وقد راعى المشرع في بعض القوانين العربية، مثل الإمارات والبحرين وسوريا والكويت وقطر ولبنان كل ذلك، فلم يمنع المحكم من الاستقالة أو التنحي عن مهمته، إلا أنه فرّق في هذا الشأن بين كون التنحي بسبب جدي، أو بدون سبب جدي .
فلو كان سبب التنحي غير جدي، جاز الحكم عليه بالتعويض في هذه القوانين والتعويض هنا مقرر لأحد الخصوم أو كليهما، ولا يتم ذلك إلا بناءً على دعوى يرفعها أحدهما أو كلاهما، ضد المحكم الذي يأخذ صفة المدعى عليه . وحيث أن التعويض مرتبط، كقاعدة عامة، بالضرر، فلا بد من الادعاء بالضرر وإثباته. وباختصار، تخضع أحكام هذه المسألة بالنسبة للضرر للقواعد العامة، شأنها شأن أي دعوى تعويض أخرى، مع ملاحظة أن سبب التعويض هنا، أو قل الخطأ إن صح ذلك مفترض، ولا حاجة لإثباته. وهذا السبب هو، إعلان المحكم قراره بالتنحي عن مهمته، ويفترض عندئذ أن سبب التنحي غير جدي. فإذا أراد المحكم أن يدرأ عنه المطالبة بالتعويض عليه هو نفسه إثبات أن تنحيه يرجع لسبب أو أسباب جدية. ولم يحدد المشرع المقصود بالسبب الجدي، وإنما ترك ذلك لتقدير المحكم، ولكن تحت رقابة المحكمة التي من صلاحيتها تقدير مثل هذا السبب، أي كونه جدياً أو غير جدي.
ومن أمثلة الأسباب التي قد تكون مبرراً لتنحي المحكم، المرض الذي يحول بينه وبين أداء مهمته، كالشلل مثلاً، وهجرته خارج البلاد لظروف خاصة به أو للظروف النفسية الصعبة التي أصبح يمر بها ، أو توليه منصباً عاماً لا يجوز معه الاستمرار بمهمته، أو منعه من دخول البلد التي يجري فيها التحكيم. وعلى ذلك، فإن مسألة كون السبب جدياً أو غير جدي، هي مسألة نسبية يؤخذ عند تقديرها لكافة الظروف المحيطة. فما يعتبر جدياً في ظروف معينة، قد لا يعتبر كذلك في ظروف أخرى.
ب- السبب الجدي والاجنبي
والسبب الجدي الذي يحول دون الحكم على المحكم بالتعويض، هو غير السبب الأجنبي المنصوص عليه في القواعد العامة. ويمكن أن نقرر في هذا الشأن، أن كل سبب أجنبي يمنع المحكم من الاستمرار بأداء مهمته هو سبب جدي. مثل تسفيره من البلد، أو منعه من دخولها لأسباب خاصة بالدولة. ولكن العكس غير صحيح. فقد يكون السبب جدياً تقبل به المحكمة، بالرغم من أنه ليس سبباً أجنبياً، مثل رغبة المحكم بالهجرة خارج البلاد من تلقاء نفسه. وهذا يقودنا إلى تقرير مبدأ آخر في هذا الصدد وهو أن السبب الجدي، سواء كان أجنبياً أو لا، ليس بالضرورة أن يحول بين المحكم وأداء مهمته. فالمحكم قد يبقى قادراً على أداء مهمته، إلا أنه مع وجود هذا السبب يفضل عدم الاستمرار بها. ومثال ذلك، أن يكون طرفا التحكيم (أ) و (ب). وأثناء إجراءات التحكيم، يتنازل (أ) عن كافة حقوقه العقدية بما فيها شرط التحكيم لـ (ج) ، ولا يمانع (ب) في ذلك، أو يقوم (أ) أثناء الإجراءات، بتغيير محاميه وتعيين محام آخر. في هذين المثالين قد يشكل هذا سبباً جدياً للمحكم للتنحي لأنه لا يرغب، لظروف خاصة به، بالتعامل مع (ج) ، ولا مع المحامي الجديد في الدعوى المنظورة أمامه، بالرغم من قدرته على الاستمرار بالتحكيم.
ونلاحظ هنا فرقاً آخر بين السبب الأجنبي في القواعد العامة والسبب الجدي في التحكيم. فالأول يجب أن يؤدي دائماً إلى استحالة تنفيذ الالتزام، ويحول بالتالي دون المسؤولية المدنية وما يترتب عليها من تعويض، في حين أن السبب الجدي، ليس بالضرورة أن يؤدي إلى استحالة التنفيذ كما هو الحال في الأمثلة المذكورة.
التنحي في قوانين العراق وليبيا والسعودية
والقانونان العراقي والليبي تضمنا حكماً مماثلاً للقوانين العربية المشار إليها، مع الاختلاف في الصياغة. فالمشرع العراقي، استخدم في المادة (260) عبارة تنحي المحكم بغير عذر مقبول"، والليبي في المادة (748) عبارة "بغير عذر مشروع ، بدلاً من عبارة "بغير سبب جدي"، المدرجة في القوانين الأخرى. ونرى أن مدلول هذه العبارات واحد ، لا فرق بينها. فالسبب الجدي هو السبب المشروع، وكل منهما هو السبب المقبول. وفيما يتعلق بالقانون السعودي يستدل من المادة (14) من نظام التحكيم، أن المحكم يحق له الاعتزال، أي التنحي عن المهمة الموكلة إليه دون تفرقة بين سبب الاعتزال الجدي والسبب غير الجدي، كما لم ينص كل من نظام التحكيم السعودي والقانون العراقي على جواز أو وجوب الحكم بالتعويض على المحكم الذي يتنحى عن مهمته لسبب غير جدي. ومع ذلك نرى تطبيق الأحكام المشار إليها أعلاه في كل من هذين القانونين فهي ليست أكثر من تطبيق للقواعد العامة، ويقتضيها منطق الأمور والأشياء. فالمحكم الذي وافق على المهمة الموكلة إليه بمحض إرادته، ليس له التنحي عن هذه المهمة متى أراد دون سبب مبرر، ودون مراعاة ظروف الأطراف، وإلا كان عرضة للحكم عليه بالتعويض لهما أو لأحدهما حسب الأحوال، ما دام ليس بمقدور المحكمة إلزامه بالاستمرار بالتحكيم، وبالتالي تنفيذ ما تعهد به تنفيذاً عينياً.