لقد سبق بيان ما ذكره العلماء من موانع المحكم من الحكم.
والذي يظهر لي في ذلك كله: أنه إن تم اختيار الحكم من قبل قاضي | الإمام عند الاقتضاء) فلا بد من اجتناب هذه الموانع جميعها، وإذا رضيه واختاره طرفاً النزاع فإنه لا يمنع من التحكيم ابتداء بسبب الموانع المذكورة إلا أن يظهر شيء منها، أو يطرأ غير الذي رضيه فيمنع، فإن حكم المحكم على من اتصف بشيء من الموانع التي رضيها أو حكمه ولزم، وإن حكم له فإن الحكم لا يلزم المحكوم عليه - إذا كان المحكم متصفاً بشيء من الموانع المذكورة - إلا بقبوله بالحكم ورضاه به بعد صدوره أو إجازة الحكم من قبل قاضي الإمام ؛ وذلك لما يأتي :
1-ما سبق من قصة ابن مسعود، فقد تم الخصم خصمه، والخصومة من أشد أسباب التهمة، وأما الإلزام بالحكم انتهاء من دون رضا وقبول المحكوم عليه فليس في القصة ما يدل عليه، ولذلك قلنا: إنه لا يلزم إلا بقبوله بالحكم ورضاه به بعد صدوره، أو إجازته من قبل قاضي الإمام.
2-أن في ذلك تيسيرا على الخصمين باختيار من يطمئنون إليه للنظر في نزاعهم وحفظ أسرارهم مع سرعة إنهاء النزاع.
3- وفي جعله غير لازم انتهاء - إذا حكم لمن اتصف بالمانع إلا برضا المحكوم عليه، أو إجازة قاضي الإمام للحكم - صيانة للحقوق، وقطع للتشكي؛ إذ إن الخصم قد يتوقع من المحكم عدم تأثره بالموانع، ويطمئن إليه، ويثق به، ثم يظهر بخلاف ذلك؛ لغلبة موجبات التهمة المانعة، ولأن قبوله له بعد العلم بالحكم يشبه الصلح، كما أن إجازة القاضي للحكم بعد استئنافا له.
4-أما جعله لازما إذا حكم على من اتصف بالمانع من الخصوم فلأنه حكم عليه لا له، ولأن الأصل في حكم المحكم اللزوم، وقد رضي بتحكيمه ابتداء، ويتوسع في التحكيم ما لا يتوسع في القضاء؛ لأن المحكم اختير برضا الطرفين، بخلاف القاضي.
5-أن عدم منع الحكم من التحكيم بالموانع المذكورة ابتداءً - إذا اختاره الخصمان - عند شروعه في التحكيم وإجازة إصداره للحكم على من اتصف بشيء من الموانع ولزوم الحكم كله مخرج على ما ذكره العلماء في القاضي، فإنهم أجازوا للقاضي أن يحكم على أصوله وفروعه ومنعوه من الحكم لهم.
تنبيه: تعتبر الشروط المار ذكرها: عند التحكيم، ووقت الحكم، فلو كان صغيرا عند التحكيم ويبلغ عند الحكم لم يصح، وهكذا لو كان عاقلا عند التحكيم ثم جن وقت الحكم لم ينفذ الحكم.