ويرى أنصار هذه النظرية أن التحكيم عقد رضائي ملزم للجانبين من عقود المعاوضة والمحكمون ليسوا قضاة بل أفرادًا يعهد إليهم بتنفيذ الاتفاق. فطالما أن لا نظام التحكيم يقوم على أساس إرادة الأطراف فإن له طابعًا تعاقديًا. والذين قالوا بالطبيعة التعاقدية لعمل المحكم نظروا إليها من ناحية عقد التحكيم بوصفه عقدًا عرفيًا لا يمكن أن تترتب عليه أحكام تكون لها طبيعة الأحكام القضائية.
وبناء على وجهة نظر أصحاب نظرية الطبيعة التعاقدية فإن أساس عمل المحكم هو إرادة الأطراف ولهذا فإن القرار الذي يصدره المحكم لا يمكن أن يكون عملًا قضائيًا فالإرادة الذاتية لا ترتب أحكامًا وإنما ترتب التزامات متبادلة بين
أطراف العلاقة القانونية. وقدم أنصار هذه النظرية الحجج الآتية لإسناد وجهة نظرهم وهي:
ا- أن اتفاق التحكيم مجرد عقد يتم قبل بدء إجراءات الخصومة ويخضع لما تخضع له عقود القانون الخاص. وإن قرار التحكيم ينفذ بإرادة الأطراف ويتأثر بالعيوب التي تشوبها، كما أن جوهر التحكيم هو التقاء إرادة الأطراف بقرار المحكم، وبالتالي فلن تقوم للتحكيم قائمة دون جوهره التعاقدي.
ب- أن الأطراف باتفاقهم على التحكيم قد تخلوا عن بعض الضمانات القانونية والإجرائية التي يحققها النظام القضائي، وذلك بهدف تحقيق العدالة وترسيخ العادات التجارية واتباع إجراءات سريعة وأقل رسمية من إجراءات التحكيم.
ج- أن الفارق بين عمل المحكم وعمل القاضي يتمثل في السلطات المخولة لكل منهما. فالمحكم ليس له ولاية القضاء ولا يقوم بوظيفة عامة فلا يتمتع بالسلطات المخولة للقاضي.
وفي إطار النظرية التعاقدية اختلف الفقهاء، حول ماهية العقد الذي يحكم علاقة المحكم بالخصوم.
فذهب بعض الفقهاء إلى القول بأن علاقة المحكم بالخصوم هي عقد وكالة، ومن هنا يوجد تشابه بين المركز القانوني للمحكم والوكيل إذ إن كليهما يؤدي تصرفًا قانونيًا فضلًا عن أن هذه العلاقة تتميز بمراعاة الاعتبار الشخصي في الوكيل والمحكم.
- بينما كيف فقهاء آخرون هذه العلاقة بأنها عقد عمل على أساس أن الطرفين يتفقان مع المحكم على إجازة عمل. ويترتب على هذا الاتفاق حقوقوالتزامات متبادلة بين المحكم والأطراف. مع ملاحظة أن المحكم يخول بعض سلطات قانونية غير مستمدة من العقد الذي يربطه بالأطراف وإنما من القانون مباشرة.
- وذهب فقهاء آخرون إلى تصنيف العلاقة بين المحكم والأطراف على أنها عقد مقاولة وذلك إذا ما نظرنا إلى ما يتوافر في هذا العقد من عنصر الاستقلال الذي يتمتع به المحكم في ممارسته لمهمته دون الخضوع لرأي الأطراف إذ بمجرد قبول المحكم لمهمة التحكيم تصبح للمحكم صفة القاضي الخاص ويباشر سلطة القضاء في حسم النزاع مستقلًا عن الأطراف.
2) نظرية الطبيعة القضائية.
يراهن أنصار هذه النظرية إلى أن المحكم قاض (Judge) ولكنه قاض خاص سماء الخصوم بأنفسهم وقراره ذو طابع قضائي فمن المعروف أن المحكم بمنزلة القاضي وعمله قضائي على اعتبار أنه يحل محل القاضي فتكون له وظيفته وصفته، وأن اللجوء إلى المحكم قضاء إجباري ملزم للأطراف متى ما اتفقوا عليه .
والمحكم لا يعمل بإرادة الأطراف وحدها وإنما له طبيعة فضائية أيضا لها الغلبة على طبيعة عمله، ومن ثم فإن دور المحكم هو بالتأكيد دور قاضي الدولة في تطبيقه لإرادة القانون على شخص معين وواقعة معينة فهو يؤدي وظيفة القضاء بين الأطراف بحكم يحسم النزاع.
ويسوق أنصار نظرية الطبيعة القضائية لعمل المحكم الحجج الآتية لإسناد موقفهم وهي:-
أ. أن عمل المحكم ما هو إلا شكل من أشكال ممارسة العدالة التي تمارسها الدولة وأنها قد منحت ورخصت للأطراف باللجوء إلى التحكيم ولهذا فإن مهمة المحكم تنحصر في ممارسة وظيفة قانونية عامة.
ب. إن العناصر الثلاثة التي يجب أن تتوافر في العمل القضائي متوافرة في عمل المحكم ألا وهي: الادعاء، المنازعة، الشخص الذي يخوله القانون حسم النزاع.
ج- أن حكم المحكم من حيث الشكل والموضوع هو عمل قضائي: فمن حيث الشكل فهو يصدر وفقًا للإجراءات التي تصدر بها الأحكام القضائية.
د - يضم عمل المحكم ثلاثة عناصر هي الادعاء والتقارير والقرار وهي العناصر الأساسية في العمل القضائي.
هـ- آن ذيوع التحكيم وظهور العديد من المنظمات والهيئات والمراكز الدائمة التي تنظم التحكيم يؤكد الطبيعة القضائية لعمل المحكم.
(3) نظرية الطبيعة المختلطة لعمل المحكم:
مع الإقرار بالخصائص المميزة للتحكيم ظهرت نظرية الطبيعة المختلطة لعمل المحكم، وتميز هذه النظرية بين العلاقة التعاقدية البحته والعلاقة القانونية الاجرائية القضائية البحتة، وهي تسعى إلى التوفيق بين النظريتين السابقتين العقدية والقضائية.
فالمحكم، وفقًا لهذه النظرية، يحتل مركزًا وسطًا بين الطبيعة التعاقدية والطبيعة القضائية .
فعمل المحكم عقدي بالنظر إلى الوجوه التي تنبثق من أصل التحكيم، وهو العمل الإرادي للأطراف. وهو قضائي بالنظر إلى كون الحكم الذي ينتهي إليه يلزم الأطراف بقوة تختلف عن مجرد القوة الملزمة للعقد.
وقدم أنصار نظرية الطبيعة المختلطة لعمل المحكم المبررات الآتية وهي:-
1- أن التحكيم ليس اتفاقًا محضًا ولا قضاء محضًا، بل هو نظام يمر في مراحل متدرجة ومتعددة يلبس في كل منها لباسًا خاصًا، فهو في أوله اتفاق وفي وسطه إجراء وفي آخره حكم.
2- أن التحكيم يقدم التوازن بين متناقضين هما: احترام سلطان الإرادة ومقتضيات الخضوع لأحكام التنظيم القانوني للمجتمع.
3- إن الأخذ بالطبيعة المختلطة لعمل المحكم، من ناحية يمثل فكرة العقد باعتبارها تجسيدًا لمبدأ سلطان الإرادة. ومن ناحية ثانية يمثل فكرة القضاء عن طريق حكم
القانون.
- (4) نظرية الطبيعة المستقلة أو الخاصة:
يرى أنصار الطبيعة المستقلة أن عمل المحكم لا يمكن اعتباره عملًا تعاقديًا بحتًا ولا عملًا قضائيًا بحتًا بل ولا عملًا مختلطًا. ولكنه عمل ذو طبيعة خاصة ومستقلة.
ويقدم أنصار هذه النظرية المبررات الآتية لإسناد ما ذهبوا إليه وهي:--
أ- أن طبيعة التحكيم تنحصر في أنه نظام مستقل متحرر من العناصر التعاقدية والقضائية معًا.
ب، أنه في الوقت الذي يباشر القاضي سلطته بهدف تحقيق سيادة القانون على المصالح المتنازعة، فإننا نجد أن المحكم قد لا يطبق القانون الموضوعي على النزاع وإنما قد يطبق قواعد العدل والإنصاف أو القانون الذي اتفق الأطراف على تطبيقه.
ج- أن اتفاق التحكيم ليس بعقد مدني، لأن العقد المدني لا يرتب بذاته آثارًا إجرائية.
وكذلك فإنه لا يدخل في مجال الإجراءات طالما أن التحكيم خارج عن اختصاص قضاه الدول. فالمحكم ليس قاضيًا وإنما هو فرد عادي وليس هناك وحدة بين مهام القاضي وبين مهام المحكم. ورغم أن البعض ذهب إلى القول بأن المحكم قاضٍ ولكنه غير مزود بسلطة الأمر إلا أن هذا القول غير سليم لأن سلطة المحكم ليست قضائية بالمرة. كما أن المحكم ليس في مركز قضائي ولا يخضع أيضًا للضمانات القانونية التي يتمتع بها القاضي ومثال ذلك ضمانات عدم القابلية للعزل وقواعد دعوى المخاصمة. كما لا تسري عليه جريمة إنكار العدالة إذا امتنع عن إصدار الحكم في الميعاد المحدد للتحكيم. كما لا يلزم أن تتوافر في
المحكم الشروط التي يتطلبها القانون في القاضي ومثال ذلك شرط الجنسية الوطنية. ويتمتع المحكم بسلطة إجرائية، وهي عرضية مؤقتة، تدور وجوداً وعدمًا مع مهمة التحكيم.