موقف الانظمة القانونية المقارنة من مسئولية المحكم المدنية
الاتفاقات الخاصة بتحديد نطاق مسئولية المحكم:
نظرا لأن المسئولية المدنية للمحكم تخضع لحكم القواعد العامة فمن المتصور - إعمالا لمبدأ سلطان الإرادة في مجال التحكيم - أن تتعدد الاتفاقات المتعلقة بنطاق هذه المسئولية توسيعا وتضييقا ، فقد يتفق ذوي الشأن على التخفيف أو التشديد من أحكام هذه المسئولية ، فما مدى جواز مثل هذا الاتفاق؟، وماهي الآثار القانونية المترتبة على ذلك؟، ثم إن تساؤلا يثار عن مدى إمكانية التأمين من مسئولية المحكم ، وفي محاولة لبحث هذه المسائل نقسم هذا الغصن إلى مسألتين ، نعرض في الأولى منهما للاتفاقات الخاصة بالتخفيف والتشديد من أحكام المسئولية مونتناول في المسألة الثانية أحكام التأمين من هذه المسئولية ، وذلك على النحو
التالي:
أولا : الاتفاقات المتعلقة بالتخفيف الوفا والتشديد من أحكام المسئولية المدنية للمحكم
| إعمالا لمبدأ سلطان الإرادة فتحت نصوص القانون المدني ومبادئه الباب على مصراعيه أمام الأشخاص لإبرام ما يعن لهم من اتفاقات خاصة باستحقاق التعويضا اللمضرور تخفيقا وتشديدا، فقد يتم الاتفاق بين ذوي الشأن على إعفاء المسئول من الالتزام بدفع التعويض ، أو التخفيف من حدة هذا الالتزام ووطأته ، كما يتصور اتفاق ذوي الشأن على استحقاق الطرف المضرور تعويضا كافيا لجبر ما أصابه من ضرر دون حاجة إلى إثبات خطأ المسئول ، ولا يحد من إطلاق مثل هذه الاتفاقات سوی مراعاة النظام العام ، فمثلا لا يجوز مثل هذه الاتفاقات في حالتي الغش وسوء النية ، إذ إنه من المبادئ العامة في النظم القانونية عموما أن الغش يفسد كل شيء، وقد سبق لنا الإشارة إلى حكم القواعد العامة في القانون المدني في شأن هذه الاتفاقات، ونحاول الآن إنزال حكم هذه القواعد على مسئولية المحكم عن طريق بيان مدى إمكان ورود مثل هذه الاتفاقات في مجال التحكيم ، والأثر القانوني لذلك.
يتم ، ذلك أن قبول و قول المحتكمين التحكيم وفق قواعد مؤسسة تحكيمية معينة يفيد ضمنيا كافة الأحكام الواردة بلوائح هذه المؤسسات. المادة 34 من نظام التحكيم لغرفة التجارة الدولية نصت على أنه "لا يكون عيون و الهيئة وأعضائها وغرفة التجارة الدولية وموظفيها واللجان الوطنية الغرفة التجارة الدولية مسئولين تجاه أي شخص عن أية واقعة من عمل أو امتناع این عمل يتعلق بأي تحكيم"
كما نصت المادة (۲۶) من نظام مركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون الخليجي العربي على أنه " يتمتع رئيس وأعضاء مجلس الإدارة وأمين عام المركز وأعضاء هيئة التحكيم وأعضاء سكرتارية هذا المركز بالحصانات الآتية: أ- الحصانة ضد أي إجراء قانوني وذلك عند ممارستهم لأعمال وظائفهم ، إلا إذا قرر المركز التخلي عن هذه الحصانة بقرار من مجلس الإدارة ". | ونصت م/۲۰من نظام تحكيم مؤسسة طوكيو للتحكيم البحري لسنة ۱۹۹۲ على تمتع المؤسسة والمحكمين بالحصانة من المسئولية فيما يتعلق بإجراءات الحكيم والقرار التحكيمي كما نصت م/40 من قواعد تحكيم مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي على أنه لا يعد أي من المحكمين أو المركز أو أي من أعضاء مجلس إدارته أو موظفيه مسئولا تجاه أي شخص عن أي فعل أو عدم فعل فيما يتعلق بأية وسيلة من وسائل حسم المنازعات أو إجراءاتها".
ومن الملاحظ من النصوص المذكورة أنها قررت الإعفاء وليس التخفيف من المسئولية ، كما أنها أوردت مضمون الإعفاء مطلقا ، أي أنها لم تستثني حالتي الغش أو الخطأ الجسيم من المسئولية ، وهذا قد يثير تساؤلا عن مدى إعفاء المحكم من التعويض عن مسئوليته الناشئة عن الغش أو الخطأ الجسيم ، إن هو – اي فلا يجوز الاتفاق المسبق بين المحكم والمحتكمين على إعفاء المحكم من التعويض عن أية أخطاء تصدر منه في خصوص مباشرته مهمة التحكيم حتى ما يتعلق منها بالغش وسوء النية أو الخطأ الجسيم ، وإذا ورد الاتفاق على الإعفاء من مسئولية المحكم مطلقا – سواء في خصوص التحكيم الحر أو إذا ورد في لائحة مؤسسة التحكيم في التحكيم المؤسسي - فيجب أن يحمل مثل هذا النص على الأخطاء التي لا تنم عن غش ولا تتأسس على سوء نية المحكم ، على نحو ما ذكرنا - منذ قليل - في خصوص التعليق على ما تتضمنه بعض لوائح مؤسسات التحكيم من إعفاء المحتكم من التعويض عن أية أخطاء تصدر منه حال أدائه لمهمته - التحكيمية.
وإذا ورد مثل هذا في لائحة تحكيم لإحدى مؤسسات التحكيم فيتعين تعطيل حكمه للاعتبارات المذكورة ، وإذا ورد في اتفاق التحكيم بين المحكم والمحتكمين في التحكيم الحر فيعد باطلا ، ولا يؤثر هذا البطلان على صحة اتفاق التحكيم الذي تضمنه إعمالا لنصوص القانون المدني ، خاصة وأنه لا يمكن اعتبار مثل هذا الشرط هو الدافع على إبرام اتفاق التحكيم.
هذا وتجدر الإشارة إلى أننا نقصد من تعطيل حكم الاتفاق على إعفاء المحكم ا من المسئولية في حالات الغش وسوء النية والخطأ الجسيم وتقرير بطلانه حالة ما إذا تم هذا الاتفاق قبل وقوع الخطأ من المحكم ونشوء التزامه بالتعويض عنه ، أما في فرض تحقق المسئولية بوقوع الغش أو الخطأ الجسيم فعلا من المحكم فلا أرى ما يمنع مع الاتفاق على إعفاء المحكم من التعويض عنه ، وأبني هذا التصور على أن الحق في التعويض المتولد للمضرور من الخطأ الجسيم الذي ارتكبه المحكم أو ما أتاه من غش إنما يندرج في الحقوق الخاصة لهذا المضرور ، ولأن التحكيم لا لا يجوز إلا فيما يجوز فيه الصلح فلا جدال حول أحقية المضرور في النزول عن حقه في التعويض ولو كان هذا التعويض نشأ عن ارتكاب المحكم غشا أو خطأ جسيما ، . إذ يعد الاتفاق على إعفاء المحكم من الالتزام بالتعويض في هذا الفرض بمثابة تنازل من المحتكم المضرور عن حقه في التعويض وهو ما لا تأباه النصوص القانونية ولم يقل أحد بعدم جوازه وفقا للقواعد العامة للمسئولية.
وقد يقول قائل ما هو الأساس القانوني للمفارقة في الحكم بين الاتفاق المسبق على إعفاء المحكم من المسئولية والاتفاق اللاحق على ذلك؟ وتتمثل إجابة هذا ا التساؤل - في معتقدي - في وجود اختلاف جوهري بين الفرضين المذكورين ،' يتمثل هذا الاختلاف في:
1- أن النصوص القانونية والتطبيقات القضائية والإجماع الفقهي المذكورين
ف ي خصوص تقرير عدم جواز الاتفاق على الإعفاء من المسئولية في حالتي الغش والخطأ الجسيم إنما وردت في خصوص الاتفاق المسبق دون الاتفاق اللاحق فمثلا تنص م ۲/۲۱۷ مدني مصري على أنه " يجوز الاتفاق على إعفاء المدين من أية مسئولية تترتب على عدم تنفيذ التزامه التعاقدي إلا ما ينشأ عن غشه أو عن خطئه الجسيم، ومع ذلك يجوز للمدين أن يشترط عدم مسئوليته عن الغش أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه فلفظ " تترتب " وكذلك لفظ " الذي يقع " يقطعان بأن الاتفاق المقصود هو الاتفاق السابق علي وقوع الخطأ، ذلك أن المشرع لم يقل في وصف المسئولية المراد الإعفاء منها ترتبت" ولكنه قال "ترتب" أي مستقبلا ، كما أنه لم يقل عن الخطأ المراد الإعفاء من التعويض عنه " الذي وقع " وإنما قال "الذي يقع"، وهو ما يعني قصر مضمون هذا النص على الاتفاقات السابقة على وقوع الخطأ وتحقق المسئولية المدنية بالفعل.
2 - اختلاف محل الاتفاق على الإعفاء من أحكام المسئولية قبل اكتمال البناء القانوني لهذه المسئولية عنه بعد وقوع الخطأ وتحقق المسئولية ، ذلك أن محل الاتفاق الأول يتمثل في إعفاء أحد الأطراف من أثر تحقق مسئوليته المدنية عما قد يقع منه مستقبلا أثناء أو بعد تنفيذه للعقد ، بينما يتمثل محل الاتفاق الثاني في تنازل صاحب الحق في التعويض عن حقه الذي نشأ بالفعل ، وهذا الحق من الحقوق الخاصة به والخالصة له والتي يجوز التصرف في خصوصها كيفما شاء .
٣- تخلف الحكمة التشريعية من حظر الاتفاق على الإعفاء من المسئولية في خصوص الاتفاق اللاحق على قيام المسئولية ، ذلك أنه من السهل التوصل لهذه الحكمة من خلال إمعان النظر في الصياغة التشريعية التي صدرت وفقا لها المادة ۲/۲۱۷مدني مصري ، فهي في الشق الأول منها تمنع جواز الاتفاق على إعفاء المدين من مسئوليته الناشئة عن غشه أو خطئه الجسيم ، وفي الشق الثاني تجيز مثل هذا الاتفاق في خصوص مسئولية المدين عن الغش والخطأ الجسيم الذي يقع من مستخدميه ، إذن لا تكمن العلة التشريعية للحظر في أن المشرع يرفض الإعفاء من المسئولية عن الغش والخطأ الجسيم ، فهذا يعارضه الشق الثاني من المادة ، وإنما تكمن العلة التشريعية في حمل المتعاقد على حسن أداء التزاماته العقدية وإغلاق باب الغش والتحايل أمامه ، ولا شك في تخلف هذه الحكمة في فرض الاتفاق على الإعفاء من المسئولية بعد تحققها بالفعل.
لكل ما سبق أرى أن حظر الاتفاق على التخفيف أو الإعفاء من المسئولية في حالتي الغش والخطأ الجسيم يقتصر على وقوع هذا الاتفاق قبل تحقق المسئولية ولا يسري بعد تحققها بالفعل.