يتبين من النصوص المبينة آنفاً ، أن المشرع في بعض الدول، مثل سوريا والعراق ولبنان، فرّق بين التحكيم بالقانون والتحكيم بالصلح من ناحية الإجراءات. فإذا كان التحكيم بالقانون، يتقيد المحكم بالأصول والمواعيد أمام المحاكم، إلا إذا تم الاتفاق على إعفائه من ذلك صراحة ، وذلك حسب قوانين سوريا والعراق ولبنان. وفي القانون العراقي، يمكن أن يتم هذا الإعفاء في اتفاق التحكيم أو في اتفاق لاحق. وفي القانون اللبناني، يتم الإعفاء في اتفاق التحكيم أو في اتفاق مستقل. ونرى أن الاتفاق اللاحق في القانون العراقي، والاتفاق المستقل في القانون اللبناني، يشمل اتفاق الخصوم أمام المحكم على إعفائه من التقيد بقواعد الأصول المدنية، وتدوين ذلك في محضر التحكيم، سواء وقع عليه الطرفان أم لا. أما في القانون الليبي، فإن المحكم بالقانون، يطبق الأصول والمواعيد المتبعة أمام المحاكم، فقط في الحالة التي لا يتفق فيها الأطراف على إجراءات التحكيم، ولا يضع فيها المحكم هذه الإجراءات في حال عدم الاتفاق عليها ، وهي مسألة سنعود إليها ثانية بعد قليل.
وأضاف القانون اللبناني كذلك، أنه لا يجوز إعفاء المحكم بالقانون من القواعد الإجرائية التي تتعلق بالنظام العام، باستثناء تلك التي لا تتفق مع قواعد وأصول التحكيم. وبمعنى آخر فإن المشرع اللبناني فرق بين قواعد إجرائية من النظام العام، ولكنها لا تتفق مع أصول التحكيم من أعراف وعادات وما جرى عليه العمل في التحكيم وهذه يجوز إعفاء المحكم من التقيد بها وقواعد إجرائية أخرى هي من النظام العام أيضاً، إلا أنها تتفق مع أصول التحكيم، وهذه لا يجوز إعفاء المحكم منها كما سنشير بعد قليل.
أما إذا كان التحكيم بالصلح، فإن المحكم حسب بعض القوانين (مثل سوريا والعراق ولبنان وليبيا )، معفى أصلاً من تطبيق قواعد الإجراءات أمام المحاكم دون حاجة لاتفاق الخصوم على ذلك. واشترط القانونان العراقي والليبي، عدم جواز الإعفاء من الإجراءات المتعلقة بالنظام العام. أما القانون اللبناني فإنه استثنى من هذا الإعفاء، القواعد المتعلقة بإجراءات التقاضي الأساسية، لا سيما المتعلقة بحق الدفاع، وبتعليل الحكم، وأيضاً القواعد الخاصة بنظام التحكيم. ومن غير الواضح المقصود من مصطلح "نظام التحكيم" في النص اللبناني. ونرى أن هذا المصطلح يشمل أعراف التحكيم وعاداته وما جرى عليه العمل فيه. وبدون شك، فإن مثل هذه الإجراءات في القانون اللبناني، تتعلق بالنظام العام وفق ما هو منصوص عليه في القانونين العراقي والليبي، والعكس صحيح. بمعنى أنه لا فرق بين هذه القوانين بالرغم من اختلاف العبارات. كما يمكن القول أن "نظام التحكيم"، يشمل أيضاً اتفاق التحكيم بما فيه الإحالة لقواعد تحكيم مؤسسية ، حيث تعتبر عندئذ جزءاً من الاتفاق ، بحيث لا يجوز للمحكم المصالح الخروج على هذا الاتفاق، وفق ما سبق ذكره .
ولا يوجد في القانون البحريني نص يقضي بأن المحكم بالقانون كان أم بالصلح، معفى كمبدأ عام من التقيد بإجراءات التقاضي المتبعة أمام المحاكم ، أو نص يعطي لأطراف النزاع صلاحية الاتفاق على قواعد الإجراءات، أو نص يعطي للمحكم صلاحية وضع مثل هذه القواعد، في حال عدم اتفاق الأطراف عليها. ولكــن حـسـب المبادئ العامة في التحكيم، فإن المحكم لا يتقيد، بوجه عام، بالسير في التحكيم وفق قواعد الإجراءات المتبعة أمام المحاكم الرسمية. ويعتبر هذا المبدأ من الأعراف والتقاليد التحكيمية، بحيث يطبق حتى لو لم يكن هناك نص تشريعي أو اتفاق بشأنه. بل يعتبر هذا الأمر من مميزات التحكيم التي تدفع بالأطراف إلى اللجوء له لتسوية منازعاتهم بدلاً من القضاء، كما تدفع بالمحكم لقبول مهمة التحكيم. وفي التطبيق العملي، يستحيل على المحكم السير بالتحكيم حسب ما تنص عليه حرفياً قواعد الأصول أو المرافعات المطبقة لدى المحاكم، الذي يغص بالشكليات التي هي أقرب ما تكون في الحياة العملية لنوع من الطقوس المتوارثة، وخاصة من حيث مواعيد الجلسات والحضور والكلام داخل المحكمة، وتوزيع الأدوار بين الأطراف المعنية، ومكان إنعقاد الجلسات وكيفية تبليغ الأطراف .
وعلى سبيل المثال، فإن موعد جلسة المحاكمة في الإجراءات القضائية، محدد بأوقات الدوام الرسمي، ولا يجوز عقدها خارج هذه الأوقات، ولا في أيام العطل الرسمية. ومكان الجلسة، هو المكان الذي توجد به المحكمة ،أو ، استثناء بالنسبة لبعض الجلسات، في مكان آخر، حسب ما ينص عليه التشريع والتبليغات القضائية، تتم في أوقات محددة وبأسلوب إجرائي معين لا يجوز الخروج عليه إلا استثناء. وهذا كله لا يجوز تطبيقه، كمبدأ عام، على التحكيم، وإلا فقد إحدى ميزاته الأساسية، وهي بساطة الإجراءات، وعدم تقيد المحكم بإجراءات التقاضي المعقدة عملياً.
لذلك نص كل من القانون الإماراتي والقطري والكويتي، صراحة على إعفاء المحكم من التقيد بقواعد الإجراءات المطبقة أمام المحاكم الرسمية ، بخلاف القانون في كل من سوريا والعراق الذي نص على الحالة العكسية، من أن المحكم (بالقانون) مقيد بهذه القواعد، إلا إذا اتفق الأطراف على إعفائه منها صراحة. وفي حال عدم وجود اتفاق بين الأطراف على إعفاء المحكم من الإجراءات المطبقة أمام المحاكم، وهو فرض نادر في الحياة العملية، نرى تفسير ذلك في حدود ضيقة، بل في أضيق الحدود، بإلزام المحكم بتلك الإجراءات التي تتعلق بالقواعد الأساسية في التقاضي فقط، مثل حق الدفاع والمساواة والمواجهة بين الخصوم دون غيرها من القواعد الإجرائية، بل يستحيل عملاً على المحكم التقيد حرفياً بإجراءات التقاضي الرسمية التي وضعت خصيصاً للقاضي وليس للمحكم. وهو ما سنشير إليه ثانية بعد قليل.
وفي الحياة العملية، يندر أن يوجد تحكيم دون اتفاق الأطراف مسبقاً على إعفاء المحكم من إجراءات التقاضي مما يعني بأن القوانين محل البحث متفقة بطريقة أو بأخرى على إعفاء المحكم من تطبيق إجراءات التقاضي أمام المحاكم الرسمية، ولا يوجد بينها فرق أساسي يذكر، بالرغم من الاختلاف في صياغة النصوص.