مدى صحة الاتفاق (موضوعاً وشكلاً) وتفسيره وآثاره والأهلية المطلوبة للارتباط به.
وقد أخذت اتفاقية نيويورك في شأن الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها بمنهج تنازع القوانين فيما يتعلق بالمنازعة في صحة اتفاق التحكيم في حالة طلب تنفيذ حكم التحكيم وحددت ضوابط فض هذا التنازع، حيث تنص في مادتها الخامسة على أنه للقاضي المطلوب منه إصدار أمر بتنفيذ حكم التحكيم أن يرفض هذا الطلب إذا تبين له أن اتفاق التحكيم غير صحيح وفقاً للقانون الذي حدده أطرافه، وفي حالة غياب أي مؤشر على هذا التحديد، وفقاً لقانون البلد الذي صدر فيه حكم التحكيم. وبهذا النص تكون الاتفاقية قد تبنت ضابطين لتحديد القانون الحاكم لصحة اتفاق التحكيم، الأول يستند إلى إرادة أطراف الاتفاق، أما الضابط الثاني فيقوم على معيار موضوعي (تركيز مكاني) وبموجبه يكون قانون مقر التحكيم هو القانون الحاكم لهذه المسألة. وسوف تتاح لنا الفرصة، فيما بعد، لتحديد القانون الواجب التطبيق على المنازعة في صحة تن التحكيم إذا عرضت هذه المسألة قبل بدء الإجراءات.
إذا كان يمكن القول بأن ضابط الإسناد المتمثل فيما تتجه إليه إرادة طرفي اتفاق التحكيم يشكل ضابطا مقبول عالمياً، رغم أن إعماله ليشمل حالة الاختيار الضمني للقانون الواجب التطبيق عليه لا يزال محلاً لتوجهات عديدة، إلا أن تعدد الاتجاهات ظهرت أكثر ما ظهرت في حالة غياب تحديد صريح من قبل الأطراف لهذا القانون، فهل يصار إلى تطبيق قانون مقر التحكيم أم أن الأولى تطبيق القانون الحاكم للعقد؟
لعل استعراض الاتجاهات المعمول بها في بعض الدول سوف يساعدنا أولاً على استخلاص مغزی الخلاف الذي شهدته هذه المسائل سواء على مستوى الأحكام القضائية أو على صعيد الأحكام التحكيمية وثانيا على تقييم منهج التنازع.
موقف القضاء الإنجليزي
القاعدة المقررة في قانون التحكيم الإنجليزي لعام ۱۹۹6 (م۷) أنه ويترتب على كون عقد الأساس (Substantive contract) غير صحيح أو غير موجود أو غير فعال أن يصبح شرط التحكيم مثله في ذلك، فاتفاق التحكيم يعامل على أنه اتفاق منفصل عن عقد الأساس.
ومن المفيد أن نبحث فيما يلي اتجاهات المحاكم الإنجليزية، وعلى رأسها المحكمة العليا للمملكة المتحدة، بشأن تحديد القانون الواجب التطبيق على اتفاق التحكيم حالة عدم وجود اتفاق صريح على تحديده بين أطرافه، وهو بحث يكشف عن اختلاف المحاكم والشراح حول كيفية إعمال ضوابط الإسناد المذكورة وأن هذا الاختلاف تضمن الدمج، أن لم يكن الخلط، بين بعض هذه الضوابط، ومن هنا يثور التساؤل حول ما إذا كان من الممكن، في ضوء الخلاف المشار إليه عامة لحسم المسألة المختلف حولها.
تتردد أحكام القضاء الإنجليزي الصادرة في شأن تحديد القانون الواجب التطبيق على اتفاق التحكيم، في حالة عدم تضمن عقد الأساس أو اتفاق التحكيم ذاته اختيارا صريحاً أو ضمنياً لهذا القانون، تتردد بين اتجاهين)، فبعض المحاكم تتجه إلى تطبيق القانون الحاكم لعقد الأساس على اتفاق التحكيم (شرط التحكيم)
أن ثمة اختبارات أو ضوابط درجت المحاكم الإنجليزية على تطبيقها لتحديد القانون الواجب التطبيق على اتفاق التحكيم. أما في حالة غياب تحديد للقانون الحاكم لاتفاق التحكيم، بإرادة صريحة من الأطراف، فقد تباينت مواقف المحاكم الإنجليزية على النحو المشار إليه، ومن ثم فإنه لا يوجد حالياً ما يبرر القول بأن موقف القضاء الإنجليزي من المسألة المطروحة هو موقف محسوم، ومما يدل على ذلك أنه رغم أن الاتجاه الحديث للمحاكم الإنجليزية ينطلق من قائمة اختبارات متفق عليها بشأن تحديد القانون الواجب التطبيق على اتفاق التحكيم إلا أنها تنتهي في تطبيقها إلى نتائج مختلفة.
ومن الواضح أنه إزاء التوجهات العديدة السائدة في إطار القانون الإنجليزي، لا يمكن الادعاء بأن المسألة المطروحة على بساط البحث قد استقرت قاعدتها استقرارا واضحا، وكل ما يمكن استخلاصه من دراسة أدبيات القانون الإنجليزي هو أنه إذا حدد طرفا العقد محل النزاع المطروح على التحكيم قانون دولة معينة ليحكمه، في الوقت نفسه الذي اتفق فيه طرفا النزاع على إجراء التحكيم في دولة أخري، فإن ثمة أسباباً قوية تدعو إلى افتراض أن القانون الحاكم لاتفاق التحكيم هو نفس القانون الموضوعي الحاكم لعقد الأساس لم توجد مؤشرات قوية على اختيار أطراف النزاع القانون أخر".
موقف القضاء المصري:
يبين من الاطلاع على أحكام محكمة النقض المصرية أنها تنتهج منهج تنازع القوانين في تحديد القانون الواجب التطبيق على اتفاق التحكيم (خصوصاً فيما يتعلق بالشروط الموضوعية اللازمة لوجود الاتفاق وانعقاده وصحته).
غير أن أحكام النقض المتاحة تفرقت في تحديد قاعدة الإسناد الواجب تطبيقها بحسب الجانب الذي غلبته على الجانب الآخر من جانبي اتفاق التحكيم ونعني بهما الطبيعة الاتفاقية من جانب والطبيعة الإجرائية أو القضائية من جانب آخر، ولم يفت محكمة النقض أن تضمن حيثيات عدد من أحكامها، تبريراً لمنطوقها، بعض القواعد المادية المقررة في قانون التحكيم المصري خصوصاً قاعدة انفصال بند التحكيم عن العقد الأساسي، كما أشارت المحكمة إلى نصوص اتفاقية نيويورك التبرير اختصاص هيئة التحكيم المطروح عليها النزاع بالفصل فيه دون الحاكم المصرية حتى ولو تضمن اتفاق التحكيم الدولي نصوصا تخالف أحكاماً آمرة في القانون المصري ما دامت لا تتعلق بالنظام العام. ونعرض فيما يلي للاتجاهات المشار إليها التي انطوت عليها أحكام النقض المتاحة.
إرادة طرفي الاتفاق كضابط إسناد:
اتجهت محكمة النقض في بعض أحكامها إلى تحديد القانون الذي يخضع له تفاق التحكيم بأنه القانون الذي اختاره أطرافه سواء كان الاختيار صريحا أو ضمنيا. ففي أحد أحكامها" استندت المحكمة إلى اتفاقية نيويورك في تبرير خضوع اتفاق التحكيم (فيما يتعلق بوجوده أو صحته فيما عدا الأهلية للقانون الذي اختاره أطرافه إلى حكم هذا الاتفاق ذاته أو ليحكم العقد الأصلي المندرج شرط التحكيم في إطاره، وأشارت المحكمة إلى أن قانون الإرادة قد تحدد وفقاً لقاعدة إسناد موحده دولا تعقد الاختصاص لهذا القانون وحده بحكم الاتفاق التحكيمي في كل ما يتصل بالشروط الموضوعية اللازمة لوجوده وصحته وترتيبه لآثاره فيما عدا الأهلية".
طرفي العقد الأصلي اتفقا على أن القانون الواجب التطبيق على هذا العقد هو القانون السويدي وعلى إحالة أي نزاع ينشأ عن تفسيره أو تنفيذه إلى التحكيم بالسويد وفقاً لأحكام قانون التحكيم السويدي، وهو ما انتهت المحكمة خضوع المطاعن التي أثيرت حول وجود العقد الأصلي واتفاق التحكيم المتصل به متضمناً الشروط الموضوعية لانعقاده للقانون السويدي دون القانون المدني المصري"". ونلاحظ أن قضاء الحكم انتهى إلى خضوع اتفاق التحكيم لذات القانون الحاكم للعقد الأصلي رغم أن القاعدة المقررة في قانون التحكيم المصري (م23) وهو ما تواترت عليه أحكام المحاكم - تقضي باستقلال أو انفصال اتفاق التحكيم رعن عقد الأساس.
غير أن اتجاه محكمة النقض يحتمل أن يبني - أيضا - على أساس أن اختيار طرفي عقد الأساس، الذي يتضمن بند التحكيم في منازعته، للقانون الحاكم له يعبر عن إرادتهم الضمنية في تطبيقه على هذا البند.
وفي جميع الأحوال فإن الاتجاه الأول الذي نحن بصدده هو نتيجة مباشرة الطبيعة الاتفاقية لاتفاق التحكيم التي تجعل إرادة أطرافه العامل الأول في تحديد القانون الواجب التطبيق عليه.
مقر الإجراءات (التحكيم) كضابط إسناد:
في عدد من أحكامها قضت محكمة النقض بخضوع اتفاق التحكيم فيما يتعلق بصحته وترتيبه لآثاره القانون البلد الذي اتفق على التحكيم فيه عملاً بالمادة (۲۲) من القانون المدني التي تتضمن قاعدة الإسناد الخاصة بالإجراءات، حيث نصت على خضوعها لقانون البلد التي تقام فيه الدعوى أو تباشر فيه الإجراءات. غير أن المحكمة أشارت إلى قيدين بموجبهما يمكن أن يحدث نوعاً من تدخل القانون المصري في المسألة المطروحة. فمن ناحية قيدت المحكمة قاعدة خضوع اتفاق التحكيم القانون بلد الإجراءات بعدم مخالفته للنظام العام في مصر، ومن ناحية أخرى اشترطت المحكمة لإمكان تنفيذ حكم التحكيم الصادر في الخارج أن يكون موضوع النزاع مما يجوز تسويته عن طريق التحكيم في مصر (طبقاً للقانون المصري) عملاً ربما تنص عليه المادتان (۲) و (۲/۵) من اتفاقية نيويورك.
ومن هنا يمكن القول إن محكمة النقض ترى أن قابلية النزاع للتحكيم تحكمها قاعدة مادية سواء كانت ذات مصدر دولي أو ذات مصدر وطني.
إلا أنه لا يصلح للأخذ بمقتضاه إذا ما أثيرت مسألة صحة اتفاق التحكيم في مرحلة سابقة على بدء الإجراءات وقبل تحديد مقر التحكيم، كما هو الشأن في حالة طرح النزاع محل اتفاق التحكيم على قاضي الدولة ويتمسك صاحب المصلحة أمامه بعدم صحة اتفاق التحكيم، ففي هذه الحالة لا يطبق القاضي قانون مقر التحكيم لانتفاء أساس تطبيقه، فضلاً عن عدم معرفته حالة عدم تحديده في اتفاق التحكيم المطعون في صحته، ومن ثم فإن القاضي يطبق قانونه سواء في شقه المتعلق بتنازع القوانين أو ما عسى أن يتضمنه من قواعد مادية. ومن هذا نرى أن الاتجاه إلى أن تطبيق قانون مقر التحكيم على اتفاق التحكيم، إذ يتجاهل الطبيعة العقدية الاتفاق التحكيم، يترتب عليه اختلاف القانون المطبق على الاتفاق بحسب الغرض من الدفع أمام القاضي الوطني بعدم صحة اتفاق التحكيم.
حكم مخالفة اتفاق التحكيم لقواعد آمرة:
أتيحت الفرصة للمحكمة النقض للتعامل مع مسألة تتعلق بصحة اتفاق التحكيم حالة مخالفته لنصوص آمرة في القانون المصري، وإذا كانت المحكمة قد قضت بعدم انطباق هذه النصوص على الطعون المعروضة عليها وانتهت إلى رفضها فإنها بذلك تكون قد أعملت مقتضى مبدأ صحة اتفاق التحكيم وعدم اختصاص المحاكم المصرية عملاً بنصوص اتفاقية نيويورك.
ففي أحد أحكامها قضت محكمة النقض بأنه "إذا كان الواقع الدعوى حسبما حصله الحكم المطعون فيه أن طرفي النزاع اتفقا على حل أي | خلاف بينهما يتم عن طريق التحكيم في مدينة لوجانو بسويسرا طبقاً لقواع التسوية والتحكيم الخاصة بغرفة التجارة الدولية، ولم يرد في الأوراق ما يدل على اتفاقهما على إعمال أحكام القانون المصري في هذا الصدد، بما لا يجوز معه طرح النزاع على المحاكم المصرية، كما لا يجوز التمسك بإعمال أحكام المواد من (۷۲ إلى ۸۷) من قانون التجارة".
ويبين من حيثيات الحكم المذكور أن قواعد قانون التجارة التي تمسك بها الطاعن وإن كانت قواعد آمرة إلا أنها لا تتعلق بالنظام العام ومن ثم لا تنطبق على العقود المبرمة في تاريخ سابق على تاريخ العمل بهذه القواعد وعلى هذا الأساس لا يبطل الاتفاق على خلافها، ومن ثم لا يختص القضاء المصري بنظر المنازعة المتفق على إحالتها للتحكيم، وإنما تختص بها هيئة التحكيم المتفق عليها وفقاً لقواعد الإجراءات المعمول بها لدى غرفة التجارة الدولية، وهو ما يتفق مع أحكام اتفاقية نيويورك التي تلتزم بها مصر حسبما جاء في الحكم، والمستفاد من الحكم أيضا أنه رغم أن عقد الأساس أبرم في مصر إلا أن اتفاق أطرافه على تسوية منازعاته بطريق التحكيم في مدينة لوجائو بسويسرا وفقاً لقواعد غرفة التجارة الدولية يمتنع معه خضوع اتفاق التحكيم وإجراءاته للقانون المصري، الأمر الذي يفيد أن المحكمة أعطت الأولوية في تطبيق قواعد التنازع، فيما يتعلق باتفاق التحكيم، لإرادة أطرافه (م ۱/۱۹ ) مدني). أما فيما يتعلق بإجراءات التحكيم فإن محكمة النقض وإن اتجهت إلى تطبيق قانون البلد الذي تجري فيه الإجراءات" إلا أنها أشارت إلى أن تحديد هذا البلد جاء بناء على اتفاق طرفي التحكيم وبالتالي فإن تطبيق قاعدة التنازع التي طبقها الحكمة (م۲۲ مدني) جاء نتيجة لهذا الاتفاق
تقييم منهج التنازع:
رغم شيوع استخدام منهج ضوابط التنازع في القانون المقارن إلا أنه واجه صعوبات في إعماله أدت إلى التخلي عنه في النظم القانونية لبعض الدول وبالتالي حلول منهج القواعد المادية محله تدريجياً. وقد برزت هذه الصعوبات على مستوى تكييف اتفاق التحكيم، وعلى صعيد عناصر وقواعد الإسناد الخاصة به أيضا، وهي صعوبات أسهمت في تعميق اختلاف القوانين الوطنية في المعاملة القانونية لاتفاق التحكيم على النحو التالي ذكره، أولا- فيما يتعلق بتكييف اتفاق (شرط) التحكيم، فإن استقلاله عن عقد الأساس يثير التردد بين تكييفين، وهو ما يؤثر في تحديد القانون الخاضع له الاتفاق، التكييف الأول هو التكييف التعاقدي باعتباره اتفاقاً مستقلاً حتى ولو انخرط في عقد الأساس كغيره من بنوده. أما التكييف الثاني فهو التكييف الإجرائي الذي ينطلق من كون محله عملا إجرائيا وأنه يشكل أساس اختصاص المحكمين واستبعاد اختصاص المحاكم، وقد سبق أن رأينا انعكاسات هذا التردد في القضائين المصري والإنجليزي.
إلى ذلك أن ثمة مسائل إجرائية يثيرها اتفاق التحكيم مثل استبعاد الاختصاص ضائي بالمسائل محل النزاع الوارد بشأنها شرط تحكيم في عقد الأساس و-أيضا اختصاص المحكم بالتصدي للمنازعة في اختصاصه، وهذه مسائل يصعب القول: نوعها لقانون العقد، خصوصا حالة إبرامه في بلد وجريان التحكيم في بلد أخر.
ثانيا- أما على صعيد عوامل أو ضوابط الإسناد فثمة صعوبات تكتنف إعمالها، فإذا كان لا صعوبة في إخضاع المسألة المثارة لقانون الإرادة، حالة تحديده بمعرفة أطراف اتفاق التحكيم، إلا أن هذه حالة نادرة، حيث يفوتهم التعرض لمثل هذا التحديد، وفي هذه الحالة يثور التساؤل حول ما إذا كان الاتفاق يخضع لقانون العقد، وما هو الحكم حين يخلو العقد من ثمة تحديد للقانون الذي يخضع له؟
فإذا ورد تحديد القانون العقد فهل يلزم أن يخضع اتفاق التحكيم لذات قانون العقد.
غير أن هذا المذهب يمكن أن يكون محلا للنظر انطلاقا من مبدأ استقلال اتفاق التحكيم عن عقد الأساس، وأخذا بالطبيعة الخاصة لاتفاق التحكيم مقارنًا بباقي بنود عقد الأساس من حيث إن نطاق عمل هذا الاتفاق يتعلق بمسائل إجرائية، حين أن باقي بنود العقد تتعلق في الغالب بموضوعه. يضاف إلى ذلك انه إذا جرى اللجوء إلى التحكيم بمقتضى مشارطة تحكيم مستقلة عن عقد النزاع، فإن هذا الاستقلال يفترض خضوعها لقانون أخر عن قانون العقد.
ومن الواضح أن هذا الرأي لا يرى اختيار أطراف عقد الأساس قانوناً معيناً ليحكمه اختيار ضمني للقانون الحاكم لاتفاق التحكيم.
وفي هذا الصدد قد يتجه الرأي إلى استعارة النتيجة التي يتوصل إليها في تركيز عقد الأساس، بغرض تحديد القانون الخاضع له العقد، استعارة هذه النتيجة لتطبيقها أيضا على تركيز اتفاق التحكيم. ومع ذلك فقد يرى من الأفضل، عملاً بمبدأ استقلال اتفاق التحكيم عن عقد الأساس، اللجوء إلى تركيز الاتفاق ذاته، اعتماداً على أحد العناصر الخاصة به. وعملاً بهذا الأسلوب الأخير يمكن أن يتجه النظر إلى مقر التحكيم، خصوصاً إذا جرى تحديده بمعرفة الأطراف، فهو بهذه المثابة بشكل مؤشرا قوياً للتركيز الموضوعي للاتفاق، باعتبار أنه يجري تنفيذ مقتضاه في مقر التحكيم ومما يدعم هذا الأسلوب أن اختيار أطراف الاتفاق مكاناً محدداً كمركز للتحكيم يعكس اتجاه إرادتهم الضمنية لخضوع الاتفاق لقانون المقر.
ومما يذكر أن أسلوب التركيز المكاني لاتفاق التحكيم هو الأسلوب السائد في الاتفاقيات الدولية.
وتطبقه بعض هيئات التحكيم غير أن هذا الأسلوب يواجه صعوبة في تطبيقه حين يجري.
تحديد مقر التحكيم، لا بمعرفة أطراف الاتفاق، ولكن بمعرفة مؤسسة التحكيم التي تشرف على الإجراءات أو بواسطة هيئة التحكيم ذاتها. ففي مثل هذه الحالات لا يسعف ضابط مقر التحكيم في حسم مسائل قد تثور بشأن اتفاق التحكيم، قبل تحديد هذا المقر، مثل مدى صحة الاتفاق، وذلك عندما تعرض هذه المسألة على قاضي الدولة المعنية الذي يجري الدفع أمامه بعدم صحة اتفاق التحكيم، حتى أنه في حالة تحديد مقر التحكيم من قبل الأطراف، فإن هذا التحديد قد يكون لاعتبارات لا تمت للاتفاق بصلة.
وفي مواجهة هذه الصعوبات التي تكتنف إعمال مناهج التنازع المختلفة تتجه بعض القوانين الوطنية إلى وضع بدائل عديدة لقواعد حسم التنازع، فعلى سبيل المثال فإن القانون الدولي الخاص السويسري ينص على أن يكون اتفاق التحكيم صحيحاً إذا استوفي شروط القانون الذي اختاره الأطراف أو القانون الحاكم للنزاع خصوصا القانون المطبق على العقد الأساسي أو أخيراً القانون السويسري.
يتضح مما تقدم أن مناهج التنازع المذكورة أعلاه وان استهدفت تحديد القانون الواجب التطبيق على اتفاق التحكيم إلا أنه لا يوجد ما يساند قوتها الإلزامية خارج حدود الدولة أو السلطة أو الهيئة التي تقرر الأخذ بها. من هنا جاءت أهمية البحث عن قواعد مادية يكرسها القانون الدولي، مما يحرر قوتها الإلزامية من الحدود الجغرافية للدول، وذلك في مقابلة القواعد المادية ذات الإصدار الوطني التي يقتصر قبولها على حدود الدولة التي أصدرتها.
منهج القواعد المادية:
إداري من المتصور أن يضع قانون دولة معينة قاعدة مادية ليطبقها القاضي الوطني مباشرة على موقف أو مركز دولي دون حاجة للبحث عن القانون الواجب التطبيق عليه وفقاً لقواعد التنازع. ويلقى إعمال هذا المنهج قبولاً فقهياً عريضاً فيما يتعلق بتطبيقه على اتفاق التحكيم، وهو ما يترتب عليه تفادي النتائج غير المعروفة سلفاً لقواعد التنازع، ويكفل في الوقت نفسه تحديداً مسبقاً للقواعد الواجبة التطبيق على اتفاق التحكيم.
وكما تكون القواعد المادية ذات مصدر دولي (مثل الاتفاقات الدولية وعادات التجارة الدولية، وهي تكفل في هذه الحالة توحيد حلول المسألة نفسها في الدول المرتبطة بهذا المصدر، فقد يكون مصدر القواعد المادية القوانين الوطنية، ومن كم قد تختلف حلول ذات المسألة باختلاف القوانين الوطنية). ومن المفيد أن نعرض لصدى هذا المنهج في القضاء الفرنسي، ومن ثم تقييمه بصفة عامة لنتناول بعد ذلك مقولة استقلال بند التحكيم عن عقد الأساس. ونشير هنا إلى أننا سوف نعرض لتطبيقات منهج القواعد المادية في اتفاقية نيويورك (1958)، وفي اتفاقية الأمم المتحدة لاستخدام الوسائل الإلكترونية في إبرام العقود الدولية (2005) في الفصل الثاني من هذا البحث.
نخلص مما تقدم إلى أن الاتجاه السائد في القانون الفرنسي فيما يتعلق بالقانون الحاكم لاتفاق التحكيم يقوم على عنصرين، الأول هو خضوع الاتفاق للقانون الذي اختاره أطرافه سواء صراحة أو ضمناً، أما العنصر الثاني وهو يتمثل في تلك القواعد المادية الفرنسية مثل تلك التي تقرر صحة اتفاق التحكيم أو مشروعيته من حيث المبدأ واستقلاله عن عقد الأساس، وربما أيضاً مدى قابلية النزاع للتحكيم(؟)، هذا مع مراعاة أن هذا العنصر الثاني جاء ليكمل العنصر الأول.
تقييم مناهج القانون الفرنسي:
إذا اتخذنا موقف القضاء الفرنسي كنموذج للاتجاه نحو تطوير قواعد مادية تحكم اتفاق التحكيم الدولي، فإن هذا الموقف يستثير عددا من الملاحظات نعرض لها فيما يلي:
1- إذا كان منهج القواعد المادية الذي يلتزم القاضي الفرنسي باتباعه عند
تقدير مدى صحة اتفاق التحكيم، يكفل قدراً من التوقع والأمن القانوني للعلاقات المرتبطة باتفاق التحكيم، إلا أن التوجه الذي التزمته محكمة النقض فيما يتعلق بعدم تقيد القاضي الفرنسي بأحكام القانون الوطني الذي اختاره طرفا عقد الأساس ليحكم هذا العقد، يترتب عليه أن مصير بنات المنازعة في صحة عقد الأساس وأيضاً شرط التحكيم الذي يتضمنه يمكن
أن يختلف بحسب الأسلوب الذي يتبعه القاضي لحسم هذه المنازعة، فإذا تعلقت المنازعة على سبيل المثال بعيب من عيوب الرضاء الذي شاب إرادة أحد العاقدين، فإن القاضي الفرنسي حين يتعرض لمدى صحة الإرادة في عقد الأساس يلجأ إلى أسلوب تنازع القوانين لحسم المنازعة في ضوء أحكام القانون الواجب التطبيق على العقد (قانون الإرادة).
وهكذا فإن منهج القواعد المادية، مطبقا على اتفاق التحكيم، يمكن أن يفضي إلى نتيجة يصعب قبولها، حتى مع التسليم بمبدأ استقلال اتفاق التحكيم خصوصا إذا اتخذ شكل بند من بنود عقد الأساس، وحيث يترتب على اتباع هذا المنهج اعتبار اتفاق التحكيم صحيحاً رغم أن عيب الإرادة الذي لحق أحد طرفي عقد الأساس يبطل هذا العقد عملا بأحكام القانون الخاضع له والذي جرى تحديده باتباع منهج التنازع.
۲- يضاف إلى التناقضات التي يمكن أن يتسبب فيها منهج القواعد المادية، أن لجوء القاضي الوطني إلى تطبيق القواعد المادية التي يتضمنها قانون دولته بشأن اتفاق التحكيم في مرحلة طلب تنفيذ حكم التحكيم المرتكز على هذا الاتفاق، لا يمنع من أن المحكمين - عم بمبدأ الاختصاص بالاختصاص - قد يلجؤون في تحديد القانون الواجب التطبيق على المنازعة المتعلقة باتفاق التحكيم إلى منهج التنازع.
ومن المحتمل أن يحصل العكس أيضاً إذا استند المحكمون في اعتبار اتفاق التحكيم صحيحاً إلى مقتضيات التجارة الدولية، في حين يتجه قاضي الدولة المطلوب إليها تنفيذ الحكم إلى تطبيق قواعد التنازع المقررة في قانونه لتقدير مدى صحة الاتفاق.
رغم أن القانون الفرنسي يأخذ - كما أفصحت عنه أحكام القضاء السائدة - بمنهج القواعد المادية كمصدر للنظام القانوني لاتفاق التحكيم الدولي، إلا أن هذا المنهج القائم على أفكار عامة، مثل إرادة المتعاقدين والنظام العام الدولي وضمان فاعلية اتفاق التحكيم، لا يتصور أن يقدم حلولاً لكافة المسائل التي يثيرها هذا الاتفاق، وهو ما يترتب عليه عدم معرفة العاقدين المصير اتفاقهم على التحكيم عند إبرامه.
ومن الواضح أن القانون السويسري يتجه إلى تبني أسلوب يجمع من حيث الظاهر بين منهج التنازع (حيث يحدد هذا القانون ثلاثة ضوابط للإسناد) وبين منهج القواعد المادية من حيث إنه يقيد إعمال قواعد التنازع باختيار القانون الذي يكفل صحة اتفاق التحكيم. وبذلك فإن القانون السويسري ينضم عملا إلى زمرة الاتجاهات التي تتبنى منهج القواعد المادية والتي تنطلق من مبدأ قوامه اعتبار صحة اتفاق التحكيم الدولي هو الأصل الواجب الاتباع. ومن الواضح أن منهج القانون السويسري، وقد وضع قائمة القوانين المحتمل اختيار واحد منها ليحكم صحة اتفاق التحكيم بدون ترتيب جاء، منطوياً على توجيه لكي يختار القاضي (أو المحكم) القانون الذي يكفل الهدف الكامن وراء الاتجاه الذي سار فيه هذا القانون.
مفاد ما تقدم جميعه أن المعاملة القانونية للمسائل التي يثيرها اتفاق التحكيم وإن كانت تتطلب تحديد القانون الواجب التطبيق عليه، إلا أن هذا التحديد يتوقف بدوره، سواء جرى تطبيق منهج التنازع أو منهج القواعد المادية، على تحديد ما اتجهت إليه إرادة أطراف الاتفاق سواء صراحة أو ضمنا. وفي هذه الحالة الأخيرة من المتصور، بل إن هذا هو الحاصل واقعا، أن تختلف محاكم الدول في تفسير ما اتجهت إليه إرادة أطراف الاتفاق، رغم انطلاقها من قواعد مادية مثل استقلال بند التحكيم قانوناً أو بعبارة أدق انفصاله عن عقد الأساس وامتداده إلى غير أطراف العقد. وسوف تتاح لنا الفرصة، في الفصل الثاني، لاستعراض اختلاف المحاكم الفرنسية والإنجليزية بشأن تفسير القاعدة الحاكمة لتحديد النطاق الشخصي لاتفاق التحكيم.
إزاء تعدد اتجاهات هيئات التحكيم الدولي فيما يتعلق بالعديد من المسائل التي يثيرها اتفاق التحكيم، يمكن القول بأن مسألة تحديد القانون الواجب التطبيق وهذه المسائل غير محسومة، ويتوقف حكمها في كل حالة على ظروفها الخاصة. نجد أن واقع التحكيم الدولي أن هيئات التحكيم تتمتع بحرية واسعة في اختيار الأساس الذي ينطلقون منه في تقدير مدى صحة اتفاق التحكيم.
وبمقدورنا أن نعرض لبعض قطاعات من أحكام التحكيم الدولي والتي تعرضت فيها هيئات التحكيم إلى مسائل مرتبطة باتفاق التحكيم، والتي تبرز الحرية التي يتمتع بها المحكمون الدوليون في حسم مثل هذه المسائل. من ذلك مثلاً مسألة النطاق الشخصي (ratione personae) لاتفاق التحكيم خصوصاً مدى امتداد اتفاق التحكيم إلى أشخاص آخرين (غير أطرافه المباشرين والذين لم يضعوا توقيعهم عليه، وهو ما يجد له تطبيقاً مباشراً في إطار مجموعة الشركات، وحيث ثار التساؤل حول ما إذا كان اتفاق التحكيم الذي وقعت عليه إحدى شركات المجموعة ينصرف أيضاً إلى غيرها من الشركات التي لم يضع ممثلوها توقيعهم على اتفاق التحكيم.
غير أن بعض أحكام التحكيم اتجهت إلى اتباع منهج تنازع القوانين في تقدير مدى صحة اتفاق التحكيم، مطبقة ضوابط الإسناد المنصوص عليها في اتفاقية نيويورك، مثل قانون مقر التحكيم، بل إنها أحيانا تستند إلى هذه الاتفاقية في تطبيق أحكام قانون عقد الأساس.