الدفع بعدم اختصاص هيئة التحكيم يعتبر من الدفوع الجوهرية، خاصة عندما يتعلق هذا الدفع بالنظام العام... ومثال على ذلك الدفع بعدم قابلية النزاع للتحكيم أصلا. وفي الحياة العملية يشار النزاع حول اختصاص هيئة التحكيم على شكل دفع أمام القضاء عندما يرفع النزاع ابتداء للمحكمة، أو أمام هيئة التحكيم نفسها بعد تشكيلها، وفي الغالب يستند الدفع إلى عدم وجود ات د اتفاق تحكيم أو لعدم صحته أو لسقوطه أو لعدم شموله أو سريانه على النزاع المعروض أمام هيئة التحكيم.
في الواقع العملي، غالباً نجد أن هيئة التحكيم لا تقرر من تلقاء نفسها عدم اختصاصها في موضوع النزاع المعروض عليها، وإنما بناءً على دفع يقدمه الطرف صاحب المصلحة... وإذا لم يثار هذا الدفع وفقاً للموعد المحدد، فإن ذلك يعتبر تنازلاً منه، وبذلك ينعقد الاختصاص لهيئة التحكيم .
ومع ذلك نعتقد أنه لا يوجد ما يمنع هيئة التحكيم في بعض الحالات، من تقرير عدم اختصاصها من تلقاء نفسها في نظر النزاع المعروض عليها، حتى لو لم يقدم أحد الخصوم دفعاً بذلك، إذا رأت الهيئة مبرراً لقرارها هذا... كأن يكون موضوع النزاع من الموضوعات المرتبطة بالنظام العام والتي لا يجوز فيها الصلح وبالتالي لا يجوز فيها التحكيم... أو يتضح للهيئة أن النزاع يتصل بشكل أو بآخر بقضية فساد أو غسيل أموال على سبيل المثال، ففي مثل هذه الحالات قد تجد هيئة التحكيم أن من مصلحتها وسمعتها إثارة مسألة عدم الاختصاص ورفض الدعوى استناداً إلى ذلك.
فإن الاتجاه العام لقوانين التحكيم محلى الدراسة، تقضى بأن يشار الدفع الخاص بعدم الاختصاص، غير المتعلق بالنظام العام، في أول فرصة متاحة للطرف صاحب المصلحة أو قبل الرد على الدعوى... ومخالفة المواعيد التي حددتها هذه القوانين يؤدي إلى سقوط الحق في الدفع. ومع ذلك وكما رأينا يجوز لهيئة التحكيم في بعض الحالات قبول الدفع المتأخر إذا رأت أن هذا التأخير له ما يبرره وفقاً لتقديرها الخاص ... خاصة إذا كانت الظروف قد حالت دون تمكن الطرف المعني من تقديم الدفع بعدم اختصاص هيئة التحكيم في الوقت المحدد.
وبهذه النصوص التي تقاربت فيها كثيراً قوانين التحكيم محل الدراسة يلاحظ وجود تطابق في التجانس بين أحكام الدفع بعدم اختصاص هيئة التحكيم ونظام الدفوع الشكلية أمام المحاكم القضائية الرسمية.
الفصل في الدفع بعدم الاختصاص :
تنص قوانين التحكيم محل الدراسة بأن تفصل هيئة التحكيم في الدفوع المتعلقة بعدم الاختصاص قبل الفصل في الموضوع أو أن تضمها إلى الموضوع لتفصل فيهما معا بحكمها المنهي للخصومة كلها.
وبموجب قوانين تحكيم مصر والأردن والسعودية وسورية، إذا قضت هيئة التحكيم برفض الدفع فلا يجوز التمسك به إلا بطريق رفع دعوى بطلان حكم التحكيم المنهي للخصومة .
أما القانون النموذجي للتحكيم ومعه قوانين تحكيم اليمن والعراق فقد اختلفت في هذه المسألة عن تلك القوانين... فالقانون النموذجي يقرر أنه إذا قررت هيئة التحكيم في قرار تمهيدي أنها مختصة، فلأي من الطرفين في غضون ثلاثين يوماً من تاريخ إعلانه بذلك القرار، أن يطلب من المحكمة أن تفصل في الأمر، ولا يكون قرارها هذا قابلا للطعن وإلى أن بيت في هذا الطلب، لهيئة التحكيم أن تمضى في إجراءات التحكيم وأن تصدر قرار تحكيم.
كذلك جاء في القانون اليمني أنه إذا فصلت لجنة التحكيم في الدفع برفضه جاز الطعن في هذا الحكم أمام محكمة الاستئناف خلال الأسبوع التالي لإخطار الطاعن بالحكم، (۳) والقانون هنا لا ينص على اعتبار حكم المحكمة نهائي وغير قابل للطعن مما يعني أنه جعل الباب مفتوحاً للطعن بالحكم أمام المحكمة العليا ... كما أنه لم ينص على استمرار أو توقف إجراءات التحكيم أثناء فترة الطعن امام محكمة الاستئناف .
أما قانون التحكيم العراقي فقد أجاز الطعن بقرار هيئة التحكيم الأولي الرافض للدفع بعدم الاختصاص أمام المحكمة المختصة خلال مدة (۳۰) يوماً من تاريخ التبليغ بالقرار... وهو أيضاً لم يقض باعتبار قرار المحكمة المختصة غير قابل للطعن، إلا أنه أضاف إن الطعن أمام المحكمة لا يحول دون استمرار هيئة التحكيم في إجراءات التحكيم وإصدار قرارها.
وبموجب هذه الأحكام، فإنه يجوز لهيئة التحكيم أن تقرر اختصاصها أو عدم اختصاصها في نظر النزاع، كمسألة أولية قبل الفصل النهائي للنزاع ... كما أنه يجوز لها ضم الدفع للفصل فيه مع الحكم المنهي للخصومة كلها.
وعندما تفصل الهيئة في الدفع بعدم اختصاصها كمسألة أولية، تكون أمام خيارين:
الأول: هو أن قرارها يقضي بأنها مختصة بنظر النزاع، وهذا يعني رفض الدفع المقدم من أحد الأطراف... وفي هذه الحالة يجوز للطرف الذي رفضت الهيئة دفعه بموجب القانون النموذجي وقوانين اليمن والعراق الطعن بقرار الهيئة أمام المحكمة المختصة لكن هذا الطعن لا يمنع هيئة التحكيم من مواصلة الإجراءات بما في ذلك إصدار حكم التحكيم... لكنه وبموجب قوانين مصر والأردن والسعودية وسوريا إذا رفضت الهيئة الدفع بعدم اختصاصها فلا يجوز التمسك به إلا بطريق رفع دعوى بطلان حكم التحكيم المنهي للخصومة، وهذا يعني ) أنه لا يجوز الطعن بالبطلان على قرار هيئة التحكيم الصادر برفض الدفع استقلالاً، وإنما يجب الطعن ببطلانه مع حكم التحكيم المنهي للخصومة.
والثاني: هو أن تقبل الدفع وتقرر عدم اختصاصها في نظر النزاع وهنا يعتبر حكمها نهائياً.... وفي هذه الحالة يعني عدم ولايتها لنظر النزاع، حيث تنتهي إجراءات التحكيم على هذا الأساس ويعود الأطراف إلى مراكزهم السابقة... وفي هذه الحالة يجوز لأي طرف العودة إلى القضاء باعتباره صاحب الولاية العامة لنظر النزاع والفصل فيه. أما إذا ظل اتفاق التحكيم قائماً رغم قرار الهيئة بعدم اختصاصها في نظر النزاع، فيجوز للأطراف تشكيل هيئة تحكيم أخرى للفصل في النزاع.
أما إذا قررت هيئة التحكيم أن تضم الدفع بعدم اختصاصها إلى الموضوع لتفصل فيهما معا يحكمها المنهي للخصومة كلها، ويجوز لها ذلك وفقاً لقوانين التحكيم محل الدراسة، كما أشرنا سابقاً، فإن ذلك. يعني أنه قد ظهر للهيئة أنها مختصة بنظر النزاع ... وأن الدفع بعدم الاختصاص يعتبر مرفوضاً ضمناً. وقد قضي بأنه يعود إلى المحكمين وحدهم الفصل في اختصاصهم سواء من حيث المبدأ أو المرمى إلا في حال بطلان شرط التحكيم أو عدم إمكانية تطبيقه ".
ويرى البعض أن في ذلك تجاوز الحد اللازم لضمان استمرار التحكيم في مسيرته، لأن الدفع بعدم اختصاص هيئة التحكيم هو في جميع الأحوال دفع جوهري وقد يتعلق بالنظام العام إفلكان موضوع النزاع غير قابل للتحكيم أصلا .