يميل التوجه الحديث في التحكيم إلى إعطاء هيئة التحكيم نفسها الفصل بالدفع بعدم الاختصاص ، حتى لو كان الدفع مبنياً على بطلان اتفاق التحكيم، أو كان موضوع الاتفاق مخالفاً للنظام العام، أو كان النزاع يتعلق بمسألة لا يجوز التحكيم بشأنها أصلاً، أو غير ذلك من مسائل كثيرة، قد تؤدي إلى إثارة الدفع بعدم الاختصاص. ومثال ذلك، أن يتقدم (أ) بدعوى تحكيمية ضد (ب) استناداً لاتفاق تحكيم مبرم بينهما فيرد (ب) على الدعوى، ويقدم في الوقت ذاته دعوى متقابلة ضد (أ) ، فيثير (أ) أمام هيئة التحكيم الدفع بعدم اختصاصها بنظر الدعوى المتقابلة ، أو يرد (ب) على الدعوى بعدم وجود اتفاق تحكيم أو بطلانه ، وبالتالي عدم اختصاص هيئة التحكيم بنظر النزاع. في هذه الحالة تختص هيئة التحكيم بالرد على هذا الدفع، سواء بالقبول أو الرفض.
ويبرر هذا المبدأ الاختصاص بالاختصاص بأن أحد أسباب اللجوء إلى التحكيم، هو سرعة الإجراءات، وبالتالي سرعة البت في النزاع ولو مرحلياً. فلو أعطينا الصلاحية في البت بالدفع بعدم الاختصاص للقضاء لأدى ذلك ، في كثير من الأحيان إلى سلب التحكيم هذه الميزة الأساسية فيه، مما يفقده أحد أسباب اللجوء له. ذلك أن أحد طرفي النزاع، قد يرغب بإطالة النزاع لسبب أو لآخر. وما عليه في هذه الحالة، إلا التقدم بطلب إثر طلب للمحكمة المختصة، يثير فيه الدفع بعدم اختصاص هيئة التحكيم، وما قد يترتب على ذلك من وقف لإجراءات التحكيم من وقت لآخر، وبالتالي تعطيل الفصل في النزاع لوقت طويل قد لا تعرف نهايته. لذلك، من الأفضل إعطاء هيئة التحكيم صلاحية الفصل بالدفع باختصاصها. وهذه القاعدة، تعتبر من القواعد المقبولة في التحكيم، بل أصبحت من القواعد المستقرة فيه، والنص على غير ذلك يعتبر هو الشاذ في إطار التحكيم .
ومن جهة ثانية، فإن الدفع بعدم اختصاص هيئة التحكيم، كثيراً ما كثيراً ما يتم عن طريق الدفع ببطلان اتفاق التحكيم. وفي هذه الحالة، يصعب في كثير من الأحيان معالجة الدفع ببطلان الاتفاق، دون الدخول في تفاصيل النزاع، ومعالجته من كافة جوانبه حسب القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع، وهذا كله من اختصاص هيئة التحكيم. ومثال ذلك، أن تكون هناك علاقة بين رجل وامرأة أجنبية في غير إطار الزواج، وتطلب المرأة من الرجل تعويضها عما آلت إليه هذه العلاقة من آثار، ويتفقان على إحالة النزاع إلى التحكيم في البحرين، على أن يكون القانون الواجب التطبيق على هذه العلاقة وعلى اتفاق التحكيم، هو قانون الدولة الأجنبية التي ينتميان إليها بجنسيتهما. هذه العلاقة قد تكون مشروعة حسب قانون الدولة الأجنبية، في حين أنها ليست كذلك حسب القانون البحريني. ويترتب على ذلك القول بأن الاتفاق على التحكيم بشأنها ، هو اتفاق باطل في القانون البحريني في حين أنه ليس كذلك في القانون الأجنبي ومثال ذلك أيضاً وجود نزاع مالي ناجم عن علاقة تبني (ميراث مثلاً)، استناداً للقانون الأجنبي المطبق على النزاع. ففي حين أن هذا القانون قد يجيز مثل هذه العلاقة وما يترتب عليها من آثار، فإن القانون البحريني لا يجيزها، وهذا يعني صحة اتفاق التحكيم في القانون الأجنبي، وبطلانه في القانون البحريني .
ومثال ثالث عكس هذين المثالين، حيث تكون العلاقة المالية موضوع النزاع مترتبة على رابطة زواج ثان بين رجل وامرأة مسلمين فمثل هذا الزواج صحيح ويرتب آثاره في القانون البحريني، بما في ذلك الآثار المالية، في حين أنه باطل استناداً للكثير من القوانين الأجنبية، مع ما يترتب على ذلك من اعتبار اتفاق التحكيم بشأن هذه العلاقة وآثارها ، باطلاً استناداً لبعض القوانين، مع أن الأمر ليس كذلك في القانون البحريني. في هذه الأمثلة ،وغيرها، فإن الجهة المقام أمامها النزاع، لا تستطيع الفصل بالدفع ببطلان اتفاق التحكيم، وبالتالي الفصل بمسألة الاختصاص دون الدخول في تفاصيل النزاع، وأحكام القانون الواجب التطبيق عليه، وهذا كله أصلاً من صلاحيات هيئة التحكيم. ولا يجوز سلب هذه الصلاحيات المعطاة للهيئة بحكم القانون وإعطائها لجهة أخرى بحجة الادعاء ببطلان اتفاق التحكيم.
أضف إلى ذلك، أن اتفاق التحكيم حول موضوع معين، قد يكون صحيحاً في ظروف معينة، في حين يكون باطلاً في ظروف أخرى، حتى استناداً للقانون ذاته الواجب التطبيق على النزاع. ومثال ذلك، أن القانون الإماراتي يحظر إحالة النزاعات الناشئة عن الوكالة التجارية وفق شروط معينة إلى التحكيم، تحت طائلة البطلان. ولكن من وجهة نظرنا، كما تقدم، فإن البطلان يلحق الاتفاق إذا تم هذا الاتفاق قبل نشوب النزاع، أما لو تم بعده ، بحيث كان للوكيل الحق باللجوء إلى القضاء الإماراتي، إلا أنه لم يفعل ذلك، وإنما وافق على إبرام اتفاق تحكيم بشأنه، فإن هذا الاتفاق صحيح . ومرة أخرى، قد يكون من الصعب أحياناً كثيرة، إن لم يكن من المستحيل، معرفة ما إذا كان اتفاق التحكيم باطلاً أم لا، وما يترتب على ذلك من تقرير اختصاص أو عدم اختصاص هيئة التحكيم دون الدخول في أدق تفاصيل النزاع، وهذا من مهمة هيئة التحكيم حسب أحكام القانون.
لهذه المبررات أيضاً، فإن من الحكمة عدم إقحام القضاء في موضوع النزاع، بحجة الادعاء ببطلان اتفاق التحكيم كما هو الحال في الأمثلة المذكورة، مما حدا بالمشرع في قوانين التحكيم الحديثة، إلى الأخذ صراحة بفكرة اختصاص هيئة التحكيم بالفصل في الدفع بعدم اختصاصها، حتى لو كان أساس هذا الدفع هو الادعاء ببطلان الاتفاق، ولكن تحت رقابة القضاء من حيث النتيجة، عن طريق الطعن بحكم التحكيم. وبصرف النظر عن مبررات هذه الفكرة، فإنها أصبحت حقيقة واقعة في مجال قانون التجارة الدولية وأخذت بها صراحة العديد من القوانين والاتفاقيات الدولية الخاصة بالتحكيم، بحيث أصبحت من مظاهر أو ميزات التحكيم التجاري .
كيفية المنازعة بالاختصاص
وفي الحياة العملية يثور النزاع حول اختصاص هيئة التحكيم، على شكل دفع يتم أمام القضاء أو الهيئة نفسها. وغالباً ما يستند الدفع إلى عدم وجود اتفاق تحكيم، أو عدم سريانه على الحالة المعروضة لسبب أو لآخر. ومثال ذلك أن يكون هناك عقد بين (أ) و(ب) ينص على إحالة المنازعات الناشئة عن هذا العقد إلى التحكيم. ومع ذلك، يلجأ (أ) إلى القضاء لتسوية النزاع، فيثير (ب) الدفع بوجود اتفاق تحكيم، ويطلب إحالة النزاع للتحكيم. فيدفع (أ) ببطلان شرط التحكيم لأن موضوع النزاع، مثلاً، لا تجوز تسويته عن طريق التحكيم، أو يقر (أ) بوجود شرط التحكيم، ولكنه يدعي بعدم سريانه على النزاع موضوع الدعوى القضائية. من الواضح في هذا المثال، أن دفع (أ) بوجود اتفاق تحكيم ما هو إلا دفع غير مباشر بعدم اختصاص القضاء بنظر النزاع، وإنما ينعقد الاختصاص لهيئة التحكيم. وعلى العكس من ذلك، فإن دفع (ب) ببطلان اتفاق التحكيم، هو دفع بعدم اختصاص هيئة التحكيم، مما يعني إعطاء الاختصاص للقضاء.
والشيء ذاته يقال في حال عرض النزاع على التحكيم. فلو كانت هيئة التحكيم مشكلة، فإن (أ) لا يتقدم للهيئة بدعوى موضوعها تثبيت اختصاص الهيئة بنظر النزاع، وإنما يقدم لائحة دعواه أمام الهيئة يعرض فيها وقائع النزاع ويطالب بطلبات معينة، فيدفع (ب) بعدم اختصاص الهيئة بنظر النزاع لبطلان اتفاق التحكيم مثلاً، فيرد عليه (أ) بعكس ذلك، لتقرر هيئة التحكيم عندئذ في مسألة اختصاصها، إما بقرار أولي سابق على الفصل بالموضوع، أو تضم الدفع للموضوع لتفصل فيهما معاً كما سنرى فيما بعد.
وبناء عليه، لا توجد في الحياة العملية دعوى قضائية أو تحكيمية مستقلة موضوعها عدم اختصاص هيئة التحكيم، تماماً كما هو الحال في الاختصاص القضائي العادي، إذ لا يوجد فيه دعوى ترفع أمام إحدى المحاكم موضوعها عدم اختصاص محكمة في نظر نزاع معين، إذ أن عدم الاختصاص يكون في صيغة دفع بمناسبة دعوى قائمة ، ولا يكون بدعوى أصلية.
وهنا يثور تساؤل مبرر عن الجهة صاحبة الصلاحية بالنظر في مدى اختصاص هيئة التحكيم بالفصل في النزاع، بما في ذلك الادعاء ببطلان اتفاق التحكيم أو سقوطه. هل هي هيئة التحكيم حصراً؟ أم يمكن أن يكون للقضاء دور في هذا المجال، بحيث يعطى جانباً من الاختصاص في ظروف وأحوال معينة؟ وإذا كانت الإجابة في الحالة الثانية بالإيجاب، فما هي حدود تدخل القضاء، ومدى اعتباره صاحب صلاحية في هذا الشأن؟
وللإجابة على هذا التساؤل، نرى التفرقة ما بين أمرين: الأول - أن يرفع النزاع ابتداءً للمحكمة، ويكون من الواضح لها عدم وجود اتفاق تحكيم بسبب بطلانه ابتداءً، أو سقوطه لاحقاً لأي سبب من أسباب السقوط ، أو أن موضوع النزاع لا يدخل في اختصاص هيئة التحكيم بشكل واضح لا لبس فيه ولا غموض. وفي مثل هذه الفروض، نرى أن من صلاحية المحكمة المرفوع أمامها النزاع، أن تبسط رقابتها على اتفاق التحكيم، وبالتالي تكون مختصة بالحكم ببطلانه أو انقضائه لأي سبب آخر . والقانون اللبناني واضح بالنسبة لهذه المسألة. ففي معرض الطلب من رئيس الغرفة الابتدائية تعيين المحكم، نصت المادة (764) على أنه إذا رأى الرئيس أن البند (الشرط التحكيمي باطل بشكل واضح، أو أنه غير كافٍ كي يتيح تعيين المحكم، فيصدر قراراً يثبت فيه ذلك، ويعلن أنه لا محل للقيام بمثل هذا التعيين. وحسب المادة (774) ، يكون قراره عرضة للطعن به أمام محكمة الاستئناف، وتنظر المحكمة بالطعن على وجه السرعة. الثاني ـ أن يكون هناك اتفاق تحكيم، ويتبين للمحكمة للوهلة الأولى صحة هذا الاتفاق وسريانه دون الدخول في التفاصيل. وعندئذ ، يتوجب عليها، كما نرى، الحكم برد الدعوى إذا أثار المدعى عليه الدفع بوجود اتفاق تحكيم، وفق الشروط المنصوص عليها قانوناً.
وبعد تشكيل هيئة التحكيم، إذا ادعى أحد الخصوم أمام الهيئة بعدم اختصاصها بنظر النزاع أو أحد جوانبه ، بصرف النظر عن سبب ذلك، فإن الاختصاص بالرد على هذا الادعاء، يكون لهيئة التحكيم وليس للقضاء . وهذا الأمر من مستلزمات سير التحكيم، إذ لا يقبل إعطاء الاختصاص لغيرها، مع ما يتطلبه ذلك من وقف السير في الدعوى إلى حين البت في مسألة الاختصاص، وإلا أدى ذلك إلى تعطيل العملية التحكيمية، بل والقضاء عليها في كثير من الفروض خاصة إذا كان لأحد الطرفين مصلحة في تأخير الفصل بالنزاع، وهو ما يكثر وقوعه في الحياة العملية. لذلك، جاء القانون اللبناني ونص صراحة على مبدأ الاختصاص بالاختصاص في هذه الحالة، بقوله في المادة (785) بأنه إذا نازع أحد الخصوم أمام المحكم، في مبدأ أو مدى الولاية العائدة له لنظر القضية المعروضة عليه، فيكون له أن يفصل في هذه المنازعة.