بيَّنا فيما سبق أن لاتفاق التحكيم أثراً مانعاً مفاده: إقصاء قضاء الدولة عن نظر النزاع الموضوعي المتفق بشأنه على التحكيم. وهنا يمكن طرح التساؤل التالي
هل يترتب هذا الأثر بمجرد إبرام اتفاق التحكيم أم يتعين على الأطراف التمسك بسبق الاتفاق على التحكيم في حال قيام أحدهم – وعلى الرغم من وجود اتفاق تحكيم - برفع الدعوى أمام المحكمة المختصة أصلاً بنظرها؟.
وهل يجوز للمحكمة أن تقضي من تلقاء نفسها بعدم قبول الدعوى لسبق الاتفاق على التحكيم؟
إن الإجابة على كل هذه التساؤلات، تتطلب منا بدايةً إلقاء نظرة سريعة على نظرية الدفوع، لنتوصل من خلالها إلى تحديد ماهية الدفع بالتحكيم، ومدى تعلقه بالنظام العام، وميعاد إدلائه.
يُعرف الدفع الموضوعي بأنه: الدفع الذي ينازع به الخصم في الحق موضوع الدعوى، بهدف الحصول على حكم يؤدي إلى رفض الدعوى كلياً أو جزئيا.
ومن ثم فإن الدفع الموضوعي يتعلق بموضوع الدعوى، ويهدف إلى رفض طلبات المدعي كلها أو بعضها.
ج- الدفوع بعدم القبول:
يوجه الدفع بعدم القبول إلى حق المدعي في رفع الدعوى، ومن ثم فإن هذا الدفع لا يوجه إلى إجراءات الخصومة، أو موضوعها، بل إلى الحق في رفع الدعوى باعتباره حقاً مستقلاً عن الحق الذي يراد تقريره من وراء رفع الدعوى.
فالدفع بعدم القبول هو عبارة عن التمسك بعدم توافر شرط من شروط الدعوى، أيا كان هذا الشرط واءً أكان من الشروط العامة أم الخاصة، الإيجابية أم السلبية .
ويجوز إبداء الدفوع بعدم القبول في أي حالة كانت عليها الدعوى، هي بذلك تقترب من الدفوع الموضوعية.
2- أهمية التفرقة بين الدفوع الشكلية، والدفوع الموضوعية، والدفوع بعدم القبول:
تتبدى أهمية التفرقة بين الدفوع الشكلية، والدفوع الموضوعية، والدفوع بعدم القبول في النواحي التالية:
أ- يجب إبداء الدفوع الشكلية قبل التعرض للموضوع، وقبل إبداء أي دفع بعدم القبول، وإلا سقط الحق في إبدائها . ولا يستثنى من هذا الحكم إلا:
- الدفوع الشكلية المتعلقة بالنظام العام، فهذه يجوز إبداؤها في أي حالة كانت عليها الدعوى.
- الدفوع الشكلية التي ينشأ سببها بعد التعرض للموضوع. كالدفع بسقوط الخصومة.
أما الدفوع الموضوعية فيجوز إبداؤها في أي حالة كانت عليها الدعوى، وحتى قفل باب المرافعة.
ب- يجب إبداء الدفوع الشكلية جملة واحدة، وإلا سقط الحق فيما لم يبد منها مالم يكن متعلقا بالنظام العام. وعليه يُعتبر تنازلا عن الدفع الشكلي مجـرد تقديم دفع آخر عليه.
أما الدفوع الموضوعية فلا يشترط إبداؤها معاً. وعليه يجوز للخصم تقديم دفع على آخر، دون أن يعتبر ذلك تنازلاً منه عن الدفع الذي تأخر في تقديمه .
ج- الأصل أن تفصل المحكمة في الدفع الشكلي قبل البحث في الموضوع، لأن ذلك قد يغنيها عن التعرض للموضوع. إذ إن قبول المحكمة لهذا الدفع يؤدي إلى انقضاء الخصومة أمامها.
أما فيما يتعلق بالدفوع لعدم القبول فإذا كان المشرع لم ينص على ضرورة أن تفصل المحكمة فيه على استقلال، إلا أن ذلك لا يعني أن لها أن تفصل فيه مع الموضوع، وإنما يجب كقاعدة أن تفصل فيه المحكمة على استقلال قبل التعرض لموضوع الدعوى، لأنه يثير مسألة أولية سابقة علـ الفصل في موضوع الدعوى، وهي مسألة قبول الدعوى.
د - إن الحكم الصادر بقبول الدفع الشكلي لا يمس أصل الحق، وبالتالي فهو لا يؤدي إلى إنهاء النزاع، ولكن إلى انقضاء الخصومة أمام المحكمة، كالحكم الصادر بقبول الدفع بعدم الاختصاص، فهذا الحكم لا يعتبر فاصلاً في موضوع الدعوى، ومن ثم لا يحوز حجية الأمر المقضي بالنسبة للموضوع، وإن كان يحوز هذه الحجية بالنسبة للمسألة التي فصل فيها، وعليه يجوز تجديد الخصومة بمراعاة الإجراءات الصحيحة، إذا لم يكن الحق المدعى به قد سقط لسبب من الأسباب.
هـ - إن الحكم الصادر بقبول الدفع الشكلي لا يستنفذ ولاية محكمة أول درجة. وعليه إذا استؤنف الحكم فيقتصر در محكمة الاستئناف على النظر في الدفع دون موضوع الدعوى، لأنه لم يفصل فيه، ومن ثم يتعين علي محكمة الاستئناف أن تعيد القضية إلى محكمة أول درجة لتفصل في الموضوع.
أما الحكم الصادر بقبول الدفع الموضوعي فإنه يستنفذ ولا ية محكمة أول درجة.
أما فيما يتعلق بالحكم الصادر بعدم القبول، فإنه لا يستنفذ ولاية محكمة أول درجة.
ثانيا: الجدل الفقهي والقضائي بشأن تحديد طبيعة الدفع بالتحكيم:
لقد ثار جدل فقهي وقضائي بشأن طبيعة الدفع بالتحكيم، وهل يعد من قبيل الدفوع بعدم الاختصاص، أم من قبيل الدفوع بعدم القبول؟
وبعبارة أخرى : هل يؤدي الدفع بالتحكيم إلى نزع اختصاص قضاء الدولة بنظر النزاع، أم يقتصر أثره على منع المحكمة مؤقتاً من سماع الدعوى؟
من خلال هذه الدراسة سوف نعرض لموقف الفقه والقضاء والأنظمة القانونية الوضعية من مسألة تحديد طبيعة الدفع بالتحكيم، متبعين ذلك بدراسة لموقف اتفاقية نيويورك من هذه المسألة.